365

سبحانه أو إزالته من صفحة الوجود وإن شئت فقل إنّ الدليل الثالث إذا فرض وجوب دفع المنكر فيه عقلياً لا شرعياً مع الدليل الأوّل في واقعهما ينبغي أن يكونا دليلا واحداً، ولا يتصور لايجاد سبب المعصية قبح مستقل عن قبح ترك دفع المنكر ولذا لا نحسّ فيمَن أوجد سبب المعصية باشتداد القبح نتيجة صدق كلا العنوانين على ما هو مقتضى الاستدلال بكلا الدليلين، فلئن فسّرنا هذا الدليل الأوّل بتفسير معقول وهو التفسير الراجع إلى أحد شقيّ الدليل الثالث، أعني وجوب دفع المنكر عقلا كان لإيراد هذا النقض عليه مجال. هذه هي النقائض الثلاثة التي يمكن إبرازها بلحاظ هذا الدليل.

أمّا النقض الأوّل ـ وهو عدم شموله للبيع الذي يتم بالعقد اللفظي فلم يتعرض له السيد الإمام (رحمه الله) في المقام ولكنه حينما بحث مسألة البطلان بعد فرض الحرمة التفت إلى مسألة الفرق بين البيع اللفظي والبيع المعاطاتي، حيث إنّ ما يحتّم وقوع البيع في طريق تحقق المعصية إنّما هو التسليم لا العقد اللفظي، وذكر أنّ الحرمة في البيع المعاطاتي ثابتة على عنوان منطبق على مصداق البيع المعاطاتي وهو التسليم لا على نفس عنوان البيع حتى تفترض دلالتها على بطلان البيع. وفي البيع اللفظي يقع بعد تمامية البيع التزاحم بين دليل حرمة العنوان المحرّم المنطبق على التسليم ودليل وجوب تسليم المثمن...،(1). ولعله يريد أن يقول: إنَّ عدم بطلان البيع هنا أيضاً واضح لأنّ الحرمة هنا أصلا لم تكن ثابتة على البيع وإنّما كانت ثابتة على التسليم ومزاحمة للوجوب الناشئ من البيع كما ويحتمل أيضاً أن يقول (رحمه الله)بحرمة البيع هنا لكونه مورّطاً للمكلف في التزاحم بين


(1) راجع المكاسب المحرّمة للسيد الإمام 1: 149.

366

وجوب التسليم وحرمة الإعانة على الإثم، أو إيجاد سبب من أسباب المعصية، إذ لو صحّ القول بقبح إيجاد سبب من أسباب معصية الغير صحّ القول أيضاً بأنّ إيجاد ما يورّط نفس الموجد في التزاحم بين تكليفين يضطر إلى مخالفة أحدهما أيضاً قبيح عقلا، فانّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإنْ كان ينافيه خطاباً، والبيع اللفظي هنا من هذا القبيل لأنّه يورّط البائع في التزاحم بين حرمة التسليم بعنوانه سبباً من أسباب معصية المشتري ووجوبه بعنوانه تسليماً للمثمن فيكون هذا البيان جواباً على النقص الأوّل من النقائص التي بيّناها.

إلّا أنّ هذا الجواب مبتن على الإيمان بكون وجوب تسليم المثمن في حدّ ذاته مطلقاً يشمل فرض ما إذا كان المشتري سيصرفه في الحرام، وعلى القول بانّ اجتماع هذا الوجوب مع حرمة التسبيب إلى المعصية من باب التزاحم، وعدم رجوعه أو رجوع مطلق باب التزاحم إلى التعارض وإلّا لتقدم دليل حرمة التسبيب على دليل وجوب التسليم باعتبار تقدم الدليل العقلي على الدليل اللفظي لدى التعارض فلا يصبح البيع مورّطاً للإنسان في التزاحم بين تكليفين، وعلى أيّة حال فالمهم عندي هو النقض الثاني والثالث لانّهما في نظري مدخلان للبحث الحلّي في المقام.

وأمّا النقض الثاني ـ وهو الانتقاض بموارد لا شك بضرورة من الفقه في كون الحكم فيها هو الجواز كالنكاح الذي قد يوجب العلم الإجمالي بتورط بعض الأولاد أو الأحفاد في معصية الله، أو التجارة التي تؤدّي إلى أخذ الظالم للضرائب. فقد أجاب على ذلك السيد الإمام (رحمه الله) بأنّ القبيح عقلا إنّما هو تحصيل الشرائط والأسباب للمعصية لا مطلق ما له دخل في تحقق المعصية كتجارة التاجر العالم بأخذ الظالم للضرائب منه، والنكاح ممّن يعلم بتحقق العصيان من الأولاد أو

367

الأحفاد فمثل هذا ليس قبيحاً لأنّه ليس من قبيل تهيئة الأسباب ولم يذكر (رحمه الله) ما هو المقياس المميز عنده بين المعنى الذي يقصده في المقام بتهيئة الأسباب وغيره، ولعلّه يقصد بذلك التفصيل بين ما يكون من مقدمات إرادة العاصي كتجارة التاجر، والنكاح المؤدّي إلى وجود الولد، وما يكون من مقدمات تحقق الفعل بعد افتراض تمامية الإرادة من غير زاوية وجود الأدوات كإعطاء العصا بيد الظالم الذي يريد ضرب المظلوم فهذا نظير التفصيل الذي ادعاه المحقق النائيني (رحمه الله)في صدق عنوان الإعانة إلّا أنّ مثل هذا التفصيل في المقام لا مورد له لانّنا لو سلّمنا بحكم العقل بقبح تهيئة الأسباب فإنّما نسلّمه برجوعه بروحه إلى دعوى أنّ من وظيفة العبودية والإخلاص للمولى هو تقريب المولى دائماً نحو حصول أغراضه وإخلاء الساحة عمّـا يبغضه المولى ولو كان ذاك المحبوب أو المبغوض من فعل الآخرين، ولا يفرق في ذلك بين ما يكون سبباً وبين المقدمات التي لا ترجع إلى السبب، وإن كان قد يقع الفرق بين مورد ومورد بشدة القبح وضعفه.

والحاصل: أنّ النكتة الفنيّة للفرق بين الموارد المقطوع بالجواز فيها فقهياً وغيرها لم تتضح حتى الآن. وكذلك من ضروريات الفقه جواز المبايعات مع الكفار حيث لا شك في أنّ الكفار الذميين كانوا في زمن المعصومين معاشرين مع المسلمين ومتعايشين معهم في بلادهم وكان بيع المآكل والمشارب والأدوات منهم قائماً على قدم وساق وكان ذلك مورد رضا الأئمة (عليهم السلام) من دون شك مع العلم في نهار شهر رمضان بانّ كثيراً منهم سيصرف هذا المأكل أو المشرب في الإفطار المحرّم، أو العلم بانّ الطعام الذي يأكلونه ينجّسونه بريقهم ثم يأكلون النجس وهم مكلفون بالفروع كالمسلمين.

وأجاب على ذلك السيد الإمام (رحمه الله) بانّ هذه التكاليف غير مُنجَّزة على

368

الكفار عادة وغالباً لانّهم في غير ما شذّ وندر قاصرون وليسوا مقصرين، من دون فرق في ذلك بين عوامهم وعلمائهم، أمّا عوامهم فلعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم، بل هم قاطعون بصحة مذهبهم وبطلان سائر المذاهب نظير عوام المسلمين، وأمّا علماؤهم فالغالب فيهم أنّه بواسطة التلقينات من أوّل الطفولة والنشوء في محيط الكفر صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة بحيث كل ما ورد على خلافها ردّوه بعقولهم المجبولة على خلاف الحق من بدو نشوئهم.

أقول: لو سلّمنا قصورهم رغم انحشارهم مع المسلمين في بلادهم آنذاك فهذا لا يدفع النقض وذلك لانّ العقل لو حكم بقبح تهيئة مقدمة المعصية علينا إلى حدّ الإلزام. فهذا ليس على أساس حقّ ذاك العاصي علينا، أي حق أن لا نسبّب لدخوله نار جهنم مثلا. فانّنا بتهيئة المقدّمة لا نسلب منه الاختيار في التورط في المعصية وعدمه. ولا يكون له بذلك حجة علينا كي يقال: إنّ هذا الحق ينتفي حينما ينتفي تنجز الحكم عليه بقصوره، وانّما كان حكم العقل بذلك علينا على أساس حق المولى تعالى علينا في تقريبه إلى أغراضه المولوية وإخلاء الساحة عمّـا يبغضه وهذا ثابت في المثال المذكور لانّ القصور وعدم التنجز لا يفني الغرض المولوي، فإذا كان الغرض المولوي لا زال ثابتاً في حق القاصر فعليَّ أن لا أورطه فيما يبغض المولى ولا اُهيّىء له أسباب ذلك وحتى إذا قلنا إن نفس جرأة الفاعل على المولى ما يغيظ المولى وقد انتفت بالقصور وعدم التنجز فالهدف الآخر للمولى وهو الهدف الكامن في متعلق الحكم لا زال موجوداً لعدم سقوط الحكم بالقصور. ولئن كان الفاعل غافلا عن ذلك فانّي غير غافل عنه فيجب عليّ الحفاظ عليه بحكم العقل المفروض في المقام.

369

وأمّا النقض الثالث ـ وهو أنّ امتناعنا عن تهيئة المقدمات قد لا يؤدّي إلى إزالة المبغوض لانّ الخمّار سيشتري عندئذ العنب من غيرنا مثلا، فقد مضى أنّ هذا إنّما يرد في المقام بعد فرض إرجاع الدليل الأوّل وهو دعوى حكم العقل بقبح إيجاد سبب المعصية وشرطه إلى أحد شقي ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من الدليل الثالث وذاك الشقّ هو دعوى حكم العقل بوجوب دفع المنكر وانّهما يعودان إلى روح واحدة وهي ضرورة إخلاء صفحة الوجود مما يبغض المولى، تارة بعدم خلق السبب كما في المقام، واُخرى بدفعه فعندئذ نقول: إنّ دفع المنكر حاله حال ما مضى من مثال رفع جسم ثقيل فهو متوقف على تعاون جماعة عليه وبتخلف بعضهم يسقط عن الآخرين بالعجز.

وأجاب السيد الإمام (رحمه الله) عن ذلك في بحثه عن الدليل الثالث بأنّ هناك فرقاً بين وجوب دفع المنكر ووجوب رفع جسم ثقيل من الأرض وهو أنّ رفع الجسم الثقيل ليس له إلّا مصداق واحد يقوم به الكل ولا ينحل حكمه إلى أحكام استقلالية بعدد مصاديق كثيرة له. فإذا امتنع البعض عن التعاون في تحقيق هذا المصداق فقد عجز الآخرون عن تحقيقه وسقط الحكم عنهم لا محالة. وأمّا في المقام فدفع المنكر وإنْ كان أيضاً ليس له عدا مصداق واحد متقوّم باتفاق الكل على عدم بيع العنب من هذا الخمّار مثلا ولكن إذا وجب هذا الدفع فقد حرم نقض الدفع، إمّا بعنوان أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ شرعاً، وإمّا بلحاظ أنّ العقل يحكم بقبح الضد العام للواجب بلا إشكال، فإذا وجب الصوم مثلا قبح تركه وعوقب المكلف على تركه بلا كلام، ولئن لم يكن لدفع المنكر في المقام عدا مصداق واحد فلضدّه العام وهو نقض الدفع مصاديق كثيرة فبيعي للعنب إيّاه نقض للدفع وبيع الشخص الآخر له إيّاه مصداق آخر لنقض الدفع وبيع الثالث مصداق

370

ثالث له وهكذا. وحرمة النقض على الكل شبيه حرمة قتل المؤمن على الكل لا وجوب رفع الجسم الثقيل على الكل. ومن الواضح أنّه لا يجوز لأحد قتله بحجة انّني لو لم اقتله لقتله غيري.

وإن شئت قلت: انّ الدفع الواجب إنّما يتحقق العجز عنه بعصيان بعض الجماعة بنقض الدفع فكيف يعقل أنْ نبرّئ من نقضه بالفعل ببيع العنب إيّاه عن المعصية ملقين باللوم على مَن كان ينقض لولا نقض هذا بالبيع وهو بالفعل لم ينقض؟! فتمام الفرق بين ما نحن فيه وبين مثال رفع الجسم الثقيل أنّه بمجرد أنْ امتنع البعض عن التعاون في الرفع قد انتقض الرفع فسقط عن الآخرين. وأمّا في المقام فالذي نقض الدفع هو الذي باع العنب بالفعل من الخمّار لا الذي لو كنّا لا نبيعه إيّاه لكان يبيعه إيّاه.

ولو أمر المولى عبيده بدفع السارق عن سرقة ماله وكان ذلك متوقفاً على بقاء الباب مسدوداً يجب على كل واحد منهم دفعه بحفظ سدّ الباب أفهل يجوز لأحدهم فتح الباب للسارق وتمكينه من السرقة حينما يعلم بأنّه لو لم يفعل ذلك فعله عبد آخر؟ !

أقول: قد نفهم من ظاهر دليل لفظي ولو بمعونة المناسبات، أو من الارتكازات المتشرعية أو الارتكازات العقلائية أنّ المولى صبّ الحكم ابتداءً على نقض الدفع فحرّمه بجميع مصاديقه ولو من باب اتخاذ الاحتياط من قِبَل المولى حيث يحتمل خطأ عبده في علمه بانّه لو لم ينقض الدفع لنقضه آخرون وعندئذ لا إشكال في انحلال الحكم إلى أحكام مستقلة وغير مترابطة ابتداء وبلا نظر إلى مسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده العام أو قبح ضدّه العام، ولعلّ مثال دفع السارق يكون من هذا القبيل. أمّا إذا كان مصبّ الحكم ابتداء هو دفع

371

المنكر الذي لا ينحل إلى مصاديق عديدة ويكون حاله حال رفع الجسم الثقيل المتوقف على تعاون الجميع فصحيح أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام أو قبحه ولكن هذا النهي أو القبح تبعيّ لا محالة إعانة بتبع وجوب الشيء فقبل معرفة وظيفة العبد تجاه هذا الضدّ العام يجب أن نعرف ما هو حال أصل الوجوب، وما دام الوجوب متعلقاً بشيء واحد غير انحلالي وهو دفع المنكر فهو لا محالة يسقط عن البعض بفرض عدم تعاون البعض الآخر للعجز عن تحقيقه كالعجز عن رفع الجسم الثقيل عند امتناع البعض عن ذلك وإذا سقط الوجوب لم تصل النوبة إلى حرمة الضد العام أو قبحه، فلو وجد أحد صمّم على بيع العنب على تقدير عدم بيع الآخرين كان هو العاصي لا محالة لا من باعه بالفعل على أثر علمه بتصميم ذاك.

وقد تحصّل بكل ما ذكرناه أنّ النقض الثاني والثالث لا جواب عليهما.

أمّا حلّ المسألة فهو أنّ الحق الإلزامي الثابت للمولى الحقيقي سبحانه وتعالى على العبد عقلا إنّما هو أحد أمرين أو كلاهما:

1 ـ حق تحقيق أهدافه المولويّة وإخلاء الساحة عمّـا يبغضه.

2 ـ حق تبجيله واحترامه بتحقيق ما اعتقد كونه من أهدافه ولو خطأ، وإخـلاء الساحة عما اعتقد كونه مبغوضاً له ولو خطأ وعدم الجرأة عليه بخلاف ذلك.

فإنْ آمنّا بالحق الثاني فحسب ولم نؤمن بالأوّل من دون إرجاعه إلى الثاني تساوى المتجري والعاصي في العقاب، وإنْ آمنّا بالحق الأوّل فحسب، أي باختصاص الحق بصورة الموافقة للواقع ثبت العقاب على العاصي دون المتجري، وإنْ آمنّا بهما معاً بأنْ افترضنا أنّ ذات الوصول ولو خطأ يوجب الحق وموافقة

372

الوصول للواقع يوجب حقاً آخر كان المتجري مستحقاً للعقاب والعاصي أشدّ استحقاقاً له.

وعلى أية حال فحق المولى الإلزامي لا يخلو من أحد هذين الأمرين، إمّا حق تحقيق الأهداف المولويّة وإخلاء الساحة ممّا يبغضه، وإمّا حق التبجيل والاحترام وعدم الهتك والتجري. والقاسم المشترك الذي ينصبّ عليه الحقّان هو الأهداف المولوية إمّا بوجودها العلمي كما في الحق الثاني من دون دخل للواقع في ذلك أو بقيد ثبوتها في الواقع كما في الحق الأوّل، وقد افترضنا في المقام أنّ هذين الحقين لا يختصان بمن خُوطب بالأهداف والأغراض المولويّة المبرزة بل يشملان الأهداف والأغراض المولوية المبرزة لشخص آخر فيقبح عقلا مساعدة ذاك الشخص الآخر على المخالفة ويجب دفعه عن المعصية.

وعلى أيّة حال فمصبّ كلا الحقين كما عرفت هي الأهداف والأغراض المولوية المبرزة سواء اشترطنا وجودها الواقعي أو اكتفينا بالوجود العلمي، فكل تبدّل في الأهداف المولويّة في الواقع أو في مرحلة العلم أو وجود مزاحم يغلبه أو يكسره يؤثر على الحق وعلى قبح الفعل أو الترك ويكسره. وأمّا ما نقوله من أنّ قبح معصية المولى ذاتي لا يمكن أن ينفكّ عنها فانّما هو لأجل أنّه أخذت لغةً في مفهوم المعصية تمامية الغرض المولويّ وعدم ابتلائه بمزاحم يكسره، أمّا لو انتفى الغرض المولوي أو انكسر بسبب المزاحم لم تكن هناك معصية ولم يكن قبح في المقام.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ سريان الحق المولوي والقبح العقلي ممّن وجّه إليه الخطاب إلى غيره وعدمه ليس أمراً دائمياً، بل يختلف باختلاف عدة نكات فقد يسري وقد لا يسري وذلك لانّنا بعد أن التفتنا إلى أنّ الحق المولوي مصبّه هو

373

الغرض المولوي ولو بوجوده العلمي يجب أن نحسب حساب دخل عمل الغير فعلا وتركاً في هذا الغرض والمزاحمات التي تزاحم ذاك الغرض في دائرة فعل الغير وهذا الحساب ينبّهنا إلى عدّة نكات في المقام:

الاُولى: انّ الملاك الإلزامي الموجود في متعلق الحكم المتوجّه إلى شخص قد يزاحمه ملاك الترخيص بلحاظ الشخص الآخر المساعد له في بعض المقدمات لما حققناه في محله من أنّ الحكم الترخيصي ليس دائماً ناشئاً من عدم الملاك في الإلزام بل قد يكون ناشئاً من ملاك في الترخيص، فقد تكون في ترخيص صاحب العنب في بيع عنبه ولو من الخمّار مصلحة تزاحم مفسدة التخمير وتسقط تلك المفسدة عن تأثير مفسدة التخمير في تحريم بيع العنب من المخمّر.

الثانية: انّ ملاك متعلق التحريم قد يزاحمه ملاك تلك المقدمة. أي أنّ المزاحمة تقع بين ملاكي المتعلقين لا بين ملاك متعلق التحريم وملاك الترخيص كما في النكتة الاُولى ومثاله: هو أنْ نفترض أنّ مفسدة معصية الأولاد أو الأحفاد زاحمت مصلحة النكاح فإمّا أن مصلحة النكاح لم تكن إلى حدّ الإلزام ولكن المقدار الذي تفوق عليها مفسدة المعصية ليس بمستوى يوجب الإلزام بترك النكاح، أو أنّ مصلحة النكاح في حدّ ذاتها كانت بمستوى الإلزام وغلبت تلك المفسدة وتنزّلت على أثر هذا التزاحم من مستوى الوجوب إلى مستوى الاستحباب. أو أنّ الوجوب كانت تعارضه مصلحة في عدم الإلزام بالنكاح على ما أشرنا إليه من أنّ الترخيص وعدم الإلزام ليس دائماً نتيجة عدم ملاك في الإلزام بل قد يكون نتيجة ملاك في عدم الإلزام.

الثالثة: انّ ترك المقدمة قد لا يكون له أيّ دخل في تقريب المولى إلى غرضه لأنّ الخمّار سيشتري العنب عندئذ من شخص آخر ولم تكن أهميّة الغرض

374

بمستوى يحتاط المولى في تحريم تهيئة المقدمة حتى على مَن يعلم بعدم تأثير تركه لها في إزالة المعصية باعتبار أنّ المولى يحتمل خطأ العبد في علمه أحياناً.

الرابعة: انّ ترك المقدمة قد لا يكون له أيّ دخل في تقريب المولى إلى غرضه الإلزامي، لأنّ الأمر المتوجه إلى الشخص الآخر كان نتيجة مصلحة في نفس الإلزام كما في الأوامر الامتحانية. أو لأنّ الجزء الأخير من علّة الإلزام كان عبارة عن مصلحة في نفس الإلزام ولا أثر لترك المقدمة من قِبَل الغير في تحقيق هذه المصلحة أصلا، وكون الأمر الإلزامي ناشئاً من مصلحة في الإلزام بحتاً وإنْ كان نادراً وبعيداً، لكن كون الجزء الأخير من علة الإلزام عبارة عن مصلحة في الإلزام ليس بعيداً.

فتحصّل أنّ الوجه الأوّل من وجوه إثبات حرمة تهيئة مقدمات الحرام للغير وهو حكم العقل بقبح ذلك غير صحيح(1).

نعم قد يتفق انّنا نعرف بارتكاز متشرعي أو بارتكاز عقلائي في مورد مّا عدم تحقق شيء من تلك النكات الأربع التي قلنا إنّها لو تحققت منعت عن هذا القبح بتغير موضوعه. وما مضى من مثال سدّ الباب بوجه السارق قد يدخل في هذا الباب أي في باب العلم عادة بعدم تحقق تلك النكات، واحتياط المولى في مقابل احتمال خطأ العبد في علمه، وإن شئت تعبيراً عرفياً عن تلك النكات الأربع أو عن بعضها فهو أنْ يقال: أنّ المطلوب للمولى تارة يكون سدّ جميع الأبواب


(1) وللسيد الإمام (رحمه الله) التفاتة جزئية إلى بعض هذه النكات في المقطع الثاني من مقاطع الصفحة 147 ولعله أيضاً في المقطع الأخير من مقاطع الصفحة 136 من كتابه أعني الجزء الأوّل من المكاسب المحرمة.

375

على تحقق شيء مّا فعندئذ تحرم على الغير تهيئة مقدماته، واُخرى لا يكون المطلوب للمولى عدا سدّ بعض الأبواب وليس منها تهيئة المقدمة من قِبَل الغير فلا تحرم، وهذا التعبير العرفي انّما يكون تامّاً لو رجع بروحه إلى بعض تلك النكات الأربع.

ب ـ التمسّك بآية التعاون:

الوجه الثاني ـ التمسّك بقوله تعالى: ﴿تعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾(1) حيث يقال: إنّ هذه الآية تدلّ على حرمـة الإعانة على الإثم وتهيئة المقدمة لمعصية العاصي إعانة على الإثم على كلام مذكور في الكتب حول مدى سعة وضيق دائرة صدق الإعانة. أفهل هو مشروط بقصد المعين لمساعدته على الإثم أو لا؟ أم هل هو مشروط بقصد المعان للمعصية أو يكفي أنّه سيحصل له هذا القصد بعد تحقق المقدمة؟ أم هل يشترط في صدقها تحقق المعصية بالفعل أو لا؟ أم هل هذا يكون حتى في المقدمات البعيدة أو يختص بالمقدمات القريبة ونحو ذلك من التفاصيل؟

وعن المحقق الإيرواني (رحمه الله) في تعليقه على المكاسب النقاش في أصل التمسك بهذه الآية المباركة في المقام بإيرادين:

الإيراد الأوّل ـ انّ التعاون على البرِّ والتقوى أمرٌ مستحب ومقتضى التقابل بينه وبين التعاون على الإثم والعدوان هو الحمل على التنزيه لا الحرمة.

وأجاب السيد الإمام (رحمه الله) على ذلك بأنّه لو سلّمت في سائر الموارد قرينية بعض الفقرات على الاُخرى لا تسلّم في المقام لأنّ تناسب الحكم والموضوع


(1) المائدة: 202.

376

وحكم العقل ومقارنة الإثم بالعدوان الذي لا شك في حرمة الإعانة عليه كلها شواهد على الحمل على التحريم(1).

أقول: أمّا حكم العقل فقد عرفت حاله وعرفت معقولية عدم حرمة مقدمة الحرام في بعض الموارد فالتعاون بعد فرض حمله على ما يشمل الإعانة بإتيان المقدمة يمكن حمله على التنزيه أو الجامع بين الحرمة والكراهة وكذلك مناسبة الحكم والموضوع أيضاً لا تعيّن الحرمة في جميع موارد التعاون بعد فرض شموله لمثل الإتيان بالمقدمة الذي يناسب كونه مكروهاً كما يناسب كونه حراماً.

وأمّا مقارنة الإثم بالعدوان فان منعت عن الحمل على الكراهة فلا تمنع عن الحمل على الجامع بين الحرمة والكراهة، وهذا يجمع بين وحدة السياق بين الإثم والعدوان من ناحية وبين الأمر بالتعاون في البرِّ والتقوى مع النهي عن التعاون في الإثم والعدوان.

إلّا أنّه رغم كل هذا نقول: إنّ جواب المحقق الايرواني (رحمه الله) غير صحيح لانّ التقابل بين الأمر والنهي يختلف عن اجتماع أمرين أو نهيين في سياق واحد، فاجتماع أمرين أو نهيين في سياق واحد لو اجتمع مع كون أحدهما غير إلزامي أسقط الآخر عن الظهور في الإلزام. وأمّا في التقابل بين الأمر والنهي فمقابلة المبغوض إلى حدّ الحرمة مع المحبوب إلى حدّ الاستحباب، أو المبغوض إلى حدّ الكراهة مع المحبوب إلى حدّ الوجوب أمرٌ مقبول عرفاً كعرفية التقابل بين المحبوب والمبغوض الإلزاميين أو الاستحبابيين بحيث لو كان أحدهما غير إلزامي لم يوجب سقوط الآخر عن الظهور في الإلزام نعم لو لم يكن المفهوم عرفاً


(1) راجع المكاسب المحرّمة للسيد الإمام (رحمه الله) 1: 131.

377

مسألة التقابل بل كان المفهوم عرفاً مسألة التناسق كما لو جمع الأمر والنهي من مادتين غير متقابلتين فقال صلّ صلاة الليل ولا تصم يوم عاشوراء فلا يبعد أنْ يقال هنا أيضاً أن عدم إلزامية أحدهما يسقط الآخر عن الظهور في الإلزام، أمّا حينما تفترض المادّتان متقابلتين من قبيل: صم في عيد الغدير ولا تصم في عيد الأضحى، وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وانفق على محبّينا ولا تنفق على مبغضينا ونحو ذلك فالمفهوم عرفاً من أمثال هذه الأمثلة هو قصر النظر على التقابل دون التناسق والتقابل لا يقتضي سقوط أحدهما عن الظهور في الإلزام عند فرض عدم الإلزام في الآخر.

الإيراد الثاني ـ انّ التعاون باعتباره من باب التفاعل يدل على الاجتماع على إتيان المنكر كأن يجتمعوا على قتل النفوس ونهب الأموال بحيث تكون المعصية مستندة إليهم جميعاً، ولا يشمل فرض إعانة الغير على الحرام عندما يكون الحرام مستنداً إلى الغير مستقلا ويكون دور المعين تهيئة الأسباب والمقدمات فحسب.

وتبعه على ذلك السيد الخوئي مدعياً ـ على ما يبدو من ظاهر تقرير بحثه(1) ـ أنّ الإعانة تختص بما إذا كان المعان أصيلا يسند إليه الفعل والمعين غير أصيل ولا يسند إليه ذات الفعل وانّما تسند إليه المقدمة أو التسبيب، ويكون التعاون على العكس من ذلك فانّه يختص بما إذا كانا معاً أصيلين بان يشتركا في الفعل ويسند الفعل إليهما معاً.

وأمّا ما عن المحقق الإيرواني بالمقدار المنعكس في المكاسب المحرمة


(1) راجع مصباح الفقاهة 1: 180، والمحاضرات 1: 134.

378

للسيد الإمام (رحمه الله)(1) فهو لا يشتمل إلّا على الدعوى الثانية وهي اختصاص التعاون بما إذا كانا أصيلين وشريكين في الفعل، وهذه الدعوى إنْ تمّت فهي كافية لإثبات المطلوب سواء تمّت الدعوى الاُولى وهي اختصاص صدق الإعانة بما إذا كان المعان أصيلا والمعين مساعداً له بلحاظ المقدمات أو لم تتم بان قلنا بصدق الإعانة حتى فيما إذا كانا معاً أصيلين وشريكين في الفعل فانّه على أيّة حال لو حملت الآية على فرض كونهما أصيلين وشريكين في نفس الإثم ولم تشمل فرض تهيئة المقدمات ثبت المطلوب من عدم حرمة الإعانة بتهيئة المقدمات سواء سمّي الاشتراك في ذات الإثم أيضاً إعانة أو لا.

وعلى أيّة حال فلا ينبغي أن يورد على هذا الوجه بأنّ الآية وإنْ دلّت على حرمة التعاون الذي هو من الطرفين ولكن لا إشكال في دلالتها أيضاً على حرمة الإعانة من طرف واحد وذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾(2)أفهل يمكن أنْ يقال: إنّ هذه الآية انّما حرّمت التنابز من الطرفين أمّا النبز من طرف واحد فلم تثبت حرمته بهذه الآية.

أقول: هذا الإيراد لا مجال لتوهمه في المقام فإنّ مقصود المحقق الايرواني والسيد الخوئي ليس بيان الفرق بين الإعانة من طرف واحد والتعاون بمجرّد أنّ التعاون إعانتان من طرفين فإذا حرمتا لم تحرّم الإعانة من طرف واحد، ولو كان هذا هو المقصود فما أسهل النقض عليه بمثل دليل حرمة التنابز الذي لا شك في دلالته على حرمة النبز من طرف واحد أيضاً، وما أسهل الحلّ بالالتفات إلى أنّ


(1) راجع المكاسب المحرمة للسيد الإمام 1: 131.

(2) الحجرات: 11.

379

أدلّة الأحكام ظاهرة في الانحلال فكما يكون قوله: «صلّوا» إيجاباً للصلاة على كل واحد من المكلفين مستقلا فلا تسقط الصلاة من أحد بترك الآخرين كذلك يكون قوله: «لا تنابزوا» أو لا تعاونوا تحريماً للنبز أو الإعانة من كل واحد منهما مستقلا سواء صدر من الآخر أيضاً أو لا.

وانّما المقصود للمحقق الايرواني والسيد الخوئي هو أنّ ما يصدر من المتعاون مباين لما يصدر من المعاون الواحد لانّ التعاون كان من باب التفاعل ودلّ على صدوره من الطرفين وهذا يستحيل أن يكون بمعنى كون كل منهما مهيئاً للمقدمات للآخر إذْ لا بد من وجود أصيل على أيّ حال، فلا بد أن يكون بمعنى اشتراكهما في الفعل واستناد الفعل إليهما وكونهما معاً أصيلين ولا إشكال في أن الاشتراك في ذات الإثم أشدّ من تهيئة المقدمات وتحريم الأوّل لا يدل على تحريم الثاني.

وقد أشكل السيد الإمام (رحمه الله) على ذلك:

أولا بأنَّ التعاون ليس بمعنى الاشتراك في الفعل فانّ مادة التعاون والإعانة واحدة وليست الإعانة إلّا بمعنى تهيئة الأسباب والمقدمات فلا بد أن يكون معنى التعاون عبارة عن تهيئة الأسباب والمقدمات من كلا الطرفين ويكون ذلك بأنْ يهيّئ أحدهما للآخر مقدمات فعله ويهيّئ الآخر لهذا مقدمات فعل آخر له لا أن يكونا معاً شريكين في فعل واحد وإلّا لزم تغيّر معنى المادّة حينما دخلت عليها هيئة التفاعل بينما ليست وظيفة هيئة التفاعل عدا إفهام أن نفس المعنى المقصود بالمادة صادر من كلا الطرفين كل بلحاظ الآخر دون تغيير معنى المادة، فالتعاون في الإثم إذن يعني أن أحدهما هيّأ مقدمات إثم للآخر والآخر هيّأ مقدمات إثم آخر للأوّل ولا يعني اشتراكهما في إثم واحد.

380

وثانياً بانّه لو تنزّلنا وسلّمنا صدق التعاون على الاشتراك في إثم واحد فلامبرر لنفي صدقه على إعانة كل واحد منهما للآخر في إثم غير إثم الآخر، إذن فالآية دلّت على حرمة الإعانة بمعنى تهيئة مقدمات الإثم للآخرين وهو المقصود.

أقول: أمّا اختصاص صدق الإعانة بما إذا كان المعان أصيلا والمعين غير أصيل بان يكون دوره دور تهيئة المقدمات دون الاشتراك في أصل العمل (وهذا هو صريح كلام السيد الإمام وظاهر كلام السيد الخوئي) فهو غير مقبول فكما أنّ مساعدة الشخص على عمل بتهيئة مقدماته إعانة له على ذلك العمل كذلك مساعدته عن طريق الاشتراك معه في نفس العمل إعانة له على ذلك فلو قبلنا ما قد يظهر من كلام السيد الخوئي من اختصاص الإعانة بفرض تهيئة المقدمات فقد يتم الإشكال الأوّل للسيد الإمام (رحمه الله) من أن هيئة التفاعل لا تغيّر معنى المادة ولا تبدّله من تهيئة المقدمات إلى الاشتراك في الفعل.

ولكن الواقع أنّ الاشتراك في الفعل أيضاً إعانة فلو فسّر التعاون في الآية بمعنى الاشتراك في الإثم فغاية ما يمكن الإيراد عليه هي أنّ التخصيص بالاشتراك وفرض عدم شموله لتهيئة المقدمات تقييد بلا موجب فالتعاون يشمل الأمرين معاً فتخصيصه بالاشتراك وإن لم يكن تغييراً لمعنى مادة الإعانة من المباين إلى المباين لكنه على أي حال تقييد لها بما هو أخص من معناها الأصلي وهذا يعني الرجوع إلى الإشكال الثاني من إشكالي السيد الإمام، فالإشكال الأوّل حتى لو كان مسجلا على السيد الخوئي فهو غير مسجل على المحقق الايرواني بالمقدار المنعكس من كلامه في عبارة السيد الإمام حيث لم يشتمل على دعوى اختصاص الإعانة بتهيئة المقدمات.

وإذا انحصر الأمر في الإشكال الثاني أمكن الجواب عليه بأنّ الإعانة وإن

381

كانت مطلقة تشمل مساعدة الغير بتهيئة مقدمات عمله ومساعدته بالاشتراك معهفي ذات العمل ولكن التعاون في هذه الآية مقترنة بقرينة قيّدت هذا الإطلاق وتلك القرينة عبارة عن ذكر مصبّ للتعاون حيث جاء في الآية المباركة: ﴿تعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾(1) ومتى ما يذكر مصبّ للفعلين المتقابلين في باب التفاعل من قبيل تضارب زيد وعمرو في البيت أو تضاربا في يوم الخميس ونحو ذلك يكون الظاهر العرفي من ذلك وحدة المصبّ لكلا الفعلين فمعنى قوله: تضارب زيد وعمرو في البيت هو انّهما تضاربا في بيت واحد ولا ينطبق هذا الكلام على ما إذا ضرب أحدهما الآخر في بيت والآخر ضربه في بيت آخر، وكذلك لا ينطبق قوله تضاربا في يوم الخميس على ضرب أحدهما لصاحبه في خميس وضرب الآخر لصاحبه في خميس آخر، بل ظاهره التضارب في خميس واحد، وكذا الحال في المقام فمعنى التعاون على إثم هو تعاونهما على إثم واحد، وهذا لا يتصور إلّا باشتراكهما في ذات الإثم.

بل إن عنوان التعاون والإعانة بما أنهما من المفاهيم ذات الإضافة الى المعان عليه أي يكون فرض لحاظ إضافته إلى المعان عليه مأخوذاً في حاقّ لفظه فحتى لو لم يذكر المتعلق في الكلام لا يفهم من التعاون إلّا معنى الاشتراك في عمل واحد.

ولا يقال: إ نّه يصدق على كل معين ومعان انّهما تعاونا في الفعل الذي فعله المعان فلو أنّ أحداً أخذ زيداً بيده كي لا يهرب من القتل والآخر قتله صدق انّهما تعاونا على القتل ففاعل المقدّمة يصدق عليه عنوان المتعاون ويكون فعله حراماً


(1) المائدة: 202.

382

بحكم الآية وقد أعان كل واحد منهما الآخر على قتل زيد فصدق التعاون رغم عدم اشتراكهما في القتل واختصاص فعل القتل بأحدهما دون الآخر.

فإنّه يقال: انّه قد أخذ في مفهوم الإعانة والتعاون أن يكون المعان أصيلا في الفعل ويكون الفعل منتسباً إليه حقيقة فلو اشتركا في العمل وانتسب العمل إليهما معاً فقد أعان كل منهما صاحبه وحصل التعاون بينهما على الفعل أمّا لو كان العمل مستنداً حقيقة إلى أحدهما فقط فالآخر هو الذي أعانه على هذا العمل وليس هذا قد أعان ذاك على هذا العمل إذ لم يصدر هذا العمل منه كي تفترض إعانة صاحبه إيّاه في هذا العمل ففي المثال المذكور يكون مَنْ أخذ زيداً بيده هو الذي أعان صاحبه على قتل زيد وليس صاحبه قد أعانه على قتل زيد إذ هو لم يقتل زيداً حتى يصدق أن صاحبه أعانه على هذا القتل وان صحّ التعبير في مثل ذلك بعنوان (تعاونا على قتل زيد) مجازاً.

ولو فرض تنزّلا صدق التعاون في ما إذا كان دخل المعين في الفعل كبيراً كما في مثال حبس زيد بيده كي يقتله صاحبه فهو لا يصدق في فرض ضعف الدخل كما في بائع العنب ممّن يصنعه خمراً واحتمال الفرق في الحرمة وعدمها بينهما وارد لانّ دخل الأوّل في الإثم أشدّ من الثاني (وطبعاً ما ذكرناه إنما هو من باب المثال وإلّا فلا شك في حرمة الإعانة على القتل وانّما كلامنا في الإعانة على الإثم الذي ليس ظلماً للآخرين).

والحاصل أنّ كلمة التعاون حتى لو جرّدت عن ذكر المصبّ تفهم منها وحدة مصب الإعانتين.

ولا تُقاس بمثل كلمة التواهب حيث لا تفهم منها وحدة مصبّ الهبتين رغم أنّ الهبة أيضاً من المفاهيم ذات الإضافة إلى الموهوب أي أنّه لوحظ فيها لغة

383

فرض إضافتها إلى ما يوهب وذلك لأنّ الهبتين الفرضيتين يستحيل أن تنصبّا على مصبّ واحد بخلاف الإعانتين فانّهما تنصبان عند الاشتراك في عمل على مصبّ واحد، نعم الهبتان الطوليتان أي ما تحقق احداهما موضوع الآخر يمكن أن تنصب على مصب واحد بأنّ يهب أحدهما المال للآخر ثم يهبه الآخر للأوّل، ولكن كلمة التواهب لا تنصرف إلى فرض نادر من هذا القبيل.

وقد تحصّل بكل ما ذكرناه أنّ هذا الوجه الثاني لإثبات حرمة تهيئة مقدمات المعصية للعاصي أيضاً غير تام لعدم صدق التعاون في المقام إطلاقاً. وبعد هذا لسنا بحاجة إلى البحث عمّـا بحثوه في المقام في حدود دائرة صدق الإعانة وأنّه هل إنَّ صدقها مشروط بالقصد أو بالعلم أو بتحقق المعصية خارجاً أو نحو ذلك أو لا؟ إذْ انّ هذه الإعانة على كل تقدير هي غير التعاون الذي نهت الآية الشريفة عنه.

نعم لا بأس بأن نشير إلى أنّ السيد الإمام (رحمه الله) اشترط في صدق الإعانة القصد بأن يكون المعين قاصداً لتحقق الفعل من المعان ومن هنا وقع الإشكال عنده في تمامية إطلاق هذا الوجه فيما نحن فيه فلا إشكال عنده في تماميته حينما يكون الدافع ـ لبائع العنب مثلا ـ إلى البيع هو تحقق التخمير من قِبَل المشتري أمّا حينما لا يكون دافعه إلى البيع ذلك بل إنّما الدافع له حصوله على الثمن مثلا فهنا لا تكون الإعانة صادقة على هذا البيع في نظره الشريف.

وقد حاول تغطية هذا النقص في هذا الوجه ببيانين:

أحدهما عامٌّ لكل موارد تهيئة المقدمات للإثم، والثاني خاصٌ بخصوص الخمر:

أمّا البيان العام فهو دعوى ان قيد القصد ملغيّ عرفاً في المقام (رغم دخله

384

في معنى الإعانة) وذلك بالمناسبات المغروسة في الأذهان بأن يقال: إنَّ الشارع أراد بالنهي عن الإعانة على الإثم قلع مادة الفساد والمنع عن إشاعة الإثم، أو انّ الإعانة تكون عادةً موجبة لتشويق العصاة على عملهم وجرأتهم على الإثم بخلاف ما لو رأى العاصي نفسه وحيداً لا معين له في إثمه فقد توجب الوحدة الوحشة المؤدّية إلى الترك، وكل هذه المناسبات مشترك بين فرض قصد المعين وعدمه فالمفهوم العرفي للحكم في المقام يصبح مطلقاً وشامل لفرض عدم القصد أيضاً.

إلّا أنّ السيد الإمام (رحمه الله) تحفّظ تجاه هذا الوجه وذكر: أنّ إلغاء الخصوصية وفهم العرف من الآية ما ذكرناه لا يخلو من تأمّل، وإنْ لا يخلو من وجه.

وأمّا البيان الخاص بخصوص الخمر فهو دعوى أن حديث لعن غارس الخمر وحارسها وبايعها ومشتريها.. الخ الذي إدّعى السيد الإمام (رحمه الله)استفاضته يدل على تحريم إيجاد كل مقدمة تكون بقصد التخمير فانّ معنى غارس الخمر مَنْ يغرس العنب بقصد التخمير وخصوصية الغرس ملغيّة فشراء العنب بقصد التخمير أيضاً حرام، فإذا حرم شراء المشتري قلنا: إنّ البائع وإنْ لم يقصد ببيعه تحقق التخمير ولكن لا إشكال في أنّه قصد بذلك تحقق الشراء فقد قصد تحقق الحرام وبالتالي صدقت الإعانة على الحرام وأصبح بيعه مشمولا لمفاد الآية الكريمة. هذا لو لم نقل انّنا نستفيد من التشديدات الواردة في ذاك الحديث حرمة إيجاد مقدمة التخمير لمَن علم بذلك ولو لم يكن عن قصد فغارس العنب يحرم عليه ذلك بمجرد علمه بالأداء إلى التخمير، أمّا إنْ قلنا بذلك فقد حرم البيع بمجرد العلم بمقتضى هذا الحديث بلا حاجة إلى ضمّ الآية المباركة. انتهى ما أردنا نقله عن السيد الإمام (رحمه الله).

وعلى أيّة حال فقد عرفت نقاشنا في صدق أصل الإعانة في المقام.

385

ج ـ التمسّك بدليل النهي عن المنكر:

الوجه الثالث ـ هو التمسّك بدليل النهي عن المنكر بدعوى عدم الفرق بين الرفع والدفع سواء فرضنا أنّ وجوب رفع المنكر عقليّ كما وافق عليه السيد الإمام (رحمه الله)أو فرضناه شرعيّاً:

أمّا إذا فرضناه عقليّاً فمن الواضح أن العقل لا يفرّق في الحكم بالوجوب بين رفع المنكر ودفعه.

وما قد يقال من أنّ العقل إنّما يحكم بوجوب رفع المنكر أو دفعه في منكر يكون ذات وجوده في الخارج مبغوضاً للمولى سبحانه كقتل النفس وهتك الأعراض والمشاعر الدينية ونحوها دون ما إذا كان المبغوض حيثية صدوره من فلان فإذا كان المبغوض حيثية الصدور فلا علاقة لذلك بغير من يصدر منه ذاك المنكر. قد أجاب عليه السيد الإمام (رحمه الله) بأنَّ المهم هو أنّ مقتضى عبوديّة العبد أن يحول دون تحقق ما يبغض المولى في نفس دائرة البغض، فإنْ كانت دائرة البغض هي حيثية الوجود فعلى العبد أنْ يحول دون وجود ذاك المنكر، وان كانت دائرة البغض هي حيثية الصدور من فلان فعلى العبد ان يحول دون تحقق ذاك الصدور وليس من المعقول اختلاف حكم العقل بوجوب المنع عمّـا يبغض المولى بمجرد اختلاف مصبّ البغض من حيث الوجود إلى حيثية الصدور.

أقول: إنّ إشكال السيد الإمام (رحمه الله) على التفصيل بين مبغوضية حيثية الصدور ومبغوضية حيثية الوجود بظاهره وارد ولكن إذا كان مقصود المفصّل بين الأمرين هو الإشارة ولو ارتكازاً إلى بعض النكات الأربع التي شرحناها عند إبطالنا للوجه الأوّل لم يرد عليه هذا الإشكال فتكون خلاصة الكلام في التفصيل بين الأمرين أنّ المولى قد يريد سدّ جميع الأبواب على هذا المنكر وهذا هو

386

المقصود بمبغوضية حيثية وجوده، وقد يريد سدّ باب الصدور من قِبَل مَن يصدر منه الفعل وهذا هو المقصود بمبغوضيّة حيثية صدوره، على أن يرجع هذا الإجمال إلى بعض التفاصيل الماضية في بيان النكات الأربع ومن الواضح انّ الاعتراف بحكم العقل بوجوب دفع المنكر في الأوّل لا يلازم الاعتراف بحكمه بذلك في الثاني.

وعلى أيّة حال فقد مضى منّا أنّ الوجه الأوّل إنّما يكون معقولا بعد فرض رجوعه إلى هذا الوجه الثالث عند افتراضه عقلياً، إذن فنستغني عن تعليقنا على هذا الوجه بعد فرضه عقلياً بما مضى منّا من التعليقات على الوجه الأوّل.

وأمّا إذا فرضناه شرعياً فإثبات وجوب دفع المنكر بالدليل الشرعي الدال على وجوب النهي عن المنكر له تقريبان:

أحدهما ـ التمسّك بالدلالة الالتزامية العرفيّة بدعوى أنّه إذا وجب الرفع وجب الدفع لأنّ الفائدة من الرفع إنّما هي الحيلولة دون الحصة الثانية من الوجود أمّا الحصة الاُولى فقد تحققت ولا يمكن إفناؤها ففائدة الرفع إنّما هي عين فائدة الدفع ويفهم عرفاً من وجوب الرفع وجوب الدفع بالالتزام.

وثانيهما ـ التمسّك بالدلالة المطابقية لدليل وجوب الرفع وذلك بدعوى أنّ الرفع مرجعه إلى الدفع لِما قلنا من أنّ رفع الحصة الاُولى من الوجود غير ممكن فالرفع مرجعه إلى دفع الحصة الثانية، إذن فما دلّ عليه الدليل بالمطابقة إنّما هو وجوب الدفع.

وقد أجاب السيد الخوئي على التمسك بأدلّة النهي عن المنكر في المقام بوجهين:

الأوّل ـ انّ دفع المنكر لو وجب إنّما هو مخصوص بصورة الإمكان وهذا إنّما يكون في فرض انحصار حصول المقدمة بعمل هذا الشخص، أمّا لو فرض انّه

387

لو لم يبعه العنب مثلا لباعه شخص آخر فالدفع هنا غير مقدور. وقد مضى منّا بيان مناقشة السيد الإمام (رحمه الله) لهذا الكلام بملاحظة الضدّ العام للدفع الواجب وهو نقض الدفع مع ردّها لدى بحثنا عن الوجه الأوّل فلا نعيد.

والثاني ـ انّ النهي عن المنكر شيء ودفع المنكر شيءٌ آخر، وإيجاب الأوّل لا يثبت إيجاب الثاني وكأنّه وقع في شرح ذلك في مصباح الفقاهة(1) تشويش حيث جاء فيه بيانان للمطلب بتعبير قد يوحي إلى أنّهما بيانان لمطلب واحد بينما هما وجهان:

أحدهما ـ انّ الرفع وإن كان يرجع بالتحليل والتدقيق إلى الدفع لأنّ الحصة الاُولى قد تحققت ولا محيص عنها والحيلولة دون تحقق الحصة الثانية رفع ولكن الأحكام الشرعية وموضوعاتها لا تبتني على التدقيقات العقلية، والدفع في نظر العرف غير الرفع.

وقد أجاب عليه السيد الإمام (رحمه الله) بأنّ دليل وجوب الرفع محمول عرفاً على وجوب مطلق الدفع حسب الارتكازات حتى إذا قلنا بأنّ الدفع عرفاً غير الرفع، وذلك لوضوح أنّ دعوى «أن وجوب النهي عن شرب الخمر مثلا مخصوص بما إذا شرب الجرعة الاُولى أمّا لو لم يشربها فليس علينا نهيه رغم العلم بأنّه عازم على الشرب فلنا أنْ ننتظر إلى أنْ يشرب الجرعة الاُولى ثم ننهاه» أمر غير مفهوم عرفاً حسب الارتكازات من الدليل، فخصوصية الرفع في مقابل الدفع ملغيّة في المقام لدى الفهم العرفيّ لمعنى النّص الدّال على وجوب النهي عن المنكر ورفعه. وهذا الكلام من السيد الإمام (رحمه الله) متينٌ جداً.


(1) 1: 181 و 182.

388

وثانيهما ـ وهو الذي اقتصر عليه في المحاضرات(1): هو أنّ الدليل إنّما دلّ على وجوب النهي عن المنكر لا أكثر من ذلك والنهي عن المنكر عبارة عن زجر الغير ليترك المنكر باختياره ودفع المنكر عبارةٌ عن تعجيزه عنه.

وهذا البيان صحيح فالواقع أنّ وجوب النهي عن المنكر شيء ودفع المنكر شيء آخر فالدليل اللفظي لوجوب النهي عن المنكر لا يشمل دفع المنكر بالدلالة المطابقية كما لا يدل عليه بشكل مطلق بالدلالة الالتزاميّة لأنَّ الملازمة العرفيّة في المقام يختلف تحققها باختلاف الموارد حسب الالتفات إلى النكات الأربع التي شرحناها في بحثنا عن الوجه الأوّل وقد تحصّل بكل ما ذكرناه أنّ شيئاً من الوجوه العامة لإثبات حرمة تهيئة المقدمات للإثم أو الإعانة عليه غير تام.

ولكن هذا لا يمنعنا عن القول بالحرمة في الجملة في موردين:

المورد الأوّل: ما إذا كان هدف المساعد على الإثم في تهيئته للمقدمات هو تحقق الإثم فانْ كان هدفه هو تحقق عنوان الإثم ومعصية الله تعالى فلا إشكال في أنّ هذا من أبرز مصاديق الجرأة على الله ومحاربته ولا ينشأ إلّا من أعلى مستويات الخبث، وإنْ كان هدفه تحقق واقع المعصية أي تحقق التخمير مثلا لغاية له في ذلك ولم تكن الغاية نفس عنوان وقوع المخالفة لله تعالى فهذا في غالب الأحيان يكون أيضاً جرأة على الله وإن كـان بمستوى أقل بكثير من الجرأة في القسم الأوّل وحينما نقيسه بالنكات الأربع الماضية نرى أنّه في غالب الأحيان نحرز بارتكاز متشرعي أو عقلائي الحرمة وعدم وجود نكتة من تلك النكات المانعة عنها.


(1) 1: 135.

389

والمورد الثاني ـ ما إذا كان عالماً بأنّه سيترتب على عمله الإثم من قبل غيره مع فرض العلم بانحصار من يهيّىء المقدمة به، كما لو باع العنب ممّن يصنعه خمراً لا بهدف حصول التخمير بل بهدف تحصيل ثمن العنب عالماً بأنّ المشتري سيخمّر العنب مع العلم بأنّه لا يوجد شخص آخر يبيعه العنب لو امتنع هو من بيعه إيّاه فهذا أيضاً يكون في كثير من الأحيان حراماً لإحراز النكات الماضية متشرعيّاً أو عقلائياً بالشكل المساعد على الحرمة لا بالشكل المانع عنها.

ويختلف فرض ما إذا كانت غايته تحقق الحرام عن فرض مجرد العلم بترتب الحرام على ما يهيؤها من المقدمات في عدة اُمور:

1 ـ اختلاف درجة الجرأة والقبح فهما أشدّ في الفرع الأوّل منهما في الفرع الثاني.

2 ـ إنّ النكتة الثالثة من النكات الأربع التي شرحناها في الجواب عن الوجه الأوّل وهي مسألة انحصار المقدمة في عمل هذا الشخص وعدم انحصاره الدخيلتين في إمكانية دفع المنكر وعدم إمكانيته تؤثر على الفرع الثاني ولا تؤثر على الفرع الأوّل في كثير من الأحيان لأنّ المحذور في الفرع الثاني إنّما هو تحقق الإثم خارجاً فإذا كان ذلك محرزاً حتى على تقدير عدم بيعه للعنب إيّاه لوجود آخرين ممّن يبيعه العنب لم يبق محذور في البيع ولكن في الفرع الأوّل كثيراً مّا تكون في نفس تهيئته للمقدمة لغاية تحقق الحرام جرأة على المولى محرّمة حتى لدى فرض عدم الانحصار ومحذور الجرأة هذه أمر زائد على محذور مجرد تحقق الإثم من الغير الثابت في الفرع الثاني.

3 ـ إنّ النكتة الثانية من النكات الأربع الماضية (وهي نكتة وجود مصلحة في فعل المقدمة تزاحم مفسدة المعصية) تؤثر في الفرع الثاني ولا تؤثر غالباً في