375

على تحقق شيء مّا فعندئذ تحرم على الغير تهيئة مقدماته، واُخرى لا يكون المطلوب للمولى عدا سدّ بعض الأبواب وليس منها تهيئة المقدمة من قِبَل الغير فلا تحرم، وهذا التعبير العرفي انّما يكون تامّاً لو رجع بروحه إلى بعض تلك النكات الأربع.

ب ـ التمسّك بآية التعاون:

الوجه الثاني ـ التمسّك بقوله تعالى: ﴿تعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾(1) حيث يقال: إنّ هذه الآية تدلّ على حرمـة الإعانة على الإثم وتهيئة المقدمة لمعصية العاصي إعانة على الإثم على كلام مذكور في الكتب حول مدى سعة وضيق دائرة صدق الإعانة. أفهل هو مشروط بقصد المعين لمساعدته على الإثم أو لا؟ أم هل هو مشروط بقصد المعان للمعصية أو يكفي أنّه سيحصل له هذا القصد بعد تحقق المقدمة؟ أم هل يشترط في صدقها تحقق المعصية بالفعل أو لا؟ أم هل هذا يكون حتى في المقدمات البعيدة أو يختص بالمقدمات القريبة ونحو ذلك من التفاصيل؟

وعن المحقق الإيرواني (رحمه الله) في تعليقه على المكاسب النقاش في أصل التمسك بهذه الآية المباركة في المقام بإيرادين:

الإيراد الأوّل ـ انّ التعاون على البرِّ والتقوى أمرٌ مستحب ومقتضى التقابل بينه وبين التعاون على الإثم والعدوان هو الحمل على التنزيه لا الحرمة.

وأجاب السيد الإمام (رحمه الله) على ذلك بأنّه لو سلّمت في سائر الموارد قرينية بعض الفقرات على الاُخرى لا تسلّم في المقام لأنّ تناسب الحكم والموضوع


(1) المائدة: 202.

376

وحكم العقل ومقارنة الإثم بالعدوان الذي لا شك في حرمة الإعانة عليه كلها شواهد على الحمل على التحريم(1).

أقول: أمّا حكم العقل فقد عرفت حاله وعرفت معقولية عدم حرمة مقدمة الحرام في بعض الموارد فالتعاون بعد فرض حمله على ما يشمل الإعانة بإتيان المقدمة يمكن حمله على التنزيه أو الجامع بين الحرمة والكراهة وكذلك مناسبة الحكم والموضوع أيضاً لا تعيّن الحرمة في جميع موارد التعاون بعد فرض شموله لمثل الإتيان بالمقدمة الذي يناسب كونه مكروهاً كما يناسب كونه حراماً.

وأمّا مقارنة الإثم بالعدوان فان منعت عن الحمل على الكراهة فلا تمنع عن الحمل على الجامع بين الحرمة والكراهة، وهذا يجمع بين وحدة السياق بين الإثم والعدوان من ناحية وبين الأمر بالتعاون في البرِّ والتقوى مع النهي عن التعاون في الإثم والعدوان.

إلّا أنّه رغم كل هذا نقول: إنّ جواب المحقق الايرواني (رحمه الله) غير صحيح لانّ التقابل بين الأمر والنهي يختلف عن اجتماع أمرين أو نهيين في سياق واحد، فاجتماع أمرين أو نهيين في سياق واحد لو اجتمع مع كون أحدهما غير إلزامي أسقط الآخر عن الظهور في الإلزام. وأمّا في التقابل بين الأمر والنهي فمقابلة المبغوض إلى حدّ الحرمة مع المحبوب إلى حدّ الاستحباب، أو المبغوض إلى حدّ الكراهة مع المحبوب إلى حدّ الوجوب أمرٌ مقبول عرفاً كعرفية التقابل بين المحبوب والمبغوض الإلزاميين أو الاستحبابيين بحيث لو كان أحدهما غير إلزامي لم يوجب سقوط الآخر عن الظهور في الإلزام نعم لو لم يكن المفهوم عرفاً


(1) راجع المكاسب المحرّمة للسيد الإمام (رحمه الله) 1: 131.

377

مسألة التقابل بل كان المفهوم عرفاً مسألة التناسق كما لو جمع الأمر والنهي من مادتين غير متقابلتين فقال صلّ صلاة الليل ولا تصم يوم عاشوراء فلا يبعد أنْ يقال هنا أيضاً أن عدم إلزامية أحدهما يسقط الآخر عن الظهور في الإلزام، أمّا حينما تفترض المادّتان متقابلتين من قبيل: صم في عيد الغدير ولا تصم في عيد الأضحى، وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وانفق على محبّينا ولا تنفق على مبغضينا ونحو ذلك فالمفهوم عرفاً من أمثال هذه الأمثلة هو قصر النظر على التقابل دون التناسق والتقابل لا يقتضي سقوط أحدهما عن الظهور في الإلزام عند فرض عدم الإلزام في الآخر.

الإيراد الثاني ـ انّ التعاون باعتباره من باب التفاعل يدل على الاجتماع على إتيان المنكر كأن يجتمعوا على قتل النفوس ونهب الأموال بحيث تكون المعصية مستندة إليهم جميعاً، ولا يشمل فرض إعانة الغير على الحرام عندما يكون الحرام مستنداً إلى الغير مستقلا ويكون دور المعين تهيئة الأسباب والمقدمات فحسب.

وتبعه على ذلك السيد الخوئي مدعياً ـ على ما يبدو من ظاهر تقرير بحثه(1) ـ أنّ الإعانة تختص بما إذا كان المعان أصيلا يسند إليه الفعل والمعين غير أصيل ولا يسند إليه ذات الفعل وانّما تسند إليه المقدمة أو التسبيب، ويكون التعاون على العكس من ذلك فانّه يختص بما إذا كانا معاً أصيلين بان يشتركا في الفعل ويسند الفعل إليهما معاً.

وأمّا ما عن المحقق الإيرواني بالمقدار المنعكس في المكاسب المحرمة


(1) راجع مصباح الفقاهة 1: 180، والمحاضرات 1: 134.

378

للسيد الإمام (رحمه الله)(1) فهو لا يشتمل إلّا على الدعوى الثانية وهي اختصاص التعاون بما إذا كانا أصيلين وشريكين في الفعل، وهذه الدعوى إنْ تمّت فهي كافية لإثبات المطلوب سواء تمّت الدعوى الاُولى وهي اختصاص صدق الإعانة بما إذا كان المعان أصيلا والمعين مساعداً له بلحاظ المقدمات أو لم تتم بان قلنا بصدق الإعانة حتى فيما إذا كانا معاً أصيلين وشريكين في الفعل فانّه على أيّة حال لو حملت الآية على فرض كونهما أصيلين وشريكين في نفس الإثم ولم تشمل فرض تهيئة المقدمات ثبت المطلوب من عدم حرمة الإعانة بتهيئة المقدمات سواء سمّي الاشتراك في ذات الإثم أيضاً إعانة أو لا.

وعلى أيّة حال فلا ينبغي أن يورد على هذا الوجه بأنّ الآية وإنْ دلّت على حرمة التعاون الذي هو من الطرفين ولكن لا إشكال في دلالتها أيضاً على حرمة الإعانة من طرف واحد وذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾(2)أفهل يمكن أنْ يقال: إنّ هذه الآية انّما حرّمت التنابز من الطرفين أمّا النبز من طرف واحد فلم تثبت حرمته بهذه الآية.

أقول: هذا الإيراد لا مجال لتوهمه في المقام فإنّ مقصود المحقق الايرواني والسيد الخوئي ليس بيان الفرق بين الإعانة من طرف واحد والتعاون بمجرّد أنّ التعاون إعانتان من طرفين فإذا حرمتا لم تحرّم الإعانة من طرف واحد، ولو كان هذا هو المقصود فما أسهل النقض عليه بمثل دليل حرمة التنابز الذي لا شك في دلالته على حرمة النبز من طرف واحد أيضاً، وما أسهل الحلّ بالالتفات إلى أنّ


(1) راجع المكاسب المحرمة للسيد الإمام 1: 131.

(2) الحجرات: 11.

379

أدلّة الأحكام ظاهرة في الانحلال فكما يكون قوله: «صلّوا» إيجاباً للصلاة على كل واحد من المكلفين مستقلا فلا تسقط الصلاة من أحد بترك الآخرين كذلك يكون قوله: «لا تنابزوا» أو لا تعاونوا تحريماً للنبز أو الإعانة من كل واحد منهما مستقلا سواء صدر من الآخر أيضاً أو لا.

وانّما المقصود للمحقق الايرواني والسيد الخوئي هو أنّ ما يصدر من المتعاون مباين لما يصدر من المعاون الواحد لانّ التعاون كان من باب التفاعل ودلّ على صدوره من الطرفين وهذا يستحيل أن يكون بمعنى كون كل منهما مهيئاً للمقدمات للآخر إذْ لا بد من وجود أصيل على أيّ حال، فلا بد أن يكون بمعنى اشتراكهما في الفعل واستناد الفعل إليهما وكونهما معاً أصيلين ولا إشكال في أن الاشتراك في ذات الإثم أشدّ من تهيئة المقدمات وتحريم الأوّل لا يدل على تحريم الثاني.

وقد أشكل السيد الإمام (رحمه الله) على ذلك:

أولا بأنَّ التعاون ليس بمعنى الاشتراك في الفعل فانّ مادة التعاون والإعانة واحدة وليست الإعانة إلّا بمعنى تهيئة الأسباب والمقدمات فلا بد أن يكون معنى التعاون عبارة عن تهيئة الأسباب والمقدمات من كلا الطرفين ويكون ذلك بأنْ يهيّئ أحدهما للآخر مقدمات فعله ويهيّئ الآخر لهذا مقدمات فعل آخر له لا أن يكونا معاً شريكين في فعل واحد وإلّا لزم تغيّر معنى المادّة حينما دخلت عليها هيئة التفاعل بينما ليست وظيفة هيئة التفاعل عدا إفهام أن نفس المعنى المقصود بالمادة صادر من كلا الطرفين كل بلحاظ الآخر دون تغيير معنى المادة، فالتعاون في الإثم إذن يعني أن أحدهما هيّأ مقدمات إثم للآخر والآخر هيّأ مقدمات إثم آخر للأوّل ولا يعني اشتراكهما في إثم واحد.

380

وثانياً بانّه لو تنزّلنا وسلّمنا صدق التعاون على الاشتراك في إثم واحد فلامبرر لنفي صدقه على إعانة كل واحد منهما للآخر في إثم غير إثم الآخر، إذن فالآية دلّت على حرمة الإعانة بمعنى تهيئة مقدمات الإثم للآخرين وهو المقصود.

أقول: أمّا اختصاص صدق الإعانة بما إذا كان المعان أصيلا والمعين غير أصيل بان يكون دوره دور تهيئة المقدمات دون الاشتراك في أصل العمل (وهذا هو صريح كلام السيد الإمام وظاهر كلام السيد الخوئي) فهو غير مقبول فكما أنّ مساعدة الشخص على عمل بتهيئة مقدماته إعانة له على ذلك العمل كذلك مساعدته عن طريق الاشتراك معه في نفس العمل إعانة له على ذلك فلو قبلنا ما قد يظهر من كلام السيد الخوئي من اختصاص الإعانة بفرض تهيئة المقدمات فقد يتم الإشكال الأوّل للسيد الإمام (رحمه الله) من أن هيئة التفاعل لا تغيّر معنى المادة ولا تبدّله من تهيئة المقدمات إلى الاشتراك في الفعل.

ولكن الواقع أنّ الاشتراك في الفعل أيضاً إعانة فلو فسّر التعاون في الآية بمعنى الاشتراك في الإثم فغاية ما يمكن الإيراد عليه هي أنّ التخصيص بالاشتراك وفرض عدم شموله لتهيئة المقدمات تقييد بلا موجب فالتعاون يشمل الأمرين معاً فتخصيصه بالاشتراك وإن لم يكن تغييراً لمعنى مادة الإعانة من المباين إلى المباين لكنه على أي حال تقييد لها بما هو أخص من معناها الأصلي وهذا يعني الرجوع إلى الإشكال الثاني من إشكالي السيد الإمام، فالإشكال الأوّل حتى لو كان مسجلا على السيد الخوئي فهو غير مسجل على المحقق الايرواني بالمقدار المنعكس من كلامه في عبارة السيد الإمام حيث لم يشتمل على دعوى اختصاص الإعانة بتهيئة المقدمات.

وإذا انحصر الأمر في الإشكال الثاني أمكن الجواب عليه بأنّ الإعانة وإن

381

كانت مطلقة تشمل مساعدة الغير بتهيئة مقدمات عمله ومساعدته بالاشتراك معهفي ذات العمل ولكن التعاون في هذه الآية مقترنة بقرينة قيّدت هذا الإطلاق وتلك القرينة عبارة عن ذكر مصبّ للتعاون حيث جاء في الآية المباركة: ﴿تعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾(1) ومتى ما يذكر مصبّ للفعلين المتقابلين في باب التفاعل من قبيل تضارب زيد وعمرو في البيت أو تضاربا في يوم الخميس ونحو ذلك يكون الظاهر العرفي من ذلك وحدة المصبّ لكلا الفعلين فمعنى قوله: تضارب زيد وعمرو في البيت هو انّهما تضاربا في بيت واحد ولا ينطبق هذا الكلام على ما إذا ضرب أحدهما الآخر في بيت والآخر ضربه في بيت آخر، وكذلك لا ينطبق قوله تضاربا في يوم الخميس على ضرب أحدهما لصاحبه في خميس وضرب الآخر لصاحبه في خميس آخر، بل ظاهره التضارب في خميس واحد، وكذا الحال في المقام فمعنى التعاون على إثم هو تعاونهما على إثم واحد، وهذا لا يتصور إلّا باشتراكهما في ذات الإثم.

بل إن عنوان التعاون والإعانة بما أنهما من المفاهيم ذات الإضافة الى المعان عليه أي يكون فرض لحاظ إضافته إلى المعان عليه مأخوذاً في حاقّ لفظه فحتى لو لم يذكر المتعلق في الكلام لا يفهم من التعاون إلّا معنى الاشتراك في عمل واحد.

ولا يقال: إ نّه يصدق على كل معين ومعان انّهما تعاونا في الفعل الذي فعله المعان فلو أنّ أحداً أخذ زيداً بيده كي لا يهرب من القتل والآخر قتله صدق انّهما تعاونا على القتل ففاعل المقدّمة يصدق عليه عنوان المتعاون ويكون فعله حراماً


(1) المائدة: 202.

382

بحكم الآية وقد أعان كل واحد منهما الآخر على قتل زيد فصدق التعاون رغم عدم اشتراكهما في القتل واختصاص فعل القتل بأحدهما دون الآخر.

فإنّه يقال: انّه قد أخذ في مفهوم الإعانة والتعاون أن يكون المعان أصيلا في الفعل ويكون الفعل منتسباً إليه حقيقة فلو اشتركا في العمل وانتسب العمل إليهما معاً فقد أعان كل منهما صاحبه وحصل التعاون بينهما على الفعل أمّا لو كان العمل مستنداً حقيقة إلى أحدهما فقط فالآخر هو الذي أعانه على هذا العمل وليس هذا قد أعان ذاك على هذا العمل إذ لم يصدر هذا العمل منه كي تفترض إعانة صاحبه إيّاه في هذا العمل ففي المثال المذكور يكون مَنْ أخذ زيداً بيده هو الذي أعان صاحبه على قتل زيد وليس صاحبه قد أعانه على قتل زيد إذ هو لم يقتل زيداً حتى يصدق أن صاحبه أعانه على هذا القتل وان صحّ التعبير في مثل ذلك بعنوان (تعاونا على قتل زيد) مجازاً.

ولو فرض تنزّلا صدق التعاون في ما إذا كان دخل المعين في الفعل كبيراً كما في مثال حبس زيد بيده كي يقتله صاحبه فهو لا يصدق في فرض ضعف الدخل كما في بائع العنب ممّن يصنعه خمراً واحتمال الفرق في الحرمة وعدمها بينهما وارد لانّ دخل الأوّل في الإثم أشدّ من الثاني (وطبعاً ما ذكرناه إنما هو من باب المثال وإلّا فلا شك في حرمة الإعانة على القتل وانّما كلامنا في الإعانة على الإثم الذي ليس ظلماً للآخرين).

والحاصل أنّ كلمة التعاون حتى لو جرّدت عن ذكر المصبّ تفهم منها وحدة مصب الإعانتين.

ولا تُقاس بمثل كلمة التواهب حيث لا تفهم منها وحدة مصبّ الهبتين رغم أنّ الهبة أيضاً من المفاهيم ذات الإضافة إلى الموهوب أي أنّه لوحظ فيها لغة

383

فرض إضافتها إلى ما يوهب وذلك لأنّ الهبتين الفرضيتين يستحيل أن تنصبّا على مصبّ واحد بخلاف الإعانتين فانّهما تنصبان عند الاشتراك في عمل على مصبّ واحد، نعم الهبتان الطوليتان أي ما تحقق احداهما موضوع الآخر يمكن أن تنصب على مصب واحد بأنّ يهب أحدهما المال للآخر ثم يهبه الآخر للأوّل، ولكن كلمة التواهب لا تنصرف إلى فرض نادر من هذا القبيل.

وقد تحصّل بكل ما ذكرناه أنّ هذا الوجه الثاني لإثبات حرمة تهيئة مقدمات المعصية للعاصي أيضاً غير تام لعدم صدق التعاون في المقام إطلاقاً. وبعد هذا لسنا بحاجة إلى البحث عمّـا بحثوه في المقام في حدود دائرة صدق الإعانة وأنّه هل إنَّ صدقها مشروط بالقصد أو بالعلم أو بتحقق المعصية خارجاً أو نحو ذلك أو لا؟ إذْ انّ هذه الإعانة على كل تقدير هي غير التعاون الذي نهت الآية الشريفة عنه.

نعم لا بأس بأن نشير إلى أنّ السيد الإمام (رحمه الله) اشترط في صدق الإعانة القصد بأن يكون المعين قاصداً لتحقق الفعل من المعان ومن هنا وقع الإشكال عنده في تمامية إطلاق هذا الوجه فيما نحن فيه فلا إشكال عنده في تماميته حينما يكون الدافع ـ لبائع العنب مثلا ـ إلى البيع هو تحقق التخمير من قِبَل المشتري أمّا حينما لا يكون دافعه إلى البيع ذلك بل إنّما الدافع له حصوله على الثمن مثلا فهنا لا تكون الإعانة صادقة على هذا البيع في نظره الشريف.

وقد حاول تغطية هذا النقص في هذا الوجه ببيانين:

أحدهما عامٌّ لكل موارد تهيئة المقدمات للإثم، والثاني خاصٌ بخصوص الخمر:

أمّا البيان العام فهو دعوى ان قيد القصد ملغيّ عرفاً في المقام (رغم دخله

384

في معنى الإعانة) وذلك بالمناسبات المغروسة في الأذهان بأن يقال: إنَّ الشارع أراد بالنهي عن الإعانة على الإثم قلع مادة الفساد والمنع عن إشاعة الإثم، أو انّ الإعانة تكون عادةً موجبة لتشويق العصاة على عملهم وجرأتهم على الإثم بخلاف ما لو رأى العاصي نفسه وحيداً لا معين له في إثمه فقد توجب الوحدة الوحشة المؤدّية إلى الترك، وكل هذه المناسبات مشترك بين فرض قصد المعين وعدمه فالمفهوم العرفي للحكم في المقام يصبح مطلقاً وشامل لفرض عدم القصد أيضاً.

إلّا أنّ السيد الإمام (رحمه الله) تحفّظ تجاه هذا الوجه وذكر: أنّ إلغاء الخصوصية وفهم العرف من الآية ما ذكرناه لا يخلو من تأمّل، وإنْ لا يخلو من وجه.

وأمّا البيان الخاص بخصوص الخمر فهو دعوى أن حديث لعن غارس الخمر وحارسها وبايعها ومشتريها.. الخ الذي إدّعى السيد الإمام (رحمه الله)استفاضته يدل على تحريم إيجاد كل مقدمة تكون بقصد التخمير فانّ معنى غارس الخمر مَنْ يغرس العنب بقصد التخمير وخصوصية الغرس ملغيّة فشراء العنب بقصد التخمير أيضاً حرام، فإذا حرم شراء المشتري قلنا: إنّ البائع وإنْ لم يقصد ببيعه تحقق التخمير ولكن لا إشكال في أنّه قصد بذلك تحقق الشراء فقد قصد تحقق الحرام وبالتالي صدقت الإعانة على الحرام وأصبح بيعه مشمولا لمفاد الآية الكريمة. هذا لو لم نقل انّنا نستفيد من التشديدات الواردة في ذاك الحديث حرمة إيجاد مقدمة التخمير لمَن علم بذلك ولو لم يكن عن قصد فغارس العنب يحرم عليه ذلك بمجرد علمه بالأداء إلى التخمير، أمّا إنْ قلنا بذلك فقد حرم البيع بمجرد العلم بمقتضى هذا الحديث بلا حاجة إلى ضمّ الآية المباركة. انتهى ما أردنا نقله عن السيد الإمام (رحمه الله).

وعلى أيّة حال فقد عرفت نقاشنا في صدق أصل الإعانة في المقام.

385

ج ـ التمسّك بدليل النهي عن المنكر:

الوجه الثالث ـ هو التمسّك بدليل النهي عن المنكر بدعوى عدم الفرق بين الرفع والدفع سواء فرضنا أنّ وجوب رفع المنكر عقليّ كما وافق عليه السيد الإمام (رحمه الله)أو فرضناه شرعيّاً:

أمّا إذا فرضناه عقليّاً فمن الواضح أن العقل لا يفرّق في الحكم بالوجوب بين رفع المنكر ودفعه.

وما قد يقال من أنّ العقل إنّما يحكم بوجوب رفع المنكر أو دفعه في منكر يكون ذات وجوده في الخارج مبغوضاً للمولى سبحانه كقتل النفس وهتك الأعراض والمشاعر الدينية ونحوها دون ما إذا كان المبغوض حيثية صدوره من فلان فإذا كان المبغوض حيثية الصدور فلا علاقة لذلك بغير من يصدر منه ذاك المنكر. قد أجاب عليه السيد الإمام (رحمه الله) بأنَّ المهم هو أنّ مقتضى عبوديّة العبد أن يحول دون تحقق ما يبغض المولى في نفس دائرة البغض، فإنْ كانت دائرة البغض هي حيثية الوجود فعلى العبد أنْ يحول دون وجود ذاك المنكر، وان كانت دائرة البغض هي حيثية الصدور من فلان فعلى العبد ان يحول دون تحقق ذاك الصدور وليس من المعقول اختلاف حكم العقل بوجوب المنع عمّـا يبغض المولى بمجرد اختلاف مصبّ البغض من حيث الوجود إلى حيثية الصدور.

أقول: إنّ إشكال السيد الإمام (رحمه الله) على التفصيل بين مبغوضية حيثية الصدور ومبغوضية حيثية الوجود بظاهره وارد ولكن إذا كان مقصود المفصّل بين الأمرين هو الإشارة ولو ارتكازاً إلى بعض النكات الأربع التي شرحناها عند إبطالنا للوجه الأوّل لم يرد عليه هذا الإشكال فتكون خلاصة الكلام في التفصيل بين الأمرين أنّ المولى قد يريد سدّ جميع الأبواب على هذا المنكر وهذا هو

386

المقصود بمبغوضية حيثية وجوده، وقد يريد سدّ باب الصدور من قِبَل مَن يصدر منه الفعل وهذا هو المقصود بمبغوضيّة حيثية صدوره، على أن يرجع هذا الإجمال إلى بعض التفاصيل الماضية في بيان النكات الأربع ومن الواضح انّ الاعتراف بحكم العقل بوجوب دفع المنكر في الأوّل لا يلازم الاعتراف بحكمه بذلك في الثاني.

وعلى أيّة حال فقد مضى منّا أنّ الوجه الأوّل إنّما يكون معقولا بعد فرض رجوعه إلى هذا الوجه الثالث عند افتراضه عقلياً، إذن فنستغني عن تعليقنا على هذا الوجه بعد فرضه عقلياً بما مضى منّا من التعليقات على الوجه الأوّل.

وأمّا إذا فرضناه شرعياً فإثبات وجوب دفع المنكر بالدليل الشرعي الدال على وجوب النهي عن المنكر له تقريبان:

أحدهما ـ التمسّك بالدلالة الالتزامية العرفيّة بدعوى أنّه إذا وجب الرفع وجب الدفع لأنّ الفائدة من الرفع إنّما هي الحيلولة دون الحصة الثانية من الوجود أمّا الحصة الاُولى فقد تحققت ولا يمكن إفناؤها ففائدة الرفع إنّما هي عين فائدة الدفع ويفهم عرفاً من وجوب الرفع وجوب الدفع بالالتزام.

وثانيهما ـ التمسّك بالدلالة المطابقية لدليل وجوب الرفع وذلك بدعوى أنّ الرفع مرجعه إلى الدفع لِما قلنا من أنّ رفع الحصة الاُولى من الوجود غير ممكن فالرفع مرجعه إلى دفع الحصة الثانية، إذن فما دلّ عليه الدليل بالمطابقة إنّما هو وجوب الدفع.

وقد أجاب السيد الخوئي على التمسك بأدلّة النهي عن المنكر في المقام بوجهين:

الأوّل ـ انّ دفع المنكر لو وجب إنّما هو مخصوص بصورة الإمكان وهذا إنّما يكون في فرض انحصار حصول المقدمة بعمل هذا الشخص، أمّا لو فرض انّه

387

لو لم يبعه العنب مثلا لباعه شخص آخر فالدفع هنا غير مقدور. وقد مضى منّا بيان مناقشة السيد الإمام (رحمه الله) لهذا الكلام بملاحظة الضدّ العام للدفع الواجب وهو نقض الدفع مع ردّها لدى بحثنا عن الوجه الأوّل فلا نعيد.

والثاني ـ انّ النهي عن المنكر شيء ودفع المنكر شيءٌ آخر، وإيجاب الأوّل لا يثبت إيجاب الثاني وكأنّه وقع في شرح ذلك في مصباح الفقاهة(1) تشويش حيث جاء فيه بيانان للمطلب بتعبير قد يوحي إلى أنّهما بيانان لمطلب واحد بينما هما وجهان:

أحدهما ـ انّ الرفع وإن كان يرجع بالتحليل والتدقيق إلى الدفع لأنّ الحصة الاُولى قد تحققت ولا محيص عنها والحيلولة دون تحقق الحصة الثانية رفع ولكن الأحكام الشرعية وموضوعاتها لا تبتني على التدقيقات العقلية، والدفع في نظر العرف غير الرفع.

وقد أجاب عليه السيد الإمام (رحمه الله) بأنّ دليل وجوب الرفع محمول عرفاً على وجوب مطلق الدفع حسب الارتكازات حتى إذا قلنا بأنّ الدفع عرفاً غير الرفع، وذلك لوضوح أنّ دعوى «أن وجوب النهي عن شرب الخمر مثلا مخصوص بما إذا شرب الجرعة الاُولى أمّا لو لم يشربها فليس علينا نهيه رغم العلم بأنّه عازم على الشرب فلنا أنْ ننتظر إلى أنْ يشرب الجرعة الاُولى ثم ننهاه» أمر غير مفهوم عرفاً حسب الارتكازات من الدليل، فخصوصية الرفع في مقابل الدفع ملغيّة في المقام لدى الفهم العرفيّ لمعنى النّص الدّال على وجوب النهي عن المنكر ورفعه. وهذا الكلام من السيد الإمام (رحمه الله) متينٌ جداً.


(1) 1: 181 و 182.

388

وثانيهما ـ وهو الذي اقتصر عليه في المحاضرات(1): هو أنّ الدليل إنّما دلّ على وجوب النهي عن المنكر لا أكثر من ذلك والنهي عن المنكر عبارة عن زجر الغير ليترك المنكر باختياره ودفع المنكر عبارةٌ عن تعجيزه عنه.

وهذا البيان صحيح فالواقع أنّ وجوب النهي عن المنكر شيء ودفع المنكر شيء آخر فالدليل اللفظي لوجوب النهي عن المنكر لا يشمل دفع المنكر بالدلالة المطابقية كما لا يدل عليه بشكل مطلق بالدلالة الالتزاميّة لأنَّ الملازمة العرفيّة في المقام يختلف تحققها باختلاف الموارد حسب الالتفات إلى النكات الأربع التي شرحناها في بحثنا عن الوجه الأوّل وقد تحصّل بكل ما ذكرناه أنّ شيئاً من الوجوه العامة لإثبات حرمة تهيئة المقدمات للإثم أو الإعانة عليه غير تام.

ولكن هذا لا يمنعنا عن القول بالحرمة في الجملة في موردين:

المورد الأوّل: ما إذا كان هدف المساعد على الإثم في تهيئته للمقدمات هو تحقق الإثم فانْ كان هدفه هو تحقق عنوان الإثم ومعصية الله تعالى فلا إشكال في أنّ هذا من أبرز مصاديق الجرأة على الله ومحاربته ولا ينشأ إلّا من أعلى مستويات الخبث، وإنْ كان هدفه تحقق واقع المعصية أي تحقق التخمير مثلا لغاية له في ذلك ولم تكن الغاية نفس عنوان وقوع المخالفة لله تعالى فهذا في غالب الأحيان يكون أيضاً جرأة على الله وإن كـان بمستوى أقل بكثير من الجرأة في القسم الأوّل وحينما نقيسه بالنكات الأربع الماضية نرى أنّه في غالب الأحيان نحرز بارتكاز متشرعي أو عقلائي الحرمة وعدم وجود نكتة من تلك النكات المانعة عنها.


(1) 1: 135.

389

والمورد الثاني ـ ما إذا كان عالماً بأنّه سيترتب على عمله الإثم من قبل غيره مع فرض العلم بانحصار من يهيّىء المقدمة به، كما لو باع العنب ممّن يصنعه خمراً لا بهدف حصول التخمير بل بهدف تحصيل ثمن العنب عالماً بأنّ المشتري سيخمّر العنب مع العلم بأنّه لا يوجد شخص آخر يبيعه العنب لو امتنع هو من بيعه إيّاه فهذا أيضاً يكون في كثير من الأحيان حراماً لإحراز النكات الماضية متشرعيّاً أو عقلائياً بالشكل المساعد على الحرمة لا بالشكل المانع عنها.

ويختلف فرض ما إذا كانت غايته تحقق الحرام عن فرض مجرد العلم بترتب الحرام على ما يهيؤها من المقدمات في عدة اُمور:

1 ـ اختلاف درجة الجرأة والقبح فهما أشدّ في الفرع الأوّل منهما في الفرع الثاني.

2 ـ إنّ النكتة الثالثة من النكات الأربع التي شرحناها في الجواب عن الوجه الأوّل وهي مسألة انحصار المقدمة في عمل هذا الشخص وعدم انحصاره الدخيلتين في إمكانية دفع المنكر وعدم إمكانيته تؤثر على الفرع الثاني ولا تؤثر على الفرع الأوّل في كثير من الأحيان لأنّ المحذور في الفرع الثاني إنّما هو تحقق الإثم خارجاً فإذا كان ذلك محرزاً حتى على تقدير عدم بيعه للعنب إيّاه لوجود آخرين ممّن يبيعه العنب لم يبق محذور في البيع ولكن في الفرع الأوّل كثيراً مّا تكون في نفس تهيئته للمقدمة لغاية تحقق الحرام جرأة على المولى محرّمة حتى لدى فرض عدم الانحصار ومحذور الجرأة هذه أمر زائد على محذور مجرد تحقق الإثم من الغير الثابت في الفرع الثاني.

3 ـ إنّ النكتة الثانية من النكات الأربع الماضية (وهي نكتة وجود مصلحة في فعل المقدمة تزاحم مفسدة المعصية) تؤثر في الفرع الثاني ولا تؤثر غالباً في

390

الفرع الأوّل فقد تكون مصلحة في النكاح تزاحم مفسدة ما ستصدر من المعصية من الأولاد والأحفاد تمنع عن حرمة النكاح رغم العلم بصدور المعصية منهم ولكن لا مصلحة في النكاح بقصد تحقق المعصية من الأولاد والأحفاد أي لا مصلحة فيه بما هو مقيد بهذا القصد فتحريم هذه الحصة من النكاح باعتباره جرأة على المولى مُبرزة بالفعل لا يسدّ عادة باب مصالح النكاح إذْ له أنْ يرتدع عن النكاح بهذا القصد ولا يرتدع عن أصل النكاح.

4 ـ إنَّ النكتة الاولى من النكات الأربع الماضية (وهي المصلحة في الترخيص في المقدمة) قد تؤثر في الفرع الثاني دون الأوّل إذْ لا مصلحة عادة في الترخيص في خصوص بيع العنب بقصد تحقق التخمير إذ لو كانت مصلحة في الترخيص فهي تكون عادة في الترخيص في أصل بيع العنب لا في بيعه إيّاه بهذا الهدف.

5 ـ إنّ البيع العقدي واقعٌ عادة في سلسلة مقدمات الحرام عندما يكون المشتري قاصداً لتخمير العنب، فانّ تخميره للعنب وإن كان متوقفاً على تسليم العنب إيّاه ولكن إذا كان صاحب العنب غير مستعد لتسليمه إيّاه مجاناً، إذن فبيعه إيّاه مقدمة لحصول المشتري على العنب الذي يمكّنه من التخمير، نعم إذا أوقع البيع بالعقد اللفظي لا بالمعاطاة فقد يتمكن بعد البيع من امتناعه عن التسليم وهذا لا ينافي كون أصل البيع مقدمة من مقدمات الحرام لأنّ التسليم لا يتمّ لو لم يتم البيع، وعلى هذا يتجه القول بأنّ البائع لو باع العنب مثلا بالعقد اللفظي من الخمّار بهدف تحقق الخمر فقد حصلت الجرأة على المولى بمجرد البيع وقبل التسليم فإنّ مَنْ يشرع في مقدمات ا لمعصية بقصد تحققها فقد حصلت الجرأة منه رغم قدرته في الأثناء على قطع سلسلة المقدمات بترك باقي حلقات المقدمة إذن فلا إشكال في هذا الفرع في عدم الفرق بين البيع العقدي والبيع المعاطاتي، فبناء على الحرمة

391

بنكتة هذه الجرأة يكون كلاهما حراماً وهذا بخلاف الفرع الثاني وهو مجرد العـلم بتحقق المعصية إذْ في هذا الفرع تأتي الشبهة الماضية إذا كان البيع عقدياً لا معاطاتياً إذ يُقال: ما دام البيع العقدي لا يخرج الأمر من سلطان البائع إذ بإمكانه أنْ يحول دون حصول النتيجة بالامتناع عن التسليم فلا موجب لتحريم البيع عليه فهنا نحتاج إلى الجواب على هذه الشبهة بما مضى من أنَّ البيع العقدي يورطه في مخالفة أحد التكليفين المتزاحمين وهما حرمة تهيئة مقدمة الحرام ووجوب تسليم المبيع إلى المشتري، بينما في الفرع الأوّل لو قلنا بالحرمة على أساس تلك الجرأة الإضافية لا محل لهذه الشبهة من أساسها.

هذا تمام الكلام في الأدلّة العامة على حرمة المعاملة حينما توجب تهيئة المقدمة لعمل العاصي، وقد عرفت عدم تماميتها على العموم رغم الإذعان بالحرمة في الجملة لا على الإطلاق.

2 ـ مقتضى الأدلّة الخاصّة:

وأمّا على مستوى الاستنتاج من الأدلّة الخاصة فقد يُقال: إنَّ الأدلة الخاصة الواردة في الموارد الخاصة وإن كان كل واحد منها لا يستفاد منه حرمة مطلق العقد الواقع في سلسلة مقدمات معصية الغير ولكن إذا تكثّرت تلك الموارد التي ورد فيها الدليل الخاص قد نحدس بشكل قطعي بعدم فرض خصوصية في تلك الموارد وأن الحكم عامّ لكل عقد يكون كذلك، والموارد التي قد يُقال بدلالة الدليل الخاص فيها على الحرمة ما يلي:

1 ـ تحريم إعانة الظالم على ظلمه للآخرين(1).


(1) راجع الوسائل 12: 127 ـ 132، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به.

392

2 ـ تحريم بيع السلاح من المحاربين(1).

3 ـ تحريم ثمن المغنيّة(2) بناء على حمل الدليل فيه على ما إذا كان مقدمة لحصول الحرام. وهو الاستفادة من الغناء وانصرافه عمّـا إذا باعها ممّن يعتقد أنّه سيمنعها من الغناء.

4 ـ تحريم إجارة البيت إذا كان المستأجر يبيع فيه الخمر حيث ورد بسند تام عن صابر أو جابر قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر، قال: حرام أجره(3) ولا يبعد أن يكون الصحيح هو جابر وهو منصرف في هذه الطبقة إلى ابن يزيد الجعفي الذي عدّه المفيد في رسالته العددية ممّن لا يُطعَن فيهم ولا طريق لذم واحد منهم، والسبب في استظهار صحة كلمة «جابر» في المقام دون صابر هو انّ كلمة «صابر» إنّما وردت في التهذيب (7: 134، الحديث 593) ولكن نفس الحديث ورد في التهذيب (6: 371، الحديث 1077) وفي الاستبصار (3: 55، الحديث 179) وفي الكافي (الجزء 5 كتاب المعيشة، الباب 103) جامع فيما يحل الشراء والبيع منه (الصفحة 227، الحديث 8) والوارد في كل هذه الموارد كلمة «جابر» بدلا عن كلمة «صابر» هذا بالنسبة لما عندي من الطبعات الحديثة ولا تحضرني الطبعات القديمة لهذه الكتب فإنْ كان الأمر فيها كما هو الحال في الطبعات الحديثة حصل الوثوق بأن كلمة «جابر» هي الصحيحة في المقام.


(1) راجع الوسائل 12: 69 ـ 71، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به.

(2) راجع الوسائل 12: 86 ـ 88، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به.

(3) الوسائل 12: 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

393

نعم ورد أيضاً بسند تام عن ابن اُذينة قال: كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السلام)أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته ودابته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنزير قال: لا بأس(1). ويمكن القول بانصراف الحديث الثاني إلى كون المستأجر غير مسلم لأنّ مَن يحمل على السفينة أو الدابة الخمر والخنزير كان هم غير المسلمين عادة وهذا بخلاف مبايعة الخمر في بيت مّا فانّه يمكن افتراضه عملا مخفيّاً كان يصدر عادة من المسلمين الفسقة. أمّا حمل الخمر والخنزير على السفينة والدابة فأمر علني لا يمكن إخفاؤه ولم يكن يصدر وقتئذ من المسلمين وعليه فالحديث الأوّل يخصص إطلاقه بالحديث الثاني المخصوص بغير المسلمين.

5 ـ تحريم بيع الخشب ممّن يعمل صنماً أو صليباً(2).

6 ـ ما ورد من لعن غارس الخمر(3) وهو يعني غارس العنب لأجل صنع الخمر الشامل لما إذا كان غارس العنب شخصاً وصانع الخمر وشاربه شخصاً آخر.

والتحقيق في المقام أنّه لو كان كل مورد من الموارد المختلفة التي ورد النّص فيها بحرمة العقد أو الأمر الذي اوجب تهيئة مقدمات الحرام للغير ممّا لا نحسّ فيه بخصوصية محتملة الدخل في هذا الحكم وإنّما كنّا نحتمل اختصاص الحكم به من باب إيماننا بتعبدية الأحكام الشرعيّة وأنّ دين الله لا يصاب بالعقول


(1) راجع الوسائل 12: 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به.

(2) راجع الوسائل 12: 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به.

(3) الوسائل 12: 164 ـ 166، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، و 17، الباب 34 من أبواب الأشربة المحرّمة.

394

أمكن القول بأنّ تعدد تلك الموارد وتكثرها قد يوجب لنا الحدس القطعي بأنّمصبّ الحكم هو مطلق العقد أو الأمر الذي وقع في طريق مقدمات الحرام وأنّه لا خصوصية لتلك الموارد في الحكم ولكن حينما يكون أكثر تلك الموارد ممّا يشتمل على خصوصية نحسّ فيه باحتمال الدخل في الحكم وفق نكات معقولة لنا فمهما كثرت تلك الموارد لا نستطيع أن نحدس من تكثّرها عمومية الحكم وعدم اختصاصه بتلك الموارد، وما نحن فيه من هذا القبيل:

فالمورد الأوّل راجع إلى الظلم المرتبط بحق الناس واحتمال خصوصية فيه بالقياس إلى حقوق الله وارد.

والمورد الثاني راجع إلى بيع السلاح من المحارب للإسلام والمسلمين وهو من أبرز أقسام الظالمين وفيه الضرر الكبير على أصل المبدأ الإسلامي واحتمال الخصوصية فيه واضح.

والمورد الثالث عبارة عن تحريم ثمن المغنّية ومن الواضح انّ الامتناع عن بيع المغنّية ممّن يستفيد من غنائها وحبسها في دائرة تمنع عن غنائها كثيراً ما يؤدّي إلى تقليل معصية الغناء في الخارج، بخلاف منع صاحب العنب عن بيع عنبه ممّن يصنعه خمراً مع وجود آخرين مستعدين للمنع فاحتمال الخصوصية وارد.

والمورد الخامس تحريم بيع الخشب ليعمل صليباً أو صنماً وهذا كما ترى أمر مهمّ يمسّ القضايا العقائدية وليس كقضية فرعيّة من قبيل تخمير العنب فاحتمال الخصوصية وارد فيه.

والمورد السادس هو مورد لعن غارس الخمر ومعناه مَن يغرس العنب بهدف التخمير فلو تعدينا منه فانّما نتعدى إلى مثل مَن يبيع العنب بهدف التخمير دون مثل مَن يبيع العنب مع العلم بالتخمير دون قصده، على أنّ هذا الحديث يدل على حرمة غرس العنب بهدف التخمير حتى بالنسبة لنفس فاعل الحرام من

395

التخمير أو الشرب وهذا يعنى خصوصية في الخمر إذ لم يعرف في سائر المحرمات عادة ثبوت حرمة خاصة وعقاب خاص على مقدماتها بالنسبة لنفس فاعل الحرام فالتعدي من مورد هذا الحديث إلى تهيئة المقدمة لأيّ حرام آخر غير صحيح.

وأمّا المورد الرابع وهو تحريم إيجار البيت لمَن يجعله محلا لبيع الخمور فان قبلنا بحرمة المقدمات في خصوص الخمر حتى على نفس الخمّار كما قد يستفاد ذلك من لعن غارس الخمر فهذا ممّا يجعلنا نحتمل الخصوصية في الخمر إذْ لم نعهد حرمة مقدمة الحرام على فاعل الحرام في سائر الموارد وإلّا فلنفترض انّه بالنسبة لهذا المورد الواحد من ضمن الموارد الستة الماضية لم نهتد إلى خصوصية نتعقّل دخلها في الحكم أفهل يكفي مورد واحد للجزم بعمومية الحكم وعدم دخل المورد الخاصّ في الحكم؟ ! !

على انّنا وجدنا في موارداُخرى غير مواردتلك النصوص ما نصّ على الجواز فقد ورد ما يفصّل بين بيع الخشب للصليب وبيعه للبربط بتحريم الأوّل وتحليل الثاني(1) أفلا يعني هذا التفصيل فيما بين المحرمات بلحاظ مدى اهميتها شدة وضعفا؟!

وقد مضى ما دلّ على جواز إيجار السفينة والدابّة ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنزير، وقد حملناه على إيجارهما من غير المسلم أفلا يعني هذا منضماً إلى رواية المنع عن إيجار البيت ممّن يبيع الخمر التفصيل بين ما يؤدّي إلى إشاعة الفساد بين المسلمين وما يعود إلى غير المسلمين باعتبار أهمية المطلب في نظر الشريعة بالنسبة للمسلمين وضرورة تطهيرهم عن الأرجاس؟! وقد ورد ما دلّ على جواز بيع الميتة والنجس ممّن يستحلّها(2) رغم أنّ هذا أيضاً مقدمة للحرام


(1) الوسائل 12: 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) الوسائل 12: 67 ـ 69، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به.

396

أفلا يعني هذا التفصيل بين بيعهما من المسلمين المحرّمين لها وبيعهما من غيرهمعلى أساس اهتمام الشريعة الإسلامية بالمسلمين المحرّمين دون غيرهم؟ ! ! وقد وردت نصوص صحيحة صريحة في جواز بيع العصير أو العنب أو التمر ممّن يجعله خمراً أو سكراً(1) أفلا يعني هذا عدم الإطلاق والعموميّة في تحريم تهيئة مقدمات الإثم؟! وقد ذكر السيد الإمام (رحمه الله) انّ بعض هذه الروايات يقبل التوجيه بحمله على معنى لا ينافي الحرمة التي افتى بها ولكنه اعترف بانّ باقي الروايات لا تقبل التوجيه فطرحها على أساس مخالفتها للدليل العقلي الذي آمن به والذي مضى النقاش فيه.

هذا وإن كان في مورد بيع العنب والتمر ممّن يجعله خمراً أو سكراً ما يقتضي الإرتكاز العقلائي والمتشرعي تحريمه كبيعه بقصد تحقق الحرام فإطلاق روايات الجواز منصرفة عنه، على أنّ شبهة ردعه عن الارتكاز لو تمت في الارتكاز العقلائي لا تتم في الإرتكاز المتشرعي فالارتكاز المتشرعي يصلح مقيداً لها.

 

بطلان العقد عند عدم مشروعيّة الباعث:

البحث الثاني ـ في بطلان العقدالذيوقع مقدمة للحرام بناء على تحريمه وعدمه.

قد حُقِقَ في علم الاُصول عدم الملازمة العقلية بين الحرمة والبطلان في العقود فلا تصل النوبة إلى البحث عن ان حرمة عنوان آخر انطبق على العقد هل تستلزم عقلا الفساد أو لا؟ وهل التركيب بين ذات العنوان والعقد انضماميّ أو اتحادي مثلا؟


(1) الوسائل 12: 169 ـ 170، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به.

397

ولكن رغم هذا قد يدل النهي التحريمي في العقود على الفساد بملازمة عرفية حيث أنّ غلبة الحال في الموالي العرفية في إبطالهم لما يمكنهم من إبطاله ممّا هو مبغوض لهم أوجبت دلالة النهي التحريمي المتعلق بعقد ما على الفساد باعتبار انّ الغالب في المبغوضيات الواصلة إلى حدّ تحريك المشرّع العرفي نحو التنصيص على تحريم عقد هو اعتباره فاسداً من قبل ذلك المشرّع، نعم هذا الاستظهار انّما يكون في النهي المتعلق بالعقد بعنوانه.

وقد ذكر السيد الإمام (رحمه الله)(1) ان المعاملة إن كانت معاطاتية فهي وإن فرضت حرمتها لمثل كونها إعانة على الحرام أو تسهيلا لتحقق الإثم لكن النهي لم يتعلق بعنوان المعاملة كي يوجب الفساد وإنّما تعلق بعنوان آخر انطبق على المعاملة الخارجية وإن كانت بالعقد اللفظي فبعد وقوع العقد يقع التزاحم بين حرمة التعاون على الإثم ووجوب تسليم المثمن فان قلنا بترجيح الثاني وجب التسليم وعوقب على الإعانة سواء قلنا ببقاء الحكم في المتزاحمين على ما هما عليه من الفعلية أو قلنا بسقوط النهي، إذ أنّ إسقاط المولى للنهي هنا إنّما هو على أساس اضطراره إلى ذلك بسوء اختيار العبد وان قلنا بترجيح الأوّل لم يجز له التسليم.

أقول: يحتمل أنّ السيد الإمام (رحمه الله) أراد أن يقول: انّ العقد إن كان معاطاتياً فهو غير باطل لانّ متعلق النهي عنوان آخر غير عنوان العقد، وإن كان لفظياً فعدم بطلانه بطريق أولى لانّ النهي تعلق بالتسليم لا بالعقد. فإن كان هو هذا مقصود السيد الإمام فبالامكان أنْ يقال في مقام توجيه حرمة العقد اللفظي بما مضى من دعوى كونه مورّطاً للعبد في مخالفة أحد المتزاحمين بسوء اختياره. ويحتمل


(1) راجع المكاسب المحرمة للسيد الإمام (رحمه الله) 1: 149 ـ 150.

398

أنّه (رحمه الله)لم يقصد شيئاً من هذا القبيل وإنّما كان المقصود من تفصيله بين العقد المعاطاتي واللفظي في المقام مجرد بيان حال التزاحم الذي يقع في مورد العقد اللفظي دون المعاطاتي، أو بيان وجه آخر لبطلان العقد يختص بالعقد اللفظي وذلك بناء على ترجيح حرمة التسليم وهو ما ذكره (رحمه الله): من أنّه (ربّما يقال: انّ المعاوضة لدى العقلاء متقومة بإمكان التسليم والتسلم ومع تعذره شرعاً أو عقلا لا تقع المعاوضة صحيحة، وفي المقام يكون تسليم المبيع متعذراً شرعاً لعدم جوازه فرضاً وعدم جواز إلزامه عليه لا من قبل المشتري ولا الوالي ومع عدم تسليمه يجوز للمشتري عدم تسليم الثمن والمعاوضة التي هذه حالها ليست عقلائية ولا شرعية فتقع باطلة).

وأجاب (رحمه الله) عن ذلك بتعبيرين حيث أجاب عليه أولا بتعبير ثم ذكر تعبيراً آخر تحت عنوان (وإنْ شئت قلت) ممّا قد يوحي إلى انّهما تعبيران عن جواب واحد ولكن الصحيح انّهما جوابان لو أبطل أحد الأوّل منهما لم يبطل بذلك الثاني:

الجواب الأوّل ـ إنّ الشرط في صحة المعاملة إنّما هو القدرة التكوينية على التسليم والتسلم لا الشرعية، ونظّر السيد الإمام (رحمه الله) المقام بجواز ترك التسليم مع صحة البيع فيما لو كان أحد المتبايعين مديناً للآخر فحبس الدائن متاعه المبتاع لاستيفاء دينه فالبيع يكون هنا صحيحاً ولا يجوز للآخر حبس العوض فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل.

والجواب الثاني ـ انّ البائع قادر على التسليم وغير ممتنع عنه غاية ما هناك ان تسليمه مشروط بعدول المشتري عن قصد التخمير مثلا فنكول البائع إنّما هو بتقصير من المشتري وتسبب منه وفي مثله لا يكون النكول منافياً لمقتضى المبادلة بل يجب عليه تسليم الثمن وعدم مقابلة النكول بالنكول.

399

أقول: إنَّ الجواب الثاني أقوى من الجواب الأوّل فقد يورد على الجوابالأوّل بأنّ الارتكاز العقلائي يرى الملازمة بين تشريع حرمة التسليم وبطلان المعاملة في تلك الشريعة والعقلاء في تشريعهم العقلائي لو حرّموا التسليم الحقوا ذلك بفرض عدم إمكانية التسليم ويكون للطرف الآخر حق عدم تسليم العوض وقياس المقام بحبس الدائن المتاع المبيع لأجل استيفاء دينه قياس مع الفارق فان الحبس بعنوان استيفاء الدين يكون بمنزلة التسليم إذ وفّى به دين المشتري الذي كان يمتنع عن وفائه وهذا بخلاف ما نحن فيه. وهذا الإيراد كما ترى لا مجال له على الجواب الثاني.

وعلى أيّة حال فقد ذكر السيد الإمام (رحمه الله) في العقد الذي يهيّئ مقدمة الإثم للعاصي محاولتين لإثبات تعلق النهي بنفس عنوان المعاملة فيثبت البطلان أحدهما عام والآخر خاص ببيع العنب والتمر ممّن يصنع خمراً(1).

أمّا الوجه العام ـ فهو التمسك بحديث تحف العقول ليس بالفقرة الواردة في مكاسب الشيخ الأنصاري (رحمه الله) بل بفقرة ذكر السيد الإمام (رحمه الله) انّها ساقطة عن قلم الشيخ (قدس سره) أو لم تكن موجودة فيما كان يمتلكه من النسخة والفقرة ما يلي:

«وكذلك كل بيع (مبيع ظ) ملهوّ به وكل منهي عنه ممّا يتقرب به لغير الله، أو يقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي (وباب من أبواب الضلالة أو باب من أبواب الباطل) أو باب يوهن به الحق فهو حرام محرّم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه».

وما جعلناه في أثناء هذه العبارة بين القوسين هو الساقط من قلم الشيخ الأنصاري (رحمه الله).


(1) راجع المكاسب المحرّمة للسيد الإمام (رحمه الله) 1: 150 ـ 151.