418

د ـ أما أهلية الموعود له فتقدر وقت العقد النهائي لا وقت الوعد إذ لا يلتزم بشيء وقت الوعد وانّما التزامه يكون في وقت العقد النهائي، فلا نشترط فيه أهلية الالتزام وقت الوعد، نعم يجب أن تتوفر فيه أهلية التعاقد وهي التمييز وقت الوعد لأنّه عقد وهو أحد طرفيه.

هـ ـ أمّا عيوب الإرادة بالنسبة للموعود له فتقدّر له وقت الوعد ووقت التعاقد النهائي معاً لصدور الرضا منه في كلا الوقتين.

و ـ وسواء كان الوعد ملزماً لجانب واحد أو للجانبين فانّ مشروعية المحل والسبب يكفي توافرها وقت التعاقد النهائي(1).

أقول: انّ البند الثاني فيه إشكال من وجهة نظرنا في الفقه لانّ مثل الحجر في وقت العقد النهائي يكشف عن ان الوعد وقع على متعلق لم يكن مشروعاً في ظرفه، وان شئت فعبّر بأنّ الوعد عقد محلّه العقد النهائي، وشرط الأهلية في العقد النهائي يعتبر شرطاً للمحلّ بالنسبة للوعد لا بد من توفّره في وقت المحل.

 

العربون وأنواعه:

وأمّا العربون فيفسّر عادة بأحد تفسيرين:

1 ـ أن يكون مبلغاً من الثمن يدفع إلى البائع أو الموجر مثلا كي يكون لكل واحد من المتعاملين حق التراجع على ان يخسر مقداره أيّ من المتعاملين الذي سيتراجع عمّـا بنوا عليه من المعاملة.

2 ـ أن يكون دفعه شروعاً في تنفيذ المعاملة فهو مجرّد أداء الجزء من الثمن تأكيداً للعقد والبت فيه.


(1) الوسيط 1: 272 ـ 273، الفقرة 136.

419

وقد وقع الخلاف(1) في أقسام الفقه الوضعي في بيان ما هو الأصل فيتفسير العربون؟ والذي يحمل عليه ما لم يثبت الخلاف هل هو التفسير الأوّل أو الثاني؟ أو يؤخذ في كل زمان ومكان بما هو المتعارف في ذلك بين الناس؟

ومقتضى فقهنا الإسلامي بعد تسليم أصل فكرة العربون هو تفسير الكلام أو العمل الواقع بين المتعاقدين على ما تعارف عليه الناس في كل زمان ومكان ما لم يثبت الخلاف أو لم تدل القرائن المكتنفة على الخلاف لانّ المتعارف بين الناس يولد الظهور وهو حجّة.

وعلى أيّة حال فلا إشكال عندنا في العربون إن كان مجرّد أداء لجزء من الثمن شروعاً في تنفيذ العقد من دون أن يخسر أحدهما المبلغ لدى التراجع.

وإنّما الكلام في ما إذا وضع العربون كي يخسر مبلغه كل واحد منهما لدى تراجعه عن المعاملة وهذا قد يفرض جزءً من الثمن يخسره المشتري لو تراجع عن الشراء ويرجعه ومثله معه البائع لو تراجع عن البيع، وقد يفرض عدم كونه جزءً من الثمن بل قد يكون قبل تمامية العقد ويقصد به أيضاً خسارة كل منهما للمبلغ لدى التراجع عن المعاملة.

فرضيّة كون العربون جزءً من الثمن:

فإن فرض جزءً من الثمن دلّت على حرمته صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى ثوباً ولم يشترط على صاحبه شيئاً فكرهه ثم ردّه على صاحبه فأبى أن يقبله (يقيله ـ خ) إلّا بوضيعة قال: لا يصلح له ان يأخذه بوضيعة فان جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ على صاحبه الأوّل ما زاد(2)


(1) راجع الوسيط 1: 276 ـ 281، الفقرة 140 ـ 142.

(2) الوسائل 12: 392، الباب 17 من أبواب أحكام العقود.

420

وفي نقل الصدوق (رحمه الله) للحديث حذفت جملة «ولم يشترط على صاحبه شيئاًفكرهه» وكأن المقصود بالشرط هو شرط الخيار يعني انّه لم يكن له شرط الخيار كي يضطر البائع إلى الخضوع لرغبة المشتري في الفسخ ولذا أبى قبول ذلك إلّا بوضيعة، وعلى ايّة حال فان حرمت الوضيعة من دون شرط كان شرط العربون شرطاً مخالفاً للسنة، فان معنى مخالفة الشرط للسنة كونه متعلقاً بشيء كان في ذاته ولو لا الشرط خلاف السنة ومحرّماً، وبعدم احتمال الفرق ولو عرفاً نتعدّى من فرض اقتطاع البائع لجزء من الثمن لدى إقالته للمشتري إلى فرض اقتطاع المشتري لجزء من المبيع لدى إقالته للبائع.

فرضية عدم كون العربون جزءً من الثمن:

وإن لم يفرض العربون جزءً من الثمن دلّت على حرمته رواية وهب بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لا يجوز بيع العربون إلّا أن يكون نقداً من الثمن(1) بل هذا الحديث يدل على تحريم العربون بالمعنى الذي يوجب خسارة أحد الطرفين وان فرض أولا جزء من الثمن فان حمله على تحريم هذا التخسير في خصوص ما إذا لم يفرض جزء من الثمن بعيد لدى النظر إلى المناسبات العقلائية فكأن المقصود من قوله: (لا يجوز بيع العربون إلّا أن يكون نقداً من الثمن) هو ان العربون لا يجوز أن يحسب شيئاً عدا ان يحسب جزء من الثمن، أما أن يأخذه البائع لدى رجوع المشتري فهذا باطل لأنّه بعد الفسخ لم يعد جزءً من الثمن وإن كان أولا جزءً منه إلّا ان سند الحديث ضعيف بوهب.


(1) الوسائل 12: 405، الباب 28 من أبواب أحكام العقود.

421

وبالإمكان إثبات حرمة العربون الذي يخسره أحد الطرفين وإن لم يفرض جزء من الثمن بنفس صحيحة الحلبي الماضية الواردة في فرضه جزءً من الثمن وذلك بناء على ان لا يحمل الحديث على مجرد معنى انّه لو أقاله البيع وجب عليه إرجاع كل الثمن فعدم رجوع كل المبلغ رغم إقالة العقد ان لم يكن مستحيلا عقلا فهو باطل عرفاً وشرعاً بل يحمل على بيان منهج اقتصادي في الإسلام من دون خصوصية لفرض الإقالة مع عدم إرجاع كل الثمن فكل ما ينتج نفس هذه النتيجة فهو حرام فلو وافق على الإقالة بشرط ان يهبه ما يساوي جزء من الثمن وذلك بان يرجع إليه كل المبلغ ثم يأخذ جزء منه بعنوان الهبة المشترطة كان حراماً أيضاً وكذلك لو لم يوافق على الإقالة ولكنه وافق على ان يشتري منه العين بسعر أقل ممّا باعه عليه كان حراماً أيضاً لانّ النتيجة الاقتصادية لكل هذه الوجوه واحدة، نعم لو اتفق البيع الجديد من دون علاقة له في روحه بموضوع الإقالة كما لو صمّم المشتري بعد فترة على بيع ما اشتراه لا على أساس تندمه على الشراء وصادف ان اشتراه البائع الأوّل منه بسعر أقل لم يكن بذلك بأس.

أمّا الوجه في حمل هذا الحديث على هذا المعنى فهو أحد أمرين:

الأوّل ـ ان الحكم الذي يرد في مورد توجد له في أذهان العقلاء جذور عقلائية يكون حمله على التعبد البحت خلاف الظاهر بل ينصرف إلى تلك النكتة العقلائية، والنكتة العقلائية المتصورة في المقام هي استغلال الحالة الاضطرارية للفاسخ وأكل مبلغ من المال منه على هذا الأساس، ولا فرق في ذلك بين الإقالة بوضيعة أو الإقالة بشرط هبة جزء من الثمن، أو الشراء الجديد منه بسعر أقلّ وهذه هي نكتة التعدي من دليل حرمة الربا إلى تحريم الحيل الربوية في القرض، وهذا بخلاف تحريم الربا المعاملي، حيث لم تعرف نكتة عقلائية لتحريم مقابلة مقدار

422

من المكيل من جنس معيّن من القسم الجيّد بأزيد منه من القسم الرديء فلا تأتي هذه النكتة للتعدي إلى الحيلة.

والثاني ـ انّ الحكم الذي يرد في مورد وتوجد هناك حيلة توصلنا إلى نفس النتيجة المطلوبة عادة في تمام الموارد وبلا استثناء لا في بعض الموارد يكون من المترقب ان تلك الحيلة لو كانت جائزة لنبّه عليها الشارع كي لا يتورط الناس في المعصية إذ يصبح بإمكانهم الوصول إلى هدفهم عن الطريق الحلال كما نبّه في الروايات في الربا المعاملي على جواز الحيلة وعدم التنبيه على ذلك يكون ظاهراً في عدم جواز الحيلة. وهذا أيضاً وجه للتعدي من دليل حرمة الربا القرضي إلى خصوص الحيل التي تأتي في تمام الموارد أو غالبها وما نحن فيه من هذا القبيل فان الاحتيال بالبيع الجديد أو شرط الهبة ممكن دائماً. هذا كله لو قرأنا النص في صحيحة الحلبي بتعبير: (فأبى أن يقيله إلّا بوضيعة) أمّا لو قرأناه (فأبى أن يقبله إلّا بوضيعة) فقد تدّعى تمامية الإطلاق اللفظي لتحريم هذه الحيلة بلا حاجة إلى البيان الذي شرحناه، لانّ الشراء الجديد بسعر منخفض أيضاً قبول بوضيعة.

إلّا أنّ الظاهر انّ الوجه الأوّل لا يتم في المقام وذلك لانّ النكتة العقلائية لا تنحصر في المقام بما مضى من استغلال الحالة الاضطرارية للفاسخ فلعل النكتة العقلائية في تحريم الإقالة بوضيعة هي انّ الإقالة فسخ للعقد والمفروض عرفاً وعقلائياً عند انفساخ العقد رجوع كل المبلغ، حتى انّه قيل انّ هذا عقليّ وهذه النكتة لا تأتي في شرط الهبة أو البيع الجديد بسعر أرخص، وهناك نكتة ثالثة متشرعية وهي الاقتراب من ربا الصرف حيث يكون الفسخ مع استرجاع جزء من الثمن بمنزلة حذف العين المبيعة من الوسط والمبادلة بين نقدين مختلفين في المبلغ نظير ما ورد في بعض الروايات من النهي عن بيع ما اشترى سلفا قبل تسلّمه

423

على نفس البائع بسعر أقل(1) وورد في بعضها التعليل برجوعه إلى الربا(2) هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل.

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو انّ عدم ذكر الحيلة التي يمكن إعمالها في تمام الموارد دليل على حرمته، فان قصد بذلك ان عدم ذكرها حتى في حديث آخر منفصل عن حديث تحريم الإقالة بوضيعة دليل على ذلك، باعتبار انّه لو جازت هذه الحيلة لكان المترقب الإشارة من الشريعة إلى جوازها انقاذاً للناس من الحرام، وإرشاداً لهم إلى طريق محلّل للوصول إلى هدفهم سواء كانت الإشارة متصلة بالكلام أو في حديث منفصل، ولو كان هذا لوصلنا ولو في رواية ضعيفة السند لانّ المسألة عامّة الابتلاء ولم يصلنا في المقام.

فالجواب: ان مثل هذا قد وصلنا في المقام ضمن روايات ضعيفة وضمن روايات تامّة سنداً كلها دلّت على جواز بيع المبيع مرة اُخرى من بائعه بسعر أقلّ مما اشتراه به منه. فهناك روايات ضعيفة السند وردت في جواز إرجـاع العين المسلّم فيها قبل قبضها إلى بائعها بسعر أقلّ(3)، ولو تمّت سنداً أوجبت حمل النواهي التي أشرنا إليها عن ذلك على الكراهة. وهناك روايات كثيرة منها تامّة سنداً وفيها ما هي ضعيفة سنداً وردت في جواز بيع العينة، وهو بيع العين الشخصيّة


(1) من قبيل ما في الوسائل 13: 68، 70، 72، 73، الباب 11 من أبواب السلم، الحديث 1، 9، 14، 16.

(2) من قبيل ما في الوسائل 13: 71 ـ 72، الباب 11 من أبواب السلم، الحديث 12 و 13 و 15.

(3) من قبيل ما في الوسائل 13: 69، 70، 71، الباب 11 من أبواب السلم، الحديث 5، 8، 11.

424

بسعر نسيئة ثمّ شراؤه منهبسعر أرخص نقداً تزويداً للمشتري بعين من النقد مع الربح عليه(1)، وفي بعضها ما يدلّ على تقيّد الجواز بما إذا لم يشترط البيع الثاني في ضمن البيع الأوّل، من قبيل ما في كتاب عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم إلى رجل ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد أيحلّ؟ قال إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس(2) وتخصيص هذه الروايات بمورده من كون الثمن في البيع الأوّل مؤجّلا بعيد فان المترقب هو أن يزيد تأجيله في الإشكال بملاحظة اقترابه من الربا القرضي لا ان يخفّف الإشكال، ولعله انّما فرض السائل قيد الأجل كي يعرف حال هذا الإشكال وقد حلّه الإمام (عليه السلام)بفرض عدم الشرط.

وهذه الروايات الواردة في تحليل بيع العينة توجب حمل ما ورد من النهي عنه على الكراهة وهو ما عن عبد الصمد بن بشير قال سأله محمد بن القاسم الحنّاط فقال: أصلحك الله أبيع الطعام من الرجل إلى أجل فأجيء وقد تغيّر الطعام من سعره فيقول ليس عندي دراهم؟ قال: خذ منه بسعر يومه قال: افهم أصلحك الله إنّه طعامي الذي اشتراه منّي قال لا تأخذ منه حتى يبيعه ويعطيك قال أرغم الله أنفي رخّص لي فرددت عليه فتشدّد عليّ(3).


(1) من قبيل ما في الوسائل 12: 392، الباب 16 من أبواب أحكام العقود، الحديث 23 و 24، وذكرهما أيضاً في 13: 75، الباب 12 من السلف، الحديث 6 و 7، وراجع الوسائل 12: 370 ـ 371، الباب 5 من أبواب أحكام العقود، الحديث 3 فصاعداً، وأكثر أحاديث الباب 6 منها الصفحة 371 ـ 373.

(2) الوسائل 12: 371، الباب 5 من أبواب أحكام العقود، الحديث 6.

(3) الوسائل 13: 75، الباب 12 من أبواب السلف، الحديث 5.

425

ولا يقال: إنّ النهي الوضعي لا يمكن حمله على الكراهة. فإنّه يقال: ان هذا إنّما يكون في الحكم الوضعي الذي بيّن بصياغة اُخرى غير النهي، أمّا النهي فبعد ان يحمل على التنزيه تبطل دلالته على البطلان الوضعي.

هذا إن لم نفهم من هذا الحديث ابتداءً الكراهة ولم نقل ـ على الأقل ـ بالإجمال.

والخلاصة ان هذا الحديث ان كان دالّاً على التحريم فهو محمول على الكراهة وكذلك حديث خالد بن الحجاج(1) غير التام سنداً وذلك بقرينة سائر الأخبار من قبيل ما عن بشار بن سيار قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يبيع المتاع بنساء فيشتريه من صاحبه الذي يبيع منه؟ قال: نعم لا بأس به فقلت له اشتري متاعي؟ فقال ليس هو متاعك ولا بقرك ولا غنمك(2).

هذا كله إذا كان المقصود من الوجه الثاني أنّ ترك ذكر الحيلة حتى منفصلا دليل على تحريمها.

أمّا إذا كان المقصود أنّ ترك ذكرها متصلا دليل التحريم باعتبار انّنا نترقّب من الشارع عند تحريمه لشيء مع وجود حيلة محلَّلة توصل إلى نفس الهدف دائماً هو بيان تلك الحيلة متصلا فمن الواضح ان هذه الدلالة ليست بأفضل من دلالة إطلاقية تتقدم عليها أحاديث تجويز العينة.

ومنه يظهر الحال فيما لو قرأنا صحيحة الحلبي بتعبير «أبى أن يقبله إلّا بوضيعة» فدلّت بالإطلاق اللفظي على المنع عن البيع الجديد بوضيعة، فان هذا


(1) الوسائل 13: 74، الباب 12 من أبواب السلف، الحديث 3.

(2) الوسائل 12: 370، الباب 5 من أبواب أحكام العقود، الحديث 3.

426

الإطلاق يقيّد بروايات العينة، نعم لو لا إمكانية التقييد لم يمكن الجمع بينها وبين روايات العينة بوجه آخر وهو حمل الصحيحة على الكراهة فان ذيل الحديث واضح في الحكم الوضعي حيث يقول:

«فان جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ على صاحبه الأوّل ما زاد».

حرمة الإقالة بوضيعة:

ثم انّ حرمة الإقالة بوضيعة كما يمكن إثباتها بصحيحة الحلبي كذلك يمكن إثباتها بوجهين آخرين:

الوجه الأوّل ـ التمسك بقوله تعالى: ﴿لا تأكلوا أمـوالكم بينكم بالبـاطل إلّا أن تكون تجارة عن تراض منكم﴾(1) بناء على انّ حمل الآية على الاستثناء المتصل بان يكون المعنى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بكل سبب فانه باطل إلّا أن تكون تجارة عن تراض أقرب من حملها على الانقطاع الذي هو خلاف الطبع والذوق العرفي، فالآية تدل على تحريم أكـل المـال بكـل سبب غير التجـارة عن تراض والتجارة عبارة عن مبادلة مال بمال فلا تشمل الهبة ونحـوها من انحاء التبرعات، نعم خرج من الآية ما يكون بروح التبرّع بمقيد ارتكازي كالمتصل لوضوح ان التبرّع يعتبر إحساناً لا باطلا فخـروج انحـاء التبـرع من الآية لا يشكّل تخصيصاً للأكثر لان خروجها تخصصيّ، إذن فمفاد الآية ـ والله العـالم ـ ان أكل المال حينما لا يكون على أسـاس روح التبـرع والإحسـان يجـب أن يكون في مقـابل مـال آخـر من عمل أو حقّ أو عين ونحو ذلك وإلّا لكان أكلا للمال بالباطل، وأكل المال بالإقالة لا يعتبر أكلا للمال بالباطل لان


(1) النساء: 29.

427

الإقالة(1) وان لم تعتبر عقلائياً مبادلة جديدة ولا تكون تجارة ولكنها بمنزلة الرجوع إلى الأكل بالسبب الأوّل الذي كان قبل العقد، لان الإقالة فسخ للعقد ولكن أكل جزء من المال تحت عنوان الإقالة بوضيعة أكل للمال بالباطل، إذ السبب الأوّل لم يكن يشمله، ولم تتم مبادلة بينه وبين مال حتى يدخل في التجارة عن تراض، ولم يكن الأمر بروح التبرع والإحسان حتى يكون خارجاً من مورد الآية تخصصاً.

لا يقال: ان هذا الجزء من المال يأخذه في مقابل الإقالة فانها عمل ذو مالية.

فانّه يقال: انّ الإقالة والفسخ تعتبر قيمتهما عقلائياً مندكّة في قيمة العين المقالة والمفسوخة ولا تعتبر لهما قيمة مستقلّة(2).


(1) لا يخفى انّ الإقالة تختلف عن البيع الجديد في انّ البيع الجديد يشتمل على عنوان التمليك والتملك بإيجاب وقبول ولكن الإقالة عبارة عن إبراز الرضا بان يفسخ الطرف المقابل العقد وليست هي ولا مع الفسخ إيجاباً وقبولا بمعنى إنشائين كما هو الحال في البيع، ولكن مع هذا لا ينبغي الإشكال في انّ الفسخ والإقالة يستبطنان في روحهما تبادلا جديداً ولو بغير لسان الإيجاب والقبول وبغير لسان التمليك والتملّك ولا يرجعان بالدقة إلى فسخ العقد حقاً فان العقد في غير العقود الراجعة إلى توافق يستمرّ فترة زمنية كما في استئجار الشخص للعمل فترة من الزمن توافق آنيّ فالبيع ليس عدا توافق آنيّ لا معنى لفسخه لانّ الشيء لا ينقلب عما وقع عليه بل لعل الحال كذلك في مثل عقد الاستئجار لانّ التوافق على كل الفترة الزمنيّة يتم في آن واحد ولذا لو رجع أحدهما بلا حق ومن دون موافقة الآخر كان العقد باقياً يجب الوفاء به، ولكن رغم هذا نقول: انّ الإقالة ليست عرفاً تبادلا جديداً بل هي في نظر العرف تعتبر حلاًّ للعقد ولذا لا تكون داخلة تحت عنوان التجارة.

(2) هذا الكلام لا يخلو من إشكال.

428

لا يقال: انّه لو جعل في ضمن البيع لأحدهما أو لكليهما حق الخيار بشرط التنازل عن مبلغ من المال فهذا المال يكون في مقابل حق الخيار الذي له مالية وليس أكلا للمال بالباطل.

فإنّه يقال: ان جعل مال في مقابل جعل الخيار صحيح لا إشكال فيه لكن هذا لا ينتج التنازل عن مبلغ من المال لدى التراجع عن البيع الذي هو محل الكلام وانّما ينتج التنازل عن مبلغ من المال في مقابل ان يكون له حق الخيار سواء أعمله بالتراجع والفسخ أو لم يعمله.

وهذا النمط من الاستدلال يمتاز عن الاستدلال بصحيحة الحلبي في أمرين:

الأوّل ـ انّه لو لم نقبل التعدي من مورد صحيحة الحلبي بناء على قراءة «فأبى أن يقيله إلّا بوضيعة» إلى الإقالة بشرط هبة جزء من الثمن، أو هبة مبلغ اجنبيّ عن الثمن بدعوى انّ الإقالة بوضيعة تعني رجوع العين كاملة مع عدم رجوع الثمن كاملا فهذا هو المنهيّ عنه دون شرط هبة مبلغ من المال، فالتمسك بهذه الآية كفيل بتحريم ذلك فانّ هبة هذا المبلغ من المال ليست بروح التبرع والإحسان كما هو واضح فهذا أكل للمال بالباطل إذ لا يوجد في مقابله مال آخر.

والثاني ـ انّه لو لم نقبل التعدي من مورد صحيحة الحلبي، وهو إقالة البائع للمشتري بوضيعة في الثمن إلى العكس وهو إقالة المشتري للبائع بزيادة في الثمن أو بوضيعة في المثمن، فالآية كفيلة بتحريم كل ذلك لأنّه أكل للمال بالباطل.

الوجه الثاني ـ أن يقال: انّ الثمن الذي يأخذه البائع في مقابل الإقالة إمّا هو بروح تدارك خسارة تجميد ماله، إذ لو كان يعلم انّ المشتري سيفسخ المعاملة لكان يبيع العين من مشتر آخر فقد خسر التجارة خلال هذه الفترة إلى الفترة المستمرة من زمن البيع إلى زمن الفسخ، فهو في الحقيقة يأخذ شيئاً من الثمن في

429

مقابل هذه الفترة الزمنية، أو بروح استغلال الحالة الاضطرارية للمشتري واستفادة مبلغ من المال لا في مقابل شيء، والأوّل مردوع بأدلّة حرمة الربا بناء على التعدي من موردها إلى ما فيه هذه الروح واستفادة قاعدة اقتصادية عامة منها وهي إسقاط قيمة الزمن أو قيمة تجميد المال في فترة زمنية، والثاني مردوع بالروايات المانعة عن أكل المال لا في مقابل شيء كروايات تحريم المقامرة(1)وروايات تحريم بيع السمك في الآجام(2) أو الحليب في الضرع(3) أو الآبق(4) أو ما في البطون(5) من دون ضميمة وذلك بناء على عدم الاقتصار على موارد هذه الروايات واستفادة روح عامّة منها وهي المنع عن أكل المال لا في مقابل شيء، فبضم مجموع هذه الروايات إلى دليل حرمة الربا نستفيد نفس المعنى الذي استفدناه من آية حرمة أكل المال بالباطل، وهو انّ المال المأخوذ لا بروح التبرع يجب أن يكون في مقابل مال آخر بتراض وإلّا كان أكلا للمال بالباطل، فهذا الوجه أيضاً كالوجه الأوّل يمتاز عن صحيحة الحلبي بالامتيازين اللذين شرحناهما وقد يقال بالنسبة لروايات حرمة القمار: ان من المحتمل أن تكون نكتة الحرمة هي الجهالة وهي غير موجودة في الإقالة بوضيعة.

إلّا أنّ هذا البيان لا يأتي في روايات بيع السمك في الآجام ونحوها لانّ الضميمة لم ترفع الجهالة ومع ذلك صححت البيع إلّا ان يفترض ان منشأ الحرمة


(1) راجع الوسائل 12: 119 ـ 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به.

(2) راجع الوسائل 12: 263 ـ 267، الباب 12 من أبواب عقد البيع وشروطه.

(3) راجع الوسائل 12: 259، الباب 8 من أبواب عقد البيع وشروطه.

(4) راجع الوسائل 12: 262 ـ 263، الباب 11 من أبواب عقد البيع وشروطه.

(5) راجع الوسائل 12: 261 ـ 262، الباب 10 من أبواب عقد البيع وشروطه.

430

هي الجهالة التامة التي ترتفع بالضميمة.

فلو شكّكنا في هذا الوجه بإبداء احتمال كون منشأ الحرمة هو الجهالة، أو إبداء لزوم الاقتصار على مورد الروايات وشكّكنا في الوجه الأوّل بعدم قبول الاستظهار الذي استظهرناه من الآية أمكن حل الإشكال بالجمع بين الوجهين ضمن روايات تحريم القمار التي استشهد فيها بآية حرمة أكل المال بالباطل(1)فيعرف بذلك المقصود من الآية ومن الروايات: وهو ان أكل المال لا في مقابل مال أكل بالباطل، إلّا أنّ هذه الروايات ضعيفة سنداً والصحيح منها غير مشتمل على الاستشهاد بالآية.

نعم بالإمكان تأييد الاستدلال بأحاديث المقامرة بحديث محمد بن مسلم التام سنداً عن أحدهما (عليهما السلام) قال: لا تصح المقامرة ولا النهبة(2) بدعوى ان عطف النهبة على المقامرة يعطي للكلام ظهوراً في أنّ النظر في تحريم المقامرة إلى كونها كالنهبة أكلا للمال من دون مقابل.

وبعد فان هذين الوجهين انّما يدلان على حرمة الإقالة بوضيعة ولا يدلان على حرمة البيع الجديد بسعر أقلّ فان البيع الجديد بسعر أقل تجارة عن تراض وليس أكلا للمال بالباطل وقد عرفت دلالة الروايات أيضاً على جواز ذلك فهل يمكن ـ بناء على هذا ـ الاتخاذ من فكرة البيع الجديد حيلة لتحليل نتيجة العربون الذي يخسره كل من يتراجع عن البيع وذلك بان يشترط ضمن البيع الأوّل قبول أحد الطرفين أو لكل منهما إذا أراد صاحبه ببيع العين على البائع الأوّل بسعر أقل


(1) الوسائل 12: 119 و 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 8 و 9 و 14.

(2) الوسائل 12: 120، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

431

أو أكثر؟ أي أن التراجع لو كان من المشتري فعلى البائع أن يقبل ابتياع العين ولو بسعر أقل، ولو كان من البائع فعلى المشتري أن يبيع العين من البائع ولو بسعر أكثر ! الظاهر أنّ هذا غير جائز وذلك للروايات التي تنهى عن إيجاب بيع جديد للعين قبل تمامية شرائها، وهي وإن وردت في البيع من شخص ثالث دون البيع من الشخص الأوّل لكن مع فرض عدم احتمال الفرق أوالتعدي العرفي يثبت المطلوب.

وتلك الروايات بعضها ظاهر في المنع عن بيع العين قبل شرائها(1) وهذا اجنبيّ عمّـا نحن فيه إذ المفروض في ما نحن فيه أن البيع الثاني انّما يتحقق بعد تمامية البيع الأوّل لا قبله، وبعضها قد يكون مجملا من قبيل حديث: «لا توجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها»(2) حيث يحتمل أن يكون المقصود من مواجبة البيع إيجاد البيع فيخرج عمّـا نحن فيه أيضاً، ولكن جملة من تلك الروايات مطلقة تشمل بإطلاقها إلزام المشتري الجديد بالشراء قبل تمامية البيع الأوّل، ولو لم يكن هذا الإلزام عبارة عن إيقاع البيع بالفعل، وذلك من قبيل ما عن معاوية بن عمّـار قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)يجيئني الرجل يطلب منّي بيع الحرير وليس عندي منه شيء فيقاولني عليه وأقاوله في الربح والأجل حتى نجتمع على شيء ثم اذهب فاشتري له الحرير فادعوه إليه ! فقال أرأيت إن وجد بيعاً هو أحبّ إليه ممّا عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك، أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه؟ قلت نعم قال فلا بأس(3) ونحوها غيرها(4).


(1) من قبيل ما في الوسائل 12: 377، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، الحديث 6 و 8.

(2) الوسائل 12: 378، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، الحديث 13.

(3) الوسائل 12: 377، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، الحديث 7.

(4) راجع المصدر السابق: الحديث 4 و 9 و 11 و 12 و 14.

432

اذن فالنتيجة هي أنّ شرط خسارة العربون غير جائز حتى إذا كان على شكل شرط بيع جديد، نعم لو اتفقا صدفة بعد البيع الأوّل على إرجاع العين إلى البائع ببيع جديد بثمن أقلّ أو أكثر برضاهما ومن دون كون أحدهما مجبوراً على القبول على أساس شرط سابق كان هذا جائزاً.

وختاماً نلخص بطلان شرط خسارة العربون بمقتضى القواعد العامّة بالشكل الذي بحثناه حتى الآن كالتالي:

إنّ شرط خسارة العربون يفسّر بأحد تفاسير ثلاثة وكلّها باطل:

الأوّل ـ شرط عدم رجوع هذا الجزء من الثمن إلى المشتري بالإقالة فتكون الإقالة مؤثرة في رجوع المثمن إلى بايعه وجزء من الثمن إلى المشتري.

وهذا غير صحيح لأنّ رجوع تمام الثمن بالفسخ أمر قهريّ عقلائياً.

والثاني ـ شرط تمليك مقدار العربون للبائع أو شرط دخوله في ملكه.

وهذا يرد عليه انّ هذا الأمر لا هو داخل في التجارة عن تراض إذ ليس تجارة ولا هو عطاء بروح التبرّع لأنّ المشتري لدى إرادة الفسخ لا يطيب عادة نفساً بذلك فشرطه شرط لما يخالف الكتاب.

والثالث ـ شرط بيع المشتري للمثمن لدى ندمه على المعاملة الاُولى بسعر أرخص من السعر الأوّل على البايع.

وهذا مخالف لروايات النهي عن ايجاب البيع الجديد قبل تمامية البيع الأوّل.

دعوى استلزام العربون للغرر:

وهناك وجه آخر لتحريم شرط العربون الذي يخسره أحدهما وهو التمسك بكون ذلك موجباً للغرر وقد نقل هذا الدكتور السنهوري(1) عن بعض علماء السنّة


(1) راجع مصادر الحق 2: 91 ـ 96.

433

وفهم هو من كلماتهم انّ المقصود كون عدم اشتمال الخيار لمدة معيّنة موجباً للغررولهذا عالج السنهوري نفسه الإشكال باشتراط مدة معيّنة للخيار تعيّن منذ البدء بينهما.

أقول: وقد يقصد بالغرر في المقام تعليق الخيار على أمر مجهول التحقق وهو بذل مريد الفسخ لمبلغ العربون. ولكن هذا أيضاً غير صحيح لأنّ هذا تعليق على أمر داخل تحت قدرة الفاسخ ومجهولية تحققه ليست باشدّ حالا من مجهولية تحقّق نفس الفسخ من الفاسخ. على انّ حديث الغرر في رأينا ضعيف السند فهو وارد في سنن البيهقي(1) ووارد أيضاً في كتبنا الروائية بأسانيد غير تامة(2).

هذا مضافاً إلى ان كون الغرر بمعنى مطلق الجهالة غير معلوم فمن المحتمل قوياً كونه بمعنى الخداع، أو يشمل الجهالة الفاحشة القريبة من الخداع، أما في المقام فتعليق الخيار على دفع مبلغ من المال ينفع المفسوخ عليه العقد لا انّه يوجب خداعه أو غرره.

روايات مبطليّة الجهالة:

وبهذه المناسبة لا بأس بالإشارة إلى ان لدينا روايات اُخرى قد يفترض حلولها محل حديث الغرر في بيان مبطليّة الجهالة من قبيل:

1 ـ ما عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ما كان من طعام سمّيت فيه كيلا


(1) سنن البيهقي 5: 338.

(2) راجع الوسائل 12: 330، الباب 40 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3، والمستدرك 2: 470، الباب 31 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1، والصفحة 461، الباب 7 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث الوحيد في الباب.

434

فلا يصلح بيعه مجازفة وهذا ممّا يكره من بيع الطعام(1) ونحوه غيره(2).

إلّا انّ الظاهر انّ هذه الروايات اجنبية عن المقام وان المقصود منها النهي عن بيع الطعام باسم كيل معيّن جزافاً ومن دون كيل لا النهي عن مطلق بيع صبرة جزافاً.

2 ـ ما عن محمد بن حمران قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) اشترينا طعاماً فزعم صاحبه انّه كاله فصدّقناه وأخذناه بكيله فقال لا بأس، فقلت: أيجوز أن أبيعه كما اشتريته بغير كيل؟ قال لا أما أنت فلا تبعه حتى تكيله(3) فقد يقال ان هذا النهي مطلق يشمل مثل بيع الصبرة جزافاً. إلّا انّ الصحيح انّ هذا الحديث أيضاً اجنبيّ عن ذلك فان المستفاد من كلمة (كما اشتريته) هو كون المقصود الاعتماد في البيع الثاني على كيل البائع الأوّل لا البيع بدون كيل، فالممنوع في هذا الحديث انّما هو هذا الاعتماد فمفاد الحديث هو انّك من حقك ان تعتمد على كيل صاحبك الذي تشتري منه ولكن لا تبعه باسم ذلك الكيل من دون أن تكيله.

3 ـ ما عن سماعة قال سألته عن شراء الطعام وما يكال ويوزن هل يصلح شراؤه بغير كيل ولا وزن؟ فقال امّا ان تأتي رجلا في طعام قد كيل ووزن تشتري منه مرابحة فلا بأس ان اشتريته منه ولم تكله ولم تزنه إذا كان المشتري الأوّل قد أخذه بكيل أو وزن وقلت له عند البيع انّي اربحك كذا وكذا وقد رضيت بكيلك ووزنك فلا بأس(4) فقد يقال ان مقتضى إطلاق مفهوم الحديث المنع عن شراء


(1) الوسائل 12: 254، الباب 4 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 1.

(2) راجع المصدر السابق: الحديث 2 و 3.

(3) الوسائل 12: 256، الباب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 4.

(4) الوسائل 12: 257، الباب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 7.

435

صبرة بغير كيل إذ لا بد من الكيل ولو من قبل المشتري الأوّل.

ولكن الظاهر أنّ ذكر المرابحة في الحديث قرينة، أو صالحة للقرينية على كونه اجنبياً عن المقام، فذكر المرابحة في الحديث يعني أحد أمرين: فامّا ان المقصود ذكر المرابحة في مقابل البيع المستقل تماماً عن البيع الأوّل وهذا يعني انّ البيع الجديد لو كان مستقلا تماماً عن البيع الأوّل ففي الاعتماد على الكيل نوع حزازة (وإن ثبت جوازه بمثل الحديث السابق) امّا لو كان مرابحة فلا بأس بذلك، وهذا يعني ان هذا الحديث أيضاً لا ينظر إلى مثل بيع الصبرة جزافاً وانّما ينظر إلى مدى إمكانية الاعتماد على الكيل في البيع السابق لمن أراد أن يبيع كيلا.

وإمّا أنّ المقصود ذكر المرابحة في مقابل التولية، بمعنى إبراز أخفى الإفراد في جواز الاعتماد على الكيل السابق، أي انّك ان اشتريته مرابحة جاز لكما الاعتماد على الكيل السابق فضلا عن بيع التولية الذي يحل المشتري الجديد فيه محلّ المشتري الأوّل فكأنّه لا يوجد إلّا بيع واحد، فمفاد هذا الحديث هو مفاد الحديث السابق من جواز الاعتماد في البيع الجديد على كيل المشتري الأوّل ولا علاقة له بالمقام، وهذا الاحتمال في الحديث أقوى من الاحتمال الأوّل.

4 ـ ما عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله انّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري الطعام أشتريه منه بكيله وأصدّقه؟

فقال، لا بأس ولكن لا تبعه حتى تكيله(1)، الظاهر انّه أيضاً اجنبيّ عن المقام وناظر إلى مسألة الاعتماد على الكيل السابق لمن يبيع كيلا لا صبرة وجزافاً.


(1) الوسائل 12: 257، الباب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 8.

436

5 ـ ما عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لا يصلح للرجل ان يبيع بصاع غير صاع المصر(1). فقد يقال: إنّ الحديث يشمل بإطلاقه ما إذا كان الصاع الجديد مجهول المقدار لدى المشتري وما إذا كان المشتري يتخيل تساويه للصاع المألوف فالثاني يشتمل على الخداع والأوّل يشتمل على بيع مجهول المقدار فكلاهما منهي عنه ومحل الكلام هو بيع مجهول المقدار وهذا في واقعه إطلاق بملاك حذف المتعلق، إذ بعد العلم بانّه لا إشكال في البيع بصاع جديد مع معرفة نسبته إلى الصاع المعروف يكون المتعلق المحذوف هو فرض الجهالة أو فرض الخداع وحذف المتعلق يقتضي الإطلاق لهما معاً أو يقال ان الإطلاق في المقام لا علاقة له بحذف المتعلق وذلك لانّ فرض معرفة نسبة الصاع الجديد إلى الصاع المألوف يرجع في واقعه إلى الكيل بالصاع المعروف، فكل كيل بصاع جديد غير مألوف يكون منهياً عنه بهذا الحديث.

ولكن لا يبعد ظهور الحديث في إرادة فرض الخداع أو إجماله على الأقل، وذلك لأنّ الاعتماد على الصاع الجديد مع فرض الجهالة لا نكتة فيه فلم لا يتعاملان على صبرة جزافاً بلا صاع جديد؟! وانّما نكتة الصاع الجديد هي مخادعة المشتري ويؤيد هذا التفسير وروده في حديث آخر لمحمد الحلبي ولعله في واقعه نفس الحديث الأوّل عن أبي عبد الله (عليه السلام) لا يحل لأحد ان يبيع بصاع سوى صاع المصر فان الرجل يستأجر الحمّال فيكيل له بمدّ في بيته لعله يكون أصغر من مدّ السوق، ولو قال هذا أصغر من مدّ السوق لم يأخذ به، ولكنه يحمله


(1) الوسائل 12: 258، الباب 6 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 2، والصفحة 280، الباب 26 منها، الحديث 1.

437

ذلك ويجعله في أمانته وقال لا يصلح إلّا مدّ واحد والأمنان بهذهِ المنزلة(1) إلّا انّ هذا الحديث ضعيف بإرسال في سنده.

6 ـ ما عن عبد الأعلى بن أعين قال نبّئت عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه كره شراء ما لم تره(2).

7 ـ ما عن محمد بن سنان قال نبّئت عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه كره بيعين:

اطرح وخذ على غير تقلّب، وشراء ما لم تر(3) وهما إضافة إلى سقوطهما سنداً لا يدلان على أكثر من الكراهة.

8 ـ ما عن محمد بن العيص قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى ما يذاق يذوقه قبل أن يشتري؟ قال نعم فليذقه ولا يذوقنّ ما لا يشتري(4) فقد يقال: ان الأمر بالذوق دليل على حرمة بيع المجهول، ولكن الحديث إضافة إلى ضعف سنده ظاهرفي الأمرفي مقام توهّم الحظرخصوصاً مع قوله: ولايذوقنّ مالا يشتري.

9 ـ روايات ضعيفة السند نهت عن جعل الثمن ديناراً غير درهم لانه لا يدري كم الدينار من الدرهم(5) وأكثرها مشتملة على (كلمة الكراهة)، وحديث واحد منها مشتمل على كلمة فاسد معللا بقوله: (فلعل الدينار يصير بدرهم) وهذا يعني الاحتراز عن فقدان الثمن نهائياً، وعلى أيّة حال فالظاهر انّ الروايات ناظرة إلى فرض النسيئة كما ورد التصريح بذلك في بعضها إذ مع عدم النسيئة لا حاجة


(1) الوسائل 12: 280، الباب 26 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 2.

(2) الوسائل 12: 279، الباب 25 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 2.

(3) الوسائل 12: 279 ـ 280، الباب 25 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 3.

(4) الوسائل 12: 279، الباب 25 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 1.

(5) الوسائل 12: 398 ـ 399، الباب 23 من أبواب أحكام العقود.

438

إلى جعل الثمن ديناراً غير درهم بل الأمر الطبيعي عندئذ جعل الدرهم جزءً من المثمن ولا يبقى عندئذ أي إشكال، فإذا كانت الروايات ناظرة إلى فرض النسيئة فمفادها انّ قيمة الدرهم بالقياس إلى الدينار وكذا العكس بما انّها كانت غير ثابتة لا يكون تعيّن واقعي لمبلغ الثمن وهذا كما ترى اجنبيّ عن المقام.

10 ـ وهناك روايات تمنع عن بيع الطعام المشترى قبل أن يكال(1) ناظرة إلى ما اشتراه على شكل الكلّي في المعيّن ثم باعه قبل أن يُميّز بالكيل فهذا من سنخ المنع عن البيع قبل القبض ولا علاقة له بالمقام، وقد ورد أيضاً ما يجوّز ذلك(2) بأسانيد غير تامّة، وورد بسند تام التفصيل بين المكيل وغيره، ففي الأوّل لا بد من القبض دون الثاني(3) وورد أيضاً بسند تام التفصيل في الطعام بين بيع التولية والبيع مع الربح فلا بد من القبض في الثاني دون الأوّل(4) وبحث ذلك موكول إلى محله.

وقد يخطر بالبال إثبات صحة مثل بيع الصبرة جزافاً بما عن جميل عن زرارة قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى تبن بيدر قبل ان يداس تبن كل بيدر بشيء معلوم يأخذ التبن ويبيعه قبل أن يكال الطعام؟ قال: لا بأس. هكذا ورد في التهذيب(5) ولكن ورد في الكافي بدلا عن «تبن كل بيدر» قوله: «تبن


(1) الوسائل 12: 388 ـ 390، الباب 16 من أبواب أحكام العقود، الحديث 5 و 11 و 13 و 14 و 17.

(2) الوسائل 12: 388، 391، الباب 16 من أبواب أحكام العقود، الحديث 3 و 6 و 19.

(3) الوسائل 12: 389، الباب 16 من أبواب أحكام العقود، الحديث 10.

(4) الوسائل 12: 389، الباب 16 من أبواب أحكام العقود، الحديث 9.

(5) التهذيب 7: 125، الحديث 547.

439

كل كرّ»(1) ورواه الصدوق بإسناده عن جميل انّه سأل أبا عبد الله وجاء فيه «تبن كل بيدر»(2) وكذلك ما رواه الصدوق بإسناده عن جميل عن زرارة انّه سأل أبا جعفر (عليه السلام)(3) والتبن ما قطّع من سنابل الزرع كالبُرّ ونحوه والبيدر الموضع الذي يجمع فيه الحصيد، والظاهر ان الحديث اجنبيّ عن المقام وذلك بقرينة قوله: (يبيعه قبل ان يكال الطعام) فهذا يعني ان الشراء الأوّل كان مقدّراً بالكيل إلّا انه لم يتم بعدُ الكيل والقبض، فالسؤال إذن راجع إلى البيع قبل الكيل والقبض وهذا يعني ان نسخة الكافي وهي قوله «تبن كل كرّ بشيء معلوم» اصحّ من نسخة «تبن كل بيدر» وإن كان هذا التضارب في النسخ اختص بحديث زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام)، أمّا حديث زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)وحديث جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام)فلم يرد فيهما إلّا «تبن كل بيدر» وممّا يشهد كون التعبير الأصح هو ما في الكافي انّه لم تفرض في صدر الحديث شراء عدة بيادر حتى يقال: «تبن كل بيدر بشيء معلوم».

نعم لا بأس بالاستدلال على عدم اشتراط معلومية المقدار بمثل روايات بيع السمك في الآجام واللبن في الضرع بضميمة بعد فرض إلغاء خصوصية المورد، كما لا بأس بالتمسك بالإطلاقات.

هذا تمام كلامنا في البحث الأوّل من أبحاثنا في الإرادة.

 


(1) الكافي 5: 180، الحديث 8.

(2) من لا يحضره الفقيه 3: 210، الحديث 3784.

(3) من لا يحضره الفقيه 3: 226، الحديث 3835.

441

 

 

 

 

المقارنة بين فقدان الإرادة ووجودها المعيب

 

 

وأمّا البحث الثاني ـ وهو في المقارنة بين انعدام الإرادة وقيامها على أساس الغلط:

 

تقسيم البحث في الفقه الغربي والفقه الإسلامي:

فقد جاء في الفقه الغربي(1) أنّ الإرادة قد تصاب بالانعدام كما إذا اختلف القبول عن الإيجاب، فما ذكره الموجب لا توجد وفقه إرادة من القابل وما قبله القابل لا توجد وفقه إرادة من الموجب، وقد تصاب بالعيب فهي موجودة ولكنّها معيبة، كما هو الحال فيما إذا اتفق الإيجاب والقبول على عنوان واحد ولكن وقع في التطبيق غلط واشتباه، كما لو باع أحدهما سيّارة وقبلها القابل بتخيّل كونها ذات مواصفات خاصّة ثم تبيّن خلاف ذلك. وجزاء فقدان الإرادة هو بطلان العقد، أمّا جزاء كون الإرادة معيبة فهو خيار الفسخ أو قابلية العقد للإبطال.

وهذا المصطلح ـ أعني مصطلح أنّ الإرادة قد تكون معدومة فيبطل العقد


(1) راجع: الوسيط 1: 232 ـ 235، الفقرة 111، والصفحة 311 ـ 331، الفقرة 162 ـ 174، ومصادر الحق 2: 48 و 98 ـ 104.

442

واُخرى معيبة فيثبت الخيار ـ غير وارد في فقهنا الإسلامي، وسوف يتضح في ثنايا البحث أنّ كون الإرادة معيبة بمعنى كونها مبنيّة على الغلط ليس هو بعنوانه ما يقتضي الخيار في فقهنا الإسلامي، وان الخيار الثابت في موارد من الغلط انّما يثبت بنكات اُخرى، وعلى أيّة حال فالفقه الغربي جعل الغلط سبباً لكون الإرادة معيبة، وعدم تطابق الإيجاب والقبول سبباً لفقدان الإرادة، وقد بحث فقهاؤنا الإسلاميون ـ رضوان الله عليهم ـ مسألة تطابق الإيجاب والقبول ضمن شرائط الإيجاب والقبول ومسألة الغلط الذي يوجب الخيار ضمن البحث عن خيار الرؤية وخيار تخلف الوصف وضمن البحث عن أحكام الشرط، وفي المقارنة بين مسألة فقدان الإرادة ومسألة الغلط يبدو هنا فرق بين الفقه الغربي والفقه الإسلامي، ففي الفقه الغربي توجد مساحتان للبحث:

أوّلاً ـ مساحة التطابق بين الإيجاب والقبول حيث يذكر انّهما لو لم يتطابقا بطل العقد لفقدان الإرادة.

ثانياً ـ مساحة وقوع الغلط والاشتباه في انطباق العنوان المقصود بعد تطابق الإيجاب والقبول تطابقاً كاملاً، وقالوا انّ جزاء ذلك قابلية العقد للإبطال.

أمّا في الفقه الإسلامي فالمساحة الاُولى موجودة ومبحوث عنها وقد افتوا ببطلان العقد لدى عدم تطابق الإيجاب والقبول من دون فرق في ذلك بين ما إذا كان الإيجاب والقبول واقعين على جزئي خارجي كما لو أوجب البائع بيع سيّارة معينة وقبل المشتري السيّارة الاُخرى، أو كانا واقعين على الكليّ كما لو باع أحدهما عبداً متصفاً بالكتابة وقبِل المشتري عبداً غير كاتب.

وأمّا المساحة الثانية وهي مساحة الغلط في التطبيق فقد قسّمت في فقهنا الإسلامي إلى مساحتين.