441

 

 

 

 

المقارنة بين فقدان الإرادة ووجودها المعيب

 

 

وأمّا البحث الثاني ـ وهو في المقارنة بين انعدام الإرادة وقيامها على أساس الغلط:

 

تقسيم البحث في الفقه الغربي والفقه الإسلامي:

فقد جاء في الفقه الغربي(1) أنّ الإرادة قد تصاب بالانعدام كما إذا اختلف القبول عن الإيجاب، فما ذكره الموجب لا توجد وفقه إرادة من القابل وما قبله القابل لا توجد وفقه إرادة من الموجب، وقد تصاب بالعيب فهي موجودة ولكنّها معيبة، كما هو الحال فيما إذا اتفق الإيجاب والقبول على عنوان واحد ولكن وقع في التطبيق غلط واشتباه، كما لو باع أحدهما سيّارة وقبلها القابل بتخيّل كونها ذات مواصفات خاصّة ثم تبيّن خلاف ذلك. وجزاء فقدان الإرادة هو بطلان العقد، أمّا جزاء كون الإرادة معيبة فهو خيار الفسخ أو قابلية العقد للإبطال.

وهذا المصطلح ـ أعني مصطلح أنّ الإرادة قد تكون معدومة فيبطل العقد


(1) راجع: الوسيط 1: 232 ـ 235، الفقرة 111، والصفحة 311 ـ 331، الفقرة 162 ـ 174، ومصادر الحق 2: 48 و 98 ـ 104.

442

واُخرى معيبة فيثبت الخيار ـ غير وارد في فقهنا الإسلامي، وسوف يتضح في ثنايا البحث أنّ كون الإرادة معيبة بمعنى كونها مبنيّة على الغلط ليس هو بعنوانه ما يقتضي الخيار في فقهنا الإسلامي، وان الخيار الثابت في موارد من الغلط انّما يثبت بنكات اُخرى، وعلى أيّة حال فالفقه الغربي جعل الغلط سبباً لكون الإرادة معيبة، وعدم تطابق الإيجاب والقبول سبباً لفقدان الإرادة، وقد بحث فقهاؤنا الإسلاميون ـ رضوان الله عليهم ـ مسألة تطابق الإيجاب والقبول ضمن شرائط الإيجاب والقبول ومسألة الغلط الذي يوجب الخيار ضمن البحث عن خيار الرؤية وخيار تخلف الوصف وضمن البحث عن أحكام الشرط، وفي المقارنة بين مسألة فقدان الإرادة ومسألة الغلط يبدو هنا فرق بين الفقه الغربي والفقه الإسلامي، ففي الفقه الغربي توجد مساحتان للبحث:

أوّلاً ـ مساحة التطابق بين الإيجاب والقبول حيث يذكر انّهما لو لم يتطابقا بطل العقد لفقدان الإرادة.

ثانياً ـ مساحة وقوع الغلط والاشتباه في انطباق العنوان المقصود بعد تطابق الإيجاب والقبول تطابقاً كاملاً، وقالوا انّ جزاء ذلك قابلية العقد للإبطال.

أمّا في الفقه الإسلامي فالمساحة الاُولى موجودة ومبحوث عنها وقد افتوا ببطلان العقد لدى عدم تطابق الإيجاب والقبول من دون فرق في ذلك بين ما إذا كان الإيجاب والقبول واقعين على جزئي خارجي كما لو أوجب البائع بيع سيّارة معينة وقبل المشتري السيّارة الاُخرى، أو كانا واقعين على الكليّ كما لو باع أحدهما عبداً متصفاً بالكتابة وقبِل المشتري عبداً غير كاتب.

وأمّا المساحة الثانية وهي مساحة الغلط في التطبيق فقد قسّمت في فقهنا الإسلامي إلى مساحتين.

443

وطبعاً المقصود بمساحة الغلط في التطبيق هو الاشتباه في تشخيص المصداق مع فرض تطابق الإيجاب والقبول على مصداق جزئي كما لو باعه عبداً معينا بقيد الكتابة وقبله الآخر ثم تبين انّه غير كاتب، أمّا لو تطابق الإيجاب والقبول على عنوان كلّي ووقع الاشتباه في التطبيق لدى التسليم كما لو باعه عبداً كاتباً وقبِل المشتري ثم طبّقاه لدى التسليم تطبيقاً خطأً على عبد غير كاتب فهذا لا علاقة له بعيوب الإرادة ولا يوجب الخيار ولا البطلان إذ لم يكن هذا الفرد هو متعلق العقد فغاية الأمر لزوم تبديل هذا الفرد بفرد آخر واجد للمواصفات المطلوبة، أمّا إذا كان المبيع كليّاً في المعين بقيد وصف فرض تواجده في كل مصاديقه ثم تبين عدم وجوده في شيء من تلك المصاديق فهذا حاله حال بيع الجزئي.

وبالإمكان تصوير العيب في الإرادة الموجب للخيار لو صحّ التعبير في فرض كليّة متعلق العقد فيما إذا فرض القيد شرطاً في ضمن العقد لا محصّصاً لذاك الكليّ ثم انكشف عدم القدرة على تحقيق الشرط أو فساد الشرط شرعاً أمّا إذا كان محصصاً للكليّ ثم انكشف عدم القدرة على تحصيل فرد واجد لذاك القيد دخل ذلك في العجز عن تطبيق الكليّ المبيع على مصداق خارجي يقدر على تسليمه وأوجب ذلك الخيار، كما انّه لو قدر على ذلك وامتنع عنه دخل تحت الامتناع عن التسليم الموجب للخيار، ولو امتنع عن تحقيق الشرط أوجب ذلك أيضاً الخيار على أساس تخلف الشرط.

وعلى أيّة حال فمساحة الغلط في التطبيق لدى وقوع العقد على مصداق جزئي قد قسّمت لدى فقهائنا الأبرار ـ رضوان الله عليهم ـ إلى مساحتين لأنّ الغلط قد يكون جوهرياً وقد مثّل له الشيخ الأنصاري (رحمه الله) بانّه باعه عبداً حبشياً

444

فتبيّن حماراً وحشياً(1)، وقد يكون جانبياً كما في ما إذا وصف العبد بالكتابة فتبيّن انّه غير كاتب فقد افتوا في القسم الأوّل ببطلان العقد لفقدان الإرادة وفي القسم الثاني بالخيار، وقد أفاد الشيخ الأنصاري (رحمه الله) ما يستحصل منه: ان جوهرية الفرق وجانبيته ليستا بلحاظ الحقائق الفلسفية بقدر ما هما بلحاظ أهداف العقلاء فالذكورة والانوثة بلحاظ المماليك تعدّان من الفوارق الجوهرية، وبلحاظ الغنم تعدّان من الفوارق الجانبية، بينما لا فرق من الناحية الفلسفية في ذلك بين المملوك والغنم والرومي والزنجي حقيقتان عرفاً رغم اتحادهما في الجوهر فلسفياً، وكون الخلّ من الزبيب أو العنب فرق جانبيّ عرفاً بينما هو فرق جوهري فلسفياً(2).

والفقه الغربي لم يقسّم مساحة الغلط إلى هاتين المساحتين نعم جاء في الفقه الغربي التفريق بين الغلط الذي يعيب الإرادة والغلط الذي اسموه بالغلط المانع وهو يعدم الإرادة ومثّلوا له بما إذا وقع الإيجاب على مصداق جزئيّ معيّن والقبول على مصداق آخر كمَن كان يمتلك سيّارتين باع إحداهما والمشتري اشترى الاُخرى فهذا في الحقيقة رجوع إلى المساحة الاُولى وهي مساحة عدم تطابق الإيجاب والقبول فيبطل به العقد، ولا علاقة له بالمساحة الثانية وهي مساحة الغلط والاشتباه في التطبيق بعد فرض تطابق الإيجاب والقبول.

وهنا نشير إلى خطأ الاستاذ مصطفى الزرقاء في المقام حيث ذكر: انّه «يلحظ في المقام ان اختلاف الجنس الذي يعتبر في الفقه الإسلامي من قبيل


(1) راجع مكاسب الشيخ الأنصاري 2: 250، بحسب طبعة الشهيدي.

(2) راجع نفس المصدر.

445

الغلط المانع لا يعتبر في النظر القانوني غلطاً مانعاً بل هو من الغلط الذي يعيب الرضا فقط فينعقد معه العقد قابلاً للإبطال. وعكس ذلك يلحظ في الغلط في ذاتية المبيع كما لو باع إحدى فرسيه والمشتري يظنّ انه قد اشترى الاُخرى فانّه في الفقه القانوني غلط مانع لا ينعقد معه العقد، وفي الفقه الإسلامي هو غلط غير مؤثّر أصلاً فينعقد معه العقد لازماً لا خيار فيه لانّ الإرادة الظاهرة بالإيجاب والقبول لما وردت في العقد على واحدة معيّنة من الفرسين انصرف العقد إليها وبقى الغلط في حيّز الخفاء ليس عليه دليل قائم فلا يؤثّر حرصا على استقرار التعامل بخلاف مسألة اختلاف الجنس فان تسمية الجنس المقصود في صلب العقد تجعل الغلط في الجنس المخالف غلطاً واضحاً فيؤثّر في العقد، وبما ان اختلاف الجنس في حكم فقدان العين لا ينعقد العقد لعدم المحلّ»(1).

أقول: إنّ اختلاف الفقه الإسلامي عن الفقه الغربي في اختلاف الجنس صحيح كما ذكره فالفقه الغربي جعل ذلك موجباً لقابلية العقد للإبطال بينما الفقه الإسلامي جعل ذلك مبطلاً للعقد، أمّا العكس الذي ذكره في الغلط في ذاتية المبيع فهو غير صحيح فالفقه الغربي انّما ذكر بطلان العقد فيما إذا اختلف المتعاقدان في صبّ الإيجاب والقبول على الذات فانصبّ الإيجاب على إحدى الفرسين والقبول على الاُخرى لا فيما إذا انصبّا على مصداق واحد مع الاشتباه في أوصاف ذاك المصداق، وإذا انصبّ الإيجاب والقبول على مصداقين فلا إشكال في انّ الفقه الإسلامي أيضاً يفتي بالبطلان غاية ما هناك ان الإرادة الظاهرة إذا


(1) الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 1: 426 ـ 427، في التعليق تحت الخط على الفقرة 191/4 بحسب الطبعة الثامنة.

446

انصبّت فيهما معاً على مصداق واحد فقد تجعل هذه امارة ظاهرية على وحدة المصبّ في الإرادة الباطنة، بل وحتى لو آمنّا بان المقياس الواقعي انّما هي الإرادة الظاهرة فهنا انّما يفتي بصحة العقد لوحدة مصبّ الإيجاب والقبول الظاهريين، وهذا ما يقول به من يؤمن من الغربيين بالإرادة الظاهرة معترفين جميعاً «الإسلاميون أيضاً والغربيون» بانّه متى ما انصبّ الإيجاب على مصداق والقبول على مصداق آخر بطل العقد، وعلى أيّة حال فقد مضى منّا في بحث الإرادة الظاهرة والباطنة ان المقياس في الفقه الإسلامي انّما هو الإرادة الباطنة وان ما يسمّى بالإرادة الظاهرة يجعل امارة على الإرادة الباطنة وان هذا كاف لتأمين الاستقرار بالقدر المطلوب للعقود.

 

صعوبة يواجهها الفقه الإسلامي:

وإذا اتضح لك الفرق بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي في تحديد المساحات التابعة لبطلان العقد أو لقابليته للإبطال قلنا: إنّ هنا سؤالاً يواجهه الفقه الإسلامي وهو انّه لماذا الفرق بين الغلط الجوهري والغلط الجانبي بكون الأوّل مبطلاً للعقد وتابعاً لفقدان الإرادة، والثاني موجباً للخيار؟! وهذا السؤال طرح نفسه في فقهنا الإسلامي بصياغتين:

الاُولى ـ انّ العقد قد وقع على ما هو مقيّد بوصف معين «يعني الوصف الجانبي» ففاقد الوصف لم يقع عليه العقد فما وقع عليه العقد غير موجود وما هو موجود لم يقع عليه العقد، وهذا يوجب البطلان لا الخيار وهذا ما نقله الشيخ الأنصاري (رحمه الله)(1) عن مجمع البرهان للمحقق الاردبيلي (رحمه الله).


(1) راجع المكاسب للشيخ الأنصاري (رحمه الله) 2: 250، بحسب طبعة الشهيدي.

447

وبإمكانك أن تقول: إنّ الوصف إن كان يجعل مصبّ العقد مغايراً لفاقده لزمبطلان العقد سواء كان جوهرياً أو غير جوهري وإن لم يكن يجعل مصبّ العقد مغايراً لفاقده لتقدم الإشارة على الوصف مثلاً لزم عدم بطلانه سواء كان جوهرياً أو غير جوهري. وبإمكانك أيضاً أن تقول: إنّ الوصف إن كان يوجب التغاير بين متعلق العقد وفاقد الوصف فلماذا يحكم بالصحة؟! وإلّا فلماذا يحكم بالخيار؟ !

الثانية ـ انّ صحّة العقد مشروطة بالرضا والرضا مقيّد بالوصف المقصود فمع فقدانه ينفقد الرضا، وهذا يوجب بطلان العقد وهذا ما ذكره الشيخ الانصاري (رحمه الله)(1) في مقام ذكر توجيه لما جعله المحقق الاردبيلي (رحمه الله) موافقاً للقاعدة وهو البطلان وبإمكانك أن تقول: إنّ تقيد الرضا بالقيد المفقود إن كان يوجب البطلان فليوجبه مطلقاً وإلّا فلنحكم بالصحّة مطلقاً فما هو الوجه في التفصيل بين الوصف الجوهري وغيره؟

وبإمكانك أيضاً أن تقول: إنّ تخلف الوصف إن كان موجباً لانعدام فعلية الرضا وجب بطلان العقد وإن لم يكن موجباً لانعدامه فلا وجه للخيار.

امّا ان شئت أن تصوغ الإشكال وفق المصطلحات التي نقلناها عن الفقه الغربي فلك أن تقول: ما معنى انّ الإرادة قد تكون معدومة واُخرى معيبة؟! فإن كان القيد المفقود دخيلاً في فعلية الإرادة فبانتفائه قد اصبحت الإرادة معدومة وإن لم يكن دخيلاً في فعليتها إذن فالإرادة غير معيبة.

وطبعاً ليس المقصود من هذا الكلام الإشكال على الفقه الغربي لانّه فقه موضوع من قبل انفسهم لا يتبع دليلاً كاشفاً عن حكم ثابت قبلهم، وإذا كان الوضع بيدهم فمن حقهم ان يفصّلوا بين ما اسموه بالغلط المانع ويضعوا القول فيه بالبطلان


(1) راجع نفس المصدر.

448

وما جعلوه عيباً في الإرادة ويضعوا القول فيه بقبول العقد للإبطال إذ يكفي مناسبةلذلك ان الإيجاب والقبول لم يتطابقا في الأوّل فهذا أوجب البطلان، وتطابقا في الثاني فهذا أوجب الصحة مع إمكانية الإبطال وانّما المقصود انّنا لو أردنا أن نفتي بما افتوا به ولم نفرّق بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي وقلنا في الجميع بالخيار دون البطلان لانّ الإرادة ليست معدومة وانّما هي معيبة فنحن بحاجة إلى فرق حقيقي بين انعدام الإرادة وكونها معيبة نفترض انّ الأوّل منهما موضوع لدليل البطلان والثاني منهما موضوع لدليل الخيار، ولا تكفينا مجرد المناسبة التي ذكرناها فإذا كان حال الإرادة دائراً بين الوجود والعدم، ولا معنى لكونها معيبة فلدى تخلف الوصف ان انعدمت الإرادة بطل العقد وإلّا فلا موجب للخيار فما معنى كونها موجودة ولذا لم يبطل العقد ومعيبة ولذا ثبت الخيار؟ !

مرجع الصعوبة إلى إشكالين:

وعلى أيّة حال فقد عرفت انّه وردت في فقهنا صياغتان للإشكال: احداهما انّ ما تعلق به العقد غير موجود، وما هو موجود لم يتعلق به العقد، والثانية انّ الرضا مقيد بالوصف المفقود ومعه لا يكون الرضا فعليا لعدم فعلية ذاك الوصف، والسؤال الآن هو انّ الإشكال الحقيقي في المقام هل هو إشكال واحد يبرز بصياغتين فالفرق بينهما لا يعدو أن يكون فرقا في عالم الألفاظ والصياغات؟ أو انّ هناك فارقاً جوهرياً بين الصياغتين فنحن أمام إشكالين مختلفين ونكون بحاجة إلى الحلّ لكل واحد منهما؟

قد توحي عبارة الشيخ الانصاري (رحمه الله) في المكاسب(1) إلى انهما تشيران


(1) المكاسب 2: 250.

449

إلى إشكال واحد، وكأنّ الصياغة الثانية لا تعدو ان تكون تعميقاً للصياغة الاُولىفي مقام إبراز نفس الإشكال وذلك لانه (رحمه الله) نقل أوّلاً عن المحقق الاردبيلي (رحمه الله)الصياغة الاُولى للإشكال ثم أجاب عليه بجواب ثم ذكر كتوجيه لما مال إليه المحقق الاردبيلي الصياغة الثانية، ثم نقل جواباً على وجه البطلان الذي جعله المحقق الاردبيلي موافقاً للقاعدة وهو (انه اشتباه ناش عن عدم الفرق بين الوصف المعيّن للكليات والوصف المعيّن في الشخصيات وبين الوصف الذاتي والعرضي).

وذكر (رحمه الله) انّه ظهر من هنا (يعني ما بيّنه من الصياغة الثانية) انّ هذا الجواب مجازفة لا محصّل لها في حين انّ صاحب هذا الجواب انّما كان يقصد الرد على المحقق الاردبيلي وهذا يعني انّه كان يردّ على الصياغة الاُولى وهي التي ذكرها المحقق الاردبيلي فكيف تكون الصياغة الثانية موضّحة لمجازفة هذا الجواب وضعفه إن لم تكن تلك الصياغة تعميقاً لنفس الصياغة الاُولى؟! بل انّ قوله: (وبين الوصف الذاتي والعرضي) يكون في أحد محتمليه إشارة إلى عين أو ما يقارب الجواب الذي ذكر الشيخ بنفسه أوّلاً على الصياغة الاُولى قبل ذكره لتوجيه ما مال إليه الاردبيلي بالصياغة الثانية فانّ أحد محتمليه هو أن يكون المقصود بالوصف الذاتي الوصف الجوهري، والمقصود بالوصف العرضي ما لم يكن جوهرياً ويكون هذا إشارة إلى الجواب بانّنا لا نتكلم في الفارق الجوهري الذي يجعل الموجود خارجاً مغايراً لما وقع عليه العقد وانّما نتكلم في الفارق غير الجوهري الذي لا يوجب المغايرة وهذا عين الجواب الذي ذكره الشيخ أوّلاً عن الصياغة الاُولى أو يقاربه.

نعم احتماله الآخر لا علاقة له بجواب الشيخ وهو أن يكون المقصود: ان الوصف إذا كان قيداً للكلّي أصبح ذاتياً لانّه يحصّص الكلّي إلى الواجد والفاقد، ويختص العقد بالواجد، وإذا كان وصفاً للعين الخارجية فلا يعدو ان يكون أمراً

450

عرضياً لانّ ذات المبيع انّما هي العين الخارجية.

أمّا المحقق الاصفهاني (رحمه الله) فكلامه صريح في الفراغ عن كون الصياغتين إشكالين متغايرين حتى انّه حمل قول الشيخ (رحمه الله) (ومن هنا يظهر ..) على معنى اعترف انّه خلاف ظاهر العبارة وهو أنّه ظهر من الصياغة الثانية ان هذا الجواب لا يكفي لإثبات المقصود من صحّة العقد لانّ هذا الجواب وإن كان كافياً لإبطال الصياغة الاُولى التي ذكرها المحقّق الاردبيلي لكن يبقى علينا بعدئذ لإثبات الصحّة ان نذكر جواباً على الصياغة الثانية(1).

وعلى أيّة حال فالذي يمكن أن يذكر كتوجيه لإرجاع الصياغتين إلى إشكال واحد هو ان يقال: إنّ ما يذكر في الصياغة الاُولى من انّ المعقود عليه غير الموجود والموجود غير المعقود عليه لا يقصد بذلك الحديث عن عالم الألفاظ فلسنا نحن أمام إشكال لفظي كما لو كانت صيغة العقد فارسية وكنّا قد اشترطنا العربية مثلاً، او مستقبلية وكنا قد اشترطنا الماضوية وانّما نحن أمام إشكال معنوي وهو ان ما دلّ عليه العقد قد وقع على أمر غير موجود وما هو موجود لم يقع عليه مفاد العقد، وليس مفاد العقد عدا الرضا بالمعاملة وإرادة المعاملة فقولنا: إنّ العقد وقع على ما لم يوجد وما وجد لم يقع عليه العقد يعني انّ الرضا وقع على ما لم يوجد وأنّ ما وجد لم يقع الرضا عليه وهذه هي الصياغة الثانية.

إلّا أنّ التحقيق ان هذا البيان لإرجاع الصياغتين إلى روح واحدة انّما يتم بناء على المسلك الغربي من الفقه دون المسلك الإسلامي وتوضيح ذلك: ان المسلك الغربي يرى العقد انشاء للالتزام بذلك الأمر الاعتباري كالملكية في البيع بل كان يرى قديما انّ البيع التزام لنقل العين إلى حيازة المشتري، وأخيراً تطوّر


(1) راجع تعليقة الشيخ الاصفهاني (رحمه الله) على المكاسب 2: 89.

451

الفقه لديهم فأصبح البيع التزاماً بنقل الملكية، ولكن الإسلام يرى انّ العقود المعاملية هي عادةً انشاء لنفس تلك الاُمور الاعتبارية، فالبيع مثلاً انشاء للتمليك فان تكلمنا على المسلك الغربي فالبائع مثلاً لم ينشئ إلّا الالتزام وهو الرضا بالتمليك أو نقل الحيازة، فإن كان مصبّه العبد الكاتب مثلاً فهو عبارة اُخرى عن كون مصب الرضا العبد الكاتب فرجعت الصياغتان إلى روح واحدة.

أمّا في نظر الفقه الإسلامي فالبيع مثلاً انشاء للتمليك ونفوذ ذلك شرعاً مشروط بالرضا فلدينا أمران: أحدهما ما ينشأ بالبيع وهو التمليك والثاني شرط نفوذ ذلك وهو الرضا إذن فيوجد مصبّان للإشكال في المقام أحدهما التمليك الذي اُنشئ بالعقد حيث يقال: انّه اُنشئ على العبد الموصوف بالكتابة مثلاً فغير الكاتب ليس مصباً للعقد وثانيهما ما هو شرط لنفوذ هذا التمليك شرعاً وهو الرضا حيث يقال انّ الرضا مقيّد بقيد الكتابة فينتفي بانتفائها إذن فكل من الصياغتين إشكال مستقل عن الاُخرى.

ولعلّ هذا أيضاً هو السبب في الخلاف بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي في انّ الغلط الذي يعيب الإرادة ويوجب الخيار لا البطلان يشمل الغلط الجوهري والغلط الجانبي في وقت واحد، والفقه الإسلامي يقسّم ذلك إلى مساحتين، مساحة الغلط الجوهري ويقول فيه ببطلان العقد، ومساحة الغلط الجانبي ويقول فيه بالخيار، فلعلّ السرّ في ذلك هو ان الفقه الغربي لا يواجه في المقام إلّا سؤالاً واحداً وهو ان الوصف إذا كان دخيلاً في المطلوب فهو قيد في الرضا والإرادة فبانتفائهِ تنتفي الإرادة والرضا فكيف يصح البيع مثلاً؟ فإذا اجيب على ذلك مثلا بانّ فعلية الرضا والإرادة تتبع الوجود العلمي للقيد المطلوب لا الوجود الواقعي، فإذا اعتقد كون العبد كاتباً واشترى العبد الكاتب كانت الإرادة فعلية ولكنها في نفس الوقت معيبة لانّها قامت على أساس الغلط، فقد صحّ بهذا البيع رغم فقدان

452

الوصف المطلوب من دون فرق بين كون الوصف جانبياً أو جوهرياً.

وأمّا الفقه الإسلامي فهو يواجه سؤالين لا سؤالاً واحداً أحدهما انّ الرضا أو الإرادة مقيد بقيد الكتابة فكيف يصحّ البيع عند فقد الكتابة؟! ولنفترض انّ الجواب هو انّ فعلية الرضا أو الإرادة تتبع الوجود العلمي لا الواقعي وهذا الجواب نسبته إلى الوصف الجوهري والجانبي سيّان، والثاني انّ التمليك الاعتباري انّما تعلق بالعبد الموصوف بوصف كذا فبانتفائه ينتفي متعلق العقد، ولنفترض انّ هذا جوابه هو انّ الوصف إذا كان جانبياً لم يكن الموجود مغايراً عرفاً للمعقود عليه، نعم إذا كان الوصف جوهرياً استحكم الإشكال وبطل البيع لانّ الموجود مغاير عرفاً للمعقود عليه فهنا انتهينا إلى الفرق بين مساحة الغلط الجوهري ومساحة الغلط الجانبي ولكن على الفقه الغربي لم يكن موضوع لهذا الفرق لانّ أصل هذا الإشكال لم يكن له مجال على الفقه الغربي ومن هنا اختلف الفقهان في هذا الأمر.

وعلى أيّة حال فقد ظهر ان أمام الفقه الإسلامي إشكالين لا بد له من حلّهما: (أولاً) انّ متعلق العقد غير الواقع الخارجي (وثانياً) انّ الرضا مقيّد بقيد منتف ولنأخذ الآن الإشكال الأوّل بالبحث مع عرض الحلول المقترحة في المقام وننظر انّ تلك الحلول لو تمّت هل تختص بالإشكال الأوّل؟ أو تحلّ حتّى الإشكال الثاني؟ حتى إذا فرغنا عن هذا البحث ورأينا ان الحلّ المختار له لا يحل الإشكال الثاني ننتقل إلى البحث عن حلّ الإشكال الثاني فنقول:

 

إشكال عدم تطابق الموجود للمعقود عليه:

الإشكال الأول ـ انّ تخلف الوصف يوجب عدم تطابق الموجود للمعقود عليه فكيف يمكن أن يصحّ العقد؟! وقد ذكر في مقابل هذا الإشكال عدّة حلول:

453

1 ـ الإشارة أقوى من الوصف:

الحلّ الأوّل ـ ما جاء في المكاسب للشيخ الانصاري (رحمه الله) نقلاً عمّن لم يسمّه من أن غاية ما يمكن ان يفترض هو فرض تعارض الإشارة والوصف والإشارة أقوى من الوصف.

وقد جاء هذا الحل في ذيل ما أشرنا إليه من كلام نقله الشيخ وهو: «انّ هذا الإشكال اشتباه ناشئ عن عدم الفرق بين الوصف المعيّن للكليات والوصف المعين في الشخصيات وبين الوصف الذاتي والعرضي وان أقصى ما هناك كونه من باب تعارض الإشارة والوصف والإشارة أقوى(1)» وقد حمل الشيخ الاصفهاني (رحمه الله)(2) ذلك على نقل كلام صاحب الجواهر معترفاً بانّ ما رآه في الجواهر يختلف عن هذا الكلام فقد جاء في الجواهر بعد نقل التامّل في صحّة البيع عن الاردبيلي ما يلي: «وإن كان هو ضعيفاً كالأوّل(3) أيضاً ضرورة ابتنائه على عدم الفرق بين وصف المعيّن والوصف المعيّن وبين الذاتي والعرضي» هذا ما ورد في الطبعة الجديدة للجواهر(4) ولكن الموجود في تعليقة الشيخ الاصفهاني على المكاسب نقلاً عن الجواهر التعبير بعبارة «أو بين الذاتي والعرضي» أي انّ العطف يكون بـ «أو» لا بالواو ونسخة الطبعة الجديدة من الجواهر تطابق نسخة المكاسب الموجودة عندي وهي طبعة الشهيدي فان العطف فيها أيضاً بالواو، وعلى أيّة حال


(1) المكاسب 2: 250.

(2) راجع تعليقته على المكاسب 2: 89.

(3) إشارة إلى مطلب آخر نقله أوّلاً عن بعض وضعفه.

(4) جواهر الكلام 23: 94.

454

فالمهم من الفرق بين ما في المكاسب وما في الجواهر هو زيادة ما ورد في المكاسب من عبارة: «وان أقصى ما هناك كونه من باب تعارض الإشارة والوصف والإشارة أقوى» فانّ هذه الزيادة غير موجودة في عبارة الجواهر في بحث خيار الرؤية، وقال الشيخ الاصفهاني «ولم أظفر بما ذكره في سائر المباحث المناسبة للمقام (يعني في الجواهر)».

ولعل هذا يوجب احتمال ان الشيخ (رحمه الله) لم يكن يقصد ما فهمه الاصفهاني من الإشارة إلى عبارة الجواهر بل ينقل من مكان آخر لم نظفر به.

وعلى أيّة حال فخلاصة هذا الجواب انّنا لو سلّمنا ان الوصف يفيد تقييد متعلق العقد فالإشارة تفيد عدم التقييد بهذا الوصف المفقود والإشارة أقوى من الوصف.

وهذا الوجه لو تم لا يحلّ الصياغة الثانية من الإشكال إذ أن صاحب الصياغة الثانية يقول: فليكن متعلق العقد هو ذات المشار إليه بحكم الإشارة لكن رضاي القلبي على أي حال مشروط بكتابة العبد مثلاً لانّ العبد الذي لا يكتب لا يحقق تمام أهدافي التي اشتريته لأجلها.

وبالإمكان ان يقال: إنّ هذا الوجه لو تمّ فهو وإن كان يحل إشكال عدم مطابقة المعقود عليه للموجود خارجاً لأنّ أقوائية الإشارة تثبت ان العقد وقع على نفس ما هو موجود في الخارج، لكنه لا يفسّر الفرق بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي، فإذا كانت الإشارة أقوى من الوصف فلم لا يصح العقد في الوصف الجوهري أيضاً؟! إلّا ان يقصد انّ الإشارة أقوى من الوصف الجانبي، أمّا الوصف الجوهري فلا يقلّ تأثيراً عن الإشارة ومع التعارض والتساقط أو اقوائية الوصف يبطل العقد.

455

وعلى أيّة حال فهذا الوجه لا يحل إشكال الخيار حيث قد يقال: إنّ الوصفإن كان قيداً فلم لا يبطل العقد لعدم تطابق المعقود عليه لما في الخارج؟! وإن لم يكن قيداً فلماذا يثبت الخيار؟! فهذا السؤال لا زال باقياً على حاله حيث يقال: إن كانت الإشارة أقوى من الوصف فلماذا يثبت الخيار وإلّا فلماذا يصح العقد؟! وطبعاً لا أقصد بهذا الكلام تسجيل إشكال على مَن يؤمن بهذا الوجه بدعوى انّ عليه أن ينكر الخيار كما ذكره الشيخ الانصاري (رحمه الله) وانّما أقصد انّ هذا الوجه لا يحل مشكلة الخيار.

وقد تحلّ مشكلة الخيار بنكتة اُخرى كدعوى وجود شرط لا يعود إلى القيد أمّا ما جاء في كلام الشيخ(1) من إلزام صاحب هذا الوجه بإنكار الخيار فيرد عليه ما أورده الشيخ الاصفهاني (رحمه الله)(2) من انّ تقديم الإشارة على الوصف انّما اثبت صحة العقد وامّا الخيار فيدعى بنكتة اُخرى.

والتحقيق ان أصل هذا الوجه وهو حل الإشكال عن طريق تقديم الإشارة على الوصف على تقدير دلالة الوصف على التقييد ممّا لا أساس له فانّ الوصف لو لم يدل على التقييد لانّ الوصف انّما يقيّد الكليّ ولا يقيد الجزئي مثلاً فلا حاجة إلى نفي التقييد باقوائية الإشارة، ولو دلّ على التقييد وقلنا ان جزئية المتعلق لا تنافي التقييد مثلاً فالإشارة تكون لا محالة إشارة إلى ذاك المقيّد، ولا معنى لفرض تناف بين الإشارة والوصف كي نقدّم الإشارة على الوصف بالاقوائية.

2 ـ الجزئي لا يحصّص:

الحلّ الثاني ـ ما جاء في الجواهر كما مضى من ان كلام المحقّق


(1) في المكاسب 2: 250.

(2) في تعليقته على المكاسب 2: 89.

456

الأردبيلي (رحمه الله)خلط بين وصف المعيّن والوصف المعين أو بين الذاتي والعرضيبناء على الأخذ بالتفسير الثاني من التفسيرين اللذين مضى ذكرهما وهو كونه بمنزلة التكرار لنفس الخلط الأوّل فالوصف الذاتي يعني به الوصف الذي يوصف به الكليّ للتعيين والتحصيص والوصف العرضي يعني الوصف المعيّن الذي يوجد في الجزئي ويكون حاصل هذا الحل عندئذ ان كون الواقع الخارجي غير المعقود عليه ممنوع فانّ هذا انّما يعقل في توصيف الكليّ بوصف لانّ وصف الكليّ يحصص الكليّ والحصة التي تحصل بهذا التحصيص تغاير الحصة الاُخرى لا محالة، فلو باعه عبداً كاتباً بشكل كلّي ثم في مقام الوفاء أعطاه عبداً غير كاتب فما سلّمه غير ما وقع عليه العقد، أمّا في الجزئي الخارجي وهو محل الكلام فلا يعقل التغاير بين مصبّ العقد وما في الخارج لان الجزئي لا يحصّص، وهذا الوجه لو تم لا يحل الصياغة الثانية للإشكال وهو مسألة عدم الرضا إذ لو سلّمنا ان العقد وقع على نفس ما في الخارج لانّه تعلق بالجزئي بقى الإشكال الآخر وهو ان المشتري لا تطيب نفسه بالعبد غير الكاتب ولا يرضى به باقياً على حاله ولا بدّ له من جواب آخر.

كما انّ هذا الوجه لا يفسّر الخيار ونبقى بحاجة إلى نكتة اُخرى للخيار.

وأيضاً هذا الوجه لو لم يكمّل بمكمّل لم يفسّر الفرق بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي، لانّ برهان عدم قابلية الجزئي للتقييد يأتي حتى في الوصف الجوهري، فلو باعه هذا الموجود على انّه عبد حبشي ثم تبيّن حماراً وحشياً كان بالإمكان أيضاً ان يقال: إنّ الحيوان المبيع لو كان كلياً فتحصيصه إلى الناطق والناهق يوجب التباين بينهما، أما لو كان جزئياً فهو لا يقبل التحصيص غاية الأمر انّه كان يتخيل كونه ناطقاً وعبداً حبشياً ثم تبيّن كونه ناهقاً ولكن المبيع على أي

457

حال هو هذا الحيوان الخارجي وهو شيء واحد فالمعقود عليه هو عين ما في الخارج وليس غيره.

نعم بالإمكان ان يكمّل هذا الوجه بمكمّل كي يصلح مفسّراً للفرق بين الوصف ا لجوهري والوصف الجانبي وهو ان العرف هو الذي فرض التوصيف بالوصف الجوهري موجباً للتغاير، وهذا رجوع إلى الحلّ الثالث فتعليقنا على اصل هذا الوجه نؤجّله إلى البحث عن الحلّ الثالث.

3 ـ تفريق العرف بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي:

الحلّ الثالث ـ هو نفس ما مضى عن صاحب الجواهر مع الأخذ بالتفسير الأوّل من التفسيرين اللذين مضيا لقوله: (أو بين الذاتي والعرضي) وهو الإشارة إلى الفرق بين الجوهري والجانبي ويكون حاصل هذا الوجه عندئذ ان المحقق الاردبيلي إمّا خلط بين وصف المعيَّن والوصف المعيّن، فكما انّ الوصف المعيّن وهو الوصف الذي يوصف به الكلي يوجب مباينة الحصة الفاقدة للحصة الواجدة فقد تخيّل ان توصيف الجزئي أيضاً كذلك يوجب التباين وهذا خطأ لانّ الجزئي لا يحصَّص، وإمّا خلط بين الوصف الجوهري الذي يوجب تغاير الموجود للمعقود عليه والوصف الجانبي الذي لا يوجب ذلك، وهذا هو الذي قلنا انّه يرجع إلى الحلّ الذي ذكره الشيخ (رحمه الله) في أوّل كلامه أو يقاربه حيث ذكر في مقام الحلّ: انّ العرف يفرّق بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي فيرى انّ الثاني لا يوجب مغايرة الموجود للمعقود عليه بخلاف الأوّل(1).

وإن كان العلَمان (قدس سرهما) يعنيان دقيق ما في العبارتين فهنا فرق دقيق بين


(1) المكاسب 2: 250.

458

العبارتين حيث انّ الشيخ (رحمه الله) أجاب على إشكال تغاير الموجود للمعقود عليه بانّ العرف هوالذي حكم بانّ الوصف الجانبي لا يوجب التغير بخلاف الوصف الجوهري فكأنّه (رحمه الله) يقول: انّنا لو كنّا نبحث الأمر فلسفياً لكان الإشكال محكماً لانّ فاقد الوصف ولو كان جانبياً هو غير واجده لا محالة لكننا نتبع في هذه الاُمور العرف وهو يفرّق بين التوصيف بالوصف الجوهري والتوصيف بالوصف الجانبي، فيرى الأوّل موجباً لمباينة ما في الخارج لما وقع عليه العقد والثاني غير موجب للمباينة.

أمّا صاحب الجواهر (رحمه الله) فكأنّه يرى انّ البحث لو كان فلسفياً ففقدان الوصف لا يوجب التباين حتى ولو كان جوهرياً لانّ الجزئي لا يتحصص فيستحيل التباين، والبيع لو كان منصباً على الكليّ كان توصيف الكلي بوصف موجباً لتحصيصه وبالتالي كان موجباً لمباينة الحصة الواجدة للوصف للحصة الفاقدة، ولكن المفروض انّه انصب على الجزئي فيستحيل التباين بين المعقود عليه وما في الخارج لانّ الوصف لا يحصّصه وهذا لا يفرّق فيه بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي، وعندئذ يتوجه السؤال عن انّه لماذا اذن تقولون ببطلان البيع عند فقدان الوصف الجوهري كما لو باع عبداً حبشياً فتبيّن حماراً وحشياً؟! والجواب انّ العرف هو الذي فرّق بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي بفرض الأوّل موجباً للمباينة بين الواقع ومتعلق العقد دون الثاني.

إذن فتقريبا العلَمين ـ لو أردنا ان نأخذ بدقيق العبارتين ـ متعاكسان فعلى تعبير الشيخ يكون مقتضى الفهم الفلسفي لو جاز المشي عليه في المقام بطلان البيع سواء كان الوصف جوهرياً أو جانبياً لانّ الواقع يباين المعقود عليه ولو في وصف جانبي والعرف تدخّل هنا في دفع الإشكال عن الوصف الجانبي ووافق الفلسفة في الوصف الجوهري، وعلى تعبير صاحب الجواهر يكون مقتضى الفهم الفلسفي

459

لو جاز المشي عليه في المقام صحّة البيع مطلقاً لانّ الجزئي لا يحصّص والعرف تدخّل في تثبيت الإشكال في مورد الوصف الجوهري حيث فرضه موجباً للتباين بين الواقع والمعقود عليه ووافق الفلسفة في الوصف الجانبي.

وعلى أيّة حال فهذا الحلّ أيضاً لا يمسّ الصياغة الثانية للإشكال فلا زال المشتري مثلاً من حقه ان يقول: انّ رغبتي في العبد منوطة بالكتابة وبفقدانها ينفقد الرضا وبذلك يبطل البيع ولو سلّم ان متعلق البيع هو عين الموجود خارجاً. كما انّ هذا الحلّ لا يفسّر الخيار ويبقى تفسير الخيار بحاجة إلى إبراز نكتة اُخرى.

أمّا تعليقنا على أصل ما قيل في المقام من انّ الجزئي لا يتحصص بالتوصيف بخلاف الكليّ وجعل هذا برهاناً على عدم مغايرة الموجود للمعقود عليه فهو ان عدم إمكانية تحصيص الجزئي بالقيد بخلاف الكليّ صحيح لا إشكال فيه ولكن هذا يعني انّ الكليّ قابل للصدق على كثيرين وكلّما قيّد بقيد ووصف بوصف خرج عن قابلية الصدق على فاقد ذاك القيد أو الوصف وأصبحت لدينا حصّتان متباينتان، أمّا الجزئي فلم يكن قابلاً للصدق على كثيرين فلا يعقل تقييده بمعنى تحصيصه ومنعه عن قابلية الانطباق على بعض الأقسام، ولكن هذا لا ينافي توصيف المفهوم الجزئي بوصف مطابق لما في الخارج أو مخالف له فان طابق ما في الخارج لم يتغير انطباق هذا المفهوم الجزئي وصدقه على ما في الخارج، إذ من أوّل الأمر لم يكن ينطبق إلّا على فرد واحد ولم يكن يصدق إلّا عليه ولا زال كما كان لانّ الوصف المذكور موجود حقيقة في ذاك الفرد، وإن لم يطابق ما في الخارج اختلف انطباق ذاك المفهوم الجزئي وصدقه عمّا كان عليه وذلك لا بمعنى انّه اختص بحصّة معيّنة أضيق ممّا قبل التوصيف فضاقت دائرة صدقه في الخارج حتى يقال: إنّ الجزئي لا يتحصص بل بمعنى انه خرج أصلاً

460

عن عالم الانطباق والصدق على ما في الخارج إذ لم يكن يقبل الانطباق إلّا على فرد واحد وذاك الفرد لم يكن موصوفاً بهذا الوصف فإذا وصف ذاك المفهوم بهذا الوصف أصبح بما هو موصوفاً بهذا الوصف غير قابل للانطباق على ما في الخارج وغير ممكن الصدق.

وهذا هو المقصود من الشبهة التي تقول: إنّه لو باعه هذا العبد الكاتب ثم انكشف انّه ليس بكاتب فما هو موجود غير معقود عليه والمعقود عليه غير موجود لانّ المبيع قيّد بقيد مفقود في الخارج، وليس المقصود بهذا دعوى التقييد بمعنى التحصيص واختصاص المبيع بالصدق على حصة اُخرى غير الحصة الموجودة خارجاً حتى يقال: إنّ الجزئي لا يتحصص وإنّ هذا خلط بين الوصف المعيّن للكليّ والوصف المعيَّن في الجزئي وانّما المقام من قبيل ان يقال: إنَّ العَلم كزيد لو وصف بوصف العِلم فقيل: «زيد العالم» وكان المسمّى الخارجي بهذا العلم عالماً حقّاً فهذا المفهوم مطابق لما في الخارج، امّا لو كان جاهلاً فهذا المفهوم بما هو معنون بهذا الوصف غير مطابق لما في الخارج، ولا يقصد بذلك انّ كلمة (زيد) جعلت نكرة واخرجت عن العلَمية وأصبح معناها مطلق المسمّى بـ (زيد) ثم حصّصت بقيد العلم فأصبحت غير صادق إلّا على فرد آخر غير زيد الجاهل.

وان شئت فقل: إنّ التقييد شأنه حسر المفهوم الذي قيّد به عن قابلية الانطباق على بعض المصاديق، فإن كان ذلك المفهوم كليّاً يقبل الانطباق على مصاديق أو حصص عديدة فحسره عن بعضها يؤدّي لا محالة إلى التحصيص، وإن كان المفهوم جزئياً لا يقبل الانطباق على أكثر من مصداق واحد فحسره يؤدّي إلى عدم قابلية الصدق على الخارج نهائياً وتحوّله إلى مفهوم فارغ عن قابلية الانطباق، وصاحب الشبهة يقول: إنّ ما نحن فيه من هذا القبيل.

461

4 ـ التفريق بوجه آخر بين الوصف الجوهري والجانبي:

الحلّ الرابع ـ ما نقلناه عن الشيخ الانصاري (رحمه الله) الذي ذكره قبل تعرضه للصياغة الثانية للإشكال بناء على حمله على ما يغاير ما فرضناه في الحل الثالث بان يكون المقصود: انّنا حتى لو فرضنا ان ما في الخارج يغاير المعقود عليه فلسفياً فالعرف يفرّق بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي ويرى الأوّل موجباً للمغايرة والثاني غير موجب لها وهذا بخلاف الحل الثالث الذي افترضنا فيه انّ الإشكال محلول فلسفياً لان الجزئي لا يتحصص فلا تحصل المغايرة وانّ العرف وافق الفلسفة في ذلك في الوصف الجانبي ولكنه خالفه في الوصف الجوهري.

وهذا الحل لو تمّ لا يفسّر الخيار ويكون الخيار بحاجة إلى تفسير آخر.

وأيضاً لو تمّ هذا الحل لم يمسّ الصياغة الثانية للإشكال فلا زال من حق المشتري مثلاً أن يقول: إنّ العرف وإن فرض عدم المغايرة والتباين بين ما وقع عليه العقد وهو العبد الكاتب وما هو موجود خارجاً وهو العبد غير الكاتب ولكن رضاي بالمعاملة منوط بوصف الكتابة لانّ العبد غير الكاتب لا يحقق لي تمام الأغراض.

ومن الطريف انّ الشيخ الانصاري (رحمه الله) ذكر في بحث خيار الرؤية أوّلاً الصياغة الاُولى للإشكال وأجاب عليها بتفريق العرف بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي فالأوّل وإن كان يوجب التباين لكن الثاني لا يوجب التباين عرفاً، ثم ذكر الصياغة الثانية للإشكال وجعلها دليلاً على مجازفة جواب يقارب في أكبر الظن نفس جواب الشيخ على الصياغة الاُولى، ثم ذكر في بحث الشرط الفاسد الصياغة الثانية للإشكال وأجاب عليها بنفس الجواب الذي ذكره في بحث خيار الرؤية على الصياغة الاُولى فقد قرّب الإشكال في بحث الشرط بانّ فساد

462

الشرط أوجب فقدان الرضا لانّ التراضي انّما وقع على العقد الواقع على النحو الخاص، وأجاب عليه بانّ القيود منها ما يكون ركناً في المطلوب، ككون الحيوان ناطقاً لا ناهقاً فالعرف يحكم في ذلك بانتفاء الرضا لدى انتفاء القيد، ومنها ما لا يكون ركناً فيه ككون العبد صحيحاً غير معيب أو المتاع الفلاني من القسم الجيّد دون القسم الرديء وهنا يحكم العرف بانّ الفاقد نفس المطلوب وان التصرف الناشئ عن العقد بعد فساد الشرط ليس تصرفاً لا عن تراض.

وهذا الكلام غريب فانّ جانبية الوصف وركنيته لو اثّرتا عرفاً في عدّ الموجود عين ما وقع عليه العقد وعدمه من الواضح انّهما لا تؤثّران في ثبوت الرضا وعدمه فلو قلنا مثلاً انّ الرضا متقوم بالوجود العلمي ثبت الرضا في كليهما، ولو قلنا انّه متقوم بالواقع مثلاً انتفى في كليهما، نعم قد تؤثر ركنية الوصف وجانبيته في درجة الكراهة وعدم الارتياح. وفقدان بعض الأهداف أو جميعها ولكنهما سيّان في أصل مسألة التأثير على الرضا.

وأمّا تعليقنا على أصل هذا الحلّ فهو انّه ماذا يقصد بدعوى تفصيل العرف بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي بكون فقدان الأوّل موجباً للتغاير وعدم كون فقدان الثاني موجباً له؟ إن كان المقصود بذلك ان فقدان الوصف الخارج عن ماهية الشيء لا يوجب تباين الماهية وفقدان الوصف الداخل في ماهية الشيء يوجب تباينها، أو ان فقدان الوصف الداخل في جملة ما يكون دخيلاً في الركن الفلسفي أو العقلائي يوجب التباين في الركن فهذا ثابت لدى الفلاسفة أيضاً، إلّا انّ الواقع ان هذا اجنبيّ عن المقام فانّ مَن يدّعي البطلان لا يدّعيه على أساس دعوى انّ الفاقد للوصف الجانبي مغاير للواجد في الماهية أو الركن وانّما يدّعيه على أساس دعوى انّ العنوان المأخوذ في العقد غير منطبق على ما في الخارج

463

لاختلافه معه ولو في أمر غير ما هويّ وغير ركن.

وإن كان المقصود بذلك انّ العرف يرى المفهوم الذي أخذ فيه وصف جانبي منطبقاً على فاقد الوصف لا لشيء إلّا لأنّ الوصف جانبيّ فهذا غير صحيح وآية ذلك انّه لا خلاف في انّ المبيع الذي أخذ فيه وصف جانبيّ لو كان كلياً ثم طبقه البائع على فرد فاقد للوصف وسلّمه إلى المشتري لم يتم التسليم، وليس هذا إلّا لان توصيف الكليّ حيث كان ظاهراً في التحصيص كان داخلاً في متعلق العقد حتماً فاعترف العرف بعدم انطباقه على ما في الخارج الفاقد للوصف وتوصيف الجزئي أيضاً ان كان يعني دخوله في متعلق العقد فالعرف يعترف حتماً بمغايرة المعقود عليه للخارج لانّه لو قال العرف بانّ الوصف ما دام جانبياً فلا قيمة مهمة له فلنعتبر الموصوف بهذا الوصف منطبقاً على غير الموصوف لقال بذلك أيضاً في الحصة الموصوفة من الكليّ لانّ الوصف الجانبي لا قيمة مهمة له فلتعتبر تلك الحصة منطبقة على الفرد الفاقد للوصف فكان المهم في البحث ان نرى انّ الوصف في الجزئي هل يدخل في متعلق العقد أو لا؟ لا أن نقول إنّ العرف لا يرى المغايرة إذ لو دخل الوصف فيه فلا إشكال في المغايرة وعدم الانطباق على الخارج حتى في نظر العرف ولو لم يدخل الوصف في متعلق العقد بطل التغاير فلسفياً أيضاً لا عرفاً فقط.

5 ـ العوارض الخارجية ليست طرفاً للمبادلة:

الحلّ الخامس ـ ما اختاره المحقّق النائيني (رحمه الله)(1) وحمل كلام الشيخ الانصاري عليه، وهو أنّ الوصف الذي اُخذ عنواناً لمتعلّق العقد إن كان من الصور


(1) راجع منية الطالب 2: 135 ـ 137 و 148 ـ 149.

464

النوعيّة فهو طرف للمبادلة، وذلك كما في حماريّة الحمار وفرسيّة الفرس وما إلى ذلك، لوضوح أنّ المادّة الهيولائية غير صالحة لأن يبذل بإزائها المال، وشيئية الشيء وماليته متقوّمتان بهذه الصور النوعية، فلو باعه حماراً فتبين فرساً فهو في الحقيقة لم يبعه شيئاً لانّ الذي يباع ويبذل بإزائه المال انّما هو الحمار أو الفرس، والفرس لم يكن مبيعاً والحمار لم يكن موجوداً.

وأمّا إذا كان الوصف من العوارض الخارجية لا الصور النوعية ككتابة العبد فقد فرغ الشيء عن كونه شيئاً قابلاً لوقوع المبادلة عليه بقطع النظر عن هذا الوصف، وقد يكون الوصف دخيلاً في زيادة قيمته لكنه لا يقع شيء من المال في مقابلة وانّما المال يقع في مقابل الشيء بصورته النوعية ولا يقع شيء منه بازاء الوصف رغم دخل الاوصاف في قيمة الشيء إذن فتخلّفه لا يعني مغايرة ما هو موجود لما وقعت عليه المبادلة وانصبّ عليه العقد.

أقول: إنّ هذا الكلام من المحقق النائيني لو تم لا يحلّ بوحده الصياغة الثانية للإشكال ولا يفسّر الخيار، وقد تصدّى هو (رحمه الله) لحلّ الصياغة الثانية للإشكال وهي مشكلة الرضا بإضافة نكتة اُخرى سيأتي بيانه في محله ـ إن شاء الله ـ وتصدى أيضاً لتفسير الخيار بنكتة سنذكرها ـ إن شاء الله ـ وعلى أيّة حال فالانصاف ان هذا الحل غريب فان منشأ الشبهة لم يكن عبارة عن انّ المال وقع في مقابل الوصف فصحيح انّ المال انّما وقع في مقابل الموصوف ولم يقع لا بتمامه ولا ببعض أجزائه في مقابل الوصف رغم دخل الوصف في زيادة القيمة ولكن الشبهة تقول: إنّ الوصف قيد لمتعلق العقد والمال طبعاً انّما هو في مقابل المقيد لا في مقابل القيد لكن المقيد بما هو مقيد كان متعلقاً للعقد والقيد هنا قد حسر انطباقه على ما في الخارج.

465

ولو صحّ تقريبه (رحمه الله) في القيد الحاسر عن الانطباق نهائياً لصحّ أيضاً في القيد المحصّص والمضيّق فلزم ان يقال انّه لو باعه عبداً كاتباً ثم سلّمه عبداً غير كاتب فقد حصل تسليم المبيع وان اخلف الشرط مثلاً وذلك لان ما وقعت عليه المبادلة انّما هو العبد بصورته النوعية دون الكتابة لانّ المال انّما يبذل بازاء العبد أما الكتابة فلا يبذل بإزائها المال وإن كانت دخيلة في تصعيد القيمة التي تبذل بازاء العبد أفهل يلتزم المحقق النائيني (رحمه الله) بهذهِ النتيجة؟ ! !

هذا ونتيجة هذا الوجه لو تم هي كون المقياس في الجوهرية والجانبية المعنى الفلسفي لا الجوهرية والجانبية بلحاظ الأغراض العقلائية نعم ألحقَ المحقق النائيني (رحمه الله) بالوصف الجوهري كل وصف كان قوام مالية المال به وإن لم يكن دخيلاً في حقيقة الشيء فلسفياً ومثّل لذلك بوصف الصحة فيما لا قيمة لمعيبه كالجوز والبيض ونحوهما(1).

6 ـ أخذ الوصف على أساس تعدّد المطلوب:

الحلّ السادس ـ ما اختاره المحقق الخراساني (رحمه الله)(2) وحمل عليه كلام الشيخ الانصاري (قدس سره)وهو ان الوصف إن لم يكن ركناً للمطلوب كان ظاهر أخذه عرفاً هو أخذه على أساس تعدد المطلوب، أي أنّ المشتري يطلب العبد الكاتب مثلاً لو كان فان لم يكن كاتباً يطلب العبد رغم عدم كتابته، وهذا الظهور ناشئ من غلبة ان دخل الأوصاف غير الركنية تكون على هذا الأساس فان أراد الشخص خلاف ذلك كانت عليه إقامة القرينة، وامّا إن كان الوصف ركناً للمطلوب فهنا


(1) راجع منية الطالب 2: 136.

(2) راجع تعليقته على كتاب المكاسب: 206 و 251.