159

وفي الشرع الإسلاميّ متّسع لهذا التدبير تخريجاً على قاعدة المصالح المرسلة في ميدان الحقوق الخاصّة.

وقد رجّحنا أن نسمّي هذا النوع (حقوق الابتكار) لأنّ اسم (الحقوق الأدبيّة) ضيّق لا يلائم مع كثير من أفراد هذا النوع، كالاختصاص بالعلامات الفارقة التجاريّة، والأدوات الصناعيّة المبتكرة، وعناوين المحالّ التجاريّة ممّا لا صلة له بالأدب، والنتاج الفكري. أمّا اسم (حقّ الابتكار) فيشمل الحقوق الأدبيّة كحقّ المؤلّف فى استغلال كتابه، والصحفيّ في امتياز صحيفته، والفنّان في أثره الفنّيّ من الفنون الجميلة، كما يشمل الحقوق الصناعيّة والتجاريّة ممّا يسمّونه اليوم بالملكيّة الصناعيّة، كحقّ مخترع الآلة، ومبتدع العلامة الفارقة التي نالت الثقة، ومبتكر العنوان التجاري الذي أحرز الشهرة...»(1).

 

التبرير الشرعي لحقّ الابتكار:

أقول: بما أنّنا لا نؤمن بمبدأ المصالح المرسلة بحرفيّتها التي يؤمن بها الاُستاذ الزرقاء فبالإمكان استبداله بمبدأ ولاية الفقيه. فالوليّ الفقيه متى ما يرى المصلحة الاجتماعيّة بالمستوى المبرّر لإلزام المجتمع بأمثال هذه الحقوق يعمل ولايته في تثبيت ذلك، فإذا حرّم مثلا على الناس أن يطبعوا تأليف شخص مّا بلا إذنه صحّ للمؤلّف أن يأخذ مبلغاً من المال ممّـن يريد الطبع لقاء إذنه له بذلك، ولو طبع بلا إذنه فرض عليه بمبدأ ولاية الفقيه دفع ثمن حقّ الطبع إلى المولّف، كما تفرض الضرائب على الناس بمبدأ الولاية.

أمّا لو غضضنا النظر عن إعمال وليّ الأمر صلاحيّته لتثبيت هذه الحقوق


(1) الفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد 3: الفقرة 11، الهامش.

160

فهل يمكن إثباتها في المقام في فقهنا الإسلاميّ أوْ لا؟

يمكن ذكر عدّة أوجه لإسباغ الشرعيّة على هذه الحقوق بحسب الفقه الإسلاميّ:

الوجه الأوّل: التمسّك بالارتكاز العقلائيّ الدالّ على امتلاك هذه الحقوق بعد عدم ورود الردع.

وهذا الوجه بهذا المقدار يتبادر إلى الذهن الإيراد عليه بأنّ هذا الارتكاز العقلائيّ ارتكاز حديث لم يكن في زمن المعصوم كي يدلّ عدم الردع على إمضائه بناءً على دلالة عدم الردع على إمضاء الارتكاز حتى غير المترجم إلى العمل، وقد مضت منّا الإشارة إلى أنّ التوسّع الجديد في الارتكازات لا يثبت إمضاؤه بعدم الردع، ولا يقاس ذلك بالتوسّع في المصاديق من قبيل ارتكاز مملّكيّة الحيازة الثابت في زمن المعصوم والمقتصر في عالم الصدق الخارجيّ وقتئذ على الحيازات اليدويّة أو الحيازة بالآلة اليدويّة، بينما توجد اليوم مصاديق جديدة للحيازة وهي الحيازات الواسعة بالأدوات الصناعيّة الحديثة، ففي مثل ذلك يمكن أن يقال: إنّ عدم الردع دلّ على إمضاء كبرى الارتكاز، واليوم يطبّق الحكم المستفاد من إمضاء الارتكاز على مصاديق جديدة لم تكن وقتئذ.

أمّا في ما نحن فيه فارتكاز ثبوت الحقّ في مثل حقّ الطبع والنشر وجميع الحقوق الأدبيّة أو حقوق الابتكار ارتكاز جديد، لا يكون عدم الردع عنه في زمان المعصوم دليلا على إمضائه.

إلّا أنّه بالإمكان أن توجّه دعوى التمسّك بالارتكاز في المقام بأن يقال: إنّ التوسّع في ما نحن فيه توسّع في تطبيق ارتكاز ثابت في زمن المعصوم، أي أنّه وجدت للقضيّة المرتكزة مصاديق جديدة، وليس توسّعاً في نفس الارتكاز.

161

وتوضيح ذلك: أنّه مضى في بحث الملكيّة أنّ المناشئ الأوّليّة للملكيّة الاعتباريّة في ارتكاز العقلاء أمران: الحيازة، والعلاج أو الصنع، فالحيازة توجب ملكيّة الأشياء المنقولة، والعلاج أو الصنع يوجب ملكيّة الأشياء غير المنقولة، كما في إحياء الأرض أو تعميرها، أو حفر عين الماء، أو ما شابه ذلك. وهنا نقول: إنّ العلاج أو الصنع لا يختصّ بالأشياء المادّيّة غير المنقولة بل يتحقّق في الاُمور المعنويّة، فمؤلّف الكتاب يكون صانعاً لتلك الشخصيّة المعنويّة وهي شخصيّة الكتاب بوجوده التجريديّ، وقد يكون تعب عليها أكثر من تعب محيي الأرض أو معمّرها، أو حافر العين وأمثالهم، وقد يكون صنعه وعلاجه أشدّ وأقوى من صنعهم وعلاجهم، وقد لا يختصّ علاج صاحب الكتاب بمجرّد التأليف والتبويب والجمع والترتيب، بل تكون له إبداعات حديثة وابتكارات جديدة خلقها وضمّنها الكتاب.

والكبرى المركوزة في الذهن العقلائيّ إنّما هي مملكيّة الصنع والعلاج بالمعنى الشامل لصنع الاُمور المعنويّة، غاية ما هناك أنّ الأفراد المعنويّة لم تكن موجودة في زمن المعصوم ووجدت في الأزمنة المتأخّرة، وهذا يعني التوسّع في المصداق والتطبيق لا في أصل الارتكاز.

والصحيح: أنّ هذا الوجه غير تامّ، فإنّ أمثال هذه العلاجات المعنويّة والصنع المعنويّ كانت موجودة في زمن المعصوم ولو بمستوىً منخفض وضيّق، فهناك تأليفات في ذاك الزمن وهناك إبداعات راقية وقتئذ بالقياس إلى زمانها، ولكن لم يكن هناك ارتكاز امتلاكها من قبل مؤلّفها أو مبدعها، أو نشكّ ـ على الأقلّ ـ في وجود ارتكاز من هذا القبيل وقتئذ. وكان السبب في عدم هذا الارتكاز عدم الشعور بحاجة إلى اعتبار ملكيّة من هذا القبيل، إذ لم يكن مجال

162

لاستغلال ذاك الأمر التجريدي المصنوع، إذ لا طباعة وقتئذ ولا قدرة على سعة النشر، ولا على تقليد الفنون والصناعات بشكل واسع، وقد حصلت الحاجة حديثاً إلى اعتبار هذه الملكيّة بسبب تطوّر الأوضاع والأدوات واتّساع القدرات وانفتاح أبواب كثيرة للاستغلال، فهنا حصل للعقلاء ارتكاز الملكيّة للأمر التجريديّ المعنويّ بصنعه وعلاجه، وفيما سبق لم يكن الارتكاز إلّا على مملكيّة العلاج في الاُمور المادّيّة، ولا أقلّ من احتمال ذلك، فالقضيّة إذن راجعة إلى حصول التوسّع في الارتكازات، وليست راجعة إلى التوسّع في دائرة المصاديق.

والوجه الثاني: أن يقال: إنّ ملكيّة الإنسان لأعماله وذممه وجوارحه وأعضائه ونتائج أعماله ليست ملكيّة اعتباريّة، بل هي ملكيّة تكوينيّة بمعنى السلطة التكوينيّة عليها، ولم يرَ العقلاء حاجة إلى جعل السلطة الاعتباريّة في هذه الموارد لكفاية السلطة التكوينيّة فيها عن الاعتباريّة في نظرهم. وهذه الملكيّة التكوينيّة موضوع لحقّ الاختصاص والأولويّة للإنسان على تلك الأعمال والنتائج، لا تمسّكاً بالارتكاز القائل بذلك كي يعود المحذور ويشكّك في ثبوت هذا الارتكاز في مورد الكلام في زمن المعصوم، بل تمسّكاً بروايات عدم جواز التصرّف في مال الغير من قبيل ما ورد في توقيع على يد أبي جعفر محمد بن عثمان العمريّ (رحمه الله) من قول الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه الشريف: «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(1).

ومن قبيل ما ورد عن سماعَة وعن زيد الشحّام عن أبي عبد الله (عليه السلام)عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا


(1) الوسائل 6: 377، الباب 3، من الانفال، الحديث 6.

163

يحلّ دم امرىء مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه»(1).

فإذا ثبتت هذه الأولويّة للإنسان بالقياس لنتائج أعماله قلنا: إنّ الكتاب مثلا بوجوده التجريديّ المعنويّ يكون من نتائج صاحب الكتاب فهو مملوك له ملكيّة تكوينيّة لا اعتباريّة، والتصرّف فيه بمثل الطبع بغير إذنه مثلا تصرّف في مال الناس ومنهيّ عنه بحكم تلك الروايات. وكذلك تشمله أدلّة المعاملات في غير ما تشترط فيه العينيّة كالمبيع مثلا.

والجواب ـ بعد تسليم شمول روايات النهي عن مال الغير وأدلّة المعاملات لما هو مملوك بالملكيّة التكوينيّة لا الاعتباريّة ـ: أنّ المملوك بالملكيّة التكوينيّة التي هي بمعنى السلطنة التكوينيّة إنّما هو نفس الأعمال لا نتائجها التي تنفصل عن الإنسان وتخرج عن اختيار الإنسان تكويناً، وليس حال الكتاب مثلا بمعناه التجريديّ بعد أن أوجده المؤلّف وجسّده في الكتاب الخارجيّ الذي يصل إلى يد كلّ أحد بالقياس إلى المؤلّف إلّا كحال الدار المبنيّة بالقياس إلى من بناها، ولا سلطة تكوينيّة لصاحب الدار على الدار، ولا للمؤلّف على الكتاب، وكلاهما بحاجة إلى السلطة الاعتباريّة الارتكازيّة، وإذا انتهينا إلى الارتكاز فقد انتهينا إلى الوجه الأوّل الذي عرفت جوابه.

الوجه الثالث: أن يقال بأنّ أولويّة الإنسان بعمله وبنتائج عمله أمر عقليّ، وليست مجرّد ارتكاز عقلائيّ. نعم، الإنسان إنّما يكون أولى بعمله وبنتائج عمله بالقياس إلى الناس الآخرين لا بالقياس إلى المولى سبحانه والشريعة الإسلاميّة،


(1) ورد الحديث عن سماعة في الوسائل 3: 424، الباب 3 من مكان المصلّي، الحديث 1، وورد عن سماعة وعن زيد الشحّام في الوسائل 19: 3، الباب 1 من قصاص النفس، الحديث 3.

164

فلو وصل حكم من الشريعة الإسلاميّة بالتسليم أمام استغلال الآخرين لعمله ونتيجة عمله يسلّم بذلك، ويكون وصول هذا الحكم مغيّراً للموضوع، لأنّ ما أدركه العقل كان عبارة عن أولويّته بعمله وبنتاج العمل في قبال الآخرين فقط، وهذا لا ينافي استغلال الآخرين لذلك بحكم واصل من الشريعة الإسلاميّة، لعدم الأولويّة في قبال المولى.

إذن فالاستغلال ـ على هذا الأساس ـ موضوع جديد يتحقّق بوصول الحكم الشرعيّ، ونحن لم يصلنا حكم شرعيّ من هذا القبيل، فموضوع الحكم العقليّ باق على حاله، أي أنّ استغلال الآخرين لنتيجة عملنا التأليفيّ أو الفنيّ أو نحو ذلك استغلال غير ناشئ من حكم المولى، فهو لا يجوز لحكم العقل بأولويّة الإنسان على عمله ونتاجه من الآخرين.

والصحيح: أنّنا إن سلّمنا حكم العقل وكونه مغيّى بالحكم الشرعيّ الواصل فإنّما هو في مورد السلطنة التكوينيّة كما في الأعمال لا أكثر من ذلك. وأمّا في دائرة نتائج الأعمال فلا يوجد عدا حكم العقلاء وارتكازهم، فنعود مرّة اُخرى إلى الوجه الأوّل الذي عرفت عدم تماميّته.

الوجه الرابع: التمسّك بقاعدة «لا ضرر ولا ضرار» لأنّ استغلال نتيجة عمل المؤلّف أو الفنّان أو نحوهما إضرار به، فهو منفيّ بهذه القاعدة.

والجواب: أنّ الضرر في باب الأموال والحقوق ليس إلّا عبارة عن سلب المال والحقّ، فصدقه يتوقّف على تماميّة امتلاك المال والحقّ، وهو أوّل الكلام. ولو ثبت الحقّ في المقام في الرتبة السابقة على التمسّك بلا ضرر بوجه شرعيّ لم نحتج إلى قاعدة لا ضرر. أمّا إثبات الحقّ في الرتبة السابقة بالارتكاز فهو رجوع إلى الوجه الأوّل.

165

الوجه الخامس: أنّ المعاملات التي تقع عند العقلاء على أمثال هذه الحقوق معاملات عقلائيّة داخلة في مثل إطلاق ﴿اوفوا بالعقود﴾(1).

والجواب: أنّنا إن سلّمنا بدلالة (اوفوا بالعقود) على صحّة العقد أو وجدنا إطلاقاً آخر يناسب المقام فالإطلاق إنّما يتمّ بعد ثبوت الماليّة والحقّ شرعاً، إذ لا شكّ أنّ العقد يجب أن يقع على ما هو داخل في ملك العاقد أو حقّه في نظر التشريع الذي استقينا منه قاعدة وجوب الوفاء بالعقد، فإذا كان الحقّ والمال ثابتاً عقلائيّاً فقط ثبتت صحّة العقد عقلائيّاً لا شرعاً، إلّا بمعونة الارتكاز، وهو رجوع إلى الوجه الأوّل. وإذا كان ذلك ثابتاً شرعاً ثبتت صحّة العقد شرعاً، ومع الشكّ في ذلك يكون التمسّك بمثل ﴿اوفوا بالعقود﴾ تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

 

حقّ السرقفليّة

وفي ختام بحثنا عن الحقّ لا بأس بالكلام عمّا تعارف في هذه الأيّام ممّا يسمّى بالسرقفليّة، فنقول:

 

مقتضى القواعد العامّة:

لا إشكال في أنّ المالك له ـ بالعنوان الأوّليّ ـ الخيار في قبول بقاء المستأجر بعد انتهاء مدّة الإيجار في الحانوت مثلا، وتجديد العقد معه إذا أراد مع تصعيد مبلغ الاُجرة وعدمه، وتبديل المستأجر بمستأجر آخر، أو ترك الإيجار نهائيّاً، فبإمكانه نقل هذا الحقّ إلى المستأجر لقاء مبلغ باسم السرقفليّة مع إعطائه صلاحيّة نقل ذلك إلى المستأجر الثاني، وهكذا.


(1) المائدة: 1.

166

وقد يناقش في ذلك(1) بأنّ الأصل لدى الشكّ في الحقّ والحكم أو في قابليّة الحقّ للنقل أو الإسقاط هو عدم القابليّة للنقل أو الإسقاط، إذن فليس للمالك نقل هذا الحقّ إلى المستأجر. نعم، له أخذ مبلغ باسم السرقفليّة من المستأجر بعنوان القرض المشترط في ضمن عقد الإيجار، أو كجزء من إيجار الشهر الأوّل مثلا.

ويرى صاحب هذا النقاش أنّه بإمكاننا تثبيت النتائج المطلوبة في فكرة حقّ السرقفليّة بأحد طريقين:

الأوّل: أن يشترط المستأجر على المالك في ضمن عقد الإيجار أن يعمل بما يرغبه المستأجر من عدم تصعيد مبلغ الإيجار، وعدم إخراجه بعد انتهاء المدّة من الحانوت، وتجديد الإيجار منه بنفس المبلغ، أو إيجاره بنفس المبلغ من أيّ شخص آخر يتّفق معه المستأجر الأوّل، وأن يتعامل مع المستأجر الجديد نفس تعامله مع المستأجر الأوّل، ويكون من حقّ المالك أن يأخذ مبلغ السرقفليّة من المستأجر الأوّل بعنوان جزء من الإيجار في الشهر الأوّل مثلا، كما يكون من حقّ المستأجر الأوّل أن يأخذ المبلغ من المستأجر الثاني مقابل أن لا يزاحمه في إيجار المالك للحانوت إيّاه، إذ كانت من حقّه ـ بمقتضى شرطه مع المالك ـ هذه المزاحمة فيأخذ منه المبلغ كشرط أو جعالة أو من قبيل الهبة المعوّضة، عوضها عدم مزاحمته إيّاه.

والثاني: أن يشترط المستأجر على المالك توكيله في تجديد الإيجار على نفسه بنفس المبلغ وإيجاره على شخص آخر ـ لو أراد ـ بنفس المبلغ مع تفويض


(1) راجع المسائل المستحدثة للسيّد الروحاني: 21 - 28.

167

نفس الأمر إلى المستأجر الجديد، ويأخذ المالك من المستأجر بإزاء هذه الوكالة مبلغ السرقفليّة، كما أنّه من حقّ المستأجر الأوّل أن يأخذ مبلغ السرقفليّة من المستأجر الجديد مقابل تفويض الأمر إليه.

وهذه الوكالة لا تقبل العزل لأنّها لزمت بشرطها في ضمن العقد اللازم.

وإذا مات الوكيل انتقلت هذه الوكالة إلى ورثة الوكيل، لأنّ لها قيمة وماليّة. ولو لم نقبل بهذا الإرث أمكن شرط وكالة الورثة بعد موت المورّث في ضمن العقد أيضاً.

وإذا مات الموكّل بقي المستأجر على وكالته، لأنّ الوكالة لا تنفسخ بموت الموكّل، سيّما في الوكالة اللازمة كما في المقام.

أقول: لو سلّمنا عدم انفساخ الوكالة بموت الموكّل فإنّما هو فيما يبقى تحت ملك الموكّل بعد موته، لكونه من الثلث الذي استبقاه في ملكه بالوصيّة مثلا. أمّا دعوى بقاء الوكالة فيما خرج عن ملك الموكّل فغريبة.

وأمّا دعوى انتقال الوكالة بالإرث إلى ورثة الوكيل بعد موته لأنّ لها ماليّة فهذه أيضاً غير صحيحة، فإنّ المقصود بالخير في مثل قوله: ﴿إن ترك خيراً﴾(1)هو الأمر الذي يكون قائماً بعد موت الميّت، لاستقلاله الخارجيّ عن الميّت، وعدم كونه أمراً إضافيّاً متقوّماً بالميّت كالملك أو الحقّ أو الوكالة، وبهذا يصدق عنوان الترك في قوله: ﴿إن ترك خيراً﴾. فهذا العنوان إنّما صدق بلحاظ متعلّق الملك أو الحقّ أو الوكالة، لا بلحاظ نفس هذه العناوين الإضافيّة. وعنوان المال والخير وما شابه ذلك أيضاً يراد به متعلّق هذه الإضافات لا نفسها، والمفهوم عرفاً


(1) البقرة: 180.

168

من انتقال المال الخارجيّ من عين أو منفعة إلى الوارث انتقاله في عالم الملكيّة أو في عالم الملكيّة والحقّ، وليس في عالم مطلق الإضافات بما فيها الوكالة مثلا.

وعلى أيّة حال، فنحن لسنا بحاجة في تصحيح نتائج فكرة حقّ السرقفليّة إلى ما ذكره من التخريجات، وذلك لأنّ نقاشه الأساس في الأمر بأصالة عدم قبول الإسقاط والنقل في كلّ ما شككنا في كونه حقّاً أو حكماً، أو شككنا في قبوله للنقل والإسقاط لا نقبل انطباقه على المقام، وذلك لما مضى منّا في شرح مقياس قبول الحقّ للنقل أو الإسقاط، فلا إشكال في أنّ المالك كان له ـ بالعنوان الأوّليّـ حقّ التصرّف في ماله وتعيين مصيره بتجديد الإيجار وعدمه، وتبديل المستأجر وعدمه، وتصعيد مبلغ الاُجرة وعدمه. وهذا الحقّ قابل للإسقاط والنقل كما يظهر بمراجعة ما مضى منّا في ضابط ذلك، لأنّ هذا الحقّ إنّما كان لمصلحة المالك، وله أن يرفع اليد عن المصلحة، وليس متقوّماً عرفاً بعنصر خاصّ بالمالك من قبيل حقّ الولاية، أو الوصاية التي جعلت لشخص الوليّ أو الوصيّ لخصوصيّة فيه، فلا معنى لنقلها إلى غيره.

إذن فيصحّ للمالك نقل هذا الحقّ إلى المستأجر الأوّل، أو نقل المستأجر هذا الحقّ إلى مستأجر جديد، وله أن يجعل ذلك لقاء مبلغ السرقفليّة. وهذه معاملة برأسها، أو تكون شرطاً ضمن عقد الإيجار، ولا حاجة إلى إرجاعها إلى الجعالة أو الهبة المعوّضة أو القرض.

وإذا تمّ نقل هذا الحقّ ثمّ مات المستأجر المنقول إليه، فإن فهمنا من دليل الإرث انتقال متعلّق الحقّ إلى الوارث في عالم الحقّ كما ينتقل في عالم الملك فلا إشكال، وإلّا فينحصر حلّ الإشكال بالنسبة للوارث بتعميم الشرط في ضمن عقد الإيجار بأن يشترط ثبوت هذا الحقّ للوارث بعد موت المستأجر.

169

وأمّا إذا مات المالك الناقل للحقّ فبالإمكان تخريج بقاء الحقّ للمستأجر وعدم جواز نقضه من قِبل الورثة بأنّ المنفعة الباقية للحانوت للورثة قد تضيّقت. فهذا يشبه العين الموروثة التي هي تحت إيجار الآخرين فانتقلت إلى الوارث مسلوبة المنفعة. وبكلمة اُخرى: انّ العين محمّلة بحقّ السرقفليّة، فتورث بهذا الشكل من قبيل إرث العين المحمّلة بحقّ الرهن.

 

مقتضى الروايات الخاصّة:

وقد يناقش في ذلك بإحدى روايتين:

الاُولى: ما عن خالد بن نافع (أو رافع) البجليّ عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل جعل لرجل سكنى دار له مدّة حياته يعني صاحب الدار (والظاهر أنّ هذا التعبير خطأ، والصحيح: يعني من جعلت له السكنى) فمات الذي جعل السكنى و بقي الذي جعل له السكنى، أرأيت إن أراد الورثة أن يخرجوه من الدار ألهم ذلك؟ قال: فقال: أرى أن يقوّم الدار بقيمة عادلة وينظر إلى ثلث الميّت، وإن كان في ثلثه ما يحيط بثمن الدار فليس للورثة أن يخرجوه. وإن كان الثلث لا يفي بثمن الدار فلهم أن يخرجوه...(1).

فقد يقال: إنّ هذا الحديث دلّ على أنّ متعلّق حقّ السكنى لو لم يدخل في الثلث انتقض الحقّ بموت المالك، فكذلك الأمر فيما نحن فيه.

والجواب ـ بقطع النظر عن ضعف سند الحديث ـ: أنّ هناك فرقاً يحتمل كونه فارقاً بين ما نحن فيه ومورد الحديث، وهو أنّ تصرّف المالك في مورد الحديث كان مجّاناً فلم يأكل هو منفعة الدار، والتصرّف المجّانيّ نفّذ شرعاً بمقدار


(1) الوسائل 13: 331، الباب 8 من أحكام السكنى والحبيس، الحديث 1.

170

حياته. أمّا في مورد السرقفليّة فالمالك أعطى الحقّ للمستأجر بإزاء مبلغ السرقفليّة. وهذا يعني أنّه أخذ المنفعة المستقبليّة في حال حياته، فهو شبيه بما لو أجّر الدار لمدّة من الزمن ثمّ مات قبل انتهاء الإيجار، فالوارث يرث الدار مسلوبة المنفعة، ويرث الاُجرة لو كانت باقية.

والثانية: ما ورد بسند تامّ عن عمر بن اُذينة قال: كنت شاهداً عند ابن أبي ليلى وقضى في رجل جعل لبعض قرابته غلّة داره ولم يوقّت وقتاً، فمات الرجل فحضر ورثته ابن أبي ليلى وحضر قرابته الذي جعل له غلّة الدار، فقال ابن أبي ليلى: أرى أن أدعها على ما تركها صاحبها، فقال محمّد بن مسلم الثقفيّ: أما إنّ عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) قد قضى في هذا المسجد بخلاف ما قضيت، فقال: وما علمك؟ فقال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليّ (عليه السلام) يقول: قضى عليّ (عليه السلام) بردّ الحبيس وإنفاذ المواريث، فقال له ابن أبي ليلى: هذا عندك في كتابك؟ قال: نعم، قال: فارسل وائتني به، فقال له محمّد بن مسلم: على أن لا تنظر من الكتاب إلّا في ذلك الحديث، قال: لك ذلك. قال: فأحضر الكتاب وأراه الحديث عن أبي جعفر (عليه السلام)في الكتاب فردّ قضيّته(1). واختصاص مورده بحبيس لم يوقّت فيه الوقت لا يضرّ بإطلاق النصّ.

ونحوه حديث آخر(2) لم يذكر في مورده هذا القيد إلا أنّه غير تامّ سنداً.

فيقال: لئن كان الحبيس يردّ إلى الورثة فكذلك حقّ السرقفليّة.

وهنا أيضاً يكون الفارق الذي ذكرناه في ذيل الرواية الاُولى موجوداً، فالحبس عبارة عن تخصيص المنافع للمحبوس له دون أكل المالك لها بأخذ ما


(1) و (2) الوسائل 13: 328 و 329، الباب 5 من أحكام السكنى والحبيس، الحديث 1 و 2.

171

يقابلها، بخلاف ما نحن فيه المفروض أكل المالك فيه لحقّ السرقفليّة بأخذ العوض، فذاك العوض لو كان باقياً كان هو الذي ينتقل إلى الوارث بالإرث، ولو كان مصروفاً كانت العين هي التي تورث فحسب مسلوبة المنفعة.

هذا، مضافاً إلى أنّه لا بدّ من تخصيص هذه الرواية بفرض عدم توقيت الحبس، لا بمدى حياة المحبوس له ولا بأمد آخر، مع عدم فرضه تحبيساً مؤبّداً الذي هو راجع إلى الوقف. والوجه في هذا التخصيص هو ورود روايات صريحة في أنّ السكنى والعمرى لو جعلت لمن يسكن في الدار مع عقبه فهي له ولعقبه حتى يفنوا ثمّ تردّ إلى صاحب الدار(1). ومن الواضح: أنّ الغالب في هذا الفرض هو موت المالك قبل فناء عقب المحبوس له.

 

تخريج جديد لحقّ السرقفليّة:

هذا، وهناك منحىً آخر لفهم فكرة حقّ السرقفليّة لا بأس بالتعرّض له ومناقشته، وهو أن يقال: إنّ حقّ السرقفليّة (الناتج عن هذه النكتة التي سنشرحها) خاصّ بمثل الحانوت البكر الذي أشغله المستأجر إلى أن راج الحانوت وتعارف الناس عليه وتعوّدوا على التردّد عليه، فأوجب ذلك رفع قيمة الدكان، إذ من الواضح أنّ الدكان الذي لم يتعوّد الناس على التردّد عليه والشراء منه يكون أقلّ قيمة من الدكان الذيّ تعوّد الناس عليه، فالمستأجر يطالب عند إخراجه من هذا الدكان بهذا الفارق في القيمة أو بجزء منه، ويأخذه من المالك الذي يخرجه أو يشترط عليه تصعيد الاُجرة أو من المستأجر الجديد الذي يطالبه بمغادرة الحانوت كي يعقد هو الإيجار مع صاحب الدكان ويحلّ محلّه، وذلك


(1) راجع الوسائل 13: 325، الباب 2 من كتاب السكنى والحبيس.

172

بدعوى أن خالق القيمة يملكها، وهذا المستأجر هو الذي خلق القيمة الإضافيّة لهذا الدكان، أو أنّه سهيم في خلق هذه القيمة الإضافيّة.

ولا ترد على هذا البيان جملة من الإشكالات الواردة على فكرة القيمة الفائضة المنسوبة إلى ماركس، فماركس أقام فكرته على أساس أنّ العمل هو الأساس الوحيد للقيمة، وهذا مناقش في محلّه، إلّا أنّنا هنا لا نقيم الفكرة على هذا الأساس، وإنّما نقول: إنّه لا إشكال في أنّ المستأجر يكون لعمله سهم في رفع قيمة الدكان، فله حقّ المطالبة بجزء من هذه القيمة الإضافيّة باسم السرقفليّة.

وكذلك ماركس ادّعى أنّ القيمة الفائضة جاءت من ناحية أنّ المستأجر يشتري من العامل قوّة العمل ويستلم منه نفس العمل، وقوّة العمل أرخص من نفس العمل، لأنّ إرجاعها بعد استهلاكها ليس بحاجة إلّا إلى قليل من العمل والمصرف. فالقيمة الفائضة تخلق من الفارق بين قوّة العمل ونفس العمل، وهذا الكلام مناقش في محلّه لكنّنا لسنا بحاجة إليه في ما نحن فيه، وإنّما نقول: إنّ المستأجر سهيم ـ على أيّ حال ـ في رفع قيمة الدكان، فله المطالبة بشيء مّا في مقابل ذلك.

وأيضاً يرد على ماركس الذي لا يؤمن بغير المذهب الحسّيّ والتجريبيّ في نظرية المعرفة أنّه كيف عرف أنّ الذي يملك القيمة الفائضة هو خالقها؟! وليس هذا شيئاً دلّ عليه الحسّ أو التجربة، ونحن لا نبني كلامنا طبعاً على مباني الحسّ والتجربة كي يرد هذا الإشكال.

ولكنّ الصحيح ـ رغم هذا كلّه ـ أنّ تأثير عمل المستأجر في رفع قيمة الدكان وإن صلح كداع للاتّجاه إلى فكرة السرقفليّة ثمّ تخريجها على أساس البيان الذي مضى منّا ولكنّه لا يصلح كتخريج شرعيّ لحقّ السرقفليّة. فنحن وإن كنّا لا

173

نشكّ في أنّ عمل المستأجر في كثير من الأحيان سهيم في رفع قيمة الدكان ولكنّنا نناقش في كون ذلك كافياً في امتلاكه لهذه القيمة المرتفعة أو جزء منها، ونقول: هل أنّ الحكم بامتلاكه لما خلقه من القيمة عقليّ أو عقلائيّ؟

فإن قيل: إنّ هذا حكم عقليّ فالعقل يحكم بأنّ من يخلق قيمةً مّا يملكها لا بمعنى الملكيّة الاعتباريّة حتى يقال: إنّها مجعولة من قبل العقلاء وليست عقليّة، بل بمعنى الأولويّة العقليّة من قبيل ما يدّعى من حكم العقل بأولويّة الإنسان على عمله وجوارحه من الناس الآخرين.

قلنا: إنّنا لا نحسّ بحكم عقليّ من هذا القبيل في نتائج العمل التي تنفصل عن نفس العمل. وممّا ينبّه الوجدان على كون هذا حكماً عقلائيّاً لا عقليّاً اختلاف المجتمعات المختلفة والأزمنة المتعدّدة في قبوله وعدمه، بل تفريق مجتمع واحد في زمان واحد بين مصداقين من مصاديق خلق القيمة، فمثلا قد يقال: إنّ للمستأجر حقّ السرقفليّة لأنّه كان سهيماً في رفع قيمة الدكان، ولكن لا يقال بمثل ذلك في رجل عالم أو ألمعيّ يتهافت عليه الناس، فسكن منطقة قليلة السكّان وأدّى ذلك إلى غلاء أسعار بيوت تلك المنطقة أو إيجاراتها لتهافت الناس على مجاورته، أو في شركة مدّت أنابيب الغاز أو أسلاك الكهرباء إلى منطقة مّا وأدّى ذلك إلى غلاء أسعار بيوتها وما شابه ذلك.

وإن قيل: إنّ هذا حكم عقلائيّ.

قلنا: إنّ هذا الارتكاز العقلائيّ متأخّر عن عصر التشريع الإسلاميّ، فليس سكوت المشرّع عنه دليلا على الإمضاء.

هذا تمام كلامنا في بحث الحقّ.

 

175

 

 

 

ـ 4 ـ

تصوّرات عامّة عن العقد

 

تعريف العقد وتطوّره التأريخي:

ولتعريف العقد نختار للبحث تعريفاً عن الفقه السنّيّ وتعريفاً عن الفقه الغربيّ، ثمّ ننتهي إلى تعريف له عن الفقه الشيعيّ:

ذكر الاُستاذ مصطفى الزرقاء ناسباً ذلك إلى مصطلح الفقه الإسلاميّ: أنّ العقد هو ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محلّه(1).

ويقرب من هذا التعبير ما نقله الدكتور عبد الرزّاق السنهوريّ عن صاحب «مرشد الحيران» من أنّ العقد عبارة عن ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يظهر أثره في المعقود عليه(2).

ونقل الزرقاء تعريف الفقه الغربيّ للعقد عن كتاب «نظرية العقد» للاُستاذ السنهوريّ: أنّ العقد هو اتّفاق إرادتين على إنشاء حقّ أو على نقله أو على إنهائه(3).


(1) الفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد 1، الفقرة 132.

(2) مصادر الحقّ للسنهوريّ 1: 40.

(3) الفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد 1: الفقرة 132.

176

وذكر السنهوريّ في الوسيط: أنّ العقد توافق إرادتين على إحداث أثرقانونيّ، سواء كان هذا الأثر هو إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهاؤه(1). ونقل عن بعض حذف التعديل والإنهاء والاقتصار على الإنشاء والنقل، مدّعياً الفرق بين العقد والاتّفاق بأنّ العقد أخصّ من الاتّفاق فهو لا يشمل إلّا إنشاء الالتزام ونقله، بينما الاتّفاق يعمّ الكلّ. ورجّح السنهوريّ نفسه تعميم العقد وعدم التفريق بينه وبين الاتّفاق ناسباً له إلى الأكثر.

وذكر الزرقاء: أنّ تعريفه الفقهيّ أحكم منطقاً وأدقّ تصوّراً من التعريف القانونيّ، وإن كان التعريف القانونيّ أوضح تصويراً وتعبيراً(2).

وذكر في وجه كون التعريف الفقهيّ أدقّ وأحكم من التعريف القانونيّ: (أولا) أنّ العقد على التعريف الفقهيّ يختصّ بالمؤثّر في نظر التشريع، بينما ترى التعريف القانونيّ يشمل حتى ما لا يجمع شروط التأثير. (وثانياً) أنّ الأوّل يمتاز بتصوير الحقيقة العقديّة ببيان الأداة العنصريّة المكوّنة للعقد، أي الأجزاء وهما الإيجاب والقبول. أمّا اتّفاق الإرادتين فيشمل الوعد أيضاً.

وهناك فارق جوهريّ بين التعريف الفقهيّ والتعريف القانونيّ لم يشر إليه الزرقاء وهو: أنّ العقد في تعريفه القانونيّ عبارة عن إنشاء الالتزام بنقل حقّ أو إيجاده، وليس بنفسه إنشاء للنقل أو للحقّ، بينما العقد في تعريفه الإسلاميّ يمكن أن يكون بنفسه إنشاء للنقل أو لفرض الحقّ أو إنهائه لا التزاماً بفعل ذلك. فالبيع مثلا في الفقه الغربيّ ليس إنشاءً للتمليك والتملّك أو النقل والتبادل، وإنّما هو إنشاء


(1) الوسيط 4: الفقرة 229.

(2) الفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد الجزء 1، الفقرة 132.

177

للالتزام بفعل ذلك، وهذا بقيّة تخلّف في فقههم موروث من فقههم المتخلّف القديم. وإليك خلاصة من التطوّر التاريخي لذلك بالنسبة للبيع مأخوذة من كتاب الوسيط(1):

كان البيع في القانون الرومانيّ عقداً لا ينقل الملكيّة بذاته، بل لم يكن البيع يرتّب في ذمّة البائع التزاماً بنقل الملكيّة، وكان كلّ ما يلتزم به البائع بمجرّد البيع ـ ما لم يوجد شرط صريح في العقد يلزمه بنقل الملكيّة ـ هو أن ينقل إلى المشتري حيازة هادئة بموجبها يضع يده على المبيع كمالك دون أن يتعرّض له أحد، ودون أن يتعرّض له البائع نفسه، فكان البائع ـ إلى جانب التزامه بنقل هذه الحيازة ـ يلتزم أيضاً بضمان التعرّض الصادر من جهته هو أو الصادر من أجنبيّ، وكان هذا يعتبر كافياً لتحقيق الغرض الذي يستهدفه البيع، فما دام المشتري واضعاً يده على المبيع يحوزه حيازة هادئة وينتفع به بجميع الطرق المشروعة دون أن يتعرّض له أحد في ذلك، فما عليه أن لا يكون مالكاً وقد حوى في يده جميع الميّزات التي يتوخّاها من كسب هذه الملكيّة؟

أمّا الذي كان ينقل الملكيّة فليس هو مجرّد إنشاء العقد، بل هو أمر مادّي من الإشهاد أو التنازل القضائيّ أو التقادم بمعنى بقاء العين في يد المشتري مدّة محدّدة من الزمن، أو في بعض الأحيان مجرّد القبض على الأقلّ.

وكان يترتّب على عدم مملكيّة البيع أنّ الشخص كان يستطيع بيع ملك غيره، وكان بيع ملك الغير صحيحاً ما دام البائع ـ دون أن يكون مالكاً ـ قادراً على نقل حيازة المبيع إلى المشتري بالنحو الذي أسلفناه، وقادراً في الوقت ذاته على


(1) راجع الوسيط 4: الفقرة 229 - 236.

178

منع أيّ عمل يكدّر على المشتري حيازته، إذ هو ضامن له التعرّض والاستحقاق وجلب موافقة المالك.

وهنا يذكر صاحب الوسيط: أنّ البيع في القانون الرومانيّ إذا كان لا يستلزم نقل الملكيّة كان من طبيعته نقلها. والدليل على ذلك أمران:

(أوّلهما) أنّه كان يجوز للمشتري أن يشترط في عقد البيع على البائع أن ينقل له ملكيّة المبيع، وكان هذا الشرط صحيحاً لأنّه يتآلف مع طبيعة البيع، وعند ذلك كان على البائع أن ينقل ملكيّة المبيع للمشتري ولا يقتصر على نقل الحيازة الهادئة.

(والأمر الثاني) أنّه كان لا يجوز للبائع أن يشترط على المشتري أن لا ينقل له ملكيّة المبيع، فهذا الشرط يتنافى مع طبيعة البيع، ومن ثمّ كان غير جائز.

أقول: الصحيح من هذين الدليلين هو الدليل الثاني دون الأوّل، لأنّ مجرّد صحّة شرط التمليك لا يدلّ على كون نقل الملكيّة من طبيعة البيع، بل يكفي في صحّة الشرط أن لا ينافي طبيعة البيع، وينبغي أن يكون المراد من التدليل على كون التمليك من طبيعة البيع إبراز نقطة للضعف في القانون الرومانيّ لاستبطانه ـ في الحقيقة ـ نوعاً من التناقض، حيث يفترض عدم مملّكيّة البيع، ثمّ يفترض بطلان شرط عدم التمليك الذي هو شاهد على إحساسهم في قرارات أنفسهم بمملّكيّة البيع، ممّا يدلّ على أنّ قانونهم يخالف المرتكزات العقلائيّة.

وعلى أيّة حال فعندما انتقلت أحكام القانون الرومانيّ في هذا الصدد إلى القانون الفرنسيّ القديم كان البيع في هذا القانون أيضاً لا ينقل الملكيّة ولا يرتّب التزاماً بنقلها، وكان بيع ملك الغير صحيحاً، ولكن دخل بعض التطوّرات على وضع البيع: فأوّلا أصبح المملّك هو القبض وحده بعد أن اختفى الإشهاد والتنازل القضائيّ عن ساحة المملّكيّة. ثمّ أدّى تطوّر القانون الفرنسيّ القديم طوال مراحله

179

إلى أن يجعلوا هذا القبض أمراً صوريّاً، فكانوا يكتبون في بياعاتهم أنّ القبض قد تمّ، فكان من وراء هذا القبض الصوريّ أن تنتقل الملكيّة إلى المشتري، والمفروض أنّها انتقلت بالقبض، والواقع أنّها انتقلت بذكر حصول القبض في العقد، على أنّ ذكر حصول القبض ما لبث أن أصبح هو أيضاً شرطاً مألوفاً في عقد البيع، أي شرطاً ضمنيّاً لا حاجة إلى التصريح به.

وقال صاحب الوسيط: قد جاوز الفقه الإسلاميّ هذه المرحلة التي وصل إليها القانون الفرنسيّ القديم فجعل الملك ينتقل بالعقد مباشرة.

وعلى أيّة حال، ففي القانون الفرنسيّ الحديث لمّا رأى واضعو تقنين نابليون إلى أين انتهى التطوّر في القانون الفرنسيّ القديم على النحو الذي أسلفناه خطوا آخر مرحلة من مراحل هذا التطوّر، فجعلوا البيع ذاته ناقلا للملكيّة، لا بمعنى أنّ البيع إنشاء للتمليك، بل هو لا زال إنشاء للالتزام بنقل الملكيّة، ولكنّه يتمّ نقل الملكيّة كقاعدة عامّة فوراً بمجرّد نشوء الالتزام، فينتهي الالتزام، وذلك لدى توافر شروط معيّنة من التسجيل في العقار والإفراز في المنقول الذي يكون كلّيّاً وغير معيّن بالذات مع عدم فقدان شرط يتّفق عليه المتبايعان، كما لو اتّفقا على أن لا تنتقل الملكيّة إلّا عند تسليم المبيع إلى المشتري مثلا، فإن لم تكن هذه الشروط متوفّرة انفصلت الملكيّة عن الالتزام، فالبيع قد أوجد الالتزام بنقل الملك، ولكن النقل يتحقّق في زمن متأخّر متى ما توفّرت الشروط. أمّا لو كانت هذه الشروط متوفّرة حين العقد فالالتزام بنقل الملكيّة يتمّ تنفيذه فوراً بحكم القانون، وفي صورة عدم توافر الشروط يجب على البائع تهيئة المقدّمات اللازمة لتوافرها وفاءً بما التزم به، وبعد أن أصبح البيع ناقلا للملكيّة بالمعنى الذي عرفت صار بيع ملك الغير لا يتلاءم مع طبيعة البيع، فحكموا ببطلانه.

180

أقول: لا أدري لماذا يكون بيع ملك الغير غير ملائم مع طبيعة البيع بعد أن فرض أنّ البيع التزام بنقل الملك وليس نقلا للملك؟! ولتكن مالكيّة البائع أو تحصيل رضا المالك شرطاً لحصول الانتقال كباقي الشروط التي قالوا: لو تخلّفت تأخّر حصول الانتقال عن زمان الالتزام إلى زمان تحقّق تلك الشروط.

وعلى أيّة حال، فقد ذكر صاحب الوسيط: يلاحظ أنّ التقنين الجديد سار على النظرية التقليديّة من أنّ نقل الملكيّة يسبقه التزام بنقلها، وهذا الالتزام يتمّ تنفيذه من تلقاء نفسه، فتنتقل الملكيّة إلى الدائن بحكم القانون، وينقضي الالتزام بنقل الملكيّة بمجرّد نشوئه. وهذا الوضع بقيّة تخلّفت عن تقليد القانون الرومانيّ والقانون الفرنسيّ القديم، حيث كانت الملكيّة لا تنتقل بالعقد.

ونقل صاحب الوسيط عن بنكاز: أنّه لا يوجد اليوم مانع من القول بأنّ العقد ذاته ينقل الملكيّة دون افتراض التزام موهوم يسبق نقل الملكيّة وينقضي بمجرّد أن ينشأ... على أنّه في بلد تتّبع نظام السجل العقاريّ يبرز التمييز بين الالتزام بنقل الملكيّة ونقل الملكيّة بالفعل، فالعقد لا ينقل الملكيّة بنفسه، بل يقتصر على إنشاء التزام بنقلها. أمّا نقل الملكيّة بالفعل فلا يتمّ إلّا بتسجيل العقد في السجل العقاريّ....

أقول: إنّ الامتياز الذي ذكره بنكاز لافتراض الالتزام الموهوم بالنسبة لبلد تتّبع نظام السجلّ العقاريّ ناتج من الخلط بين مطلبين كان ينبغي التمييز بينهما:

أحدهما: أنّ العاقد هل ينشئ نقل الملك؟ أو ينشئ الالتزام بنقل الملك؟

والثاني: أنّه حتى لو تمّ نقل الملك في اعتبار المتعاقدين، فهذا لا يعني تماميّته في اعتبار القانون، فقد يكون القانون مؤجِّلا للاعتراف بالملك لحين حصول شرط مّا.

181

والفقه الإسلاميّ يرى أنّ العقد إنشاء لنقل الملك مثلا لا للالتزام بنقله، وأنّ القانون يحكم فوراً بحصول النقل إن كانت الشرائط متوفّرة في حين العقد، وإلّا ففي غالب الفروض لا يحصل الملك عند تحقّق الشرط في وقت متأخّر إلّا بعقد جديد أو بإمضاء للعقد السابق. وقد يفترض نادراً شرط مّا شرطاً لحصول الملك لا لتماميّة العقد، فإذا حصل متأخّراً حصل الملك الشرعيّ مقارناً للشرط لا مقارناً للتمليك الاعتباريّ الذي صدر من المتعاقدين. مثاله: بيع الصرف بناءً على توقّف حصول الملك فيه على تماميّة القبض.

تعريف العقد في الفقه السنّي:

ولنعد الآن إلى التعريف الذي نقلناه عن فقه السنّة، وهو ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه مؤثّر. وقد جعل الزرقاء اختصاص ذلك بالعقد الصحيح مرجّحاً له على التعريف المنقول عن الفقه القانونيّ.

إلّا أنّ كون هذا مرجّحاً له غير واضح، فأيّ بأس في تعريف العقد بالنحو الذي يشمل الباطل؟ فنحن تارةً نفتّش عن حقيقة العقد القائمة بنفس المتعاقدين، واُخرى نفتّش عمّا يحدثه الاعتبار التشريعيّ الذي أحدثه المشرّع، سواء كان هو العقلاء أو أيّ مشرّع آخر، ولا تلازم بين الأمرين كما قلنا في ما سبق بأنّ إنشاء نقل الملك في اعتبار المتعاقدين مغاير لحصول الملك في اعتبار القانون، ولا تلازم بينهما، ولا ينبغي الخلط بينهما، فبالإمكان أن ننظر في تعريف العقد إلى ما يقوم به المتعاقدان بقطع النظر عن مدى إمضاء الشرع له.

وذكر السنهوريّ ـ بعد نقله لما مضى من تعريف صاحب «مرشد الحيران» للعقد ـ: أنّ تعريف العقد الذي نقلناه عن مرشد الحيران ينمّ عن النزعة الموضوعيّة التي تسود الفقه الإسلاميّ دون النزعة الذاتيّة. فالعقد هو ارتباط الإيجاب بالقبول

182

لا من حيث أنّه ينشئ التزامات شخصيّة في جانب المتعاقدين، وهذا هو المعنىالبارز فى النزعة الذاتيّة، بل من حيث إنّه يثبت أثره في المعقود عليه، أي يغيّر المحلّ من حالة إلى حالة، وهنا تبرز النزعة الموضوعيّة التي أشرنا إليها. وسنرى أنّ هذه النزعة الموضوعيّة التي سادت الفقه الإسلاميّ لها أثر كبير في مبادئه الأساسيّة، وفي تفصيلات أحكامه، وهي التي جعلته يأخذ بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة(1).

أقول: إن كان المقصود بدلالة تعريف العقد في الفقه الإسلاميّ على النزعة الموضوعيّة لهذا الفقه الإشارة إلى ما يفهم من تعريف مرشد الحيران من اختصاص اسم العقد بالعقد الصحيح المؤثّر خارجاً دون الباطل الذي لا يثمر النقل والانتقال في المحلّ فمن الواضح أنّ مجرّد إدخال العقد الباطل في اسم العقد أو إخراجه عنه الذي لا يعود إلّا إلى مجرّد تسمية لفظيّة لا ينبغي أن يجعل شاهداً على النزعة الذاتيّة أو الموضوعيّة.

وإن كان المقصود الإشارة إلى أنّ العقد في الفقه الإسلاميّ يعتبر إنشاءً للتمليك مثلا بينما هو في الفقه الغربيّ يعتبر إنشاءً للالتزام بالتمليك فالموضوعيّة بهذا المعنى وإن كانت صحيحة لكن هذا لم ينشأ من افتراض نزعة موضوعيّة بشكل عامّ في الفقه الإسلاميّ. وسنوضّح إن شاء الله في محلّه ـ عندما نبحث ما أشار إليه السنهوريّ من الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة في العقد ـ بأنّ الفقه الإسلاميّ ملتزم في تلك المسألة بالجانب الذاتيّ لا الموضوعيّ، وأنّ المقياس في نظر الفقه الإسلاميّ هي الإرادة الباطنة، ولكنّها تجعل الإرادة الظاهرة دليلا على الإرادة الباطنة.


(1) مصادر الحقّ 1: 77.

183

والواقع أنّ الفقه الإسلاميّ ليست له بشكل عامّ نزعة ذاتيّة ولا نزعةموضوعيّة، بل يتبع في ذلك كلّ مسألة بالخصوص الدليل الخاصّ بتلك المسألة، والذي قد يؤدّي إلى التزام الذاتيّة وقد يؤدّي إلى التزام الموضوعيّة.

وعلى أيّة حال، فليس كلّ التعاريف الموجودة في الفقه الإسلاميّ تختصّ بالعقد الصحيح، فلننتقل هنا إلى تعريف للعقد من الفقه الشيعيّ.

تعريف العقد في الفقه الشيعي:

قد عرّف السيّد الخوئيّ العقد ـ على ما جاء في المحاضرات(1) ـ بأنّه شدّ أحد الالتزامين وعقده بالآخر، وهذا التعريف ـ كما ترى ـ يشمل العقد الصحيح والفاسد.

وهذا التعريف لا يرد عليه ما أورده الزرقاء على تعريف الفقه الغربيّ من شموله للوعد ـ كما هو واضح ـ فهو شريك مع تعريف الفقه السنّيّ في اختصاصه بالعقد بالمعنى الحقيقيّ للكلمة دون الوعد، وهو يستبطن أيضاً فرض وجود إيجاب وقبول، لكن لا بخصوص معنى الفعل والمطاوعة بمثل: (بعت وقبلت)، بل بمعنى أوسع من ذلك، وهو مطلق القرارين المرتبط أحدهما بالآخر ممّا يشمل أيضاً مثل: (بعت واشتريت).

ولكنّ عيب هذا التعريف هو تعبيره بالالتزام، وهو تعبير أقرب إلى تعريف الفقه الغربيّ منه إلى تعريف الفقه الإسلاميّ، فإنّ العقد ـ حسب نظر الفقه الإسلاميّ ـ ليس دائماً التزاماً، بل ربما يكون نقلا للملك مثلا لا التزاماً بالنقل.

فلعلّ الأولى تعبير المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) حيث ذكر: أنّ العقد هو القرار


(1) المحاضرات 2: 67.