246

نعم، مجرّد الوعد غير المشتمل على الالتزام والتعهّد لا يجب الوفاء به وإن كان مستحبّاً.

والثاني: الرهن مع الإيجار:

قد تعارف بين جمع من الناس تعامل يسمّى برهن البيت مع الإيجار، وحاصله: أنّ أحدهم يقرض مبلغاً للآخر، والآخر يؤجّره البيت بسعر منخفض. وقد صدرت من بعض الأعلام الفتوى بالتفصيل في جواز ذلك وعدمه بين ما إذا كان القرض شرطاً في ضمن عقد الإيجار فيجوز، لأنّه اشترط في ضمن العقد شرطاً سائغاً فهو نافذ، وما إذا كان الإيجار شرطاً في ضمن عقد القرض فلا يجوز، لأنّه دخل ذلك تحت عنوان (قرض جرّ نفعاً).

أقول: قد اتّضح بما ذكرناه أنّه لا معنى لهذا التفصيل، فإنّ الضمنيّة هنا ليست بمعنى التقييد كما مضى، والضمنيّة بمعنى الظرفيّة البحتة من دون أيّ ربط آخر لا أثر لها، و لا تجعل القرض قرضاً جرّ نفعاً، والضمنيّة بمعنى الداعوية أو التقابل ثابتة من كلا الطرفين، ومجرّد ذكر هذا في ضمن ذاك أو بالعكس ليس عدا فارق في الصياغة اللفظيّة لا تؤثّر على المحتوى الحقيقي للمعاملة إطلاقاً.

نعم، بالإمكان أن يقال في أصل هذه المعاملة: إنّها قد لا تستبطن قرضاً جرّ نفعاً، لأنّ البيت المرهون اجرته أقلّ من اُجرة البيت غير المرهون لعجز المالك من إيجاره لغير المرتهن، فإذا استأجره المرتهن بسعره السوقي النازل لم يكن هنا نفع.

ويرد عليه: أنّ الرهن لو كان مؤثّراً في تقليل المنفعة الاستعمالية للبيت، وعلى هذا الأساس تنزّلت قيمة الإيجار، كان هذا الكلام صحيحاً، ولكنّ الواقع ليس هكذا، فإنّ تنزّل قيمة الإيجار في المقام إنّما هو نتيجة عجز المالك من إيجاره لغير المرتهن، وهذا يؤدّي وجداناً إلى انتفاع المقرض.

247

نعم، لو تمّ الإقراض من دون أن يكون المقترِض في مقابل ذلك ملزماً بإيجار البيت بسعر منخفض، ثمّ بدا له بمحض اختياره أن يؤجّره من المرتهن بسعر منخفض، فهذا خارج عن محلّ الكلام، ولا إشكال فيه.

وقد يُقال انتصاراً للتفصيل بين ما إذا كان القرض شرطاً في ضمن الإيجار أو العكس بأنّه لو وقع القرض أولا واشترط في ضمنه الإيجار بسعر منخفض، فمن الواضح أنّ هذا قرض جرّ نفعاً. أمّا لو وقع الإيجار أوّلا واشترط في ضمنه القرض فالقرض الذي يقع بعد الإيجار لا يسمّى عرفاً مشروطاً بالإيجار. صحيح أنّه لولا الإيجار لما كان يقرضه، ولكن بما أنّ الإيجار متحقّق بالفعل فالقرض سوف لن يكون مشروطاً بالإيجار.

أمّا ما يُقال من أنّ تحقّق الشرط لا يخرج الأمر المشروط مثلا عن كونه مشروطاً فهذا إنّما يتمّ في أمر أو قرار أو عقد وقع مشروطاً ثمّ تحقّق شرطه، كما لو قال المولى: إذا زالت الشمس فصلِّ ثمّ زالت الشمس، فزوال الشمس لا يخرج الصلاة عن كونها واجباً مشروطاً إلى الوجوب المطلق. أمّا لو زالت الشمس فأوجب ذلك أن يأمر المولى عبده بنحو القضيّة الخارجيّة بالصلاة لا بنحو القضيّة الحقيقية، فهذا الأمر لا يسمّى مشروطاً، وكذلك الحال في المقام، فلو تمّ عقد القرض بشرط الإيجار فهذا قرض مشروط وبعد ذلك لو تحقّق الشرط وهو الإيجار لم يخرج عقد القرض عن كونه مشروطاً. أمّا لو تمّ أوّلا الإيجار بشرط القرض، ثمّ تمّ القرض فهذا القرض ليس مشروطاً، لأنّ ما كان من المتوقّع أن يكون شرطاً له هو حاصل بالفعل.

والواقع: أنّ هذا التفصيل غير صحيح، فإنّه إن كان تقدّم الإيجار على القرض بمعنى عدم ترابط بينهما، أي أنّه حينما تمّ الإيجار لم يكن الاتّفاق الذي

248

تمّ بينهما قبل العقد على التقابل بين الإيجار والقرض، ولكن بعد أن تمّ الإيجاربسعر منخفض بدا للمستأجر أن يكافئ الموجَر بالقرض، فهنا لا يعتبر القرض قرضاً بزيادة، أو قرضاً ربويّاً. أمّا إذا كان الاتّفاق منذ البدء، بينهما على التقابل والداعويّة بينهما وأنّه لا قرض بلا إيجار كما لا إيجار بلا قرض، فهذا القرض لا محالة قرض جرّ نفعاً وزيادة، وهو ربا سواء سمّي مشروطاً أو لم يسمّ، ولذا ترى أنّ العرف حينما يسمع حرمة القرض بزيادة لا يفرّق بين الإقراض بشرط الزيادة أو هبة الزيادة بشرط القرض، فكما يكون إقراض مائة دينار بشرط زيادة عشرين ربا، كذلك تكون هبة عشرين ديناراً بشرط الإقراض الذي لم يكن يتمّ لولا الهبة رباً في القرض، لا بمعنى أنّ العرف يتعدّى من تحريم القرض الربوي إلى تحريم الثاني، بل بمعنى أنّه هو هو.

حكم الحيلة في الربا:

نعم هناك حيل شرعيّة تكون في واقعها غير القرض الربوي قد يدّعى أنّ العرف يتعدّى من دليل حرمة الربا إليها، وقد لا يدّعى من قبيل أن يتّفقا على بيع متاع بسعر مّا مؤجّلا، ثمّ شراؤه من المشتري بسعر أقلّ معجّلا، ومن قبيل بيع متاع بالنسيئة مع إضافة في القيمة لأجل كون الثمن نسيئة، بحيث لو وافق المشتري على أن يشتريه بثمن معجّل لكان يبيعه إيّاه بأقلّ من ذلك، وإنّما زاد في الثمن بنكتة كونه مؤجّلا.

ولا يبعد أن يُقال في هذه الحيل بالتفصيل بين ما لا يشتمل على غرض غير نفس غرض الربا كما في المثال الأوّل، وإنّما بدّلت الصياغة فراراً من الربا، وبين ما يشتمل على غرض آخر، ولكنه يشتمل في نفس الوقت على نفس الأثر الموجود في القرض الربوي، كما في مثال بيع النسيئة، فالأوّل يكون حراماً لأنّه لو حلّ كان معنى ذلك أنّ تحريم قرض الربا تعبّدي بحت، وهو ممّـا يقطع بخلافه،

249

أو لا يقبله الفهم العرفيّ من الدليل. وأمّا الثاني فلا دليل على حرمته إذ لعلّ الغرضالآخر حلّل المعاملة، ومجرّد اشتمالها ضمناً على نفس أثر الربا لا دليل على كونه موجباً للتحريم، لأنّ الأثر الاقتصادي للربا كان حكمة للحرمة، ولم يثبت كونه علّة لها، بمعنى أنّه متى ما وجد وجدت الحرمة، وأنّه لا يمنع عنها مانع، وأنّه لا يكون تحريم ما عداه كافياً لإشباع الحكمة المقصودة.

ومن هنا نقول: لو باع غرفة من البيت بالمبلغ الذي كان يريد اقتراضه ببيع خياريّ، أي بشرط أنّ لهما الخيار على رأس السنة مثلا وأجّر باقي البيت بسعر أقلّ من سعر إيجار تمام البيت جاز ذلك، لاشتمال ذلك على غرض آخر غير الإقراض بفائدة، وهو نفس غرض تحصيل الغرفة للسكنى، وهذا بخلاف مثال التوافق على بيع متاع بسعر أكثر مؤجّلا ثمّ شراؤه منه بثمن أقلّ معجّلا، فإنّ هذا لا يشتمل بتاتاً على غرض غير القرض الربوي لا بمعنى أنّ البيعين صوريّان، فيكون هذا ربا حقيقة، بل بمعنى أنّ الغرض النهائي ليس عدا نفس غرض القرض الربوي، وفتح مثل هذا الباب يؤدّي إلى كون تحريم القرض الربوي تعبّداً بحتاً.

ونحن نفرّق بين القرض الربوي والقرض المعامليّ، فحرمة القرض المعامليّ حكم تعبّديّ بحت، ولذا ترى أنّ مبادلة الموزون بالموزون مع زيادة الرديء منهما على الجيّد، أو مبادلة الذهب الجيّد بذهب رديء أكثر منه مثلا غير جائز، مع أنّ الرديء المشتمل على الزيادة قد لا يكون أكثر قيمة من الجيّد الذي هو أقلّ منه، ولا تتصوّر في ذلك أيّة نكتة اقتصادية مفهومة ـ ولو إجمالا ـ ، فهذا الحكم ليس إلّا تعبّداً بحتاً، ويجوز التخلّص منه بالحيلة كما وردت بذلك بعض الروايات(1).


(1) راجع الوسائل الجزء 12: 455 الباب 20 من أبواب الربا، و 466 الباب 6 من أبواب الصرف.

250

وأمّا الربا القرضي فهناك نكتة اقتصاديّة مفهومة لدى العرف ـ ولو إجمالا ـلتحريمه، وهي وقوع الزيادة مقابلا للزمان محضاً من دون القيام من قِبَل المرابي بأيّ عمل مفيد، فقد يدّعى القطع بأنّ تحريم القرض الربوي ليس حكماً تعبّديّاً بحتاً، أو يدّعى أنّ هذا هو المفهوم عرفاً، إذن فلا يصحّ التخلّص منه بالحيلة التي يكون الهدف منها تماماً هو هدف القرض الربوي، إذ لو جاز ذلك لأصبح الحكم تعبّديّاً بحتاً، نعم ما كان يشتمل على هدف آخر ويترتّب عليه ضمناً أثر الربا لا يلزم عرفاً من تحليله كون تحريم الربا تعبّديّاً صرفاً، ولا يتعدّى العرف من القرض الربوي في التحريم إلى تلك المعاملة.

القرض المشروط بمعاملة مربحة:

وبالإمكان أن يُقال: إنّ الربا إنّما هي الزيادة الكميّة في المال بأن يقرضه مالا ويسترجع منه ما هو أكثر منه، أو الزيادة الكيفيّة بأن يقرضه مالا من القسم الرديء ويسترجع منه القسم الجيّد. أمّا جعل القرض مشروطاً بمعاملة مربحة فليس ربا، ومثال الرهن مع الإيجار من هذا القبيل، فالمستأجر يقرض الموجِر مبلغاً من المال من دون أن يسترجع منه مبلغاً أكثر، غاية ما هناك أنّه يجعل القرض مشروطاً بإيقاع معاملة مربحة له، وهي إيجار البيت بسعر زهيد، وهذا ليس ربا.

والدليل على جواز القرض المشروط بمعاملة مربحة، وعدم دخول ذلك في الربا المحرّم هو ورود روايات بذلك(1). والصحيح سنداً منها منحصر برواية


(1) ذكرها في الوسائل 12: 381، الباب 9 من أبواب أحكام العقود. والرواية الأخيرة منها إضافة إلى ضعفها السندي قابلة للنقاش الدلاليّ، باعتبار أنّه لا يفهم منها بشكل واضح كون المعاملة المربحة شرطاً في مقابل القرض، فلعلّهم كانوا مستعدّين لإرباحه مطلقاً فكان ذلك داعياً له إلى الإقراض، راجع المصدر، الحديث 7.

251

واحدة هي ما ورد عن محمّد بن إسحاق بن عمّـار، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام):يكون لي على الرجل دراهم، فيقول أخّرني بها وأنا اربحك فأبيعه جبّة تقوّم عليّ بألف درهم بعشرة آلاف درهم، أو قال بعشرين ألفاً واؤخّره بالمال، قال: لا بأس(1). ومحمّد ابن إسحاق بن عمّـار رجل صيرفيّ فقد يتّهم في هذه الرواية، باعتبار أنّ هذا النحو من المعاملة يناسب وضعه، لكنّه ثقة، بل هو في أعلى درجات الوثاقة على ما قاله المفيد (رحمه الله) من أنّه: من خاصّة الكاظم (عليه السلام) وثقاته، وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته(2) فاتّهام رجل من هذا القبيل في ذلك بعيد.

ولكن مع ذلك في النفس شيء من العمل بهذه الرواية، وذلك لأنّه إن صحّ القرض المشروط بمعاملة مربحة لكان تصحيح القروض الربويّة جميعاً من أسهل ما يكون، وذلك بالإقراض من دون ربح مع بيع متاع زهيد بمبلغ يشتمل على الربح المطلوب. وهذا لا يكون إلّا إذا حملنا تحريم القرض الربوي على التعبّد البحت، فيجوز عندئذ كلّ أقسام الحيل من قبيل بيع متاع على من يحتاج مبلغاً من المال بسعر كبير مؤجّلا، وشرائه منه بثمن أقلّ معجّلا(3). أمّا إذا لم نحتمل التعبّد


(1) الوسائل 12: 380، الباب 9 من أبواب أحكام العقود، الحديث 4.

(2) الإرشاد 2: 248.

(3) إن لم يكن هذا بشرط فلا إشكال فيه، وإن كان بشرط فهو غير جائز لورود النهي عن ذلك تارةً بلسان المنع عن بيع العينة مع كون البيع الثاني مشروطاً في البيع الأوّل من قبيل حديث عليّ بن جعفر... «إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس». راجع الوسائل 12: 371، الباب 5 من أبواب أحكام العقود، الحديث 6. واُخرى بلسان المنع عن الإلزام بالبيع الثاني قبل تماميّة البيع الأوّل وإن كان مورد الحديث هو البيع من شخص ثالث من قبيل حديث معاوية بن عمّـار الوارد في الوسائل 12: 377، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، الحديث 7.

252

الصرف أو قلنا: إنّ الفهم العرفيّ لا يحتمل ذلك، فهذه الرواية تعتبر عرفاً معارضة للكتاب لا مخصّصة له، فتطرح عرض الحائط. بل حتّى لو فرضناها مخصّصة للقرآن لا بدّ من طرحها؛ وذلك لأنّ هذه الرواية معارضة بروايات حرمة بيع الشيء بثمن مؤجّلا وشرائه منه بثمن أقلّ نقداً إذا كان أحد البيعين مشروطاً بالآخر، من قبيل ما ورد في كتاب عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام): سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم إلى رجل ثمّ اشتراه بخمسة دراهم بنقد أيحلّ؟ قال: إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس(1). فإنّ العرف لا يحتمل أن يكون القرض المشروط بمعاملة مربحة جائزاً وغير ملحق بالربا، ولكنّ البيع بثمن مؤجّل مشروطاً ببيع آخر يوجب ربح من تقبّل الأجل يكون حراماً وملحقاً بالربا، فإذا تعارضت الروايتان قدّم ما وافق القرآن على ما خالفه.

ج ـ الاستشهاد برواية خاصّة:

البيان الثالث ـ أنّه مضى فيما سبق حديث منصور بزرج، وهو تامّ السند عن عبد صالح (عليه السلام) قال: قلت له: إنّ رجلا من مواليك تزوّج امرأة ثمّ طلّقها فبانت منه، فأراد أن يراجعها، فأبت عليه إلّا أن يجعل لله عليه أن لا يطلّقها ولا يتزوّج عليها، فأعطاها ذلك، ثمّ بدا له في التزويج بعد ذلك، فكيف يصنع؟ فقال بئس ما صنع، وما كان يدريه ما يقع في قلبه بالليل والنهار؟! قل له فليفِ للمرأة بشرطها، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: المؤمنون عند شروطهم.

والوارد في هذا الحديث إنّما هو أنّ المرأة أبت من العقد عليها إلّا بعد أن


(1) الوسائل 12: 371، الباب 5 من أبواب أحكام العقود، الحديث 6. راجع أيضاً الحديث 4 و 5 من نفس الباب.

253

ينذر الرجل أو يعاهد الله أن لا يطلّقها ولا يتزوّج عليها، ولم يرد فيه فرض ذكر ذلك كشرط في ضمن العقد، أو تقيّد العقد به. فتطبيق قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو المؤمنون عند شروطهم على هذا المورد يعني أنّ الشرط لم يقصد به خصوص ما ذكر في متن العقد أو ما كان العقد مقيّداً به، فهذا دليل آخر على بطلان المعنى الأوّل والثاني من المعاني الأربعة التي شرحناها في البيان الثاني، وبهذا ينحصر الأمر في المعنى الثالث والرابع، وكلاهما في صالح المدّعى في المقام كما عرفت. نعم لا إشكال في أنّ العقد معها وقع مبنيّاً على ما ذكراه قبل العقد والذي تعلّق به النذر أو العهد، لكن هذا البناء ليس شيئاً أكثر من الداعويّة أو التقابل، وهما المعنيان الأخيران من تلك المعاني الأربعة، ولئن توهّم متوهّمٌ أنّ ذكر الشرط في متن العقد يرجع إلى التقييد فهذا التوهّم في أمر لم يذكر في متن العقد ولكن ذكر في المقاولة ثمّ بني العقد عليه أبعد.

وإن حمل تطبيق حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) على المورد في هذا الحديث على التقيّة، فهذا يعني أنّ السنّة وقتئذ لم يكونوا يفهمون من الشرط خصوص فرض ذكره في متن العقد أو تقييد العقد به. ولا إشكال في أنّهم كانوا أقرب منّا إلى اللغة العربية الأصيلة، فلا أقلّ من كون هذا الحديث مؤيّداً للمقصود.

2 ـ ليس البيع التزاماً بشيء:

الإشكال الثاني ـ إنّ الشرط حتّى لو شمل الالتزام الابتدائي لا يكون صادقاً على مثل البيع؛ لأنّ البيع ليس التزاماً بشيء، وإنّما هو اعتبار للمبادلة بالفعل، والالتزام إنّما يكون بأمر مستقبليّ. إذن فلا معنى لتطبيق مثل (المسلمون عند شروطهم) على البيع ونحوه، فلو كان البيع التزاماً بالمبادلة صحّ تطبيق هذا النصّ عليه، ولكن بما أنّ البيع مبادلة بالفعل لا التزام بها فهذا التطبيق بلا مورد.

254

والجواب: أنّه صحيح أنّ البيع في فقهنا مبادلة بالفعل، وليس ـ كما في الفقه الغربي ـ التزاماً بالمبادلة، لكنّه يستبطن في نظر العقلاء الالتزام بالآثار، ولهذا لا يحسّ عرفاً بالمؤونة في استعمال الوفاء بالنسبة للعقود مع أنّه لا وفاء إلّا بالالتزام. أمّا مجرّد المبادلة الفعليّة فلا معنى للوفاء بها، ولا يحسّ بالمؤونة في إطلاق الميثاق على عقد النكاح في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً﴾(1).

ويدلّ على شمول الشرط في نصوص (المسلمون عند شروطهم) لمثل ذلك ما مضى عن عليّ بن رئاب ـ بسند تام ـ عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: سئل وأنا حاضر عن رجل تزوّج امرأة على مائة دينار على أن تخرج معه إلى بلاده، فإن لم تخرج معه فإنّ مهرها خمسون ديناراً إن أبت أن تخرج معه إلى بلاده، قال: فقال: إن أراد أن يخرج بها إلى بلاد الشرك فلا شرط له عليها في ذلك ولها مائة دينار التي أصدقها إ يّاها، وإن أراد أن يخرج بها إلى بلاد المسلمين ودار الإسلام فله ما اشترط عليها، والمسلمون عند شروطهم، وليس له أن يخرج بها إلى بلاده حتّى يؤدّي إليها صداقها، أو ترضى منه من ذلك بما رضيت، وهو جائز له(2).

والمقصود بقوله: له ما اشترط عليها وهو خروجها معه، وانتقاص مهرها إلى النصف لو لم تخرج معه لا الأوّل فقط، وذلك بقرينة المقابلة بفرض ما إذا أراد الخروج بها إلى بلاد الشرك، حيث نفى الإمام (عليه السلام)في ذاك الفرض كِلا الأمرين. ومن الواضح أنّ انتقاص مهرها إلى النصف ليس بمعناه المطابقي التزاماً، وإنّما هو من قبيل شرط النتيجة، وهذا دليل لنا على نفوذ شرط النتيجة. ولا فرق بين هذا


(1) النساء: 21.

(2) الوسائل 15: 49، الباب 40 من أبواب المهور، الحديث 2.

255

ومثل البيع في أنّه ليست بالمدلول المطابقي التزاماً وإن كان يستبطن الالتزامبالآثار، فالبيع هو من قبيل شرط النتيجة، فإذا كان النصّ شاملا لشرط النتيجة بقرينة هذا الحديث فهو شامل لمثل البيع.

هذا تمام الكلام في الإطلاقات التي يمكن التمسّك بها لرفض أيّ قيد احتماليّ في شكليّة العقد لم يقم عليه دليل.

 

مقتضى السيرة في بيع المعاطاة

وقد يتمسّك بالسيرة لنفي بعض القيود كقيد العقد اللفظي، وهذه ليست إطلاقاً نتمسّك به متى ما شككنا في قيد، فإنّ الدليل اللبّي لا إطلاق له، ولكنّها ـ على أيّ حال ـ تفيد في مقام دفع بعض القيود، ولعلّ أهمّها قيد العقد اللفظيّ.

وكأنّ الشيخ الأنصاريّ (رحمه الله) حمل ذلك على التمسّك بسيرة المتشرّعة، فاعترض عليه بأنّ هذه السيرة تنشأ من قلّة المبالاة في الدين كمسامحتهم في كثير من العبادات والمعاملات والسياسات(1).

ونقل عن السيّد الخوئي (رحمه الله) في المحاضرات(2) التفصيل بين سيرة العقلاء وسيرة المتشرّعة، فالتمسّك بسيرة المتشرّعة غير صحيح، والتمسّك بسيرة العقلاء صحيح. وكأنّ المقصود من العبارة: أنّ سيرة المتشرّعة في أيّام مراجع التقليد القدامى قبل المحقّق الثاني لم تكن سيرة لهم بما هم متشرّعة، بدليل أنّ علماءهم كانوا يفتون بعدم إفادة المعاطاة للملك، وهم كانوا يبنون على إفادتها للملك،


(1) المكاسب 1: 83، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(2) المحاضرات 2: 47.

256

فكيف نثبت اتّصال سيرة المتشرّعة بما هم متشرّعة بزمان المعصوم (عليه السلام)؟ !والتمسّك بسيرة العقلاء صحيح، إذ لا شكّ في ثبوتها في زمان المعصوم وبعدم الردع يثبت الإمضاء.

أقول: إنّ سيرة المتشرّعة لو ثبت استمرارها من زمان المعصوم فحتّى لو كانت ناتجة عن اللامبالاة تدلّ على المقصود، لأنّها لو لم تكن مرضيّة من قِبَل الإمام لكان يردع عنها ردعاً كاسراً لها، ففرضُ ثبوتها في زمن المعصوم وعدم انكسارها يعني رضا الإمام بذلك. وأمّا السؤال عن أنّه كيف تثبت استمراريّة السيرة من زمان المعصوم فلعلّها سيرة طارئة بعد المعصوم. فهذا سؤال لا يختصّ بسيرة المتشرّعة، بل يأتي حتّى في سيرة العقلاء، ولم يبحثه السيّد الخوئي (رحمه الله).

والواقع: أنّه يمكن تقريب السيرة في المقام بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل ـ سيرة العقلاء، وذلك بلحاظ ما نحسّ به نحن من الطبع العقلائي ونحدس اشتراكه بين هذا الزمان وزمان المعصوم، وهذا الحدس أمر ممكن ومعقول، لأنّها سيرة مفهومة لنا أي مفهومة جذورها النفسيّة وأسبابها، فبإمكاننا الحدس عن ثبوتها في زمن المعصوم، ونتمّم الدليل عندئذ ببيان أنّ المعصوم لو لم يكن يرض بها لردع عنها، ولو ردع لوصل الردع ولم يصل.

الثاني ـ أنّنا لا نشكّ في أنّ الالتزام بالعقد فيه مؤونة زائدة، وهي على خلاف الطبع، فحتّى لو تنازلنا عن فرض كون ذلك بمستوىً يوجب القطع بثبوت السيرة العقلائيّة في زمان المعصوم، فلا أقلّ من التسليم بأصل كون ذلك خلاف الطبع، ومشتملا على المؤونة، وعليه فلولا قيام سيرة المتشرّعة ـ ولو بما هم عقلاء ـ على المعاطاة لكثر السؤال والجواب، ولوصل ذلك إلينا، فعدم وصول ذلك دليل على ثبوت سيرة المتشرّعة ـ ولو بما هم عقلاء ـ ، وسيرة المتشرّعة إن

257

كانت بما هم متشرّعة فهي دليل إنّي على رأي الشارع، إذ لا تتكوّن إلّا برأيالشارع وسيرتهم بما هم عقلاء دليل على عدم ردع الشارع ردعاً كاسراً لها، إذ لو ردع كذلك لانكسرت، وهو خلاف الفرض، على أنّ المفروض عدم وصول الردع، وعدم ردعه كذلك دليل الرضا.

الثالث ـ أنّه بعد تسليم سيرة العقلاء على المعاطاة أمكن إثبات سيرة المتشرّعة ـ ولو بما هم عقلاء ـ ، بأنّنا نعلم حتماً أنّ المجتمع ـ أيّ مجتمع كان ـ لا يخلو عن سيرة قائمة على طريقة المعاملة، فإن لم تكن سيرة المتشرّعة قائمة على طبق سيرة العقلاء فهي قائمة حتماً على خلاف سيرة العقلاء، ولو كان الأمر كذلك لكان هذا ملفتاً للنظر، ولتناقلته الألسن، وكان يصلنا خبره ولم يصل، فبهذا البيان تثبت سيرة المتشرّعة ولو بما هم عقلاء على المعاطاة، إلّا أنّ سيرة المتشرّعة في هذا التقريب ثبتت في طول ثبوت سيرة العقلاء، وفائدة ثبوتها أنّنا لسنا بحاجة في مقام تتميم الدليل على صحّة المعاطاة إلى القول بأنّه لو ردع الشارع لوصل الردع إلينا، فإنّ نفس قيام سيرة المتشرّعة دليل على المقصود بلا حاجة إلى البحث عن وصول الردع وعدمه، لأنّها إن كانت سيرة لهم بما هم متشرّعة فهي في طول رأي الشارع، وإن كانت سيرة لهم بما هم عقلاء، فنفس ثبوتها دليل على عدم صدور الردع الكاسر، وإلّا لانكسرت، وهو خلف. وهذا بخلاف ما لو لم تثبت عدا سيرة العقلاء، فإنّنا عندئذ بحاجة إلى البحث عن عدم وصول الردع، فلو شكّك مُشكِّك في عدم وصول الردع لمثل ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من حديث «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام»، فهذا التشكيك قد يضرّ بالتمسّك بسيرة العقلاء، ولكنّه لا يضرّ بالتمسّك بسيرة المتشرّعة ولو بما هم عقلاء، وإن كان ثبوتها لنا في طول ثبوت سيرة العقلاء.

هذا تمام كلامنا في إثبات صحّة المعاطاة بالسيرة.

258

 

إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام:

وقد ورد بعض ما يمكن أن يدّعى كونه رادعاً عن السيرة ومقيّداً للإطلاقات الماضية، ولعلّ أقواها دلالة حديث خالد بن الحجّاج أو خالد بن نجيح، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب واربحك كذا وكذا، قال: أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال: لا بأس به إنّما يحلّ الكلام ويحرّم الكلام(1). والذي رواه عن خالد هو يحيى بن الحجّاج. وخالد بن نجيح ثقة لنقل ابن أبي عمير عنه، ولكن خالد بن الحجّاج لا دليل على وثاقته، ويغلب على الظنّ كون الصحيح هو خالد بن نجيح، وذلك لأمرين:

أوّلا ـ أنّ نسخة الكافي التي هي أضبط من التهذيب ورد فيها خالد بن نجيح، بينما الوارد في التهذيب هو خالد بن الحجّاج.

وثانياً ـ أنّ احتمال الخطأ بتبدّل ابن نجيح بابن الحجّاج أقوى من العكس، وذلك لاحتمال أنّ كون الراوي عنه يحيى بن الحجّاج أخا خالد بن الحجّاج أوجب سبق الذهن أو القلم خطأً إلى خالد بن الحجّاج، ولكن مع ذلك كلّه يصعب تحصيل الاطمئنان بأنّ النسخة الصحيحة هي النسخة المشتملة على خالد بن نجيح.

وعلى أيّة حال فلا يمكن دفع الاستدلال بسيرة المتشرّعة بهذا الحديث لما مضى من أنّنا إذا أثبتنا سيرة المتشرّعة في زمان المعصوم على شيء لم نحتج إلى البحث عن وصول الردع وعدمه، فتلك السيرة إمّا هي سيرة لهم بما هم متشرّعة، فهي في طول رأي الشارع، أو سيرة لهم بما هم عقلاء فهي بنفسها كاشفة عن عدم


(1) الوسائل 12: 376، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، الحديث 4.

259

ردع كاسر، ولو كان المعصوم غير راض بسيرة المتشرّعة لكان يكسرها بالردع.

بل قد لا يكفي هذا الحديث لو بقي وحده للردع عن سيرة العقلاء، لأنّ الردع يجب أن يتناسب في الشدّة مع مدى شدّة السيرة وأصالتها وقوّتها، وبما أنّ سيرة العقلاء على المعاطاة سيرة قويّة وعريقة فلو كانت غير مرضيّة لدى الشارع لكثر الردع عنها وكان هذا الردع ملفتاً للنظر وكان يكثر تناقله وبالتالي كان يصلنا أكثر من مثل حديث واحد في الردع.

أمّا لو قطعنا النظر عن السيرة وأردنا البحث عن فرض كون هذا الحديث مقيّداً لما مضى من الإطلاقات، فهنا تدخل مسألة السند في الحساب، بينما لا تدخل مسألة السند في حساب الردع عن السيرة، فإنّ فرض صدور ردع لا يساوق فرض وصوله بسند صحيح، واحتمال الردع يكفي لعدم حجيّة السيرة.

وبما أ نّك عرفت أنّ سند الحديث لا يخلو من إشكال لعدم ثبوت وثاقة خالد ابن الحجّاج واحتمال أن يكون الراوي هنا خالد بن الحجّاج، إذن فالحديث لا يصلح لتقييد المطلقات.

على أنّ تماميّة دلالته أيضاً محلّ إشكال. وتوضيح ذلك: أنّه ذكر الشيخ الأعظم (رحمه الله)(1) بالنسبة لمعنى قوله: (إنّما يُحلّ الكلام ويحرّم الكلام) بقطع النظر عن صدر الحديث وجوهاً أربعة:

الأوّل ـ أن يكون وارداً أساساً بصدد بيان أنّ التحليل والتحريم يكون بالنطق دون القصد بلا دلالة أو بدلالة الأفعال، وعليه تكون الرواية دالّة على المدّعى.


(1) في المكاسب 1: 86، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيديّ.

260

والثاني ـ أن يكون المقصود أنّ المطلب الواحد قد يؤدّى بمضامين مختلفة يحلّ حينما يؤدّى ببعضها ويحرم حينما يؤدّى بالآخر، وذلك كالنكاح الذي قد يؤدّى بمضمون زوّجتك نفسي، فيصحّ، وقد يؤدّى بمضمون أحللت لك نفسي، فلا يصحّ. وهذا سنخ ما يحتمل في حديث أبي ربيع ونحوه(1).

والثالث ـ أنّ الكلام الواحد وجوده محلّل وعدمه محرّم، أو بالعكس، أو أنّه محلّل في محلّ ومحرّم في محلّ آخر، وتحتمله روايات المزارعة.

والرابع ـ أنّ المقاولة قبل استيجاب البيع محلّلة وإيجاب البيع محرّم.

وأبطل الشيخ الأنصاري (رحمه الله) الاحتمال الأوّل بأنّه ـ بناءً عليه ـ يلزم تخصيص الأكثر، إذ ما أكثر ما يحلّ أو يحرم بغير الكلام.

إلّا أنّ هذا الإشكال على الاحتمال الأوّل غير صحيح؛ لأنّ المفهوم ـ وفق المناسبات الارتكازية ـ من هذا الكلام إنّما هو حصر التحليل والتحريم بالكلام في باب المعاملات لا في كلّ الاُمور. وما ذكره السيّد الخوئي (رحمه الله) من أنّ هذا لا يتمّ حتّى بلحاظ باب المعاملات؛ لأنّ المعاطاة تفيد الإباحة ـ على الأقلّ ـ بالإجماع(2) غير صحيح، إذ لا إجماع تعبّدي في المقام.

وذكر السيّد الخوئي (رحمه الله): أنّ تفسير (يحلّل الكلام ويحرّم الكلام) بالتفصيل بين الوجود والعدم غير مقبول فإنّ اللفظ إذا اُطلق يكون فانياً في الوجود الواقعي لا في الوجود والعدم(3).


(1) راجع الوسائل 13: 199 ـ 201 الباب 8 من أبواب المزارعة والمساقاة.

(2) راجع المحاضرات 2: 71 و 72، ومصباح الفقاهة 2: 149.

(3) راجع المحاضرات 2: 72، ومصباح الفقاهة 2: 152.

261

وعلى أيّة حال، فهذه الاحتمالات الأربعة في قوله: (إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام) إنّما ذكرها الشيخ (رحمه الله) بقطع النظر عن صدر الحديث. وأمّا بالنظر إلى صدر الحديث فقد ذكر الشيخ (رحمه الله): أنّ الاحتمال الأوّل والثاني يسقطان بعدم مناسبتهما لمورد الحديث فكون النصّ أساساً بصدد حصر المحلّل والمحرّم في الكلام لا يناسب المورد، فإنّ التفصيل المقصود في الحديث بينما إذا كان الأمر بنحو إن شاء ترك وإن شاء أخذ وما إذا كان مجبوراً على الأخذ لا علاقة له بحصر المحلّل والمحرّم في الكلام بداهة أنّ هذا التفصيل يكون وارداً حتّى لو لم يكن الكلام هو المحلّل والمحرّم، أي أنّه حتّى لو كانت المعاطاة صحيحة في نفسها كان يرد التفصيل بين ما إذا كان بالخيار في الأخذ والترك، أو كان مجبوراً على الأخذ، هذا حال الاحتمال الأوّل، وكذلك الحال في الاحتمال الثاني وهو كون المقصود أنّ مطلباً واحداً يبيّن بمضمون وصياغة ويكون محللا، ويبيّن بمضمون وصياغة اُخرى فيكون محرّماً، فإنّ هذا لا يناسب المورد، إذ ليس الكلام فيه في مطلب واحد يكون محلّلا حينما يؤدّى بمضمون ومحرّماً حينما يؤدّى بمضمون آخر، فينحصر الأمر بالاحتمال الثالث والرابع.

وعلى أية حال فببطلان الاحتمال الأوّل يبطل الاستدلال بهذا الحديث على بطلان المعاطاة.

ثمّ ذكر الشيخ الأنصاري (رحمه الله): أنّ بالإمكان التمسّك بالحديث لفساد المعاطاة رغم بطلان الاحتمال الأوّل بعد فرض أنّ المقصود بالكلام إيجاب البيع إذ يُقال عندئذ: إنّه لولا انحصار البيع بالكلام فلماذا حصر المحلّل والمحرّم بالكلام؟! ولو كانت المعاطاة صحيحة لكان الحكم المقصود في هذا المقطع ثابتاً على المعاطاة أيضاً لا على الكلام فقط، قال (رحمه الله): إلّا أن يفرض أنّ السبب في هذا

262

الحصر كان هو عدم إمكان المعاطاة في مورد الحديث، لأنّ الثوب لا زال في يد المالك الأوّل، فليس بإمكان الدلاّل أن يبيعه من المشتري بالمعاطاة.

وأورد عليه السيد الخوئي (رحمه الله) بأنّ ظاهر الحديث هو أن الثوب كان بيد الدلاّل حيث يشير إليه بقوله: «اشتر هذا الثوب» فالمعاطاة ممكن في المقام، وحتّى لو فرضنا عدم وجود الثوب عنده فيكفي في المعاطاة الاعطاء من طرف واحد كالمشتري في المقام(1).

أقول: ولو فرض عدم إمكان المعاطاة في مورد الكلام فهذا لا يبرّر حصر المحلّل والمحرّم في الكلام إلّا إذا فرض كون النصّ ناظراً إلى المورد فحسب.

وأمّا ما ذكره الشيخ (رحمه الله) من إمكانيّة الاستدلال بالحديث على المقصود رغم فرض بطلان الاحتمال الأوّل، وذلك بنكتة أنّه لولا انحصار البيع بالكلام لما انحصر المحلّل والمحرّم في الكلام، فقد أورد عليه السيد الخوئي (رحمه الله):

أوّلا ـ بأنّ ثبوت الكلام مأخوذ في مفروض المورد.

وثانياً ـ أنّه يلزم عليه القول بعدم ترتّب الأثر على المعاطاة حتّى إباحة التصرّف، وهو خلاف الإجماع(2).

أقول: أمّا الإجماع فليس تعبّديّاً في المقام، ولا يفيدنا شيئاً. وأمّا كون مفروض الحديث هو ثبوت الكلام فلا أعرف كيف اكتشفه السيّد الخوئي (رحمه الله) في المقام.

ولعلّ مقصوده ـ رغم قصور العبارة ـ أن يقال: إنّه لو حملنا الحديث على


(1) راجع المحاضرات 2: 74، ومصباح الفقاهة 2: 153 ـ 154.

(2) راجع المحاضرات 2: 74، ومصباح الفقاهة 2: 153.

263

أيّ احتمال آخر غير الاحتمال الأوّل فهو ليس بصدد البيان بالنسبة لاشتراط الكلام وعدمه، وإنّما هو بصدد بيان حكم آخر وهو الحكم المذكور في ذاك الاحتمال. وعندئذ فقوله: إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام يحتمل حمله على أنّه فرض في مورد الحديث وجود الكلام، ولا يتعيّن حمله على اشتراط الكلام ولا إطلاق في الحديث من هذه الناحية كي يتعيّن به ذلك.

 

المعاطاة في النكاح

وفي خاتمة البحث عن صحّة المعاطاة لا بأس بالكلام عن إشكال نقضي قد يورد في المقام، وهو النقض بالنكاح حيث قد يقال: لئن كانت الإطلاقات في باب البيع تدلّ على صحّة المعاطاة فقسم من تلك الاطلاقات نسبته إلى البيع والنكاح على حدّ سواء. صحيح أنّ النكاح خارج عن موضوع بحثنا، وهو العقد في المعاملات الماليّة لكنّه ـ على أيّ حال ـ عقد، فيشمله مثل (اُوفوا بالعقود) وغيرذلك من عديد من الإطلاقات التي مضى شرحها، فلِمَ لا يقال بصحّة المعاطاة في النكاح؟! فإمّا أن الإطلاقات تامّة فتصحّ المعاطاة في النكاح أو غير تامّة فلا تدلّ على صحّة المعاطاة في البيع.

صحيح أنّ آية التجارة عن تراض ورواية الناس مسلّطون على أموالهم أجنبيتان عن باب النكاح، لكنّ آية ﴿أوفوا بالعقود﴾ تشمل النكاح كما تشمل البيع، وآية ﴿أخذن منكم ميثاقاً غليظاً﴾ واردة في النكاح، وروايـة المؤمنون عند شروطهم تشمل النكاح والبيع. وما يقـوم في النكاح مقـام ﴿أحـلّ الله البيع﴾في البيع كثير كروايات فضل النكاح، كمعتبرة محمّد بن مسلـم عن أبي عبد الله (عليه السلام)عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الاُمم غداً في يوم

264

القيامة(1)... وروايات تحليل الفرج بأسباب ثلاثة(2)، وحديث زرارة التامّ سنداً عن أبي جعفر (عليه السلام) في المتعة: أحلّها الله في كتابه وعلى سنّة نبيّه، فهي حلال إلى يوم القيامة(3)...، وحديث أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنّة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)(4)وقوله ـ تعالى ـ: ﴿واُحلّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهنّ فآتوهن اُجورهن﴾(5)، وقوله ـ تعالى ـ: ﴿وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله﴾(6)، وقوله ـ تعالى ـ: ﴿وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة﴾(7).

ولو كنّا نحن ودليل السيرة على المعاطاة فالفرق بين البيع والنكاح بلحاظ هذا الدليل واضح، فإنّ السيرة على المعاطاة قائمة في البيع دون النكاح، ولكن بالنظر إلى كثير من الإطلاقات قد يُقال بعدم الفرق بين البيع والنكاح.

وقبل أن نشرع في الجواب على الإطلاقات لا بأس بذكر رواية قد تستفاد


(1) الوسائل 14: 3، الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح، الحديث 2.

(2) راجع الوسائل 14: 58، الباب 35، من أبواب مقدّمات النكاح، وأحاديث الباب جميعاً غير تامّة سنداً.

(3) الوسائل 14: 437، الباب 1 من أبواب المتعة، الحديث 4.

(4) الوسائل 14: 437، الباب 1 من أبواب المتعة، الحديث 5.

(5) النساء: 24.

(6) النور: 32.

(7) النساء: 3.

265

منها صحّة المعاطاة بالخصوص لا بالإطلاق في باب النكاح، وهي ما روي عنعبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاءت امرأة إلى عمر فقالت: إنّي زنيت فطهّرني فأمر بها أن تُرجم فاُخبر بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)فقال: كيف زنيتِ؟ قالت: مررتُ بالبادية فأصابني عطش شديد فاستقيت أعرابيّاً فأبى أن يسقيني إلّا أن اُمكّنه من نفسي فلمّـا أجهدني العطش وخفت على نفسي سقاني فأمكنته من نفسي، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) تزويج وربّ الكعبة(1). إلّا أنّ سند الحديث ضعيف بعلي بن حسان وبعبد الرحمن بن كثير الذي ضعّف واتّهم بوضع الحديث، ودلالته ضعيفة بأنّ الظاهر أنّه لم يرد في النكاح المعاطاتي، بل مورده مورد الزنا الصريح إذ الظاهر أنّهما لم يقصدا إيجاد علقة الزواج لا الدائميّة ولا الموقّتة بوقت معيّن.

والرواية معارضة برواية اُخرى مثلها في كون السند ضعيفاً، وهي رواية محمّد بن عمرو بن سعيد عن بعض أصحابنا في قصّة تشبه هذه القصة، ولكن لم يرد في آخرها: (سقاني فامكنته من نفسي) بل ورد فيها: (سقاني ووقع عليّ). وكان جواب أمير المؤمنين (عليه السلام): «هذه التي قال الله ـ عزّ وجلّ ـ ﴿فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد﴾ هذه غير باغية ولا عادية، فخلّ سبيلها...»(2) فهذه الرواية ظاهرة في كون ما حدث زنا إلّا أنّها معذورة بالاضطرار. فبناءً على كونهما ناظرتين إلى قصّة واحدة يقع التعارض بينهما. نعم لو فرض أنّهما ناظرتان إلى قصّتين، وأنّ المفروض في الاُولى أنّها هي مكّنته من نفسها ففرض هذا تزويجاً ولو بالمعاطاة، وفي الثانية أنّه هو وقع عليها قهراً فكان زنا فلا تعارض بينهما.


(1) الوسائل 14: 472، الباب 21 من أبواب المتعة، الحديث 8.

(2) الوسائل 18: 384، الباب 18 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 7.

266

أمّا الإطلاقات فيمكن الجواب عليها بأجوبة ثلاثة:

الجواب الأوّل ـ مختصّ بالإطلاقات الخاصّة بباب النكاح، ولا يرد في مثل أوفوا بالعقود ممّـا كان يشمل البيع والنكاح وهو أنّها لم ترد مورد بيـان أصل حلّيّة النكاح، بل حلّيّة النكاح كأنّها مفروغ عنها(1) في المرتبة السابقة بشروطها المفروضة، وتكون هذه الأدلّة بصدد بيان حكم آخر من الترغيب في هذا النكاح المشروع وبيان استحبابه وفضله أو كونه منقسماً إلى أقسام ثلاثة، أو جواز جعله على شكل العقد الموقّت خلافاً للعامّة، أو تمييز النساء المحلّلات من المحرّمات، أو حلّ مشكلة الأيامى والصالحين، أو بيان جواز التعدّد، أو بيان الوظيفة عند احتمال عدم العدل وفي خصوص قوله ـ تعالى ـ: ﴿اُحلّ لكم ما وراء ذلكم﴾توجد قرينة واضحة في أنّها ليست بصدد بيان شرائط النكاح، وإنّما هي بصدد بيان تمييز النساء المحلّلات من المحرّمات، وهي قوله ـ تعالى ـ: ﴿محصنين غير مسافحين﴾فكلّما شككنا في اشتراطه شككنا في أنّه مع عدمه هل يقع الاحصان أو السفاح.

الجواب الثاني ـ يشمل حتّى مثل ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ وهو أنّ الإطلاقات لا تنفي الشروط العقلائيّة، وذلك إمّا بنكتة كونها اسماً للصحيح ومحمولا على الصحيح العقلائي بالإطلاق المقامي، أو بسبب أنّ حمله على الصحيح الشرعي يجعله قضيّة بشرط المحمول، وإمّا بنكتة أنّ الارتكاز العقلائي يكون كالمتّصل الذي يمنع عن انعقاد الإطلاق، والعقد اللفظي في النكاح في بيئة النصوص من الشروط العقلائيّة بخلاف البيع، ويكفينا احتمال ذلك.


(1) لا يبعد القول بأنّ دليل الترغيب بنفسه دليل للحلّ وليس الحلّ مأخوذاً مفروغاً عنه.

267

الجواب الثالث ـ يشمل أيضاً جميع الإطلاقات وهو دعوى تخصيصها ببعضالمخصّصات من قبيل.

1 ـ ما قد يستفاد منه شرط التلفّظ بالكلام في المتعة (بعد العلم بعدم الفرق من هذه الناحية بين المتعة والعقد الدائم) كحديث ثعلبة قال: تقول: أتزوّجك متعة...(1) إلّا أنّه غير منته إلى المعصوم، وحديث أبان بن تغلب، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام)كيف أقولُ لها إذا خلوتُ بها؟ قال: تقول: أتزوّجُكِ متعة...(2) إلّا أنّه غير تامّ سنداً، على أنّه في الدلالةِ أيضاً ضعيف لأنّ مفروض السائل هو العقد اللفظي وسأل الإمام عن كيفيّته فأجابه ببيان كيفية معيّنة وهذا لا يدلّ على أصل اشتراط العقد اللفظي دلالة أقوى من مجرّد الإشعار.

ونحوه في الضعف سنداً ودلالةً حديث هشام ابن سالم:

قال: قلتُ كيف يتزوّج المتعة؟

قال: يقول: أتزوّجك...(3).

وبسند آخر ضعيف أيضاً عن هشام بن سالم الجواليقي عن أبي عبدالله (عليه السلام)، نحوه(4) ولعلّهما حديثٌ واحد.

وورد أيضاً عن الأحول قال: سألتُ أبا عبد الله(عليه السلام)، قلتُ: ما أدنى ما يتزوّج الرجل به المتعة؟ قال: كفٌّ من برٍّ يقول لها: زوّجيني...(5).

وهذا امتيازه عمّـا قبله أنّه لم يكن المفروض في لسان السائل وجود العقد اللفظي فدلالته أقوى ممّـا قبله، ولكن يوجد في أحد سنديه جبير أبو سعيد المكفوف وفي الآخر محمّد بن علي ماجيلويه.


(1) الوسائل 14: 466 و 467، الباب 18 من أبواب المتعة، الحديث 2.

(2) (3) (4) (5) الوسائل 14: 466 ـ 467، الباب 18 من أبواب المتعة، الحديث 1 و 3 و 6 و 5.

268

2 ـ روايات شرط اللفظ في الطلاق بل وشرط لفظ مخصوص...(1) فبناءًعلى عدم احتمال الفرق في شرط اللفظ بين الطلاق والنكاح يُتعدّى إليه. ولكن الإنصاف أنّ احتمال الفرق وارد فكما أنّ الطلاق اختصّ باشتراط الشهود بخلاف النكاح فكذلك لو اشترط فيه اللفظ لم يكن يعني هذا شرط اللفظ في النكاح.

3 ـ روايات اشتراط ذِكر شروط المتعة في متن العقد(2) حيث تدلّ ضمناً على شرط العقد اللفظي وبعدم الفرق يُتَعدى إلى النكاح الدائم. والاستدلال بهذه الروايات يتوقّف على أن لا نحتمل أنّ السبب في حاجة المتعة إلى العقد اللفظي إنّما هو أنَّ شروط المتعة يجب أن تذكر في متن العقد فلا بُدَّ من العقد اللفظي لكي تُذكر تلكَ الشروط في متنه، أمّا إذا احتملنا ذلك كان هذا بنفسه هو الفارق بين المتعة والعقد الدائم.

وفي ختام البحث عن المعاطاة في النكاح اُشير إلى نكتتين في الفرق بين مثل المعاطاة في البيع والمعاطاة في النكاح:

الاُولى ـ لو قلنا: إنّ المعاطاة في البيع لا تدلّ عرفاً على إنشاء التمليك


(1) راجع الوسائل 15: 290 ـ 296، الأبواب 14 و 15 و 16 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه.

(2) راجع الوسائل 14: 468 و 469، الباب 19 من أبواب المتعة، و: 492 ـ 493 الباب 39 منها، والجزء 18: 412، الباب 42 من أبواب حدّ الزنا، والحديث في هذين البابين تارةً يُروى بصيغة «أنسى أن يشترط» واُخرى بصيغة «ثمّ نسي حتّى واقعها» الظاهر في نسيان العقد والإنصاف قوّةُ دلالة هذه الأحاديث، على الخصوص الحديث الأخير بصيغته الظاهرة في نسيان العقد على بطلان المعاطاة. واحتمال اختصاص ذلك بالمتعة لأجل التمكّن من ذكر الشروط في لفظ العقد بعيد جدّاً.

269

والتملّك وإنّما يرجع واقعها إلى أنّ كلّ واحد منهما يسمح لصاحبه التملّك بالحيازة، ولكن في مقابل تملّك الآخر لا مجّاناً، فالفرق بين المعاطاة في البيع والمعاطاة في النكاح الموجب لعدم نفوذ الثانية، بخلاف الاُولى حسب الارتكاز العقلائي يصبح واضحاً فإنّ الحيازة إنّما تكون مملّكة في باب الأموال، ومالكية الشخص السابق تمنع عن تأثير الحيازة، وسماحه بذلك يرفع المانع أمّا في باب النكاح فلا يوجب شيء يحلّ محلّ الحيازة في الأموال.

والثانية ـ لو قلنا: إنّ المعاطاة في البيع إنشاء للتمليك والتملّك فالنكتة في أنّ المعاطاة في النكاح لا تعتبر عرفاً إنشاءً للزوجية بلحاظ مدرسة لا تسمح بالارتباط الجنسي غير القائم على أساس الزوجية هو أنّ نفس المعاطاة في النكاح مصداق للسفاح أو الحرام لأنّ هذا المصداق لم يكن عملا ناشئاً عن زوجية فكان حراماً، وهذا بخلاف المعاطاة في البيع فإنّ القبض أو الإقباض الأوّل وإن لم يكن ناشئاً عن الملكية الجديدة لكنّه لم يكن حراماً، لأنّ التصرف العملي في مال الغير برضاه جائز، وليس التصرّف العملي الجنسي بمجرّد رضا الرجل والمرأة جائزاً لدى عرف يحرّم الارتباط الجنسي غير القائم على أساس الزوجية، إذن فهذا التصرف مصداق لما يناقض النكاح، أي للسفاح أو الحرام فلا يساعد العرف على إنشاء النكاح به في دين يحرّم ذاك الارتباط.