524

ثم المقصود من مخالفة الشرط للكتاب هل هو حرمة الاشتراط أو عدم نفوذه أو مخالفة المشروط للكتاب؟ والجمع بين الكل أو بين اثنين منها كاستعمال اللفظ في معنيين فان فرض الثاني وهو عدم النفوذ أصبحت القضية ضرورية بشرط المحمول إذ معنى الكلام عندئذ: (الشروط نافذة إلّا الشروط التي لا تنفذ) والأوّل حمل للكلام على فرض نادر فانّ الشروط المتعارفة ليس فيها ما تكون الحرمة في نفس الاشتراط أو يندر ذلك، والمتبادر إلى الذهن هو المعنى الثالث أي كون المشروط مخالفاً للكتاب وهذا انّما يتصوّر في شرط الفعل وشرط النتيجة ولا معنى لشموله لشرط الوصف.

خيار التدليس:

الأمر الرابع ـ جاء في الفقه الوضعي: انّ أحد عيوب الإرادة هو التدليس والتدليس وارد في فقهنا الإسلامي أيضاً ولكن في فقهنا انّما يوجب الخيار لكونه تدليساً وتغريراً لا لمجرّد صيرورة الإرادة معيبة بالمعنى المنحفظ حتى في تخلّف الدواعي كما اتضح بيانه ممّا تقدّم فالتدليس هو التغرير المتعمّد، وقد مضى منّا الكلام عن التغرير، والتغرير اعمّ من التدليس إذ قد لا يكون المغرّر متعمّداً كما لو كان هو متورّطاً في الخطأ فأوجب خطأ الآخرين وكان ذكر التدليس في الفقه الغربي كمادّة مستقلة عن الخطأ في محلّه بناء على مذهب الغلط المشترك لانّ الغلط في مورد التدليس ليس مشتركاً، وكذلك بناء على تخصيص الغلط بمثل الغلط في أوصاف المبيع وفرض التدليس شاملاً لما هو أوسع من ذلك كالتدليس على الشخص بالإيحاء إليه بكون ابنه مريضاً كي يقدم على شراء الدواء في حين ان ابنه ليس مريضاً، أو الإيحاء إليه بانّ السعر سعر عادل بينما هو سعر مجحف، أمّا بناء على توسيع دائرة الغلط لمثل الغلط في الباعث والقيمة والتعدّي من الغلط

525

المشترك إلى كل غلط يتصل به المتعاقد الآخر فلا يبقى مورد مستقل عن الغلط يدرج في التدليس، ولا تظهر نكتة مستقلة في التدليس حسب مبانيهم توجب ذكره كسبب مستقل عن الخطأ لصيرورة الإرادة معيبة.

وقد جاء في الوسيط(1) نقلاً عن المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المصري: انّ النكتة في إفراد التدليس بالذكر ثبوت أثرين عمليين للتدليس لم يكونا في سائر موارد الغلط، أحدهما سهولة الإثبات فان دعوى الغلط في غير موارد وجود العلائم المادّيّة للتدليس ليس إثباتها سهلاً وهذا بخِلاف موارد التدليس، وثانيهما ثبوت حقّ التدارك للأضرار الناجمة عن التدليس.

وعلى أيّة حال فنحن عندنا ثلاثة أسباب عقلائية للخيار كما مضى، التغرير، وتخلّف الشرط، وتخلّف الأغراض العامّة أو التي يكون تخلّفها خلاف الأصل كالسلامة وعدم الغبن، ولا يوجد أي تداخل بين هذه النكات كالتداخل الموجود بين النكات المتعرّض لها في الفقه الغربي وقد فرضوا من طرق التدليس مجرّد السكوت إذا كان عارفاً بتأثيره على إرادة المتعاقد الأوّل ولم يكن المتعاقد الأوّل قادراً على كشف الحقيقة عن طريق آخر.

وهذا ممّا لا دليل عليه في فقهنا عدا الاستحسان، نعم بالقياس إلى وصف المبيع الذي بقي مستوراً على أثر السكوت وعدم فحص المشتري يدخل الأمر في ما مضى من بحث خيار الرؤية ويثبت الخيار، رغم كون المشتري مثلاً قادراً على كشف الحقيقة عن غير طريق إخبار البائع وهو طريق الفحص، ثم انّ خيار


(1) راجع الوسيط 1: 359، المادّة 186، التعليق الثاني تحت الخط.

526

التدليس في فقهنا الإسلامي مضافاً إلى ما عرفت من عقلائيته وإمضاء هذا الارتكاز العقلائي شرعاً بالسكوت وعدم الردع، أو بقاعدة نفي الضرر يمكن الاستدلال عليه ببعض الروايات وهي الروايات الواردة في الحيوان المصرّاة(1)ولكنّها غير تامّة سنداً، والروايات الواردة في خيار التدليس في النكاح وهي وإن كانت في الغالب واردة في تدليس العيب(2) ولا يمكن التعدّي منها إلى مطلق التدليس لاحتمال دخل العيب في الخيار، سواء فرض العيب سبباً مستقلاً للخيار كما في العيوب الخاصّة في النكاح، أو فرض هو مع التدليس بمجموعهما سبباً للخيار فمع هذا الاحتمال لا يمكن التعدّي إلى التدليس المنفصل عن العيب لكن فيها ما لا يكون كذلك(3) من قبيل ما ورد بسند تام عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام)في رجل يتزوّج المرأة فيقول لها: أنا من بني فلان فلا يكون كذلك فقال: تفسخ النكاح أو قال: تردّ(4) فبناء على التعدّي من النكاح إلى العقود الماليّة يثبت خيار التدليس في العقود المالية. وقد يدغدغ في هذا التعدّي باحتمال الخصوصية في النكاح لخطورته وكونه بداية اتخاذِ حياة مشتركة طويلة الأمد.


(1) راجع الوسائل 12: 360، الباب 13 من أبواب الخيار، الحديث 2 و 3.

(2) من قبيل ما في الوسائل الجزء 14، الباب 2 من العيوب والتدليس، الحديث 1 و 2 و 7 وقد يكون من هذا القبيل الحديث 1 و 4 الباب 6 من تلك الأبواب بناء على انّ الزنا عيب اجتماعي بل هو عيب كبير لا يمكن التعدّي منه إلى العيوب المتعارفة فضلاً عن التدليس المنفصل عن العيب وقد يكون من هذا القبيل أيضاً الحديث 1 و 2 من الباب 11 من تلك الأبواب بناء على انّ عدم الحريّة عيب اجتماعي

(3) راجع الوسائل 14: 614 ـ 615، روايات الباب 16 من أبواب العيوب والتدليس.

(4) الوسائل 14: 614 ـ 615، الباب 16 من أبواب العيوب والتدليس، الحديث 1.

527

وقد يدعم هذا التعدّي بكون خيار التدليس أمراً ارتكازياً لدى العقلاء، ولا أقصد بذلك الرجوع إلى دليل سابق وانّما أقصد بذلك انّنا لو تنزّلنا عن إثبات إمضاء هذا الارتكاز بعدم الردع أو بقاعدة نفي الضرر (وهذه هي الأدلّة السابقة) فسيكون دليلنا الجديد هو النص الدال على خيار التدليس في النكاح الذي يفهم منه العرف بسبب ما يمتلك من ذاك الارتكاز قاعدة عامّة تشمل سائر العقود فهذا الارتكاز وإن كان في حدّ ذاته غير حجّة لكنّه يساعد على استظهار العرف للإطلاق من ذاك الدليل اللفظي.

حكم الاستغلال وخيار الغبن:

الأمر الخامس ـ جاء في الفقه الغربي: انّ أحد عيوب الإرادة هو الاستغلال.

وكما مضى في التدليس ان نظرية الغلط تغني عنه، فانّ التدليس يوقع المدلّس عليه في الغلط لا محالة، كذلك كان بالإمكان الاستغناء عن ذكر عيب الاستغلال لو قصد به استغلال جهل المتعاقد الآخر المؤدّي إلى إخلال الموازنة بين العوضين في القيمة فانّ هذا يرجع إلى التدليس أو الغلط ولكنهم توسّعوا في مسألة الاستغلال لاستغلالات اُخرى تؤدّي إلى الغبن غير استغلال الجهل فمثلاً ورد في القانون المدني الألماني في المادّة [138] بطلان التصرّف القانوني الذي يستغل الشخص حاجة الغير أو خفّته أو عدم تجربته ليحصل لنفسه أو لغيره في نظير شيء يؤدّيه على منافع ماليّة تزيد على قيمة هذا الشيء بحيث يتبين من الظروف انّ هناك اختلالاً فادحاً في ا لتعادل ما بين قيمة تلك المنافع وقيمة هذا الشيء(1).


(1) راجع الوسيط 1: 389 ـ 390، الفقرة 203.

528

وورد في القانون المصري الجديد في المادّة [129]: إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر وتبيّن انّ المتعاقد المغبون لم يُبرم العقد إلّا لانّ المتعاقد الآخر قد استغلّ فيه طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً جاز للقاضي بناء على طلب المتعاقد المغبون ان يبطل العقد أو ان ينقص التزامات هذا المتعاقد(1).

ومن حكم منهم بكون الاستغلال مبطلاً كما عرفته عن القانون الآلماني فهو لا ينظر إلى الاستغلال بما هو معيب للإرادة بل ينظر إليه بما هو عمل غير مشروع(2) وذلك لانّ جزاء معيبية الإرادة في نظرهم انّما هو الخيار لا البطلان.

وعلى أيّة حال فالخيار في نظر الفقه الإسلامي انّما يترتّب في موارد الغبن لدى جهل المغبون وهذا رجوع إلى الغلط أمّا سائر الاستغلالات فلا يوجب الخيار فالطيش مثلاً إذا كان بمستوى السفه يوجب بطلان البيع ولو لم يستغله المتعاقد الآخر لانّ السفيه محجور عليه في نظر الفقه الإسلامي، وإن لم يكن بهذا المستوى لم يوجب الخيار إلّا بلحاظ الجهل بالقيمة وهذا رجوع إلى الغلط. والهوى الجامح لو جعل المعاملةَ سفهيّة محاباتيّة وقلنا ببطلان مثل هذه المعاملة لم نصل أيضاً إلى الخيار وإلّا فالعقد لازم ولا موجب للخيار أيضاً لانّه باختياره التام فعل ما فعل، وكذلك استغلال حاجة الغير لا يوجب الخيار ولا يحرم ما لم يحرّمه وليّ الأمر.

وهذا والغبن بما هو شيء مادّي كان قديماً لدى الفقه الغربي هو الموجب


(1) راجع الوسيط 1: 391، الفقرة 204.

(2) راجع الوسيط 1: 401، الفقرة 208.

529

للخيار أو البطلان بوصفه عيباً في العقد لا بوصفه عيباً في الإرادة ولكنّهم أخيراًاهتدوا إلى اشتراط العنصر النفسي، وهو عنصر الاستغلال ومن هنا أمكن درجه ضمن عيوب الإرادة، فالمُقدِم بكامل وعيه واختياره على تقبّل الغبن ومن دون استغلال لخطئه أو جهله أو نحو ذلك من قبل المتعاقد الآخر لا خيار له ولا يكون العقد معه باطلاً، وبهذا اقتربوا من الفقه الإسلامي الذي لا يرى خياراً للمغبون الذي تقبّل الغبن بكامل الوعي والاختيار، وخيار الغبن في الفقه الشيعي وبعض مدارس الفقه السنّي يكفي فيه جهل المغبون ولا يشترط فيه عنصر التغرير لما عرفته في ما مضى من انّ نفس أصالة التساوي في القيمة أو كون التساوي في القيمة هو الغرض العام للعقلاء نكتة مستقلة للخيار غير التغرير، ولكن بعض مدارس الفقه السنّي اشترط في خيار الغبن التغرير(1).

وقد جاء في الفقه الغربي(2): انّ حقّ الإبطال الذي يتحقّق بسبب الاستغلال له عدل آخر وهو حقّ تقليل التزامات المغبون الباهظة إلى الحدّ الذي لا يجعلها باهظة فان اختار المغبون تقليل الالتزامات نفذّه له القاضي بقدر ما يقدّره القاضي كافياً لرفع الغبن، وان اختار الإبطال جاز للقاضي الإبطال إذا رآى انّ الاستغلال عاب رضا المغبون إلى حدّ ان أفسده نهائياً أي لا يعالج ذلك بتنقيص الالتزامات، فلولا الاستغلال لم يكن يقبل بهذا العقد حتى مع تنقيص التزاماته، أمّا لو لم يكن الأمر كذلك بان رأى القاضي انّ الاستغلال لم يفسد الرضا إلى هذا الحدّ وانّ المغبون كان يقبل الدخول في العقد بلا استغلال لو لم تكن التزاماته باهظة فهنا ليس للقاضي إبطال العقد واقتصر على انقاص الالتزامات الباهظة.


(1) راجع مصادر الحق 2: 134 ـ 137.

(2) راجع الوسيط 1: 406، الفقرة 211.

530

أقول: إنّ الاقتصار على حقّ الخيار بمعنى حقّ الردّ كما فعله الفقهالإسلامي أوفق بالاعتبارات العقلائية ذلك لانّ الغابن انّما التزم بهذا العقد المشتمل على كذا مقدار من التزامات صاحبه تجاهه، وقد لا يكون مستعداً للالتزام بعقد آخر لا يشتمل على تلك الالتزامات ولا مبرّر لفرض ذلك عليه، فغاية ما يكون للمغبون على الغابن هي فسخ العقد فان اتفقا بعد ذلك على عقد جديد تقل فيه التزامات المغبون عقدا العقد الجديد وإلّا فلا. والشاهد على ذلك من نفس الفقه الغربي أنّهم لم يقبلوا في المقام بتدارك الغبن عن طريق إضافة التزامات الغابن.

وذكر السنهوري في وجه الفرق بين انقاص التزامات المغبون وزيادة التزامات الغابن بقبول الأوّل دون الثاني ان انقاص مقدار المبيع لا يؤذي البائع المغبون بل يرفع عنه الغبن، ولكنّ الزيادة في ا لثمن قد تؤذي المشتري إلى حد ان يؤثر العدول عن الصفقة، نعم تجوز الزيادة في الثمن إذا رغب المشتري نفسه في ذلك بان ترفع دعوى الإبطال فيتوقّاها بعرض زيادة في الثمن يراها القاضي كافية لرفع الغبن.

أقول: إنّ هذا الوجه للتفريق بين انقاص التزامات المغبون وزيادة التزامات الغابن غريب فكما انّ الزيادة في الثمن قد تؤذي المشتري إلى حد ان يؤثر العدول عن الصفقة كذلك النقيصة في المثمن قد تؤذي المشتري إلى حدّ ان يؤثر العدول عن الصفقة.

بل حتى ما ذكروه من انّ الغابن بإمكانه رفع دعوى الإبطال بتدارك الغبن بزيادة في الثمن غير مقبول في فقهنا الإسلامي فان البيع بثمن أكبر من الثمن الأوّل عقد جديد وهو بحاجة إلى توافق جديد، نعم لو انحصر دليل الخيار في تطبيق

531

قاعدة نفي الضرر في المقام على الضرر المالي فقد يقال: إنّ الغابن إذا كان مستعدّاً لرفع الضرر المالي بدفع زيادة توجب تدارك الضرر فلا موجب للخيار، أمّا إذا صحَّ الاستدلال على الخيار بالارتكاز العقلائي بعد ضمِّ عدم الردع إليه الكاشف عن الإمضاء، أو إثبات إمضائه بتطبيق قاعدة نفي الضرر على الضرر الحقّي لكون نفي حقّ الخيار الثابت عقلائياً ضرراً فهنا لا تصل النوبة إلى إسقاط الخيار بتقديم الزيادة الرافعة للغبن نعم لو تراضيا معاً على ذلك فهذا مطلب آخر.

والخلاصة انّ خيار الغبن حسب ما هو المعروف في فقهنا الإسلامي له عِدل واحد وهو الفسخ.

نعم في خيار العيب قد ورد في فقهنا الإسلامي الارش وذلك بنصّ خاص ولعلّ نكتتهُ العقلائيّة انّ العيب بمنزلة فقدان جزء من المبيع.

الإكراه مبطل للعقد أو موجب للخيار؟

الأمر السادس ـ جاء في الفقه الغربي: انّ أحد عيوب الإرادة الموجبة لحقّ الإبطال هو الإكراه(1) ولكنّ الفقه الإسلامي يرى الإكراه مبطلاً للعقد لا موجباً لحقّ الإبطال كما سيأتي إن شاء الله في البحث الثالث. وقد تلخّص من كل ما ذكرناه: انّه لو صحَّ أن نقول الفقه الإسلامي يرى تدخّل العيب في الإرادة موجباً للخيار فانّما يكون هذا منحصراً في عيب واحد وهو «الغلط» وليس عيوباً أربعة وهي الغلط، والتدليس، والاستغلال، والإكراه، فالتدليس والاستغلال يرجعان إلى الغلط، والإكراه مبطل للعقد لا موجب للخيار.

ولو صحّ انّ الغلط عيب في الإرادة يوجب الخيار فانّما هو في مورد تخلّف


(1) راجع الوسيط 1: 360 ـ 363، الفقرة 187 ـ 190.

532

الأغراض العامّة، وهي موارد العيب والغبن وكذلك في موارد التغرير وتخلّف الشرط. أمّا ذات الغلط المنحفظ في جميع موارد تخلّف الدّاعي فلا يقتضي الخيار أبداً.