649

الأحكام العامّة

5

صلاة الجماعة

 

 

○   تمهيد.

○   الصلوات التي يسوغ فيها الاقتداء.

○   كيفية الاقتداء.

○   شروط الاقتداء.

○   كيفية صلاة الجماعة.

○   الأحكام المترتّبة على صلاة الجماعة.

 

 

651

تمهيد:

(88) صلاة الجماعة من أهمّ شعائر الإسلام، واستحبابها وطيد ومؤكّد نصّاً وإجماعاً، بل ثبت هذا الاستحباب بضرورة دين الإسلام(1) وعند جميع المسلمين، وأجرها وثوابها من الله تعالى عظيم؛ وقد يفوق أجر الكثير من الواجبات وجُلّ المستحبّات، وكلّما ازدادت الجماعة وأعطت مظهراً حقيقياً لتجمّع المسلمين والمصلّين ارتفعت شأناً وجَلّت ثواباً.

وهي أفضل ماتكون في الفرائض اليومية الحاضرة منها ـ أي التي لم يَفُتْ وقتها المؤقّت لها بعد ـ والفائتة، وبالخصوص الحاضرة، وبصورة أخصّ صلاة الصبح والمغرب والعشاء.

(89) وقد تجب صلاة الجماعة على الإنسان لأسباب طارئة:

منها: أن يضيق الوقت على المكلّف وكان بطيء النطق، فلو صلّى منفرداً لَما أدرك من الوقت المحدّد للصلاة حتّى ركعة، ولو صلاّها مأموماً بإمام سريع النطق لأدرك ركعة، فيجب عليه والحالة هذه أن يأتمّ، (فإنّ المأموم لا يقرأ ويعوّل


(1) أي أنّه من البديهيات الدينية.(منه (رحمه الله)).
652

في القراءة على الإمام، كما سيأتي).

ومنها: أن يكون المكلّف بحاجة إلى تعلّم للقراءة؛ وقد أهمل ذلك حتّى حلّ وقت الصلاة؛ ولا يسعه فعلا أن يصلّي بصورة منفردة مع الحفاظ على القراءة، ولكن يسعه أن يأتمّ ويعوّل في القراءة على الإمام، فيجب عليه والحالة هذه أن يأتمّ.

ومنها: أن ينذر الصلاة جماعة، أو يحلف بالله على ذلك، أو نحو هذا ممّا يؤدّي إلى وجوب طارئ.

صلاة المنفرد وصلاة المقتدي:

(90) الصلاة لها اُسلوبان:

أحدهما: أن يصلّي الإنسان بدون أن يكون لصلاته ارتباط شرعي بصلاة شخص آخر، وتسمّى هذه الصلاة بصلاة المنفرد؛ وهي التي عرفنا فيما تقدّم صورتها وأجزاءَها وشرائطها.

والآخر: أن يصلّي الإنسان ناوياً أن يتّخذ من مصلٍّ آخر إماماً له وقدوةً في صلاته، فيتابعه في حركاته وركوعه وسجوده وقيامه، وتسمّى هذه الصلاة بصلاة الجماعة، والعلاقة التي تقوم بين هذين المصلّيين بالاقتداء، ويسمّى الأوّل مقتدياً ومأموماً والثاني مقتدى به وإماماً. فالاقتداء إذن تعبير شرعاً عن تلك العلاقة التي ينشئها المأموم بينه وبين الإمام عندما ينوي أن يأتمّ به ويقتدي بصلاته.

وكلّ من صلاة المقتدِي (أي: المأموم) وصلاة المقتدى به (أي: الإمام) أفضل من صلاة المنفرد؛ لأنّهما يودّيان بذلك صلاة الجماعة، وهي من أعظم المستحبّات كما عرفت في التمهيد.

653

وفي ما يلي سنشرح مايتعلّق بصلاة الجماعة من أحكام ضمن النقاط التالية:

1 ـ الصلوات التي يسوغ فيها الاقتداء.

2 ـ كيفية الاقتداء.

3 ـ شروطه.

4 ـ الفوارق في الكيفية بين صلاة الجماعة وصلاة المنفرد.

5 ـ الأحكام المترتّبة على صلاة الجماعة.

الصلوات التي يسوغ فيها الاقتداء:

(91) يسوغ الاقتداء وإقامة صلاة الجماعة في كلّ الصلوات الواجبة من الصلوات اليومية، وصلاة الجمعة، وصلاة الآيات وغيرها، ويستثنى من الصلوات الواجبة صلاة الطواف، فإنّا لانملك دليلا على أنّ الاقتداء فيها سائغ.

ولا يسوغ الاقتداء في الصلوات المستحبّة بطبيعتها حتّى ولو وجبت بنذر ونحوه، ولا فرق في ذلك بين النوافل اليومية وغيرها، ويستثنى من ذلك صلاة الاستسقاء، وكذلك صلاة العيدين فإنّ إقامتها جماعة سائغ حتّى ولو كانت مستحبّة.

(92) وإقامة الصلاة جماعةً ليس شرطاً واجباً في الصلوات الواجبة؛ إلّا في صلاة الجمعة وصلاة العيدين حيث تجب، فلا تصحّ صلاة الجمعة ولا صلاة العيدين الواجبة إلّا بإقامتها جماعة.

(93) وإذا صلّى الإنسان صلاة الفريضة منفرداً سقط وجوبها، ولكن مع هذا يستحبّ للمصلّي المذكور أن يعيدها جماعةً إماماً أو مأموماً؛ على أن يكون في الجماعة مأموم واحد على الأقلّ يمارس صلاة الفريضة لأول مرّة.

654

وإذا صلّى المكلّف منفرداً ثمّ أعادها جماعةً؛ وبعد ذلك انكشف له أنّ صلاته الاُولى كانت باطلةً فالثانية عوض وبدل.

(94) وإذا كانت صلاة الإمام وصلاة المأموم معاً من الصلوات الواجبة التي تسوغ فيها صلاة الجماعة فهل يعتبر أن تكون الصلاتان من نوع واحد، كما إذا كانتا معاً صلاة صبح أو صلاة آيات مثلا، أو يسوغ الاقتداء وتصحّ الصلاة جماعةً ولو اختلفت الصلاتان ؟

والجواب: بل يسوغ الاقتداء مع اختلاف الصلاتين أيضاً، من قبيل أن يقتدي من يصلّي المغرب بمن يصلّي العشاء، وبالعكس، ومن يصلّي الظهر بمن يصلّي العصر، وبالعكس، ومن يؤدّي الحاضرة من يومه بمن يقضي الفائتة من أمسه وبالعكس، ومن يتمّ الصلاة حاضراً بمن يقصّرها مسافراً ومن يقضي صلاة المغرب التي فاتته بمن يقضي صلاة العصر التي فاتته، وبالعكس، ومن يصلّي الكسوف بمن يصلّي صلاة الزلزلة...، وهكذا ما دام كلّ من الإمام والمأموم يمارس صلاةً واجبة.

(95) ويستثنى من ذلك ـ أي من جواز الاقتداء مع اختلاف الصلاتين ـ إذا كان الإمام يصلّي صلاة العيدين، أو صلاة الآيات، أو الصلاة على الأموات فإنّه لا يسوغ للمأموم أن يقتدي به حينئذ إلّا في صلاة من نوع الصلاة التي يصلّيها الإمام.

كما أنّ من يريد أن يصلّي مأموماً صلاة العيدين، أو صلاة الآيات، أو صلاة الأموات فلا يسوغ له أن يقتدي إلّا بمن يؤدّي نفس الصلاة، وكذلك الأمر في صلاة الاستسقاء فإنّ الاقتداء فيها بمن يصلّي غيرها ليس جائزاً، وكذلك إقتداء من يصلّي الصلوات اليومية ـ مثلا ـ بمن يصلّي صلاة الاستسقاء.

(96) وقد تسأل: إذا كان الإنسان يشكّ في أنّ عليه فوائت من صلواته

655

اليومية السابقة وأراد أن يصلّيها احتياطاً فهل يجوز له أن يقتدي بمن يصلّي الفريضة ؟ وهل يجوز أن يقتدي به من يصلّي الفريضة ؟ وهل يجوز أن يقتدي به من يصلّي فوائت مشكوكةً مثله تماماً ؟

والجواب: أنّ هذا الشخص يجوز له أن يقتدي بمن يصلّي الفريضة، ولا يجوز لمن يصلّي الفريضة أن يقتدي به ما دام غير متأكّد من أنّ صلاته واجبة، كما لا يجوز لمن يصلّي فوائت مشكوكةً أن يقتدي بمن يصلّي فوائت مشكوكةً أيضاً؛ إلّا إذا كان يعلم بأنّه في حالة كونه مديناً بتلك الصلاة، فإمامه مدين بصلاته أيضاً، كما إذا كان كلا الشخصين قد توضّأ للظهر والعصر من ماء واحد وصلّيا، وبعد ذهاب النهار شكّا في أنّ الماء الذي توضّآ به معاً هل كان طاهراً أم نجساً وأرادا أن يحتاطا استحباباً بالقضاء ؟ ففي مثل هذه الحالة يسوغ لكلٍّ منهما الاقتداء بالآخر.

(97) وإذا كان الإنسان يصلّي ركعة الاحتياط علاجاً للشكّ في صلاته فهل يجوز اقتداؤه بمن يصلّي الفريضة، أو بمن يصلّي ركعة احتياط أيضاً ؟ وهل يجوز لمن يصلّي الفريضة أن يقتدي به ؟

الجواب: لا يسوغ له أن يقتدي بمن يصلّي الفريضة، ولا بمن يصلّي ركعة احتياط، ولا يجوز لمن يصلّي الفريضة أن يقتدي به.

ويمكنك أن تقول: قد يقتدي شخص بآخر في صلاة يومية ثمّ يعرض الشكّ في عدد الركعات لهما معاً على نحو واحد، كما إذا شكّا بين الثلاث والأربع فبنيا على الأكثر، وفرغا من صلاتهما وقاما لأداء ركعة الاحتياط فهل يواصل المأموم اقتداءه بإمامه في ركعة الاحتياط هذه وهو يعلم أنّه في حالة كونه مَديناً بها وكون صلاته ناقصةً فإمامه مدين بها أيضاً لنفس السبب ؟

والجواب: أنّ جواز الاقتداء في هذه الحالة محتمل، ولكنّ الأجدر

656

بالمكلّف وجوباً أن لايقتدي؛ لأنّ ركعة الاحتياط في حالة عدم نقص الصلاة تعتبر صلاةً مستحبّة؛ ولا اقتداء في الصلاة المستحبّة.

(98) وإذا كنت تريد أن تؤدّي صلاة الفريضة ـ مثلا ـ ورأيت مصلّياً توافرت فيه شروط الإمامة بالكامل فلا تأتمّ ولا تقتدِ به؛ حتّى تعلم أنّ صلاته هذه من الصلوات الواجبة التي يسوغ الاقتداء بها، فربّما كان يتطوّع ويتنفّل، أو يؤدّي صلاةً واجبةً لا يسوغ فيها الاقتداء والائتمام، كما إذا كان يقضي صلاة الطواف مثلا.

كيفية الاقتداء:

(99) عرفت أنّ صلاة الجماعة تتكوّن من اقتداء شخص بشخص آخر في الصلاة، كما عرفت الحالات التي يسوغ فيها الاقتداء.

وأمّا الاقتداء نفسه: فهو عبارة عن أن ينوي المأموم حين يكبّر تكبيرة الإحرام أنّه يصلّي مقتدياً بهذا الإمام، أو مؤتمّاً به؛ أو يصلّي خلفه؛ ونحو ذلك من المعاني التي تهدف إلى شيء واحد، فإذا نوى المأموم كذلك صار مقتدياً، وصار المقتدَى به إماماً، واعتبرت صلاتهما صلاة جماعة، سواء كان الإمام قاصداً لأن يكون إماماً أو لا، وحتّى لو كان جاهلا بالمرّة بأنّ رفيقه نوى الاقتداء به فإنّ الجماعة تنشأ بنيّة المأموم، لا بنيّة الإمام.

أجَل، في الصلوات التي لا تشرع ولا تسوغ إلّا جماعةً لابدّ أن يكون الإمام فيها ملتفتاً إلى أنّه يصلّيها إماماً، وإلّا لكان قاصداً لأمر غير مشروع.

ومثاله: من يقيم صلاة الجمعة، وكذلك في أيّ فريضة صلاّها المكلّف وأراد أن يعيدها إماماً استحباباً.

ولابدّ أن يعيّن المأموم عند نيّة الاقتداء شخصاً معيّناً ينوي الائتمام به،

657

فلا يسوغ أن ينوي الائتمام بشخصين معاً، ولا بإنسان ما بدون أن يعيّنه في هذا وذاك.

وليس من الضروريّ أن يعيّنه بالاسم، بل يكفي أن يشير إليه بقلبه إشارةً محدّدةً بعد تأكّده من توفّر الشروط اللازمة فيه، إذ سيأتي أنّ إمام الجماعة يجب أن تتوفّر فيه شروط نوضّحها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وإذا نوى الاقتداء بالإمام الواقف معتقداً أنّه زيد فتبيّن بعد ذلك أنّه عمرو صحّت صلاته وائتمامه إذا كان عمرو جديراً بالإمامة أيضاً؛ وتتوفّر فيه الشروط اللازمة في إمام الجماعة.

ولا يسوغ لشخصين أن ينوي كلّ منهما الاقتداء بالآخر، ولا أن ينوي شخص الاقتداء بمن ينوي بدوره الاقتداء بثالث.

ولا يسوغ للمصلّي الذي بدأ صلاته منفرداً أن ينوي في الأثناء الائتمام والاقتداء، وإنمّا يسوغ للإنسان أن ينوي ذلك في بداية صلاته.

(100) وليس من الضروريّ أن يبدأ المصلّي بالاقتداء مع بداية صلاة الإمام، وإنّما المهمّ أن لا يسبق المأموم إمامه بتكبيرة الإحرام، وله أن يلتحق به في الركعة الاُولى متى شاء حتّى يركع الإمام، وله ان يلتحق به في أثناء الركوع؛ بأن يكبّر واقفاً ناوياً الاقتداء ثمّ يركع، شريطة أن يكون الإمام باقياً في الركوع إلى حين ركوعه، وله أن يلتحق به في الركعة الثانية، أو أيّ ركعة اُخرى؛ على تفصيل يأتي.

وقد تسأل: هل يجوز للمأموم أن ينوي الاقتداء بالإمام في جزء من صلاته ـ ركعةً واحدةً مثلا من صلاته أو ركعتين ـ ثمّ يفترق عنه، أو لا يسوغ له أن يفترق عنه بحال ؟

والجواب: إذا انتهت ركعات المأموم قبل أن ينهي الإمام ركعات صلاته

658

جاز له أن يفترق عنه.

ومثال ذلك: من يأتمّ في صلاة المغرب بإمام يقضي صلاة الظهر فيفرغ من ركعاته الثلاث وعلى الإمام ركعة فينفرد عنه.

وإذا انتهت ركعات الإمام قبل أن ينهي المأموم ركعات صلاته جاز له أن يفترق عنه؛ وينفرد بصلاته ويواصلها منفرداً ليكملها.

ومثال ذلك: شخص يصلّي الظهر مأموماً، وقد دخل في صلاة الجماعة والإمام في ركعته الثانية، فيفرغ الإمام من ركعاته وعلى المأموم ركعة.

ومثال آخر: شخص يصلّي الظهر مأموماً وإمامه يصلّي الصبح قضاءً فيفرغ الإمام من ركعاته، وعلى المأموم ركعتان.

وأمّا إذا كان لا يزال على الإمام والمأموم معاً بقية من الصلاة فالأجدر بالمأموم احتياطاً إذا أراد أن يحافظ بصورة مؤكّدة على صلاة الجماعة وثوابها أن لايفرد عن إمامه ويفترق في أثناء الصلاة.

ويستثنى من ذلك: انفراد المأموم عندما يجلس مع إمامه للتشهّد والتسليم فإنّ له أن يعجّل بالتشهّد والفراغ من الصلاة قبل فراغ الإمام.

(101) وإذا انفرد المأموم على خلاف ما ذكرناه فهناك حالتان:

الاُولى: أن يكون الانفراد قد خطر على باله فعلا ولم يكن قد نوى ذلك من بداية الصلاة فصلاته صحيحة، وإذا كان هذا الانفراد قبل الركوع من الركعة الاُولى أو الثانية وجب عليه أن يقرأ كما يقرأ المنفرد، وإذا كان بعد أن ركع فيمضي في صلاته منفرداً ولا شيء عليه، ولكن شريطة أن لا يكون قد تورّط في فترة ائتمامه بزيادة في الركن؛ (حيث يغتفر للمأموم أحياناً الزيادة في الركن، كما سيأتي إن شاء الله تعالى). وأمّا إذا كان قد تورّط كذلك فعليه إعادة الصلاة.

وفي سائر الأحوال إذا صار المصلّي منفرداً بعد الائتمام فلا يسوغ له أن

659

يعود إلى ما أعرض عنه.

الثانية: أن يكون ناوياً من البداية للانتقال من الائتمام إلى الانفراد، بمعنى أنّه اقتدى بالإمام وعوَّل عليه في القراءة وهو ينوي أن ينفرد في القنوت مثلا، وعندما قنت الإمام انفرد عنه وركع، وهذا عليه أن يعيد الصلاة من جديد؛ إلّا إذا كان معتقداً حين الصلاة أنّه يسوغ له ذلك فلا إعادة عليه حينئذ.

ولا يسوغ للمأموم أن يترك إمامه وهو يصلّي إلى إمام آخر في صلاة واحد؛ بأن يعدل في وسط صلاته من أحدهما إلى الآخر.

(102) ونية القربة شرط أساس في صحّة الصلاة من حيث هي، وليست شرطاً في صحّة الجماعة والاقتداء، فمن صلّى جماعةً بقصد أن يحسن ويتقن القراءة، أو بقصد الفرار من الشكّ ووسوسة الشيطان وتأييداً لإمام الجماعة الصالح وإعزازاً للدين بذلك صحّت صلاته، وله أجر المتعلّم أو ثواب الفارّ من وسوسة الخنّاس، أو المؤيّد لأهل الخير والصلاح تبعاً لنيته، ولا شيء له من ثواب الجماعة.

ومن صلّى جماعةً بقصد التظاهر بالتديّن وكسب إعجاب الناس بعبادته كان آثماً، وكانت صلاته باطلةً من الأساس؛ لأنّه رياء، والرياء يبطل العبادة كما تقدم، والشيء نفسه يقال في الإمام، غير أنّ ذلك بالنسبة إلى الإمام من المزالق التي ينبغي له أن يحصّن نفسه ضدّها؛ ويصون نيّته من وساوس الشيطان.

(103) ومن رأى نفسه وسط اُناس يصلّون جماعةً فشكّ هل كان قد نوى الائتمام والجماعة، أو نوى الصلاة منفرداً ؟ أتمّ صلاته منفرداً، ولا وزن هنا لظاهر الحال(1).



(1) ظاهر الحال ما تشعر به حالة الإنسان الواقف في الجماعة من أنّه مأموم، فهذا الإشعار لا وزن له.(منه (رحمه الله)).

660

وإذا ائتمّ بإمام وفي أثناء الصلاة شكّ في أنّه عدل عن نية الائتمام أولم يعدل بقي على نيته السابقة.

شروط الاقتداء:

ولا يصحّ الاقتداء شرعاً وبالتالي لا تصحّ صلاة الجماعة إلّا إذا توفّرت الشروط التالية:

الشرط الأوّل للاقتداء:

(104) الأول: أن يقتدي المأموم بالإمام والإمام يكبّر تكبيرة الإحرام، أو واقف يقرأ في الركعة الاُولى، أو بعد القراءة وقبل الهوي إلى الركوع، أو راكع قبل أن يرفع رأسه، فما لم يرفع الإمام رأسه من الركوع يسوغ الاقتداء به في الركعة الاُولى، وكذلك يسوغ الاقتداء به في الركعات الاُخرى وهو قائم أو وهو راكع، وتفوت الفرصة برفع رأسه من الركوع، فلا يسوغ الاقتداء والدخول في صلاة الجماعة عند رفع الإمام رأسه من الركوع أو هويه إلى السجود، فمن أدركه وقتئذ فعليه أن ينتظر إلى أن يقوم الإمام لركعة جديدة.

(105) يستثنى من ذلك: إذا وصل الإنسان إلى صلاة الجماعة والإمام في الركعة الأخيرة قد جلس يتشهّد فإنّ بإمكان الإنسان حينئذ إذا أراد أن يدرك فضل الجماعة وثوابها أن يكبّر تكبيرة الإحرام ناوياً الاقتداء وهو قائم، ثمّ يجلس مع الإمام ويتشهّد باعتباره كلاماً دينياً محبوباً لله، فإذا سلّم الإمام قام لصلاته من غير حاجة إلى تكبيرة الإحرام، وأدّى صلاته منفرداً.

وإذا أدرك الإمام وهو في السجدة الاُولى أو الثانية من الركعة الأخيرة أمكنه أن يقوم بمثل ذلك فيكبّر ويهوي إلى السجود؛ فيسجد ويتشهّد مع الإمام

661

بنفس النية السابقة، وإذا فرغ الإمام قام لصلاته، ولكن يجب عليه أن يكبّر؛ لاحتمال الحاجة إلى تجديد تكبيرة الإحرام في هذه الحالة.

وهكذا يتّضح أنّ هذا الاستثناء إنّما يعطي للملتحق بالجماعة في حالة التشهّد والسجود من الركعة الأخيرة ثواب الجماعة، ولا يحتسب ذلك من الصلاة، فلكي يحتسب من الصلاة لابدّ من إدراك الإمام قبل أن يرفع رأسه من الركوع.

(106) وإذا اقترن الحدّ الأدنى من ركوع المأموم مع ابتداء الإمام برفع رأسه فلا يقين بكفاية ذلك في صحّة الاقتداء، وإذا كان الإمام راكعاً فنوى المأموم الائتمام به وكبّر وركع معتقداً أنّه يدرك الإمام راكعاً، ثمّ تبيّن له العكس صحّت صلاته منفرداً؛ لا جماعة.

وإنّ كبّر وركع معتقداً أنّه يدرك الإمام راكعاً، ولكنّه حين ركع شكّ في أنّ الإمام هل كان راكعاً أو رافعاً رأسه من الركوع؟ تصحّ صلاته جماعة.

(107) وإذا وصل إلى صلاة الجماعة والإمام راكع وشكّ وتردّد هل يدرك الإمام راكعاً إذا كبّر وركع، أو لا؟ فله أن ينوي ويكبّر تكبيرة الإحرام ويركع، فإن أدركه راكعاً صحّت صلاته جماعة، وإلّا صحّت كصلاة منفرد (1).

(108) وإذا وجد الإنسان الإمام راكعاً وخاف الفوات إذا انتظر إلى أن يصل إلى صفوف المصلّين أمكنه أن يكبّر ويركع؛ ويمشي في ركوعه إلى الصف (2)، شريطة عدم الانحراف عن القبلة؛ وعدم الإخلال بأيّ واجب من واجبات


(1) بل لا بدّ من إعادة الصلاة.
(2) فإن لم يمهله الإمام قام بقيامه ومشى إلى الجماعة، وإن لم يمهله الإمام أيضاً مشى بعد قيامه عن السجود.
662

الجماعة، سوى أنّه بدأ صلاته بعيداً عنها.

(109) وفي كلّ حالة يلتحق فيها المصلّي بصلاة الجماعة؛ بأمل أن يدرك الإمام قبل رفع رأسه إذا أعجله الإمام ورفع رأسه فقد فاتته الجماعة، وعندئذ يتخيّر: بين أن يواصل صلاته منفرداً وتصحّ منه، وبين أن يعدل إلى النافلة فينويها نافلةً ويصليها بالكامل إن شاء، وإن شاء قطع النافلة والتحق بالإمام في ركعة لاحقة (1).

الشرط الثاني:

(110) الثاني: المتابعة في الأفعال؛ ذلك أنّ الصلاة فيها أفعال: كالركوع والسجود والقيام والجلوس، وأقوال: كقراءة الفاتحة والذكر والتشهّد، والاقتداء لايصحّ إلّا إذا تابع المأموم الإمام في أفعاله، فيركع بركوعه ويسجد بسجوده، ويقف بوقوفه، ويجلس بجلوسه، ومعنى المتابعة: أن لا يسبقه في أيّ فعل من واجبات الصلاة، ركناً كان أو غير ركن، بل يأتي من بعد الإمام مافعله الإمام بلا فاصل طويل، أو مقارناً له.

ولا تجب المتابعة في الأقوال ما عدا تكبيرة الإحرام؛ فإنّ المأموم لا يسوغ له أن يسبق إمامه في تكبيرة الإحرام، ويسوغ له أن يسبقه في قراءة البسملة أو التشهّد أو الذكر ونحو ذلك من الأقوال.

كما أنّ للمأموم أن يزيد على إمامه؛ فيسبّح في ركوعه ـ مثلا ـ سبع مرّات في حالة اقتصار الإمام على الثلاث.

 


(1) لا يصحّ أن ينوي حينما فاتته الجماعة النافلة بهدف أن يقطعها؛ لأنّ نيّة النافلة عندئذ تصبح صوريّةً لا حقيقيّة، نعم لو نوى النافلة ثمّ بدا له أن يقطعها جاز.
663

(111) وإذا ترك المأموم المتابعة عن عمد والتفات فالاقتداء باطل، ولا جماعة له، سواء كان عالماً بأنّ المتابعة شرط في صلاة الجماعة، أوْ لا.

وإذا تركه سهواً وغفلةً فلا يبطل اقتداؤه ولا جماعته، بل ينظر: فإن كان بالإمكان أن يتدارك ويلتحق بالإمام تدارك والتحق في حالات معيّنة يأتي تحديدها، وإلّا فلا شيء عليه. ويتّضح ذلك من خلال الافتراضات التالية:

(112) إذا رفع المأموم رأسه من الركوع قبل الإمام سهواً؛ وتفطّن إلى ذلك والإمام لا يزال راكعاً، عاد إلى الركوع مع الإمام ولا شيء عليه، وإذا تفطّن ولم يعد في هذه الحالة بنى على أنّه منفرد؛ وأنّ جماعته بطلت.

(113) وإذا رفع المأموم رأسه من السجود قبل الإمام سهواً والإمام ساجد فالحكم هو نفس ما تقدم، وهذا يعني أنّ زيادة الركوع والسجود من مثل هذا الساهي مغتفرة من أجل المتابعة للإمام.

(114) وإذا رفع المأموم رأسه من الركوع أو السجود سهواً؛ وتفطّن بعد أن كان الإمام قد رفع رأسه واصل صلاته مع إمامه ولا شيء عليه.

(115) وإذا هوى إلى الركوع أو السجود قبل الإمام سهواً؛ وتفطّن إلى ذلك والإمام لا يزال قائماً أو جالساً ذكر ورفع رأسه؛ والتحق بالإمام وركع معه، أو سجد ثانيةً ولا ذكر عليه في هذا الركوع أو السجود المكرّر من أجل المتابعة، وإذا تفطّن إلى ذلك في حالة هوي الإمام إلى الركوع أو السجود بقي على حاله وتابع صلاته مع إمامه.

(116) وإذا ركع الإمام أو سجد وتخلّف المأموم عنه سهواً حتّى رفع الإمام رأسه، ثمّ تفطّن المأموم فعليه أن يؤدّي ما فاته من ركوع أو سجود، ثمّ يواصل بعد ذلك متابعته للإمام ولا شيء عليه.

(117) وإذا نهض الإمام والمأموم معاً من ركوع أو سجود؛ ولكن انتصب

664

المأموم قائماً أو جالساً قبل أن ينتصب الإمام غفلةً، أو باعتقاد أنّ الإمام قد انتصب بقي على حاله إلى أن ينتصب الإمام؛ ويواصل صلاته معاً.

(118) وإذا زاد الإمام سجدةً ـ مثلا ـ سهواً منه فلا يجب ولا يسوغ للمأموم متابعته فيه، ولايضرّ عدم المتابعة هنا بصحّة اقتدائه وجماعته.

(119) وإذا رفع المأموم رأسه من السجود فرأى الإمام ما زال ساجداً؛ فتخيّل المأموم أنّها اُولى السجدتين، فعاد إليها بقصد المتابعة والاقتداء تطبيقاً لما تقدم في الفقرة (113)؛ فتبيّن أنّها السجدة الثانية حُسبَت ثانية.

(120) وإذا تخيّل المأموم أنها الثانية، فسجد سجدةً اُخرى بقصد أنّها ثانية متابعاً للإمام؛ فتبيّن أنّها اُولى حُسبَت اُولى متابعةً للإمام.

الشرط الثالث:

(121) الثالث: اجتماع الإمام والمأمومين في موقف واحد من بداية الاقتداء إلى نهايته؛ على نحو يصدق عليهم في نظر العرف أنّهم مجتمعون في صلاتهم لا متفرّقون. ولا تضرّ كثرة الصفوف وتراميها ـ بالغةً ما بلغت ـ ما دام اسم الاجتماع صادقاً. فلا يسوغ لإنسان في غرفة من بيته أن يقتدي بإمام يصلّي في المسجد؛ لعدم صدق اسم الإجتماع، فلا تكون الصلاة صلاة جماعة.

وعلى هذا الأساس لا تصحّ صلاة الجماعة مع وجود جدار أو أيّ حائل آخر بين الإمام والمأمومين، أو بين بعض الصفوف وبعض على نحو يمنع عن صدق الاجتماع عرفاً. وكذلك لا تصحّ مع وجود فواصل وفراغات بين الإمام والمأمومين، أو بين صف وصف بمقدار لايسمح بصدق اسم الاجتماع.

والأجدر بالمأموم ـ احتياطاً ووجوباً ـ أن يراعي في الفاصل بين محلّ سجوده وموقف إمامه؛ أو موقف المأموم الذي أمامه أن لا يزيد على ما يمكن أن

665

يتخطّاه الإنسان بخطوة واسعة من أوسع خطوات الرجل الاعتيادي، ويراعي في الحائل تفادي كلّ ما كان حاجباً عن الرؤية والمشاهدة من حائط وغيره.

(122) ويستثنى من ذلك: المرأة إذا أرادت أن تقتدي بالرجل في صلاتها. فإنّه يرخّص لها بالصلاة خلف حائل بينها وبين الإمام، أو بينها وبين الرجال المأمومين ولو لم يصدق اسم الاجتماع، كما يرخّص بوجود فاصل بينها وبينه، أو بينها وبينهم.

(123) وتسوغ صلاة الجماعة مع وجود فاصل لايمنع عن الرؤية بين الإمام والمأمومين، أو بين بعض صفوفهم والبعض الآخر، كالزجاج والشبابيك المخرّمة ونحوها؛ فإنّها لاتمنع عن صدق اسم الاجتماع. وكذلك تسوغ صلاة الجماعة أيضاً مع وجود حائل غير ثابت، كمرور إنسان ونحو ذلك.

(124) ويكفي أن يكون مأموم واحد في الصفّ قد توفّر فيه هذا الشرط بالنسبة إلى من هو إمامه، فإذا لم يكن بينه وبين من هو إمامه فاصل مكاني أو حائل على نحو يمنع عن صدق إسم الاجتماع صحّت صلاته وصلاة كلّ من عن يمينه وعن يساره من المأمومين؛ حتّى ولو كان أمامهم جدار وستار؛ فإنّ اسم الاجتماع يصدق في هذه الحاله، وعلى هذا الأساس إذا ضاق المسجد بالمأمومين فوقف من وقف منهم مصلّياً ببابه المفتوح بحيث يشاهد الإمام أو يشاهد من يشاهده مباشرةً أو بالواسطة صحّت صلاته وصلاة من على يمينه ويساره ومن خلفه.

(125) والمأمومون الأماميّون ـ أي المتقدّمون مكاناً ـ كما لا يشكّلون (وهم يصلّون) حاجباً أو فاصلا بين الإمام ومن خلفهم من المأمومين كذلك لا يشكّلون حاجباً أو فاصلا في حالة تهيئهم لتكبيرة الإحرام وتأهّبهم لذلك، فيسوغ للمأموم المتأخّر أن ينوي الائتمام ويكبّر إذا لاحظ أنّ المأمومين الذين بينه وبين الإمام

666

متأهّبون للتكبير، كما إذا كانوا قد رفعوا أيديهم لكي يكبّروا.

وإذا كان المأموم الأمامي يصلّي قصراً ـ مثلا ـ والإمام والمأموم المتأخّر يصلّيان صلاةً تامةً فسوف يفرغ المأموم الأمامي قبلهما، ولا يضرّ ذلك بصحة اقتداء المأموم المتأخّر فإنّه يبقى على جماعته. وإذا كان الفاصل بينه وبين الإمام كبيراً أمكنه أن يتقدم فوراً ويأخذ الموقع المناسب ويواصل صلاته، وكذلك الحال بالنسبة إلى من كان يصلّي إلى جانب ذلك المسافر ويتّصل بإمامه عن طريقه فإنّه لا ضير عليه، وإذا كان الفاصل كبيراً اقترب لأخذ الموضع المناسب مع الحفاظ على استقبال القبلة.

(126) وقد تسأل: إذا كان إنسان يصلّي جماعةً ويفصله عن إمامه مأمومون متقدّمون في المكان وهو يعلم أنّ صلاتهم باطلة فهل يشكّل وجودهم حاجباً أو فاصلا حينئذ، كما لو كانوا قد اجتمعوا يتحدّثون ؟

والجواب: أنّه لا يشكّل حاجباً أو فاصلا؛ لأنّ اسم الاجتماع صادق ماداموا يمارسون صورة الصلاة، فالمأموم المتأخّر تصحّ جماعته في هذه الحالة.

(127) وإذا بدأت صلاة الجماعة بدون حاجب وفاصل يضرّ بصدق اسم الاجتماع؛ ثمّ شكّ أحد المصلّين في حصول الفاصل والحائل في الأثناء فما هو الحكم ؟

والجواب: أنّ الحكم هو البناء على استمرار الجماعة وصحّتها، وإذا بدأت صلاة الجماعة وفيهم من يشكّ في وجود الفاصل والحائل الذي يمنع عن صدق اسم الاجتماع عرفاً منذ بداية الصلاة فهذا الشاكّ لا يسوغ له الاعتماد على هذه الجماعة والدخول فيها.

والجهل بوجود الحائل أو الفاصل الذي يمنع عن صدق اسم الاجتماع ليس عذراً مسوّغاً لصحة الجماعة، فمن صلّى جاهلا بذلك ثمّ علم أثناء الصلاة بوجوده

667

بنى على أنّ اقتداءه باطل منذ البداية، ويجري على صلاته الحكم الذي سيأتي في الفقرة (140).

الشرط الرابع:

الرابع: أن تتوفّر في إمام الجماعة اُمور معيّنة، وهذه الاُمور يمكن تصنيفها إلى قسمين: أحدهما يرتبط بصفاته الشخصية العامّة، والآخر يرتبط بوضعه الخاصّ في تلك الصلاة التي صار إماماً فيها.

(128) فبالنسبة إلى القسم الأول يجب أن يتّصف إمام الجماعة بالعقل، والبلوغ، وطهارة المولد، والإيمان، والعدالة، وكذلك الرجولة إن كان المأموم ذكراً، فلا تصحّ إمامة المرأة للرجل، وتصحّ لمثلها.

وبالنسبة إلى القسم الثاني يجب ما يلي:

(129) أوّلا: أن يقرأ الإمام مايعوّل المأموم فيه عليه من القراءة بصورة صحيحة، (المأموم لا يقرأ الفاتحة والسورة، ويعوّل في ذلك على الإمام، كما سيأتي).

(130) ثانياً: أن يصلّي الإمام من قيام إذا كان المأموم يصلّي من قيام، وأمّا إذا كان المأموم يصلّي جالساً ساغ له أن يأتمّ بجالس مثله أيضا.

(131) ثالثاً: أن تكون صلاة الإمام صحيحةً في نظر المأموم؛ لكي يصحّ له الاقتداء به، فإذا كان المأموم يعلم بنجاسة ماء معيّن ورأى إمامه يتوضّأ من ذلك الماء للصلاة جهلا منه بنجاسته، ثمّ بدأ يصلّي فلا يسوغ له الاقتداء به، وأمّا إذا كان المأموم يشكّ في أنّ إمامه هل توضّأ من ذلك الماء، أو من ماء آخر ونحو ذلك؟ بنى على صحة صلاة الإمام؛ وجاز له الاقتداء به.

وقد يختلف الإمام والمأموم ـ اجتهاداً أو تقليداً ـ في حكم بعض أجزاء

668

الصلاة وشروطها فما هو موقف المأموم في هذه الحال ؟

الجواب: إذا كان الاختلاف في نقطة يعذر فيها الجاهل وتصحّ صلاته فلا بأس بالاقتداء، كما إذا كان من رأي الإمام كفاية التسبيحات مرّةً واحدةً في الركعة الثالثة والرابعة وكان من رأي المأموم وجوب قراءتها ثلاث مرّات فإنّ الإمام معذور هنا لو قرأ مرّةً واحدة؛ فيسوغ الاقتداء به.

وإذا كان الاختلاف في نقطة لا يعذر فيها الجاهل حينما يعرف الحقيقة فلا يسوغ للمأموم أن يقتدي بذلك الإمام إذا تأكّد أنّ إمامه قد جرى في تلك النقطة على الرأي المخالف، بل وحتّى لو احتمل ذلك ما دام متأكّداً من اختلافهمعه في وجهة النظر.

ومثال ذلك: أن يعرف المأموم بأنّ الإمام يرى جواز الوضوء بماء الورد، والمأموم يرى عدم جواز ذلك ـ والوضوء نقطة لا يُعذَر فيها الجاهل ـ فلا يسوغ للمأموم أن يأتمّ به ما لم يثق بأنّه لم يتوضّأ على ذلك النحو الذي يراه باطلا (1).

(132) رابعاً: إذا كان في المكان علوّ وانخفاض واضح ومحسوس فلابدّ أن لا يعلو الإمام في موقفه على موقف المأموم شبراً أو أزيد من ذلك، ولا بأس بالعلوّ أقلّ من شبر.

ومثال ذلك: أن تكون أرض الغرفة مشرفةً على ساحة الدار ومرتفعةً عنها بمقدار شبر أو أزيد، فلا يسوغ أن يقف الإمام على أرض الغرفة ويقف المأموم في ساحة الدار، ويجوز العكس.

 


(1) ونحن نضيف هنا: أنّه لو كانت قراءته للحمد والسورة عند المأموم باطلةً لم يجز له أن يقتدي به رغم أنّ صلاة الإمام صحيحة واقعاً؛ لأنّ خطأه ليس في الركن، وكأنّه (رحمه الله) لم يذكر ذلك اعتماداً على إطلاق ما مضى منه من البند (129).
669

ومثال آخر: أن يكون الإمام والمأموم على سفح جبل منحدر بصورة واضحة ومحسوسة؛ فلا يسوغ للإمام أن يقف في الأعلى ويقف المأموم في نقطة تنخفض عن ذلك بشبر أو أزيد، ويسوغ العكس.

وإذا كان في الأرض ارتفاع وانخفاض ولكنّه غير محسوس ـ كما في الأرض المسرّحة التي تنخفض تدريجاً ـ جاز للإمام أن يقف في أيّ نقطة منها.

(133) خامساً: أن لا يتقدّم المأموم على الإمام في الموقف الذي يقف فيه، وأمّا مساواتهما في الموقف فحكمها يختلف؛ ذلك أنّ الإمام إذا كان رجلا وكان المأموم أكثر من واحد لم يجز للمأمومين أن يساووه فضلا عن أن يتقدّموا عليه، وإذا كان الإمام امرأةً؛ أو كان رجلا له مأموم واحد جازت المساواة في الموقف (1).

وكما لا يسوغ للمأموم أن يتقدّم على الإمام في الموقف الذي يقف فيه كذلك الأجدر به وجوباً أن لايتقدم عليه في كلّ الحالات: راكعاً وجالساً وساجداً، فلا يسمح له بأن يكون محلّ سجوده متقدّماً على محلّ سجود الإمام.

كيفية صلاة الجماعة:

(134) مرّت بنا في ما تقدم كيفية صلاة المنفرد، وصلاة الإمام في الجماعة كصلاة المنفرد في الكيفية تماماً، غير أنّ له أن ينوي الجماعة باعتباره إماماً لها، ويختلفان في الأحكام المترتّبة عليها؛ لا في أصل كيفية الصلاة، بمعنى أنّه


(1) إن كان الإمام رجلاً وكان له مأموم واحد رجلاً استحب أن يقف المأموم إلى صفّ الإمام على يمينه وإن كان مأمومه امرأة واحدة استحب أن تكون على يمينه ويكون سجودها بحذاء قدميه أو ركبتيه.
670

كما يقرأ المنفرد يقرأ الإمام، وكما يركع ويسجد المنفرد يركع ويسجد الإمام، ولكن يترتّب على المنفرد إذا شكّ بين الثلاث والأربع ـ مثلا ـ أن يبني على الأكثر كما تقدّم، ويترتّب على الإمام إذا شكّ كذلك أن يعتمد على الحافظ الضابط للعدد من مأموميه، فهذا فرق في الأحكام المترتّبة؛ لا في أصل الكيفية.

وأمّا صلاة المأموم فتختلف كيفيتها شيئاً ما عن كيفية صلاة المنفرد، كما تختلف بعض الأحكام المترتّبة عليهما.

وقد عرفنا سابقاً أنّ بإمكان الإنسان أن يقتدي ويدخل مأموماً في الجماعة في أيّ ركعة من ركعات الإمام؛ على أن يُدركه وهو قائم قبل الركوع، أو يدركه وهو راكع لم يرفع رأسه بعد.

وسوف نتحدّث أوّلا عن كيفية صلاة المأموم إذا دخل في الجماعة في الركعة الاُولى، ثمّ نشرح بعد ذلك كيفيتها إذا دخل في الركعة الثانية أو ما بعدها من ركعات.

(135) إذا نوى المأموم وكبّر مع تكبيرة الإحرام للإمام أو بعدها والإمام يقرأ فليس عليه أن يقرأ، بل يتحمّل الإمام هذا الواجب عنه، وله أن يسبّح ويذكر الله تعالى.

وقد تسأل: وهل يسوغ له أن يقرأ إذا أحبّ ؟

والجواب: إذا كان في صلاة يجب فيها الجهر بالقراءة على الإمام ـ كصلاتي المغرب والعشاء وصلاة الصبح وكان المأموم يسمع صوت الإمام بصورة متميّزة أو غير متميزة ـ فعليه أن لا يقرأ، وإذا كان في صلاة يخفت فيها الإمام بالقراءة ـ كالظهر والعصر ـ أو لم يسمع المأموم شيئاً من صوت الامام على الرغم من جهره بالقراءة ساغت القراءة للمأموم، سواء قصد بالقراءة مجرّد أن يتلو القرآن أو قصد أن تكون جزءً من صلاته؛ ولكن على أن يخفت بها

671

حتّى ولو كان في صلاة المغرب ونظائرها من الصلوات التي يجهر فيها المنفرد.

وإذا ركع الإمام ركع المأموم وواصل متابعته له، فإذا قام للركعة الثانية وقف المأموم معوّلا على قراءة الإمام وكان الحكم هو نفس ما تقدم في الركعة الاُولى.

وهكذا يباشر المأموم سائر أجزاء الصلاة بنفسه، ولا يعوّل على الإمام، ولا يكتفي به إلّا في قراءة الفاتحة والسورة في الركعتين الاُولى والثانية، وإذا وصل المأموم إلى الركعة الثالثة مع إمامه وجب عليه احتياطاً أن يختار التسبيحات، وبخاصّة إذا كانت الصلاة مغرباً أو عشاءً بينما كان المنفرد مخيّراً بين التسبيحات والفاتحة.

وإذا كبّر المأموم والإمام يقرأ ووقف ساكتاً؛ فركع الإمام وسها المأموم عن ذلك حتّى رفع الإمام رأسه فلا ضير على المأموم، بل يركع ويلحق بالإمام.

وإذا كبّر المأموم قائماً فهوى الإمام فوراً إلى الركوع هوى معه، وإذا كبّر والإمام راكع هوى إلى الركوع، وليس عليه التريّث واقفاً ما دام الإمام هو الذي يتحمّل القراءة عنه.

(136) وإذا جاء المأموم والإمام واقف أو راكع في الركعة الثانية كبّر ودخل في الصلاة، وسقطت عنه القراءة، وجرى عليه نفس ما تقدم آنفاً، غير أنّ هذه هي ركعته الاُولى؛ بينما هي الركعة الثانية للإمام، فإذا قنت الإمام بعد القراءة ـ باعتبارها ركعةً ثانيةً له ـ استحبّ للمأموم أن يتابعه في ذلك، فإذا رفع الإمام رأسه من السجدة الثانية فيها جلس يتشهّد، وأمّا المأموم فليس عليه أن يتشهّد؛ لأنّها ركعته الاُولى، ولكنّه مع هذا يستحبّ له أن يجلس جلسةً غير مستقرّة، كمن يهمّ بالنهوض ويتشهّد متابعةً للإمام، حتى إذا قام الإمام إلى ثالثته قام المأموم إلى ثانيته، وهناتجب على المأموم قراءة الفاتحة والسورة، ولا يتحمّلها عنه الإمام؛

672

لأنّ الإمام إنّما تعوِّض قراءته عن قراءة المأموم إذا كان هذا الإمام في الركعة الاُولى أو الثانية.

ولابدّ للمأموم أن يخفت بالقراءة؛ ولو كانت الصلاة ممّا يجهر فيها المنفرد، وإذا قرأ المأموم في هذه الحالة الفاتحة وركع الإمام وخشي المأموم أن تفوته متابعة الإمام في الركوع ـ إذا قرأ السورة الاُخرى ـ تركها وركع، وإذا كان يقرأ الفاتحة وركع الإمام وخشي المأموم أن تفوته المتابعة في الركوع ـ إذا أكمل الفاتحة ـ فلا يسوغ له أن يقطعها، بل يكملهابرجاء أن يدرك الإمام، فإن رفع الإمام رأسه قبل أن يدركه في ركوعه انفرد بصلاته عنه وقرأ سورةً اُخرى وركع.

وإذا قرأ المأموم وأدرك الإمام راكعاً واصل صلاته مع الإمام، حتى إذا فرغ مع الإمام من السجدة الثانية كان عليه أن يتشهّد؛ لأنّه في الركعة الثانية؛ فيتخلّف عن الإمام قليلا ويتشهّد ويسرع بالنهوض ليتاح له أن يأتي بالتسبيحات الثلاثة، ويتابع الإمام في ركوعه؛ ويكون هو في الركعة الثالثة وإمامه في الرابعة، فإذا أكملا هذه الركعة جلس إمامه يتشهّد ويسلّم، وهو بإمكانه أن يغادر الإمام جالساً وينهض للرابعة، وبإمكانه أن يجلس متابعةً له ويتشهّد؛ حتى إذا سلّم الإمام قام إلى الركعة الرابعة وأكمل صلاته منفرداً.

(137) وإذا بدأ المأموم صلاته مع الإمام في الركعة الثالثة للإمام فهناك حالتان:

الاُولى: أن يكبّر والإمام لا يزال واقفاً، وعليه في هذه الحالة أن يقرأ ـ بإخفات ـ الفاتحة والسورة، أو الفاتحة على الأقلّ إذا ركع الإمام وخاف المأموم أن تفوته متابعة الإمام في الركوع.

والثانية: أن يكبّر والإمام راكع، فتسقط عنه القراءة نهائياً، فيهوي

673

إلى الركوع مباشرةً، وفي كلتا الحالتين عليه أن يقرأ في الركعة الثالثة إخفاتاً، وله أن يقنت عقيب القراءة إذا أمهله الإمام، وعندما يجلس الإمام ليتشهّد ويسلّم في الركعة الأخيرة يجلس المأموم ليتشهّد لركعته الثانية؛ ثمّ يواصل صلاته منفرداً.

(138) وإذا وصل الإنسان إلى الجماعة والإمام قائم فكبّر والتحق بها، ولكنّه لم يعلم هل أنّ الإمام في الركعة الاُولى أو الثانية لكي تسقط عنه القراءة، أو في الركعة الثالثة أو الرابعة لكي يجب عليه أن يقرأ إخفاتاً؟ جاز له أن يقرأ الحمد والسورة إخفاتاً من أجل هذا الاحتمال، فإن تبيّن أنّ الإمام في الثالثة أو الرابعة فقد أحسن صنعاً وصحّت صلاته، وإن تبيّن أنّه في الاُولى أو الثانية لم يضرّه ما قرأ وصحّت صلاته أيضاً.

الأحكام المترتّبة على صلاة الجماعة:

(139) بعد أن استعرضنا كيفية صلاة الإمام وصلاة المأموم نستعرض فيما يلي ما تتميّز به صلاة الجماعة عن صلاة المنفرد من أحكام.

فمن تلك الأحكام: أنّ كلاًّ من الإمام والمأموم إذا شكّ في عدد الركعات وكان الآخر حافظاً للعدد وجب عليه الرجوع والاعتماد عليه، ولا يبني على الأكثر في هذه الحالة كما يبني المنفرد.

ومن تلك الأحكام: أنّ زيادة سجود وزيادة ركوع مغتفرة بالنسبة إلى المأموم إذا كانت من أجل المتابعة، كما تقدّم في الفقرة (113)، بينما لايسمح بمثل هذه الزيادة في صلاة المنفرد.

وإذا زاد المنفرد سجدةً واحدةً بطلت صلاته في حالة العمد والالتفات، وإذا