299

بقاء، إذ لو كان العقد جائزاً فله السلطنة على تسلّط المشتري على العين بقاء، ولو كان لازماً انتفت هذه السلطنة أيضاً، ومع الشك نستصحب هذه السلطنة، وهذا الاستصحاب حاكم على استصحاب بقاء ملكية المالك الثاني بعد الفسخ(1).

وقد ردّ (رحمه الله) الحكومة بعدم الترتب الشرعي لعدم بقاء المال على ملك المالك الثاني على سلطنة المالك الأوّل. وردّ أصل تقريب استصحاب بقاء تلك السلطنة بأنّ السلطنة على الملك هي القدرة الترخيصية والوضعية على التصرف الاستهلاكي والتصرف الوضعي بإحـداثه. أمّا ردّ المـلك فسلطنة جديدة غير منبعثة من الملك.

أقول: كان مفاد الإشكال: أنّ زمام أمر بقاء المال في ملك المالك الثاني، قبل الحدوث كان بيد المحدث ولو بتبع الحدوث الذي كان بيده والآن قد خرج الأمر من يده حدوثاً، ولكننا لا نجزم بخروجه بقاءً من يده، إذ لو كان العقد جائزاً فلا زال أمر بقاء المال في ملك المالك الثاني بيده فيستصحب بقاء ذلك في يده.

والأولى في الجواب أن يُقال: إنّ السلطنة على تسليط الغير بقاءً بمعنى أنّ له نفيها بنفي الحدوث تغاير عرفاً السلطنة عليه بالردّ وعدمه، فيرجع استصحاب السلطنة في المقام إلى استصحاب القسم الثالث من الكليّ. هذا تمام الكلام في إثبات اللزوم بالاستصحاب.

إثبات اللزوم بالاستصحاب في موارد الشبهة الموضوعية:

ولا بأس بالتطرّق بالمناسبة إلى أنّه لو كانت الشبهة موضوعية فهل يجري هذا الاستصحاب أيضاً أو لا؟ فلو تردد الأمر مثلا بين الصلح والهبة، علماً بأنّ


(1) راجع تعليقة الشيخ الاصفهاني على المكاسب 1: 31.

300

الأوّل لازم والثاني جائز فهل يجري استصحاب الملك بعد الفسخ أو لا؟ ونحن نستبعد عن بحثنا فرض ابتلاء هذا الاستصحاب صدفة باستصحاب آخر ينفي أثراً من آثار العقد اللازم، كما لو تردد الأمر بين البيع والهبة وأصبح استصحاب بقاء العين في ملك الثاني بعد الفسخ معارضاً لاستصحاب عدم انشغال ذمّته بالثمن للعلم الإجمالي، بأنّه إمّا يجب عليه دفع الثمن أو يجب عليه ردّ العين بسبب الفسخ ولا يسوغ له التنصّل من الأمرين معاً في وقت واحد. ونركّز بحثنا على استصحاب بقاء الملك فقط وعندئذ نقول:

إ نّه بناءً على جريان استصحاب الكليّ من القسم الثاني لا شك في جريان الاستصحاب في المقام حتى مع فرض تغاير الملك الحاصل بالهبة عن الملك الحاصل بالصلح مثلا. وأمّا بناء على عدم جريان استصحاب الكليّ من القسم الثاني وأنّنا إنّما أجرينا استصحاب بقاء الملك في مورد الشبهة الحكمية في اللزوم والتزلزل لإيماننا بأنّ اللزوم والتزلزل ليسا مقوّمين للملك ولا مترتبين على خصوصية ذاتية في الملك، وإنّما هما حكمان يترتبان على الملك الذي ليس له عدا معنى واحد. فهنا قد يستشكل في الاستصحاب، وذلك بدعوى أن استصحاب الملك وإن كان في مورد الشبهة الحكمية صحيحاً ولكنه في مورد الشبهة الموضوعية ليس صحيحاً، لانّ الملك الذي يكون موضوعه الشرعي هو الصلح غير الملك الذي يكون موضوعه الشرعي هو الهبة، فاستصحاب الملك في المقام هو استصحاب للجامع بين فردي الملك، وقد افترضنا عدم الإيمان باستصحاب الكليّ. نعم لو أنكرنا ولو عرفا تعدد الملك بتعدد سببه أو موضوعه انتفى الإشكال في المقام.

ولا يُقال: إ نّه حتى لو انكرنا تعدد الملك في المقام لم نتخلص من إشكال

301

شبيه بإشكال حكومة استصحاب عدم الفرد الطويل في استصحاب الكليّ، وذلك لانه يجري في المقام استصحاب عدم الصلح وهو يحكم على استصحاب بقاء الملك.

فإنّه يُقال: إنّنا لو انتقلنا إلى الأصل الموضوعي في المقام فلا ترجيح لاستصحاب عدم الصلح على استصحاب عدم الهبة، فإنّ العقليّة التي تغفل اشتراط الترتّب الشرعي في الحكومة وتقول بأنّ الشكّ في بقاء الجامع مسبّبٌ عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل نسبتها إلى استصحاب عدم الصلح وإلى استصحاب عدم الهبة في المقام واحدة، فإنّ شكّنا في بقاء الملك وعدمه نشأ من شكّنا في الصلح والهبة.

والصحيح أنّه لو انتقلنا في المقام إلى الأصل الموضوعي فالأصل الجاري في المقام إنّما هو استصحاب عدم كون العقد الواقع هبة لأنّ العمومات دلّت على لزوم كلّ عقد والمخصّص أخرجَ منها الهبة والعام يتعنون بعد التخصيص بنقيض عنوان الخاص. فأصبح موضوع الملك اللازم مركباً من العقد وأن لا يكون هبة، والعقد ثابت بالوجدان وأن لا يكون هبة ثابت بالاستصحاب، واستصحاب عدم الصلح غير جار لأنّه مثبت في المقام، لأنّ الأثر يترتّب كما عرفت على العقد وعلى عدم الهبة لا على الصلح.

وقد يُقال: إنّنا لا ننتقل في المقام إلى الأصل الموضوعي وذلك لأنّنا لو أردنا أن ننتقل إليه فإمّا أن نجري استصحاب عدم الهبة بنحو مفاد «ليس» الناقصة كما هو المستفاد من ظاهر عبارة المحاضرات(1) أو نجري استصحاب عدم كون


(1) المحاضرات 2: 65.

302

العقد الواقع هبة بنحو مفاد «ليس» الناقصة وعلى أساس استصحاب العدم الأزلي كما هو المستفاد من مصباح الفقاهة(1)، وكلاهما باطل:

أمّا الأوّل فلأنّ موضوع لزوم هذا العقد كما عرفت هو عدم كونه هبة بنحو مفاد «ليس» الناقصة وإثبات ذلك باستصحاب عدم الهبة تعويل على الأصل المثبت.

وأمّا الثاني فلأنّ كون هذا العقد هبة أو عدم كونه هبة أمر داخل في هويّة العقد وحقيقته وليس كقرشية المرأة التي هي من عوارض الوجود حتى يمكن نفي ذلك باستصحاب العدم الأزلي.

وتحقيق حال الاستصحاب في نفي ما يكون داخلا في هوية الموضوع موكولٌ إلى علم الاُصول والظاهر أنّ الصحيح جريانه.

هذا تمام الكلام في أدلّة كون الأصل في العقود هو اللزوم إلّا ما خرج بالدليل.

 

أدلّة اللزوم في خصوص البيع:

وأمّا ما قد يتمسّك به لإثبات اللزوم بلحاظ عقد خاص من قبيل روايات: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا وجب البيع»(2) فبحثه خارج عن عهدة مقامنا لانّنا عقدنا البحث في كلّي العقود، إلّا انّنا مع ذلك نتعرض لخصوص ما ورد في باب البيع وهو ما أشرنا إليه من روايات: «البيّعان بالخيار» نظراً لكون البيع أهمّ العقود المالية. وقد عقد السيد الإمام الخميني (رحمه الله) في كتاب البيع بحثاً مفصّلا في


(1) مصباح الفقاهة 2: 134.

(2) راجع الوسائل 12: 345 ـ 347، الباب 1 و 2 من أبواب الخيار.

303

المقام حول مدى صحة التمسك بهذه الروايات(1) وذكر: أنّ مورد الاستدلال بهذه الروايات أحد بنود ثلاثة:

1 ـ «البيّعان بالخيار» باعتبار أنّ الخيار مختص بالعقد اللازم.

2 ـ «ما لم يفترقا» باعتبار أنّ الغاية تفيد نفي الحكم وهو الجواز عند حصول الغاية وهذا يعني أنّ البيع يصبح بعد الافتراق لازماً.

3 ـ «فإذا افترقا وجب البيع» فهذا تصريح بمفهوم الغاية وباللزوم.

أمّا البند الأوّل ـ وهو قوله: «البيّعان بالخيار» ـ فقد أفاد السيد الإمام (رحمه الله): أنّ الاستدلال به يتوقف على أنّ الخيار لا يكون عقلا أو عقلائياً في العقد المتزلزل فإثبات الخيار في البيع دليل عقلا أو عقلائياً على لزومه الذاتي أما لو قلنا بإمكان اجتماع الخيار مع الجواز الذاتي كالجمع بين خيارين فلا مورد للاستدلال بهذا البند.

أقول: لو سلّم عدم تصوّر الخيار في العقد الذي يكون جائزاً ذاتاً فغاية ما يدل عليه هذا البند هو عدم الجواز الذاتي لعقد البيع، ولكن مدّعانا في المقام أكثر من ذلك فانّنا نريد أن ندّعي أصالة اللزوم ونقصد باللزوم نفي الجواز الذاتي ونفي الجواز الحقيّ أو الخيار في وقت واحد لا خصوص نفي الجواز الذاتي. نعم هذا النقاش لا يرد على كلام السيّد الإمام (رحمه الله) لانّ مصبّ كلامه ليس ـ كمصبّ كلامنا ـ عبارةً عن إثبات أصالة اللزوم في العقد بشكل عام، وإنّما مصبّ كلامه خصوص المعاطاة، فهمّه هو إثبات كون المعاطاة كالعقد اللفظي في اللزوم، والتقريب الماضي يفي بهذا المقدار، فانّ احتمال الفرق بين المعاطاة والعقد اللفظي إنّما هو


(1) راجع كتاب البيع للسيد الإمام (رحمه الله) 1: 120 ـ 125.

304

في الجواز واللزوم الذاتيين لا في الخيار، فهذا البند يدل على أنّه متى ما كان العقد اللفظي لازماً لعدم الخيار فيه كانت المعاطاة في ذاك المورد أيضاً كذلك، لأنّ دخول خيار المجلس فيها بحكم إطلاق الحديث دليل على عدم جوازه الذاتي، فإذا لم تكن المعاطاة جائزة أي متزلزلة ذاتاً والمفروض عدم الخيار فقد أصبحت لازمة.

وعلى أيّة حال فمسألة إمكان اجتماع خيارين وعدمه أو اجتماع الخيار مع الجواز الذاتي وعدمه في رأينا لا يصح طرحها كبحث ثبوتي في إمكان الاجتماع واستحالته بقدر ما يصح طرحها كبحث إثباتي في أنّ دليل الخيار هل ينظر إلى الحق حيثياً أو ينظر إلى ذات الحق؟ فعلى الأوّل لا يكون دليل خيار الحيوان مثلا نافياً لثبوت الحق بحيثية اُخرى أيضاً، وهي حيثية المجلس وكذلك من يسقط الخيار هل يسقط حقّه من حيثية معينة أو يسقط أصل الحق الذي لا يقبل التعدد؟ فعلى الأوّل لو اُسقط خيار الحيوان لم يسقط خياره من حيث المجلس وبالعكس. وبما أنّ الظاهر من أدلّة الخيارات هو النظر إلى الخيار من حيث الجهة المثبتة للخيار فالصحيح: أنّ قوله: «البيّعان بالخيار» لا يدل على اللزوم الذاتي للمعاطاة، إذ لا يدل على أكثر من أنّ البيع من حيثية المجلس يوجب الخيار وهذا يجتمع مع الجواز الذاتي.

هذا، وقال السيّد الإمام (رحمه الله): انّنا حتى لو قلنا بعدم إمكان اجتماع الخيار مع الجواز الذاتي فقوله: «البيعان بالخيار» لا يدل على لزوم المعاطاة ذاتياً، وذلك لأنّ معنى عدم إمكان اجتماع الخيار مع الجواز الذاتي هو خروج الجائز الذاتي من إطلاق قوله «البيعان بالخيار» بالتخصيص اللّبي، فان فرضنا في المقام انّ هذا المخصص كالمتصل لم يمكن التمسك هنا بالعام، لانّه تمسك بالعام في الشبهة

305

المصداقية للعام. وإن قلنا: إنّه كالمنفصل فمن يجوّز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص اللبّي يجوز على مبناه التمسك هنا بالعام لإثبات الخيار في المعاطاة وبالتالي إثبات لزومها الذاتي، ولكننا لا نجوّز ذلك فبالتالي لا يجوز التمسك بالعام في المقام لكونه تمسّكاً به في الشبهة المصداقية للمخصص إلّا أن يُقال: أنّ الشك في أصل التخصيص لعدم إحراز مصداق للعنوان العقلي. ويمكن أن يقال: إنّ تحقق فرد متيقن من العنوان الخارج وعدمه لا دخل له في الحساب.

أقول: نعم التخصيص لو كان فانّما هو بنحو القضية الحقيقية وليس تخصيصاً إفرادياً بنحو القضية الخارجية حتى يُقال: انّه مع عدم إحراز فرد خارج بالتخصيص يكون أصل التخصيص مشكوكاً ولو كان التخصيص بنحو القضية الخارجية، لجاز التمسك بالعام في الفرد المشكوك خروجه حتى مع فرض القطع بخروج فرد آخر، لانّ خروج كل فرد إذا كان التخصيص إفرادياً يكون تخصيصاً مستقلا لا علاقة له بالآخر. وعلى أيّة حال فالمسألة عندنا ليست مسألة انفصال المخصص اللبّي واتصاله، وإنّما هي مسألة كون القيد اللبّي إحرازه بيد المولى وعدمه، فمتى ما كان إحرازه بيد المولى جاز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية على ما نقّح عندنا في علم الاُصول وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ الذي يشخّص الجواز الذاتي وعدمه للعقد شرعاً انّما هو المولى. وعلى أيّة حال فقد عرفت عدم تمامية التمسك بالبند الأوّل في المقام لِما قلناه من ظهور دليل الخيار في النظر إلى الجانب الحيثي فلا ينافي ثبوت الخيار من حيثية اُخرى أو الجواز الذاتي.

وأمّا البند الثاني ـ وهو قوله «ما لم يفترقا» فقد أجاب السيّد الإمام (رحمه الله)على الاستدلال به بأنّ مفهوم الغاية نفي الخيار لا نفي الجواز الذاتي.

أقول: وجه الاستدلال بالبند الثاني هو حمل الخيار في الحديث على معناه

306

اللغوي الشامل لمورد الجواز الذاتي وإن كنّا نحن نعلم أنّ مصداقه الذي ينتفي بالافتراق هو الخيار الحقّي. والصحيح حمل الخيار في هذا الحديث على الخيار الحقّي لما مضى منّا في بحث الحق والحكم من انّه إذا نسب الخيار إلى البيِّع وهو في صالح البيِّع فهم منه الحق، وإذا نسب الجواز إلى العقد فهم منه الحكم، فالاستدلال بهذا البند أيضاً غير صحيح. هذا لو آمنّا أساساً بمفهوم الغاية أمّا لو قلنا: إنّ الغاية لا تدل على أكثر من انتهاء شخص الحكم بحصول الغاية فلا مجال للاستدلال بهذا البند أصلا.

وأمّا البند الثالث ـ وهو قوله: (فإذا افترقا وجب البيع) فوجه الاستدلال به أنّ وجوب البيع عبارة عن لزومه ومقتضى إطلاق النّص شموله لكل بيع من معاطاة وغيرها فيكون هذا أصلا لفظياً للزوم يرجع إليه في موارد الشك. وقد ذكر السيد الإمام (رحمه الله) في مقام المناقشة للاستدلال بهذا البند: أنّه لا إشكال بمقتضى وحدة السياق في وحدة الموضوع في الصدر والذيل وهو البيع إطلاقاً وتقييداً ففرض كونه مطلقاً في احدهما ومقيداً في الآخر خلاف الظاهر وعندئذ: فان قلنا: أنّ الخيار لا يجتمع مع الجواز الذاتي فلا بدّ من تقييد الصدر بالبيع اللازم، وبالتالي لا بدّ من تقييد الذيل أيضاً بالبيع اللازم حفاظاً على وحدة السياق، وعندئذ جاء إشكال التمسك بالعام في الشبهة المصداقية الذي مضى ذكره في البند الأوّل، وبهذا يبطل التمسك بالذيل كما بطل التمسك بالصدر.

وإن قلنا: بعدم المنافاة بين الخيار والجواز الذاتي وقع التعارض بين إطلاق الصدر وإطلاق الذيل، لان إطلاق الصدر يشمل البيع اللازم ذاتاً والبيع الجائز ذاتاً، بينما إطلاق الذيل يقتضي لزوم كل بيع حسب الفرض، فإذا وقع التعارض بين الإطلاقين:

307

فإمّا أن نرفع اليد عن إطلاق الذيل بتفسير الوجوب بالوجوب الحيثي فمعنى وجب البيع هو وجوبه من حيث زوال خيار المجلس لا الوجوب الفعلي، وبهذا يبطل الاستدلال بالحديث لعدم دلالته عندئذ على اللزوم وهو الوجوب الفعلي.

وإمّا أن نرفع اليد عن إطلاق الذيل لا بحمل الوجوب على الوجوب الحيثي بل نحمله على الوجوب الفعلي ولكن بإخراج البيع غير اللازم عن الإطلاق بالتخصيص، وهنا يعود إشكال التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وبه يبطل الاستدلال بالحديث على المدّعى.

وإمّا أن نرفع اليد عن إطلاق الصدر وعندئذ يبطل إطلاق الذيل أيضاً تبعاً للصدر بوحدة السياق، ويصبح التمسك به أيضاً تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

أقول: مع غضّ النظر عن جوابنا على مشكلة التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة الذي مضت الإشارة إليه. أنّه تارة نفترض التنافي بين الخيار والجواز الذاتي. ونجيب على إشكال لزوم تقييد الصدر وبالتالي تقييد الذيل بجواب متوقف على أن لا نجد في الشريعة بيعاً نحرز له الجواز الذاتي. والجواب هو انّنا حفاظاً على إطلاق الذيل نفترض أنّ العنوان الذي كان المفروض أن يكون قيداً لبيّاً في الصدر وهو عدم الجواز الذاتي لم يؤخذ في مصبّ الجعل وذلك لأنّ كل قيد دخيل في الملاك لو علم المولى بتحققه دائماً جاز له أن لا يأخذه في مصب الجعل فلعلّ المولى علم بأنّ البيع دائماً هو لازم ذاتاً ولا يوجد لدينا بيع متزلزل بالذات، فاستغنى عن أخذ قيد اللزوم في متعلق الحكم، ولعلّ هذا هو المراد اللبّي للمحقق النائيني المفصّل في التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص اللبّي

308

بين أن يكون القيد قيداً في الموضوع أو قيداً في الملاك بجواز التمسك بالعام في الثاني دون الأوّل.

واُخرى نفترض عدم التنافي بين الخيار والجواز الذاتي ونجيب على إشكال التعارض بين إطلاقي الصدر والذيل، بأنّ إطلاق الصدر إنّما يدل على أنّ البيع حتى لو كان جائزاً ذاتاً يدخله الخيار ولا يدل على وجود بيع جائز بالذات فعلا كي تنافيه دلالة الذيل على وجوب كل بيع، فدعوى التنافي بين الإطلاقين غريب.

والواقع أنّ تمامية الاستدلال بقوله: «وجب البيع» على لزوم كل بيع وعدمها تتفرّع على ان نستظهر من الوجوب الوجوب الفعلي أو الوجوب الحيثي أي من حيثية انتهاء خيار المجلس. فعلى الثاني لا يتم الاستدلال وعلى الأوّل يتم الاستدلال، واعتقد أنّه لا مبرر لحمله على الوجوب الحيثي، والظاهر الأوّلي لكل عنوان هو وجودة الفعلي، فالصحيح تمامية الاستدلال بالبند الثالث على المقصود.

ثم استأنف السيد الإمام (رحمه الله) مرة اُخرى ذكر مناقشات تعود إلى الاستدلال بالبند الثاني أو إلى الاستدلال بالبند الثالث، ولا علاقة لها بالبند الأوّل، وحاصل ما ذكره (رحمه الله) في المقام اُمور:

1 ـ أنّ التمسّك بمفهوم الغاية المذكورة في البند الثاني ـ بقطع النظر عمّـا سبق من الإشكال ـ يتوقّف على كون المقصود بالخيار في قوله: البيّعان بالخيار ماهية الخيار المطلقة كي تكون الغاية غاية لماهية الخيار ونحن نعلم أنّ المقصود به في المقام إنّما هو خيار المجلس، وأنّ الافتراق إنّما هو غاية لخصوص خيار المجلس فحسب، وحمل الحديث على فرض الافتراق غاية لماهية الخيار مع خروج جميع الخيارات على كثرتها ما عدا خيار المجلس يستلزم تخصيص الأكثر المستهجن.

309

أقول: إنّ هذا الكلام غريب، فإنّ الموضوع في الحديث هو البيّعان،والخيار الغالب وجوده في البيع إنّما هو خيار المجلس، امّا فرض ثبوت شيء من باقي الخيارات لو قسناه إلى فرض عدم ثبوتها فهي حالة نادرة، فاستثناؤها من فرض لزوم البيع ليس تخصيصا مستهجناً، والمفروض في معرفة لزوم تخصيص الأكثر المستهجن وعدمه في المقام هو أن نقيس موارد الخيارات بموارد عدمها لا أن نقيس سائر الخيارات بخيار المجلس لنقول: قد خرج من الإطلاق أكثر الخيارات فلزم تخصيص الأكثر المستهجن؟ !

2 ـ قال السيد الإمام (رحمه الله): ومما ذكرنا ظهر الجواب على الاستدلال بذيل صحيحة فضيل: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قلت: ما الشرط في الحيوان؟ فقال لي: ثلاثة أيام للمشتري، قلت وما الشرط في غير الحيوان؟ قال: البيّعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما(1). فالبند الثالث في هذا الحديث إنّما جاء بتعبير: «لا خيار بعد الرضا منهما» والمفروض هو أن نحمل الخيار في هذا الذيل على نفس المعنى المقصود به في الصدر، وقد عرفت أنّ المقصود به في الصدر هو خصوص خيار المجلس، فلو سلّمنا أنّ نفي مطلق الخيار يدل على اللزوم المدّعى في المقام، فهذا التعبير ليس نفياً لمطلق الخيار، وإنّما هو نفي لخيار المجلس بعد الافتراق، على انّنا لو حملنا قوله: (لا خيار بعد الرضا منهما) على نفي ماهية الخيار لزم تخصيص الأكثر المستهجن، لعلمنا بأنّ جميع الخيارات ما عدا خيار المجلس على كثرتها لا تنتفي بالافتراق.

أقول: قد اتضح التعليق على هذا الكلام مما مضى.


(1) الوسائل 12: 349، الباب 3 من أبواب الخيار، الحديث 5 فيه صدر الحديث وذيله في الصفحة 346، الباب 1 من تلك الأبواب، الحديث 3.

310

3 ـ وقال السيد الإمام (رحمه الله) (في تعليقه على الاستدلال بصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أيّما رجل اشترى من رجل بيعاً فهما بالخيار حتى يفترقا، فإذا افترقا وجب البيع(1)): إنّ باقي الروايات جميعاً كان مفادها انتهاء خصوص خيار المجلس بالافتراق، وهو قرينة على أنّ المقصود بقوله في هذه الرواية: (وجب البيع) أيضاً هو ذلك. فالوجوب هنا محمول على الوجوب الحيثي أي من حيثيّة زوال خيار المجلس لا الوجوب الفعلي.

أقول: إنّ هذا الكلام أيضاً غريب، فإنّه لو حمل الوجوب في هذه الرواية على الوجوب الفعلي، كان معنى ذلك دلالة هذه الرواية على مطلب إضافي لم يكن موجوداً في باقي الروايات، وهو لزوم البيع بالفعل بعد انتهاء المجلس، ولم يكن معنى ذلك دلالة هذه الرواية على معنى يعارض باقي الروايات ولا أدري لماذا يكون خلوّ باقي الروايات على مطلب إضافي موجود في رواية واحدة قرينة على حمل تلك الرواية على عدم إرادة ذلك المطلب؟! نعم لو كانت هذه الرواية الواحدة معارضة للروايات الاُخرى الكثيرة فقد يدّعى: أنّ العبارة الواردة في الروايات الكثيرة وانحصار العبارة المعارضة في رواية واحدة مثلا مع قبولها للحمل على ما يوافق العبارة الاُولى يورثان لنا بحساب الاحتمالات الاطمئنان بانّ تلك العبارة المنحصرة لو كانت صادرة حقاً من الإمام (عليه السلام) لم يقصد بها ذلك المعنى المعارض. وإلّا كان المترقب كثرة ورود هذه العبارة في الروايات وقلة ورود تلك العبارة دون العكس. أمّا مع فرض عدم المعارضة فلا نكتة لرفع اليد عن معنى يستفاد من رواية واحدة لمجرد خلوّ باقي الروايات عن ذلك المعنى.


(1) الوسائل 12: 346، الباب 1 من أبواب الخيار، الحديث 4، والصفحة 348، الباب 2 من أبواب الخيار، الحديث 4.

311

4 ـ إنّ هناك روايات نقلت فعل أبي جعفر (عليه السلام) في الافتراق بهدف لزومالبيع كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنّه قال: إنّ أبي اشترى أرضاً يُقال لها العريض، فلمّا استوجبها قام فمضى فقلت له: يا أبة عجلت القيام؟ فقال: يا بنيّ أردت أن يجب البيع(1).

وقد علّق السيد الإمام (رحمه الله) على التمسك بذلك بانّها مضافاً إلى ظهورها بسبب كلمة (استوجبها) في البيع بالصيغة وإلى بُعد شراء الأراضي والقرى في المعاطاة وتعارف البيع بالصيغة فيها لا تشمل إلّا على قضية شخصية لا يعلم الحال فيها فلا إطلاق لها يشمل المعاطاة.

أقول: المهم هو الإشكال الأخير وهو كونها قضية شخصية لا إطلاق فيها، أمّا لو كان فيها إطلاق لما كانت خصوصية المورد موجبة لتخصيص الموارد، على أنّ ظهور كلمة (استوجبها) في البيع بالصيغة غير مقبول، وغلبة شراء العقار بالصيغة لا توجب القطع مع أنّ هاتين الملاحظتين لا تردان في صحيحة محمّد بن مسلم قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: بايعت رجلا فلمّا بايعته قمت فمشيت خُطىً ثم رجعت إلى مجلسي ليجب البيع حين افترقنا(2). فالمهمّ هو الإشكال بانّها قضية في واقعة ليس فيها إطلاق بملاك مقدمات الحكمة ولا بملاك ترك الاستفصال.

 

خروج بعض العقود عن إطلاقات اللزوم:

وفي ختام البحث عن أصالة اللزوم في العقود نذكر أمرين:


(1) الوسائل 12: 347، الباب 2 من أبواب الخيار، الحديث 1.

(2) الوسائل 12: 348، الباب 2 من الخيار، الحديث 3.

312

دعوى خروج المعاطاة عن تحت الإطلاقات:

الأمر الأوّل ـ انّه قد يدّعى في المعاطاة انّها خرجت عمّـا مضى من إطلاقات نفوذ العقود أو عمّـا مضى من إطلاقات اللزوم وذلك بواسطة الإجماع من قبل علماء الشيعة.

والواقع: أنّ دعوى الإجماع على عدم اللزوم ضعيفة جدّاً، فانّ ما هو المنقول عن القدماء انّما هو عدم إفادة المعاطاة للملك، لا عدم اللزوم بعد تسليم إفادتها للملك، وانّما يأتي توهم الإجماع على عدم اللزوم ممّا فعله المحقّق الثاني (رحمه الله)من حمل ما ورد في كلمات القدماء من إفادة المعاطاة للإباحة على إفادتها للملك المتزلزل لاستغرابه فرض افتاء أحد حصول الإباحة بالمعاطاة مع أنّ مقصود المتعاطيين هو الملك، إذ المعاطاة لو كانت صحيحة لكان المترقب أن تفيد ما قصداه من الملك، ولو كانت باطلة لكان المترقب عدم ترتب أي أثر عليها حتى الإباحة، وأيضاً لاستغرابه لدعوى حصول الملك بمثل التلف بعد فرض عدم مملكية المعاطاة(1).

وفي مقابل هذا التوجيه من قبل المحقق الثاني لكلمات القدماء بحمل الإباحة فيها على عدم اللزوم حمل صاحب الجواهر (رحمه الله) فرض حصول الإباحة الواردة في كلماتهم على ما إذا كان المقصود للمتعاطيين هو الإباحة فكأنّهم أرادوا أن يقولوا إنّ المعاطاة لا تكفي لانشاء الملك وحصوله بها. وإنّما تكفي لانشاء الإباحة وحصولها بها(2).

وعلى أيّة حال فكلمات القدماء آبية عن الحمل على إرادة عدم اللزوم،


(1) راجع المكاسب 1: 82، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(2) راجع الجواهر 22: 224.

313

وبإمكانك أن تراجع كلماتهم الواردة في المكاسب للشيخ الأنصاري (رحمه الله)(1) وفي مفتاح الكرامة(2).

وقد تقول: إنّ المتيقن من مجموع كلمات القدماء القائلين بعدم الملك وكلمات مَن قال بعدم اللزوم هو عدم اللزوم، فانّ المعاطاة إن كانت غير مملّكة فاللزوم منتف بانتفاء الموضوع، وإن كانت مملّكة فقد قالوا بانّها تفيد الملك المتزلزل، وهذا سنخ الإجماع المركّب. إلّا أنّ هذا الكلام لا قيمة له، فانّ الإجماع المركب على ما نقّح لدينا في علم الاُصول إنّما يفيد الحدس بنفي الثالث إذا رجع بروحه إلى الإجماع البسيط، بأن نعلم: أنّ أصحاب الرأي الأوّل على تقدير تنازلهم عن رأيهم يكونون ملتزمين بالرأي الثاني وليس الأمر في المقام كذلك، إذ لم يعلم من القدماء المنكرين لحصول الملك انّهم على تقدير القول بحصول الملك يفتون بالتزلزل وعدم اللزوم.

فالأولى إذن عطف عنان الكلام إلى دعوى الإجماع أو الشهرة على عدم إفادة المعاطاة الملك، وهذا وإن كان محتمل المدركية باستنادهم مثلا إلى أصالة عدم الملك ولكن الإجماع الذي نؤمن به إنّما هو الإجماع الحدسي والحدس قد يتم رغم وجود المدرك، وذلك:

إمّا بدعوى أنّه لولا أنّ الحكم كان من المسلّمات يداً بيد لما أجمعوا عليه متمسكين بالمدرك الفلاني، فهم في طول مسلّمية الحكم تخيّلوا صحة المدرك وذلك لاستبعاد تورّطهم جميعاً في تخيّل صحة المدرك، لولا أنّ مسلّمية الحكم هي التي أوحت إلى أذهانهم المباركة بذلك.


(1) الجزء 1، بحث المعاطاة، الصفحة 81 فصاعداً.

(2) الجزء 4، بحث المعاطاة، الصفحة 154 فصاعداً.

314

أو بدعوى انّه إن كان مدركهم للحكم هو الأمر الفلاني فهذا بنفسه دليل علىصحة المدرك وإنّ ما يتراءى لنا من ضعف في الدلالةِ أو السند مثلا لم يكن مطابقاً للواقع وذلك لاستبعاد خطائهم جميعاً في الاستناد إلى ما نفترضه من المدرك الباطل.

قد تقول: إنّ الأقوال الواصلة لنا من القدماء إن هي إلّا أقوال قليلة فكيف نستطيع أن نستفيد منها حصول الإجماع أو الشهرة وقتئذ؟! ولكن قد يقال في قبال ذلك: إنّ المسألة لو كانت خلافيّة وقتئذ فافتراض ان اولئك الذين وصلت أقوالهم إلينا كلّهم كانوا صدفة من طرف واحد بعيد بحساب الاحتمالات، وبهذا نحدس قيام الإجماع أو الشهرة على الرأي الذي لم يصلنا غيره.

وعلى أيّة حال فقد قال الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في المكاسب(1): المشهور بين علمائنا عدم ثبوت الملك بالمعاطاة بل لم نجد قائلا به إلى زمان المحقق الثاني الذي قال به ولم يقتصر على ذلك حتى نسبه إلى الأصحاب.

وقال العلاّمة في التذكرة: الأشهر عندنا انّه لا بد منها (يعني الصيغة) فلا يكفي التعاطي في الجليل والحقير مثل اعطني بهذا الدينار ثوباً، فيعطيه ما يرضيه أو يقول: خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه، وبه قال الشافعي مطلقاً لأصالة بقاء الملك وقصور الأفعال عن الدلالة على المقاصد. وعن بعض الحنفية وابن شريح في الجليل، وقال أحمد ينعقد مطلقاً، ونحوه قال مالك، فانّه قال ينعقد بما يعتقده الناس بيعاً(2).


(1) المكاسب 1: 83، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(2) راجع المكاسب 1: 82، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

315

وقال في التحرير: الأقوى أنّ المعاطاة غير لازمة بل لكل منهما فسخ المعاوضة ما دامت العين باقية فان تلفت لزمت(1) وهذا وإن كان ظاهره الأوّلي هو حصول الملك المتزلزل ولكنه قصد بذلك الإباحة بدليل قوله بعد ذلك: ولا يحرم على كل منهما الانتفاع بما قبضه، بخلاف البيع الفاسد(2) إذ لا يبقى موضوع لهذا الكلام لو قلنا بإفادتها للملك.

وقال الشيخ في الخلاف: إذا دفع قطعة إلى البقلي أو الشارب فقال: اعطني بها بقلا أو ماءً فأعطاه فإنّه لا يكون بيعاً، وكذلك سائر المحقرات، وإنّما يكون إباحة له فيتصرف كل منهما فيما أخذه تصرفاً مباحاً من دون أن يكون له ملكه، وفائدة ذلك أن البقلي إذا أراد أن يسترجع البقل أو أراد صاحب القطعة ان يسترجع قطعته كان لهما ذلك لان الملك لم يحصل لهما، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يكون بيعاً صحيحاً وإن لم يوجد الإيجاب والقبول وقال ذلك في المحقرات دون غيرها، دليلنا أن العقد حكم شرعي ولا دلالة له في الشرع على وجوده هنا، فيجب ان لا تثبت، وأمّا الإباحة بذلك فهو مُجمع عليه لا يختلف العلماء فيها(3).

هذا وقد يستشهد ببعض الشواهد على كون المسألة لدى القدماء خلافية ولم يكن وقتئذ إجماع على عدم إفادة المعاطاة للملك من قبيل:

1 ـ الكلام المنقول عن المُقنعة للمفيد (رحمه الله) قال: البيع ينعقد عن تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعاً وتراضيا بالبيع وتقابضا وافترقا


(1) راجع المكاسب 1: 83، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(2) راجع المكاسب 1: 83، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(3) راجع المكاسب 1: 81 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

316

بالأبدان(1). حيث يبدو للذهن في أوّل وهلة من هذا الكلام أنّ المفيد (رحمه الله) أفتى بإفادة المعاطاة للملك اللازم إذ لم يذكر شرط الصيغة في هذا الكلام نهائياً مع انّه بصدد ذكر شروط انعقاد البيع.

ولكن من المحتمل أنّ المفيد (رحمه الله) كان يرى أنّ الصيغة هي قوام العقد وأصله، وكان بصدد بيان الشرائط التي يجب أن تقترن بهذا العقد حتى يصحّ العقد ويلزم، ولذا ذكر الرضا والقبض والافتراق ولم يذكر أصل الصيغة.

2 ـ ما مضى من كلام الشيخ (رحمه الله) في الخلاف حيث لم يستند في إثبات مدّعاه من إفادة المعاطاة للإباحة دون الملك بالإجماع، رغم تعوّده في الخلاف على الاستدلال بإجماع الفرقة وإنّما استند في ذلك إلى دعوى الإجماع على الإباحة وعدم دلالة في الشرع على أزيد منها وهو الملك، وتراه قد استدل على قضية ثانوية في كلامه، وهي إفادة المعاطاة للإباحة بالإجماع ولم يستدل على القضية الأصلية وهي عدم إفادتها للملك بالإجماع، فهذا دليل على أنّه لم يكن يعتقد بثبوت الإجماع على عدم الملك.

ويمكن أن يناقش في ذلك باحتمال أنّ الشيخ (رحمه الله) كان بصدد ذكر دليل مقنع للعامّة حيث ذكر رأي أبي حنيفة وأصبح بصدد ردّه. ومن الواضح انّ اجماع الفرقة لا يقنع العامة فاستدل بأصالة عدم الملك بعد فرض الإباحة مجمعاً عليها بين المسلمين.

ولكن الإنصاف أنّ كلامه (رحمه الله) لا يخلو من إشعار بعدم ثبوت الإجماع، إذ لو كان يرى الإجماع ثابتاً لكان يتمسك به للشيعة وباصالة عدم الملك لتمام


(1) راجع مفتاح الكرامة 4: 160.

317

المسلمين، فانّك ترى أنّ دأبه في الخلاف هو التمسك بإجماع الفرقة وأخبارهم بعد ذكره لآراء العامة في كثير من المسائل.

3 ـ ما مضى عن العلاّمة في التذكرة من قوله: (الأشهر عندنا أنّه لا بدّ منها) أي من الصيغة، فهذا يدل على وجود رأي مشهور في قِبال الأشهر، وهو القول بعدم اشتراط الصيغة وكفاية المعاطاة في حصول الملك.

ولكنّ العلاّمة من المتأخرين ويحتمل أن يكون المشهور الذي ينظر إليه من المتأخرين، فهذا لا ينافي دعوى الإجماع على عدم الملك لدى المتقدمين.

إلّا أنّه رغم كل ما ذكرناه لا يتم الاستدلال بالإجماع في المقام على عدم إفادة المعاطاة للملك، فإنّ الذي يكسر الحدس بكون حكم الشرع هو عدم إفادتها للملك مجموع اُمور:

1 ـ ما مضى من كلام الشيخ في الخلاف الذي لا يخلو من إشعار بعدم الإجماع على ذلك.

2 ـ سيرة المتشرعة أو سيرة العقلاء على أقلّ تقدير، فإنّها تبطل فرض وضوح الحكم بعدم الملك خلفاً عن سلف، إذ لو كان الأمر كذلك لانكسرت سيرة المتشرعة ولم تنكسر، أو لكان لا بدّ من تكثّر النصوص ضدّ السيرة العقلائية وعدم الاكتفاء بوضوح متوارث ولم يرد نصّ من هذا القبيل.

3 ـ من المحتمل أن مقتضى طبيعة سير الفقه ونموّه بمرور الزمن هو التدرج في شرائط العقود من التضييق إلى التوسعة باتساع الاُمور وتعقّدها، فسهولة الحياة وبساطتها كأن توحي إلى الاتجاه نحو الاحتياط والتضييق والاقتصار على المتيقن. ولكن تعقّد الاُمور بالتدريج زائداً نفس مرور الزمن الموجب لنموّ العلم أدّيا إلى انقلاب الرأي في الفقه من التضييق إلى التوسعة، ويشهد لذلك تقدّم فقه

318

السنّة على فقه الشيعة في الاعتراف بمملكية المعاطاة باعتبار اختلاف فقه السنّة عن فقه الشيعة في الأمر الثاني، وهو مرور الزمن، لأنّ البحث الفقهي لدى السنّة أقدم تاريخياً منه لدى الشيعة على أثر انقطاع عصر النصوص لدى السنّة قبل انقطاعه لدى الشيعة.

وهذا الذي ذكرناه يصلح نكتة مشتركة لتورّط الجميع في الخطأ وبهذا ينكسر الحدس بثبوت الحكم الشرعي من وراء هذا الإجماع.

عدم شمول الإطلاقات لموردين:

الأمر الثاني ـ أنّ إطلاقات اللزوم لا تشمل موردين:

أوّلا ـ موارد ثبوت الخيار عقلائياً كخيار العيب أو الغبن أو التدليس ونحوها لانصرافها عن عقد لا يقبل العقلاء لزومه كما أنّ من الواضح عدم إمكان إثبات اللزوم في مثل ذلك بالسيرة. أمّا استصحاب الملكية فيجري في المقام ويثبت اللزوم بقطع النظر عن دلالة السيرة أو مثل قاعدة لا ضرر أو أيّ دليل خاص على عدم اللزوم.

ثانياً ـ موارد العقود المسمّاة في مصطلح المحقق النائيني (رحمه الله) بالعقود الاذنيّة، وهي التي يكون قوامها بذات الاذن كالعارية والوديعة والوكالة وهي في الحقيقة ليست شروطاً ولا عقوداً بمعنى الالتزام في مقابل الالتزام، أو القرار المرتبط بالقرار فلا معنى لشمول مثل أوفوا بالعقود لها. كما أنّه لا سيرة تدل فيها على اللزوم ولا الاستصحاب يجري في المقام لانّ قوامها بالإذن وبانتفائه يتبدّل الموضوع في فهم العرف.

أمّا الهبة فإنْ فسّرنا العقد بالالتزام في مقابل الالتزام فهي ليست عقداً، لعدم وجود التزام من قِبَل المتهب في غير الهبة المعوضة والمشروطة فلا تشملها

319

الإطلاقات فينحصر دليل اللزوم في السيرة والاستصحاب لولا دليل خاص يرفع اللزوم.

وإن فسّرنا العقد بقرار مرتبط بقرار، فعندئذ لو قلنا:

إنّ الهبة تمليك مجاني فهي عقد وتشملها الإطلاقات، ولو قلنا إنّها مجرد رفع المانع عن تملك المتهب للعين بالحيازة. إذن ليست عقداً وإنّما هي من سنخ الاعراض بناءً على تفسير الاعراض برفع المانع عن تملك الآخرين للمال بالحيازة. ولكنّ الهبة اعراض مضيّق وفي مقابل المتهب فحسب، بخلاف الاعراض الكامل.

وعلى أيّة حال فدليل اللزوم في الهبة ينحصر عندئذ بالسيرة والاستصحاب ما لم نفرض دليلا خاصاً على عدم اللزوم رادعاً عن السيرة وحاكماً على الاستصحاب.

وأمّا القرض لمدة معينة فان قلنا انّه إذن في التملك مع الضمان فليس عقداً ولكن تكفي السيرة والاستصحاب لإثبات لزومه. وإن قلنا بانّه تمليك بضمان فهو عقد سواء فسّر العقد بالالتزام في مقابل الالتزام أو بقرار مرتبط بقرار وتشمله الإطلاقات.

وقد عدّ الاستاذ الزرقاء من العقود الجائزة التحكيم إلى غير القاضي(1)فيجوز التراجع عنه قبل الحكم. وطبيعي انّنا إنْ عددنا ذلك من العقود فهو عقد اذني. وعدّ ايضاً منها الوصية(2). وقد قصد بالعقد هنا ما يعم موارد الانشاء في مصطلحنا أو موارد الإرادة المنفردة في مصطلح الفقه الغربي.


(1) و (2) راجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 1: 487، الفقرة 200 بحسب الطبعة الثامنة.

320

وعلى أيّة حال فلو عدّت الوصية من العقود فمن الواضح كونها من العقود الاذنية.

هذا تمام ما أردنا أن نبحثه في مدى تواجد الإطلاقات في أدلة العقود، ويليه البحث عن أركان العقد وشروطه إن شاء الله.

321

 

 

فقه العقود

 

الفصل الثاني

أركان العقود وشرائطها

 

 

 

1 ـ مع الفقه الوضعي في أركان العقد.

2 ـ الإرادة.

3 ـ الإبراز.

4 ـ المتعاقدان.

5 ـ محلّ العقد.

323

 

 

 

 

 

 

 

مقدّمة:

لئن سمّينا مراكز شروط العقود بأركان العقود لصحّ القول ـ وفق ما تعارف لدى الأصحاب من ترتيب ذكر الشروط ـ بأنّ أركان العقد ثلاثة:

1 ـ صيغة العقد.

2 ـ المتعاقدان.

3 ـ العوضان.

حيث نرى أنّ الأصحاب يبحثون تارة عن شروط صيغة العقد، واُخرى عن شروط المتعاقدين، وثالثة عن شروط العوضين.

ولئن سمّينا ما بها قوام العقود بأركان العقود أمكن القول أيضاً بأنّ أركان العقد ثلاثة: صيغة العقد، والمتعاقدان، والعوضان.

وأنا أقترح افتراض أركان العقد أربعة:

1 ـ إرادة المضمون.

2 ـ إبرازها سواء كان باللفظ أو بأيّ مبرز آخر.

3 ـ المتعاقدان.