58

أن يتغيّر عليه المدين من دون رضائه، ويعنيه من تغيير مدينه ما لا يعني المدين من تغيير دائنه، فبقيت القوانين اللاتينيّة عند هذه المرحلة من التطوّر لم تستكمله إلى غايته، وذلك مع استثناء التقنين المدني الإيطالي الجديد، فقد أقرّ حوالة الدَين عند الكلام في الإنابة في الوفاء....

أمـّا التقنينات الجرمانيّة فقد سارت في التطوّر إلى نهاية الطريق، وما دامت فكرة الالتزام قد تطوّرت فأصبح الالتزام قيمة مادّيّة أكثر منه رابطة شخصيّة، وما دام قد أمكن تصوّر انتقال الالتزام من دائن إلى دائن آخر فما الذي يحول دون التسليم بانتقاله من مدين إلى مدين آخر ومن ثمّ يعرف كلّ من التقنين المدنيّ الألمانيّ (م 1414 - 1419) وتقنين الالتزامات السويسريّ (م 175 - 183) إلى جانب حوالة الحقّ حوالة الدَين(1). هذا ما أردنا نقله هنا من مقاطع من عبائر السنهوريّ بنصّها.

حوالة الدَين مقارناً للقانون الوضعي:

وفي فقهنا الإسلاميّ يوجد باب باسم باب الحوالة، ويقصدون بالحوالة حوالة الدَين. أمـّا اصطلاح حوالة الحقّ فلم يرد في فقهنا، فقد يتراءى في النظر ـ على هذا الأساسـ أنّ الفقه الإسلاميّ عرف حوالة الدين بين الأحياء ولم يعرف حوالة الحقّ خاصّة إذا نظرنا إلى الفقه السنّي الذي لا يعترف ـ في غالب مذاهبه ـ ببيع الدَين أو هبته، إلّا في المذهب المالكيّ في الجملة(2).

وهذا شيء غير ممكن أن يقع في فقه مّا على رأي الدكتور السنهوريّ، وإلّا


(1) الوسيط 3: 414 - 419 الفقرة 237 ـ 239.

(2) راجع الوسيط 3: 421 و 434 ـ 437 الفقرة 240.

59

كان هذا بدعاً في تطوّر القانون ـ على حدّ تعبيره ـ وذلك لأمرين:

أحدهما: أنّه من غير الطبيعي أن يعرف نظام قانونيّ حوالة الدَين قبل أن يعرف حوالة الحقّ، لما مضى من أنّ رابطة الالتزام بالمدين أشدّ وأقوى منها بالدائن، وشخصيّة المدين أخطر في هذه الرابطة من شخصيّة الدائن.

وثانيهما: أنّه من غير الطبيعي أن يسلّم نظام قانونيّ بانتقال الدَين بين الأحياء من مدين إلى آخر وهو لم يعترف بانتقاله بسبب الموت، لأنّ تصوّر قيام الوارث مقام الميّت أسهل من تصوّر قيام شخص مقام من هو حيّ يرزق ـ كما مضى ـ والإسلام لا يعترف بانتقال ديون الميّت إلى الوارث.

وهنا يواجه الدكتور السنهوري فتاوى الفقهاء الاسلاميّين الذين أفتوا بحوالة الدَين فيما بين الأحياء، بينما لم يفتوا بانتقال الدَين بالموت إلى الوارث، ولا بحوالة الحقّ إلّا في المذهب المالكيّ الذي اعترف به في الجملة ـ على حدّ تعبيره ـ وطبعاً هو ينظر إلى فتاوى فقهاء العامّة وليس على اطّلاع من فتاوى فقهاء الشيعة.

ويتصدّى لتوجيه هذه الفتاوى وتفسيرها بالنحو الذي لا يعارض ما ذكره من عدم إمكان معرفة حوالة الدَين قبل معرفة حوالة الحقّ، وعدم إمكان معرفة انتقال الدَين بين الأحياء قبل معرفة انتقاله بالموت، ويقيم بعض الشواهد على تفسيره، وهو يأخذ الرأي الإسلاميّ من كتب السنّة كما قلنا، ويستخلص من كلامه حول الموضوع ما يلي:

إنّ حوالة الحقّ بين الأحياء لم يعترف بها أحد من المذاهب الأربعة عدا المذهب المالكيّ،حيث أقرّهافيمايسمّيه بهبة الدَين وببيع الدَين ضمن بعض الشروط. أمـّا المذاهب الثلاثة الاُخرى فلا تجيز بيع الدَين أو هبته من غير من هو عليه.

وأمـّا حوالة الدَين فإن فرضت حوالة على البريء فهي ممّا لا تعترف به

60

المذاهب الثلاثة، أي غير المذهب الحنفي، فالذي يبقى مورداً للبحث عن أنّه هل يخالف سلّم التطوّر المفروض في الفقه أوْ لا؟ إنّما هي الحوالة على البريء في الفقه الحنفيّ، والحوالة على المدين في كلّ المذاهب الأربعة.

على أنّ المعترفين بالحوالة منهم من يُرجع ـ في الحقيقة ـ الحوالة إلى باب الضمان(1) كزفر من الحنفيّين، حيث يفسّرها بضمّ ذمّة المحال عليه إلى ذمّة المدين في المطالبة، فهذا أيضاً يخرج من موضوع البحث، لأنّ الدَين لم ينتقل في الحقيقة إلى المحال عليه، وغاية الأمر أنّ الدائن له حقّ مطالبة المحال عليه كما له حقّ مطالبة المدين كما هو الحال في باب الضمان(2).

ومنهم من يفسّر الحوالة بمعنى انتقال المطالبة وحدها دون الدَين من المدين إلى المحال عليه، كما قال به محمّد من الحنفيّين، وهذا أيضاً خروج عن موضع البحث، لأنّ الدَين لم ينتقل، فلو أراد المدين أن يقضي الدَين لا يكون متبرّعاً، لأنّه لا زال مديناً وليس من حقّ الدائن الامتناع من الاستيفاء. ولو أبرأ الدائن المحال عليه لا يسقط بهذا دَينه، ولا يرجع المحال عليه على المدين ولو كانت الحوالة بأمره، لأنّ الدائن لم يبرئ المحال عليه من الدَين، بل من مجرّد المطالبة ولو توى الدَين عند المحال عليه بمثل الموت أو الفلس أو الإنكار مع


(1) عبّر السنهوري هنا بالكفالة، ومقصوده هو ما نسمّيه بالضمان.

(2) هذا جريٌ على ما هو المنسوب إلى المشهور في فقه السنّة من أنّ الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة، خلافاً لما عند الشيعة من أنـّه نقل من الذمّة إلى ذمّة اُخرى.

وأظنّ أنّ واقع مقصودهم هو ضمّ عهدة إلى عهدة لا الذمّة بمعناها الدقيق الذي شرحناها في ما سبق، فلا يرد عليهم ما جاء في الجواهر من الاستشكال في تصوّر شغل ذمّتين فصاعداً بمال واحد. راجع الجواهر 26: 113، أوّل كتاب الضمان.

61

عدم البيّنة عادت المطالبة إلى المدين، فيرجع عليه الدائن بالدَين نفسه لا بالضمان، بينما لو كان الدَين قد انتقل إلى المحال عليه لما كان للدائن الرجوع بنفس الدَين، وإنّما كان يرجع عليه بعنوان ضمان الدَين التالف.

والخلاصة: أنّ الحوالة على هذا المسلك راجعة أيضاً إلى الضمان(1)، إلّا أنّه ضمان محوّر يختلف عن الضمان العادي، لأنّ الضمان العادي يكون الدائن فيه بالخيار إن شاء طالب المدين الأصليّ، وإن شاء طالب الضامن، بينما في المقام يطالب أوّلا المحال عليه، فإن توى الدين عنده طالب المدين.

فالذي يبقى مورداً للبحث إنّما هو ما جاء في مثل رأي أبي حنيفة وأبي يوسف من تفسير الحوالة بانتقال الدَين من ذمّة المدين إلى ذمّة المحال عليه، وهذا أيضاً يجب صرفه عن معنى الحوالة. بمحتواها الدقيق إلى طريقة التجديد، ولا يصحّ حمله على حوالة الدَين كما يشهد لذلك أمران ـ والاستشهاد بثاني الأمرين على المطلوب هو صريح كلام السنهوري، والاستشهاد بالأمر الأوّل يظهر من بعض عبائره ـ وهما ما يلي:

1 ـ في غير المذهب الحنفيّ لم يعترف بالحوالة على البريء، وإنّما الموجود فيها بالنسبة للبريء هو الضمان(2). أفلا يعني هذا أنّ ما اعترفوا به من الحوالة على المدين إنّما قصدوا بذلك أنّ المدين يوفي عن طريق ما يسمّى بالحوالة الدَين الذي عليه للدائن بالحقّ الذي له في ذمّة المحال عليه؟ فهو بدلا من أن يستوفي حقّه من المحال عليه ثمّ يوفي بهذا الحقّ الذي استوفاه الدَين الذي


(1) عبّر السنهوري بالكفالة.

(2) عبّر السنهوري بالكفالة.

62

عليه للدائن يختصر هاتين العمليّتين في عمليّة واحدة، فيقضي الدَين الذي عليه بالحقّ الذي له دون أن يستوفي شيئاً من مدينه أو يوفي شيئاً لدائنه، بل يقتصر على أن يحيل دائنه على مدينه، وذلك لا يعني الاعتراف بفكرة الحوالة بمعناها الدقيق، وإلّا لاعترفوا بها في الحوالة على البريء، ففيها تتجلّى الحوالة بالمعنى الدقيق لا في الحوالة على دَين المدين الراجعة إلى لون من الوفاء يفسّر على أساس التجديد بتغيير المدين.

2 ـ أنّه سواء تكلّمنا على المذهب الحنفي أو غيره فالتأمينات التي كانت على الدَين المحال به من قِبل المدين المحيل تنقضي، بينما لو كان هذا انتقالا للدَين نفسه لا تجديداً بتغيير المدين لانتقل مع الاحتفاظ بما لَه من تأمينات(1).

ويستبعد أيضاً السنهوري إرجاع الحوالة على المدين إلى حوالة الحقّ بأن يفترض أنّ المحيل ـ في الحقيقة ـ قد نقل الحقّ الذي كان له على المحال عليه إلى دائنه، ويستشهد لهذا الاستبعاد بوجوه، وبحثه في هذا الجانب وإن كان في فرض المذاهب الثلاثة الاُخرى غير المذهب الحنفي ولكن بعض تلك الشواهد ـ على الأقلّ ـ مشترك في الحقيقة بين المذاهب الأربعة، وهي كما يلي:

1 ـ أنّ تأمينات دَين المحال عليه التي كانت للمحيل لا تنتقل إلى دائن المحيل.

2 ـ لو كان للمحال عليه عذر به يمتنع عن أداء الدَين إلى المحيل ولم يكن ذاك العذر راجعاً إلى مجرّد علاقة الدائنيّة والمديونيّة لم ينتقل في صريح بعض الفتاوى العذر مع انتقال الدَين إلى المحال. وجاء في الوسيط في التعليق الموجود تحت الخطّ مثال ذلك كما يلي:


(1) راجع الوسيط 3: 421 - 433 الفقرة 240.

63

جاء في كتاب المهذّب: وإن أحال البائع رجلا على المشتري بالألف ثمّ ردّ المشتري المبيع بعيب لم تبطل الحوالة وجهاً واحداً، لأنّه تعلّق بالحوالة حقّ غير المتعاقدين وهو الاجنبيّ المحتال، فلم يجز إبطالها.

3 ـ لو كان هذا الحقّ قد انتقل إلى الدائن المحال وكان المحال عليه معسراً وقت الحوالة أو أعسر بعد ذلك فقد كان ينبغي أن يضمن المدين المحيل الدَين لدائنه، بينما الذي يظهر من الفتاوى أنّ المدين لا يضمن إعسار المحال عليه.

4 ـ ولو كان مقدّراً لهذا الحقّ أن ينتقل إلى الدائن ولكن لم يتمكّن المدين من نقله كأن كان الحقّ ثمناً لمبيع استحقّ أو كان وديعة فهلكت فقد كان ينبغي أن يعتبر الدائن غير مستوف لدينه، أو أنّ الحقّ لم ينتقل إليه، فيبقي الدائن دَينه في ذمّة المدين، ولكن هذا الحكم لا يظهر في وضوح من النصوص(1).

أقول: الشاهد الرابع نقلته بنصّه، وكأنّ مقصوده بكون الحقّ ثمناً لمبيع استحقّ هو أنّ المحال عليه كان قد اشترى من المحيل شيئاً بثمن ولم يكن قد أدّى الثمن فحوّل البائع دائنه على هذا الثمن ولكن تبيّن أنّ الثمن قد استحقّه المحال عليه بسبب من أسباب انفساخ البيع كالتلف قبل القبض مثلا، فلو كان هذا عبارة عن حوالة الحقّ بالمعنى الدقيق للكلمة للزم أن تكون الحوالة باطلة، إذ ظهر أنّها حوالة على ثمن خياليّ لا واقع له، أفلا يعني فرض عدم بطلانها أنّه لم يحوّل في المقام نفس الحقّ وإنّما اُحدث حقّ جديد بين الدائن والمحال عليه.

أمـّا مثال الحوالة على الوديعة التي تلفت فخروج عن المقام، لأنّها حوالة على عين خارجيّة لا على إنسان كي نبحث عن أنّ هذا هل هو حوالة حقّ بالمعنى


(1) راجع الوسيط 3: 430 - 431 الفقرة 240.

64

الدقيق للكلمة أو إنهاءٌ لحقّ وتجديد لحقّ آخر؟ فواقع الأمر ليس هذا ولا ذاك، بل هو محاولة لأداء الدَين بعين خارجيّة انكشف تلفها، فالمفروض كون الأداء باطلا على كلّ تقدير.

بل أنّ مسألة عدم اعتبار الدائن غير مستوف لدَينه في مثال حوالته على ثمن المبيع أيضاً لا تصلح شاهداً على عدم حوالة الحقّ، فإنّه حتّى لو لم يفرض إرجاع الثمن إلى الشخص الثالث حوالة للحقّ بالمعنى الدقيق للكلمة وفرض أنّ واقع المطلب إنهاء دَين المحيل ودَين المحال عليه وإيجاد دَين جديد لصالح المحال فلا شك في أنّ إنهاء دَين المحيل كان مشروطاً بإيجاد الدَين الجديد في صالح المحال المشروط بدوره بثبوت الثمن على المحال عليه، فعدم إمكان نقل ذلك إلى المحال يؤدّي ـ لا محالة ـ إلى رجوع المحال إلى المحيل. إذن فالإفتاء بعدم رجوعه اليه ـ لو تمّ ـ يكون ذلك حياديّاً تجاه مسألتنا، وهي كون المقام من حوالة الحقّ وعدمه.

وبهذا يظهر أنّ الشاهد الثالث أيضاً حياديّ تجاه بحثنا، فإنّ المفروض أن يضمن المحيل الدَين لدائنه عند إعسار المحال عليه على كلّ حال، أي سواء تصوّرنا في المقام حوالة الحقّ أو لا فإنّ الرضا بسقوط دَين المحيل ـ على أيّ حال ـ كان مشروطاً بعدم إعسار المحال عليه. أمـّا إذا لم يكن مشروطاً بذلك فالمفروض سقوط دَينه وعدم الضمان على كلّ حال، فهذه المسألة حياديّة تجاه مسألتنا.

والشاهد الثاني أيضاً لا يكفي في نفي حوالة الحقّ في المقام، لأنّ العذر المانع عن أداء الدَين ليس ارتباطه بالدَين فقط بل له نسبة إلى الدائن أيضاً، إذ قد صار عذراً عن أداء الدَين لهذا الدائن، وعندئذ يجب أن يرى أن نسبته إلى كلا

65

الدائنَين هل هي على حدّ سواء أو أنّ هناك فرقاً بين الدائنَين جعله عذراً تجاه أحدهما دون الآخر؟ فلو أفتى أحد بأنّ المشتري لو ردّ المبيع بعيب لم تبطل الحوالة فلعلّه يعتقد أنّ العيب إنّما يؤثّر في الامتناع تجاه البائع، ولا يؤثّر في الامتناع تجاه إنسان أجنبيّ تعلّق حقّه بسبب الحوالة بالثمن.

ومن هنا يظهر أنّ الشاهد الأوّل أيضاً لا أثر له في المقام، فإنّ التأمينات لها علاقة بالدائن كما لها علاقة بالدَين، فقد يقال: إنّ التأمينات إنّما وضعت لدَين مّا تجاه دائن مّا، فإذا تبدّل الدائن لم يكن من الضروري تحوّل التأمينات إلى الدائن الجديد.

وأمـّا ما استدلّ به على نفي كون ما تعارف ذكره في الفقه الإسلاميّ من الحوالة عبارة عن حوالة الدَين بدقيق معنى الكلمة وهو أيضاً عبارة عن التأمينات بدعوى أنّ التأمينات لا تبقى على حالها لدى تبدّل المدين، وهذا يعني أنّ الدَين السابق انتفى ووجد دَين جديد، إذ لو كان نفس الدَين السابق قد انتقل إلى شخص آخر لكان يحتفظ الدَين بتأميناته.

فالجواب على ذلك: ما أفاده اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من أنّ التأمينات تجعل عادةً على دَين مّا وبلحاظ مدين مّا. أمـّا لو تبدّل المدين إلى شخص آخر فقد لا يرى الدائن حاجة إلى فرض تأمينات بالقياس له. نعم، لا مانع من افتراض النصّ منذ البدء على أنّ هذه التأمينات هي تأمينات على ذات هذا الدَين أينما حلّ، ومع هذا النصّ لا نتحاشى من ثبوت التأمينات على حالها، ولا يشترط في الرهن مثلا أن يكون ملكاً للمدين.

وأمـّا ما يظهر من بعض عبائر الوسيط كشاهد آخر على نفي كون ما سمّي بالحوالة في الفقه الإسلامي حوالة للدَين بالمعنى الدقيق للكلمة، وذلك في غير الفقه الحنفي من أنّهم لم يعترفوا بالحوالة على البريء، وخصّوا الحوالة بالحوالة على المدين، وهذا يعني أنّهم يقصدون بالحوالة الوفاء، وبما أنّه لا معنى للوفاء

66

في البريء ولذا خصّت الحوالة بالحوالة على المدين، والحوالة بالمعنى الحقيقي لا تكون إلّا في الحوالة المطلقة، أي غير المقيّدة بالدَين، وتخريج الحوالة التي ذكروها إنّما هو تجديد الدَين لا المعنى الدقيق لحوالة الدَين، فهذا كلام لا محصّل له، فإنّ فرض كون الحوالة على المدين وفاءً حياديّ تجاه تفسيرها بالمعنى الدقيق للحوالة وتفسيرها بمعنى تجديد الدين، ولئن كان تفسيرها بمعنى الحوالة يؤدّي إلى الاستفهام عن أنّها لماذا تخصّ بالمدين؟ كذلك تفسيرها بتجديد الدَين يؤدّي إلى نفس الاستفهام، وهو أنّه لماذا تخصّ بالمدين؟

نعم، لو كان عنوان الوفاء عنواناً مستقلاًّ بنفسه لا يفسّر على أساس الحوالة ولا على أساس تجديد الدَين لكان لاختصاص ذلك بالمدين دون البريء وجـه بأن يقال: إنّ المدين إنّما يوفي دَينه بما يملكه لا بمال إنسان بريء مثلا، ولكن السنهوري نفسه لم يفترض أنّ عنوان الوفاء بنفسه عنوان مستقلّ غير محتاج إلى تكييف، بل فرضه محتاجاً إلى تكييف، وذكر أنّ تكييفه يكون بمعنى تجديد الدَين لا الحوالة بمعناها الدقيق، وإذا كان عنوان الوفاء ليس هو التفسير والتكييف الكافيين للمسألة فلا أدري لماذا تكون الحوالة بمعناها الدقيق غير متصوّرة إلّا في الحوالة المطلقة دون الحوالة على الدَين؟ !

الحوالة على البريء في الفقه الشيعي:

وعلى أيّة حال، فلئن كان أغلب مذاهب السنّة غير معترف بالحوالة على البريء فالمشهور لدى الشيعة ـ على ما جاء في الجواهر(1) ـ هو الاعتراف بها.

وذكر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بالنسبة لمن ينكر منهم الحوالة على البريء: أنّهذا الإنكار ليس لأجل الصعوبة في تصوير أصل الحوالة، بل لدعوى أنّ الحوالة على البريء ترجع إلى الضمان، فباب الضمان يختلف عن باب الحوالة بأنّ الحوالة


(1) راجع الجواهر 26: 165.

67

تصدر من المدين إلى من يقع عليه الدَين بعد الحوالة، والضمان بالعكس، فهو شيء يصدر من نفس من يقع عليه الدَين، ويقال: إنّ الحوالة على البريء يرجع روحها إلى الضمان، فإنـّه ـ في الحقيقة ـ يصدر من الذي يقع عليه الدَين بهذه المعاملة التقبّل للدَين، وهذا عبارة عن الضمان، فلا تتصوّر الحوالة على البريء بنحو يفترق عن الضمان، هذا ما يذكر في المقام. وهذا ـ كما ترى ـ غير مربوط بصعوبة أصل تصوير الحوالة. والحقّ: أنّ الحوالة على البريء أيضاً صحيحة ولا ترجع إلى باب الضمان على تحقيق موكول إلى محلّه(1). انتهى ما أردنا نقله من اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).

ولعلّه ينظر (رحمه الله) في تصحيحه للحوالة على البريء من دون رجوع إلى باب الضمان إلى ما ذكره في الجواهر من أنّ إنشاء الضمان يكون في باب الضمان من الضامن، وفي باب الحوالة من المحيل، غاية الأمر أنّه يفرض اشتراط رضا المحال عليه بما أنشأ المحيل من الحوالة، وهذا غير إنشاء الضمان منه مباشرة.

اختلاط التصوّرات عند (السنهوري) في باب الحوالة:

وأمّا أصل ما ذكره السنهوري من كون تصوير حوالة الدَين أصعب من تصوير حوالة الحقّ وتحميله لهذا الأمر على الفقه الإسلامي وأنّه لا يمكن للفقه الإسلامي معرفة حوالة الدَين قبل معرفة حوالة الحقّ فهذا ـ كما ذكره اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ـ خلط بين تصوّرات الفقه الغربي وتصوّرات الفقه الإسلامي فلئن واجه الفقه الغربي مشكلة من هذا القبيل على أساس أنّه يرى الدَين عبارة عن الالتزام ـ وهو خيط بين الدائن والمدين ـ لا مالا موجوداً في ذمّة المدين وعندئذ يصعب عليه تصوّر تبديل أحد طرفي الالتزام لأنّ الالتزام متقوّم بطرفيه فالفقه الإسلامي من أساسه لا يواجه مشكلة كهذه، لأنّه يرى أنّ الدَين مالٌ موجود في ذمّة المدين يتصوّر النقل والانتقال فيه على حدّ تصوّرهما في المال الخارجيّ.


(1) من تقرير غير مطبوع لنا لبعض أبحاثه (رحمه الله).

68

فحوالة الدَين عبارة عن نقل المال من مكان إلى مكان، أي من ذمّة إلى ذمّة. وحوالة الحقّ عبارة عن تبديل مالك هذا المال الموجود في الذمّة. وهذان أمران لا يرتبط أحدهما بالآخر، ويجوز للفقه أن يتصوّر أحدهما دون الآخر، سواء كان ما تصوّره عبارة عن حوالة الحقّ دون حوالة الدَين، أو بالعكس.

أمّا عدم اعتراف الإسلام بانتقال الدَين في باب الموت إلى الورثة مع اعترافه بانتقال الحقّ إليهم فليس بسبب ما يقوله السنهوري من أنّ تصوّر انتقال الدَين أصعب من تصوّر انتقال الحقّ، وإنّما هو بسبب ما قاله اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)وهو:

أنّ الإسلام يرى أنّ الدَين عبارة عن مال موجود في الذمّة، وليس عبارة عن الالتزام كما جاء في الفقه الغربي، ويرى أنّ ذمّة الشخص لا تموت بموت الشخص، فإنـّها وعاء اعتباري قابل للبقاء حتّى بعد الموت، ولذا لا حاجة إلى قيام المورّث مقام الوارث في الدَين، فإنّ الوارث إنّما يقوم مقام المورّث في ما يكون المورّث ميّتاً بلحاظه، وهذا هو الحال بلحاظ أمواله الخارجيّة وبلحاظ ما كان يطلبه من غيره، ولذا عرف الفقه الإسلامي انتقال الحقّ في باب الإرث.

وأمّا بلحاظ الديون الثابتة على الميّت فذمّة الميّت باقية على حالها ما لم يوفّ دينه، ولا مجال لقيام الوارث مقامه، ويوفّى دينه من تركته ثمّ يورّث المال كما قال تعالى: ﴿من بعد وصيّة يوصى بها أو دين﴾(1)، وعلى هذا الأساس لا يقول الإسلام بما جاء في الفقه الغربي من انتقال ديون الميّت إلى الورثة وأدائهم إيّاها بمقدار ما ورثوه من التركة، بل يقول: إنّ دَين الميّت لا علاقة له بالورثة.

والصحيح أنّ التركة تبقى ملكاً للميّت، ويوفّى دينه الثابت في ذمّته بها لا أنّ الدَين يتعلّق بالتركة، وإن لم تفِ تركته بمقدار دَينه بقيت ذمّته مشغولة إلى أن يتبرع عنه متبرع. انتهى كلام اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).


(1) النساء: 12.

69

مع مصطفى الزرقاء:

هذا، وذكر الاُستاذ مصطفى الزرقاء أنّ حوالة الحقّ وحوالة الدَين ثابتتان معاً في الفقه الإسلامي في حوالة المدين دائنه على دَين مدين له، لأنّه تتحقّق بهذه حوالة الدائن وحوالة المدين في وقت واحد، فلو حوّل زيد دائنه وهو عمرو على مدين له وهو بكر فقد حوّل زيد المدين لعمرو دَينه على بكر، وهذه هي حوالة الدَين. وفي نفس الوقت قد حوّل زيد الدائن لبكر حقّه إلى عمرو فأصبح عمرو هو الدائن لبكر بدلا عن زيد، وهذه هي حوالة الحقّ(1).

وأورد على ذلك اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بأنّ هذه الحوالة لا يمكن أن تكون حوالة دَين وحوالة حقّ في وقت واحد، بل يجب إمّا أن تكون حوالة دين فقط أو تكون حوالة حقّ فقط. فزيد إمـّا أن يحوّل الدَين الذي في ذمّته لعمرو على بكر استيفاءً لحقّه الذي له على بكر، وهذه هي حوالة الدَين الموجود في ذمّة زيد على بكر، أمـّا الدَين الذي يطلبه زيد من بكر فقد سقط. وإمـّا أن يحوّل الحقّ الذي له في ذمّة بكر إلى عمرو وفاءً لدَينه، وهذه هي حوالة الحقّ، وبهذا سقط الدَين الذي كان في ذمّته لعمرو.

وأمـّا إذا افترضنا أنّ هذه حوالة دَين وحوالة حقّ في وقت واحد فهذا يعني أن يكون كلا الدَينين ثابتين لعمرو على بكر، لأنّ الدَين الذي كان له على بكر حوّله لعمرو فملكه عمرو بحوالة الحقّ، والدَين الذي كان عليه لعمرو حوّله على بكر، فهو ما زال ملكاً لعمرو يستوفيه من بكر، وهذا يعني أن يأخذ عمرو المال من بكر مرّتين، وهو واضح البطلان(2).


(1) راجع كتاب الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: 75 - 78 الفقرة 32 - 33.

(2) من تقرير غير مطبوع لنا لبعض أبحاثه (رحمه الله).

70

 

ملكيّة المنافع:

وأمّا ملكيّة المنافع: فلا ينبغي الإشكال عقلائيّاً في اعتبار الملكيّة لها كما تعتبر للأعيان.

وقد نقل المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) في كتاب الإجارة إشكالين على ملكيّة المنفعة:

الإشكال الأوّل: أنّ منفعة الدار المستقبليّة حين إيجارها مثلا معدومة، والمعدوم لا يملك.

والإشكال الثاني: أنّ منفعة الدار مثلا سكناها، وهي من أعراض الساكن لا من أعراض الدار، وعرض الساكن لو كان مملوكاً فهو ملك لموضوعه وهو المستأجر مثلا الذي يسكن الدار لا مالك الدار الذي لا يسكنها.

وأجاب (رحمه الله) على الإشكال الأوّل بأنّ الملكيّة ليست من الأعراض المقوليّة كي تحتاج إلى محلّ موجود، بل من الاعتباريّات.

وعلى الإشكال الثاني: (أوّلا) بأنّ سكنى الدار كما هو مبدأ لعنوان الساكنيّة المنتزع من ذات الساكن كذلك هو مبدأ لعنوان المسكونيّة المنتزع من الدار كما في كلّ عنوانين متضايفين(1)، وما هو شأن من شؤون الدار وحيثيّاتها الموجودة بوجودها هي حيثيّة المسكونيّة لا حيثيّة الساكنيّة التي هي من أعراض المستأجر، غاية الأمر أنّ حيثيّة المسكونيّة وجودها بوجود الدار على حدّ وجود المقبول بوجود القابل وفعليّتها بفعليّة مضائفها القائم بالمستأجر في مقام الاستيفاء،


(1) هذا تعبيره (رحمه الله) في كتاب الإجارة. أمّا ما ذكره في رسالته في الحقّ المطبوعة ضمن تعليقته على المكاسب ففرض فيه تشابه مبدأي المتضايفَين. ولعلّ هذا هو حاقّ مقصوده أيضاً ممّا جاء في كتاب الإجارة من فرض السكنى مبدأً لهما.

71

وشؤون العين قابلة لعروض الملكيّة لها كنفس العين.

(وثانياً) أنّ السكنى التي هي من أعراض الساكن في الدار ـ وهو المستأجر ـ رغم كونها عرضاً للساكن جعل زمام أمرها بيد مالك الدار باعتبار ما لها من نسبة إلى الدار، ولا نعني بالملكيّة إلّا ذلك(1).

أقول: لو كنّا نحن وكلام المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) في كتاب الإجارة لعلّه كان يمكننا أن نحمل الجواب الأوّل من جوابيه على أنّ المنفعة المملوكة عبارة عن قابليّة العين للانتفاع وهي قائمة بالعين لا بالمستأجر.

ولكنّه صرّح في رسالته المكتوبة في الحقّ المطبوعة ضمن تعليقته على المكاسب بأنّ المقصود في الجواب الأوّل أنّ منفعة الدار المملوكة هي المسكونيّة الفعليّة المضايفة للساكنيّة وهي المنفعة التدريجيّة، وإلّا فصلاحيّة الدار وقابليّتها للسكنى أمر قارّ ثابت وغير مستوفاة أصلا، بل هي على حالها مادامت الدار باقية على حالها.

ثمّ اختار في تلك الرسالة من هذين الجوابين الجواب الثاني، وأبطل الجواب الأوّل ببيان أنّ الساكن ينتفع بسكناها التي هي عرضٌ قائمٌ بالساكن ولها نسبة إلى الدار، لا بعنوان المسكونيّة المضائف لعنوان الساكن المتأخّر رتبة عن السكنى التي لها نسبة إلى الدار.

التخريج العقلائي لملكيّة المنافع:

أقول: إنّ المفهوم عرفاً وعقلائيّاً في المنفعة المملوكة من الدار ليستهي المسكونيّة أو الساكنيّة أو السكنى ونحوها، بل هي قابليّة العين للانتفاع،وهي قائمة بالعين لا بالمنتفع سواء انتفع أحد بها فعلا أو لا، وهذه القابليّة


(1) راجع كتاب الإجارة للمحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله): 14 و 15، وراجع تعليقته على المكاسب: 7 و 8 (فائدة في تحقيق حقيقة الحقّ).

72

تقدّر عرفاً بالزمان، فتقبل التمليك في حصّة زمانيّة، ولا دليل على ضرورة تدريجيّة المنفعة بمعنىً آخر، ولا نعني باستيفاء هذه القابليّة عدا استثمارهاعملا.

نعم، هناك إشكال آخر يمكن إيراده في المقام غير الإشكالين المذكورين اللذين أجاب عليهما المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) وهو أن يقال: إنّ قابليّة العين للانتفاع ليست إلّا كسائر شؤون العين وأوصافها من اللون والشكل، وغيرها لا تتحمّل عقلائيّاً ملكيّة اُخرى غير نفس ملكيّة العين. نعم، هي حيثيّة تعليليّة لماليّة العين وتقييمها ورغبة العقلاء في امتلاكها.

والجواب: أنّ قابليّة العين للانتفاع حالها حال سائر أوصاف العين ملكيّتها مندكّة ضمن ملكيّة العين، ولا تعتبر لها ملكيّة مستقلّة، ولكن نفس الملكيّة المندكّة لها تبرّر عقلائيّاً إمكان نقلها إلى الغير بمثل الإيجار، وتفكيكها في عالم الملكيّة عن العين لعدم اللغويّة الموجودة في نقل سائر الصفات، ولدى تفكيكها عن العين في عالم الملكية وإرجاعها إلى مالك آخر تبرز عقلائيّاً ملكيّتها وتنتفي نكتة اندكاكها في ملكيّة العين، ويصبح مالكها غير مالك العين، فالإيجار مثلا سبب عقلائيّ لانفكاك المنفعة عن العين في عالم الملكيّة، كما أنّ مثل استيفائها غصباً أو الحيلولة بينها وبين المالك بمثل حبس العين سبب لانفكاكها عقلائيّاً عن العين في عالم الضمان. هذا حال ملكيّة المنفعة وتمليكها.

وأمّا ملكيّة الانتفاع وتمليكه فالظاهر أنّها عين ملكيّة المنفعة وتمليكها وليسا شيئين، غاية ما هناك أنّه تارةً تملّك المنفعة ـ أو قل الانتفاع ـ بجميع أنحائها المتبادلة من سكنى فلان، أو إسكانه المجانيّ، أو الإسكان بالإيجار وغير ذلك مثلا، واُخرى يملّك نحو واحد من أنحائها وهو سكناه مثلا من دون أن يحقّ له إسكان غيره، ولا بأس بتسمية الأوّل بتمليك المنفعة، والثاني بتمليك الانتفاع، فإنـّه لا مشاحّة في الاصطلاح.

73

تفاسير للمنفعة والانتفاع:

وذكر المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1) عدّة تفسيرات للمنفعة والانتفاع:

التفسير الأوّل: ما فرّعه على الجواب الأوّل من جوابيه اللذين أجاب بهما على إشكال كون سكنى الدار قائمة بالساكن فكيف يملكها مالك الدار؟! وهو الجواب بأنّ المملوك لمالك الدار هي مسكونيّة الدار لا سكنى الساكن، وهذا التفسير هو أنّ منفعة الدار مثلا عبارة عن مسكونيّة الدار وهي الحيثيّة القائمة بالدار، والانتفاع عبارة عن سكنى الساكن التي هي حيثيّة قائمة بالمنتفع. ورأى (رحمه الله) أنّ هذا يوجب إشكالا في العارية التي هي تمليك للانتفاع، لأنّ الانتفاع ـ بناءً على هذا ـ حيثيّة قائمة بالمنتفع وليس ملكاً لمالك العين كي يملّكه بالعارية، وليس حلّ ذلك ـ في نظره رضوان الله عليه ـ أن تفسّر العارية بإباحة الانتفاع إباحة مالكيّة تتبعها الإباحة الشرعيّة؛ لأنّ صيرورة الانتفاع مباحة بالإباحة المالكيّة لا تتوقّف على العارية التي تشتمل على إيجاب وقبول قوليّ أو فعليّ من المنتفع، بل الانتفاع يباح بمجرّد إذن المالك، سواء قبله المستعير أوْ لا، وسواء انتفع بالعين فعلا أوْ لا، وإنّما حلّ ذلك ـ في نظره قدّس سرّه ـ هو فرض العارية عبارة عن اعتبار التسليط، أي التسليط الوضعيّ دون التكليفيّ الذي ليس إلّا إباحة مالكيّة أو شرعيّة، فمن شؤون ملك العين أن يصحّ له تسليط غيره على عينه للانتفاع بها.

هذا بناءً على ما اختاره (رحمه الله) من أنّ الملك ليس عبارة عن اعتبار التسليط بل هو عبارة عن اعتبار الإحاطة والاحتواء. وعلى أيّ حال فقد قال (رحمه الله): «حيث إنّ المعير سلّط المستعير على عينه لا أنّه أعطاه ملكه أو سلطانه فليس له نقل الملك أو السلطنة». وكيف ما كان فهذا التفسير ليس هو مختاراً له (قدس سره) لابتنائه على الجواب الأوّل من الإشكال الماضي على ملكيّة المنفعة.


(1) راجع تعليقته على المكاسب (فائدة في تحقيق حقيقة الحقّ): 8 - 9.

74

التفسير الثاني: هو التفسير المختار له، وقد بناه على الجواب الثاني من جوابيه على إشكال ملكيّة المنفعة، وهو أنّ سكنى الدار وإن كانت من أعراض الساكن ولكن بما أنّ لها نسبة إلى الدار ومساساً بها جعلت ملكاً لصاحب الدار، وذاك التفسير هو أنّ منفعة الدار هي طبيعيّ سكناها من دون لحاظ قيامها بزيد أو عمرو، فإذا ملّكها المؤجر للمستأجر فقد ملك طبيعيّ السكنى وهي قابلة للتمليك لآخر لتحقّق هذا الطبيعيّ في مقام الاستيفاء من كلّ أحد، بخلاف العارية الموجبة لملك الانتفاع، فإنـّها تمليك سكنى زيد لزيد مثلا، ولا يعقل استيفاؤها إلّا من زيد، فلذا لا يعقل نقلها من المستعير، قال: وحصول هذه النتيجة بعقد الإجارة مع شرط الاستيفاء بنفسه لا يوجب نفي الفرق بين الإجارة والعارية من هذه الناحية، ولا عدم الفرق بين ملك المنفعة وملك الانتفاع، فإنّ اختلاف الحقيقة بالنظر إلى نفس الذات ومقتضياتها محفوظ كما لا يخفى.

التفسير الثالث: ما نقله عن بعض من أنّ ملك العين وملك المنفعة وملك الانتفاع كلّها تقع على العين وإن اختلفت في الشدّة والضعف، فملك العين أقوى مرتبة من ملك المنفعة، وملك المنفعة أقوى مرتبة من ملك الانتفاع، فإنّ ملك العين عبارة عن ملكها بجميع جهاتها، وملك المنفعة عبارة عن ملك العين من جهة تلك المنفعة ملكيّة مستقلّة، وملك الانتفاع أيضاً عبارة عن ملك المنفعة الراجع إلى ملك العين من تلك الجهة ولكن لا بالاستقلال، ولهذا جاز للمستأجر نقل المنفعة لأنّ ملكه للعين في تلك الجهة كان مستقلاًّ، ولم يجز للمستعير نقل المنفعة، لأنّ ملكه للعين في تلك الجهة ليس مستقلاًّ.

وذكر المحقّق الإصفهاني (رحمه الله): أنّ بعض من عاصره دفع بهذا الوجه إشكال معدوميّة المنفعة وعدم تعلّق الملك بالمعدوم، وإشكال كون المنفعة عرضاً من أعراض المستأجر ولا يملكه المؤجر، حيث قد عرفت أنّ المنفعة ليست هي المملوكة حتى يرد هذان الإشكالان، بل العين هي المملوكة في مدّة خاصّة لجهة مخصوصة.

75

وأورد المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) على هذا الوجه بإيرادين:

أحدهما: أنّ الملك ليس عرضاً قابلا للشدّة والضعف، أو اعتبار عرض كذلك، وإنّما المملوك يقبل السعة والضيق من دون أن يوجب الضيق والسعة في المملوك للضعف والشدّة في الملك، وكذلك كون المعير مسلّطاً على ردّ ملكه لا يوجب ضعفاً في ملكيّة المستعير كما لوثبت للمالك الأوّل حقّ ردّ العين أو المنفعة من مالكها الثاني شرعاً أو بجعل منهما، فإنّ هذا لا يوجب ضعفاً في ملكيّة المالك الثاني.

وثانيهما: أنّه حتى لو فرض قبول الملك للشدّة والضعف فهذا لا يصحّح اجتماع ملكين على مملوك واحد، فإن فرض المستأجر مالكاً للعين من جهة المنفعة والمؤجر مالكاً للعين من باقي الجهات وقصد بذلك حقّاً مالكيّة المستأجر لتلك الجهة لا للعين حقيقة بحيث كانت نسبة الملك إلى العين من باب الوصف بحال المتعلّق، فهذا رجوع مرة اُخرى إلى افتراض ملكيّة للمنفعة التي هي غير ملكيّة العين، ولم يندفع به شيء من المحاذير.

وإن قصد بذلك حقّاً أنّ كلا الملكين متعلّقان بذات العين وإن اختلفا في الجهة لزم اجتماع ملكيّتين على عين واحدة، فإن كان الملك عرضاً لزم قيام عرضين متماثلين بموضوع واحد، وقوّة العرض وضعفه لا يخرجه عن التماثل المانع عن الاجتماع، وإن كان اعتباريّاً فالعقلاء لا يعتبرون ملكيّتين على عين واحدة، هذا بالنسبة لملك العين وملك المنفعة.

أمـّا بالنسبة للاستقلال وعدمه في ملك المنفعة وملك الانتفاع، فإن كان المقصود بذلك الفرق بين الإجارة والعارية بأنّ مالك العين في باب الإجارة يقتصر ملكه للعين على باقي الجهات غير الجهة التي أجّرها لتلك الجهة وملك المستأجر للعين يكون من تلك الجهة بينما في باب العارية يكون ملك المالك للعين ثابتاً لها من كلّ الجهات بما فيها تلك الجهة التي ملّك العين للمستعير من تلك الجهة فملك المستعير للانتفاع ملك غير مستقلّ لزم من ذلك ما قلناه من اجتماع ملكين على عين

76

واحدة، وهما ملك المعير وملك المستعير، وهو غير مقبول عقلا إن كان الملك عرضاً، وعقلائيّاً إن كان الملك اعتباراً لعرض كما مضى.

وإن كان المقصود أنّ الملك من الجهة المعار لأجلها منسوب إلى مجموع المعير والمستعير بأن يكونا معاً طرفاً واحداً للملكيّة فهما بمنزلة مالك واحد لئلاّ يلزم ورود ملكين على عين واحدة، فهذا وإن كان معقولا في الاعتبارات فيعقل بناءً على كون الملك اعتباراً لا عرضاً مقوليّاً، إلّا أنّه هنا غير معقول، لأنّ المفروض أنّ المعير مالك للعين بباقي جهاتها من دون شريك في طرفيّته للملكيّة، وإنّما له الشريك في الطرفيّة لملك العين في هذه الجهة الخاصّة، فلزم أيضاً ورود ملكين على عين واحدة، وهو غير صحيح عقلائيّاً.

أقول: لو سلّمنا أنّ العارية عقد مملّك وليس إباحة تصرّف فبالإمكان افتراض كون المعير والمستعير مالكَين للعين من تلك الجهة ملكيّتين طوليّتين، أو مالكَين للمنفعة ملكيّتين طوليّتين، واجتماع ملكين طوليّين على مملوك واحد ليس باطلا عقلائيّاً كما هو في ملك المولى لأموال العبد ـ بناءً على الإيمان بمالكيّة العبد لأمواله ـ.

ولو لم نسلّم أنّ العارية عقد مملّك فبالإمكان أن نمثّل لتمليك الانتفاع بدلا عن التمثيل بالعارية بافتراض إعطاء حقّ الانتفاع لشخص في مقابل ثمن، فهذا عقد مملّك بلا إشكال، وهو يختلف عن إيجار العين بالشكل المتعارف، وهنا لا تتصوّر الملكيّتان الطوليّتان؛ لأنّ جهة الانتفاع خرجت من اختيار مالك العين.

وعلى أيّ حال فالصحيح ما ذكرناه من أنّ منفعة العين المملوكة لمالك العين عرفاً وعقلائيّاً هي قابليّة العين للاستفادة، والانتفاع عبارة عن نفس تلك الاستفادة، وملك المنفعة وملك الانتفاع شيء واحد مع الفرق في سعة وضيق دائرة المملّك.

وأمّا إذا آجر العين واشترط على المستأجر عدم النقل إلى غيره وعدم إسكان الغير فهذا الشرط إن قصد به تضييق دائرة المملّك رجع الأمر إلى تمليك

77

منفعة خاصّة وهي خصوص قابليّتها لسكن زيد مثلا، أو سمّه بتمليك الانتفاع. وإن لم يقصد به تضييق دائرة المملّك بل قصد به مجرّد الشرط بمعنى أنّه لو خالف لم تكن مخالفته غصباً وإن حصل للمؤجر خيار الفسخ، لم يرجع ذلك إلى ما قد يسمّى بتمليك الانتفاع، هذا لو أمكن تصوّر هذين القسمين، وعليه، ينبني ما مضى من المحقّق الإصفهاني من أنّ شرط الاستيفاء بنفسه لا يعدم الفرق بين ملك المنفعة وملك الانتفاع، ولكن الظاهر أنّ تصوّر هذين القسمين مشكل، وأنّ هكذا شرط يعود في واقعه إلى التضييق.

هذا تمام كلامنا في بحث ملك المنفعة.

 

مالكيّة الأعيان والجهات

 

بقي أخيراً ـ من الأبحاث التي أردنا التعرّض لها في مبحث الملك ـ الكلام عن مالكيّة الأعيان والجهات والشخصيّات الحكميّة أو المعنويّة أو الاعتباريّة أو الحقوقيّة في مقابل الشخصيّات الطبيعيّة أو الحقيقيّة.

فدائرة المالكيّة لدى العقلاء أصبحت بالتدريج أوسع بكثير من دائرة الأشخاص من بني آدم، وشملت الأعيان الخارجيّة من ناحية، وعناوين عامّة تشير إلى طائفة من الناس من ناحية اُخرى، وأخيراً عناوين معنويّة واعتباريّة بحتة من ناحية ثالثة. والشريعة الإسلاميّة بنت نظرتها عن المالكيّة منذ البدء على هذا المعنى الواسع الشامل لكلّ هذه الأقسام.

فمثال الأوّل: المسجد ونحوه من أماكن العبادة، والمرافق العامّة التي تمتلك أموالا ومستغلاّت عن طريق الوقف وغيره.

ومثال الثاني: الزكاة التي هي ملك للفقراء مثلا.

78

ومثال الثالث: الدولة أو منصب الإمامة المالك للأنفال وغيرها.

ولم تتوقّف النظرة العقلائيّة إلى الشخصيّة المعنويّة على مجرّد ثبوت الحقّ والملك لها، بل اتّسعت أيضاً إلى ثبوت الحقّ والدَين عليها خصوصاً في الشخصيّة المعنويّة كالدولة، فبإمكانها أن تملك وأن تستدين، ولها ذمّة كذمّة الشخصيّة الحقيقيّة.

وتصوّر الملك للأعيان الخارجيّة سهل رغم أنّها لا تَفهم ولا تَعقِل ولا تكون قادرة على التصرّف، غاية الأمر يكون التصرّف في أموالها بيد وليّ أمرها يصرفها في شؤونها، كما هو الحال في ممتلكات الصبيّ والمجنون التي يصرفها وليّهما في شؤونهما.

وكذلك يسهل تصوّر الملك للعناوين العامّة كالفقراء أو الشخصيّات المعنويّة البحتة كالدولة، بعد أن عرفنا أن الملك ليس إلّا أمراً اعتباريّاً وليس عرضاً بحاجة إلى محلّ خارجيّ.

 

الشخصيّات الحقوقيّة في الفقه الوضعي:

وقد ورد في الفقه الوضعي ذكر عناوين عديدة من الشخصيّات الحقوقيّة من قبيل: المؤسّسات، والجمعيّات، والشركات(1).

وحاجة المؤسسات والجمعيّات إلى افتراض ذمم وديون وممتلكات واضحة، لأنّ أهدافها وأغراضها ومصاريفها تختلف عن الهدف والغرض والمصرف الشخصيّ لأيّ فرد من الأفراد القائمين بها.

وأمّا الشركات فقد قسمّت إلى قسمين: الشركات العاديّة، والشركات


(1) راجع الوسيط 5: 229 - 239 الفقرة 163 - 167، وراجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: 318 - 327 الفقرة 190 - 194 بحسب الطبعة الخامسة.

79

القانونيّة(1). فالشركات العاديّة لا تعتبر لها شخصيّة معنويّة، وليست لها ذمّة ولا ممتلكات، وإنّما الموجود هم الأشخاص المشتركون، وهم أشخاص حقيقيون لهم ممتلكاتهم وذممهم، بينما الشركات القانونيّة هي التي تعتبر لها شخصيّة معنويّة تملك ويثبت لها وعليها الحقّ.

وهنا سؤال يطرح نفسه وهو أنّه ما هي حاجة الشركة إلى الذمم والأملاك والشخصيّة المعنويّة؟ ولئن كانت الشركة راجعة لجماعة مّا تعود نفعها إليهم وضررها عليهم فلِمَ لا نكتفي بذمم وتملّكات المشتركين كما هو الحال في الشركات العاديّة؟! وبالتالي أيّ قيمة تبقى لافتراض قانونيّة الشركة؟ !

والجواب على ذلك يكون بإبراز النتائج التي تترتّب على ثبوت الملك والذمّة للشركة(2) من قبيل:

1 ـ لدائني الشركة حقّ مباشر على مال الشركة، فهم يستوفون حقوقهم من هذا المال دون أن يزاحمهم فيه الدائنون الشخصيّون للشركاء، بينما لو فرض مال الشركة ملكاً شائعاً للشركاء لا ملكاً للشخصيّة المعنويّة للشركة فمعنى ذلك أنّ من داين الشركة فكأنـّما داين الشركاء، وحاله حال الدائنين الشخصيّين للشركاء، وعند التفليس لا يفرّق بين هذا الدائن والديّان الشخصيّين، بل كلّ ما يملكه المفلّس في الشركة وغيرها يوزّع على حصص الديون بالسويّة.

2 ـ لا تقع المقاصّة بين دَين شخصيّ على الشريك ودَين للشركة، فإذا كان دائن شخصيّ للشريك مديناً للشركة لم يحقّ له إسقاط دَينه للشركة بالمقابلة مع ما لَهُعلى الشريك، وذلك لأنّه دائن لشخص حقيقيّ ومدين لشخص آخر معنويّ لا لذاك


(1) راجع الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد 3: 324 آخر الفقرة 192 بحسب الطبعة الخامسة.

(2) راجع الوسيط 5: 292 - 294 الفقرة 197.

80

الشخص كي يتمّ التساقط أو التقاصّ، وكذلك لو كان المدين الشخصيّ للشريك دائناً للشركة ليس له الامتناع عن أداء حقّ الشريك بحجّة التقاصّ مع دَين الشركة.

وأصل افتراض الملك والذمّة للشركة أثر من آثار افتراض الشخصيّة المعنويّة لها، وتذكر لافتراض الشخصيّة المعنويّة لها آثار اُخرى(1) من قبيل:

1 ـ أنّ للشركة حقّ التقاضي باعتبارها شخصاً معنويّاً فترفع الدعاوى على الغير أو على الشركاء كما ترفع عليها الدعاوى من الغير أو من الشركاء. ويمثّلها في الدعاوى التي ترفع منها أو عليها نائبها دون الحاجة إلى إدخال الشركاء كلّهم أو بعضهم في الدعوى لأنّ شخصيّتها متميّزة عن شخصيّة الشركاء فيها.

2 ـ أنّ للشخصيّة المعنويّة موطناً قد يختلف عن مواطن الشركاء، وهو المكان الذي يوجد فيه مقرّها الرئيسيّ أو مركز إدارتها، ويرتّبون على ذلك أنّ الدعاوى الراجعة لهذه الشركة والمرافعات ترفع إلى محكمة الموطن الذي فيه مقرّ الشركة، وإن كانت الدعوى والمرافعة مخصوصة بفرع من فروع الشركة جاز رفعها إلى المحكمة التي تقع في دائرة ذاك الفرع.

وللشركة جنسيّة لا ترتبط بجنسيّة الشركاء، وتكون جنسيّتها عادةً هي جنسيّة الدولة التي اتّخذت فيها مركز إدارتها الرئيسيّ. فالشركات التي اُسّست في الخارج واتّخذ مركز إدارتها في إقليم دولة أجنبيّة تعتبر شركات أجنبيّة ويسري عليها قانون الدولة التي تنتمي إليها بجنسيّتها.

 

الشخصيّات الحقوقيّة في الفقه الإسلامي:

وهنا يجب أن نبحث عن أنّ الفقه الإسلامي هل يؤمن بهكذا شخصيّة حقوقيّة، وبممتلكات وذمم لها، وبهذه الأحكام وأمثالها ممّا ورد عادةً في الفقه الغربي أوْ لا؟


(1) راجع الوسيط 5: 294 - 297 الفقرة 198 - 200.

81

ونستبعد منذ البدء من هذه الأحكام ما لا موضوع له في الفقه الإسلامي من قبيل افتراض وطن أو جنسيّة للشركة مستقلّ عن وطن أو جنسيّة الشركاء، لأنّ الإسلام لا يعترف من أساسه بتعدّد الأوطان أو تعدّد الجنسيّات، والوطن في باب القصر والإتمام أجنبيّ عن المعنى المقصود في المقام، فلا يبقى موضوع في المقام للبحث عن وطن الشركة أو جنسيّتها.

كما نستبعد من بحثنا منذ البدء التشكيك في إمكانيّة فرض شخصيّة كهذه لأمثال هذه الاُمور وممتلكات وذمم، لما اتّضح في ثنايا الأبحاث السابقة من اعتباريّة هذه الاُمور، والاعتبار سهل المؤونة.

ونحن فارغون أيضاً منذ البدء عن وجود بعض المصاديق لمثل هذه الاُمور الاعتباريّة في الفقه الإسلامي في الجملة، كما في ممتلكات الوقف، وملكيّة الزكاة للفقراء، وممتلكات منصب الإمامة أو الدولة، وامتلاك المسلمين مثلا للأراضي الخراجيّة، والوقف على الجهات.

وإنّما يقع الكلام في أنّ كلّما اعترف به عرف عقلائيّ اليوم من شخصيّات حقوقيّة وما تصوّروا من آثار وأحكام لهذه الشخصيّة من ملك أو ذمّة أو نحو ذلك هل بإمكاننا أن نثبّته بتخريج فقهيّ صحيح وفق أدلّة الفقه الإسلامي أوْ لا؟

ذهب الاُستاد مصطفى الزرقاء(1) إلى القول بصحّة هذه الشخصيّات الحقوقيّة وأحكامها حسب اُسس الفقه الإسلامي. وخلاصة منهجه في هذا البحث هي: أنّه يذكر أوّلا بعض المصاديق للشخصيّة المعنويّة في الفقه الإسلامي، ثمّ يذكر بعض المصاديق للشخصيّة الحقوقيّة والاعتراف بثبوت الأملاك والذمم لها في الفقه الإسلامي، ثمّ يستنتج من مجموع هذه الاُمور موافقة كلّ الشخصيّات


(1) راجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: 300 - 309 الفقرة 183 - 187، و ص 324 - 326 الفقرة 193، و ص 334 - 335 الفقرة 198 بحسب الطبعة الخامسة.

82

الحقوقيّة وأحكامها المشروحة في الفقه الغربي لاُسس الفقه الإسلامي، وأنّ عدم ذكر الفقهاء القدامى لجملة من هذه الشخصيّات أو لأحكامها كان نتيجة عدم معرفتهم للصوَر الجديدة للشركات المنظّمة بأنواعها وأساليب عملها الاقتصاديّة وطرائق تكوينها وحدود مسؤوليّاتها ممّا هو وليد العرف والتطوّر الاقتصادي الحديث في اُوربا، وهذا لا يعني عدم موافقة تلك الشخصيّات الحقوقيّة وأحكامها لاُسس الفقه الإسلامي.

أمـّا ما ذكره أوّلا من نموذج للشخصيّات المعنويّة في الفقه الإسلامي فهو أمران:

الأوّل: النصّ المنقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم وهم يدعلى من سواهم»(1). فذكر: أنّ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يسعى بذمّتهم أدناهم» دليل على اعتبار مجموع الاُمّة كشخصيّة واحدة يمثّلها في إعطاء الذمّة والتأمين كلّ فرد منها.

والثاني: الحقوق العامّة والاُمور الحسبيّة التي يصحّ للفرد فيها رفع الدعوى إلى الحاكم من عقوبات الحدود، وإزالة الأذى عن الطريق، وقمع الغِشّ، والتفريق بين الزوجين المستمرّين على الحياة الزوجيّة بعد البينونة بالطلاق، وغير ذلك وإن لم يكن للمدّعي في شيء من ذلك علاقة بالموضوع أو ضرر منه يدفعه عن نفسه ممّا يشترط في صحّة الخصومات والدعاوى في الحقوق الفرديّة، فهذا وأمثاله يدلّ على تصوّر شخصيّة حكميّة لتلك المصلحة العامّة التي يمارس حقّ الادّعاء باسمها.

وأمـّا ما ذكره من نموذج للاعتراف بكامل المعنى الحقوقي الحديث للشخصيّة الحكميّة في الفقه الإسلامي فهو عبارة عن ثلاثة أمثلة:


(1) ورد هذا النصّ عن طرق الشيعة أيضاً، راجع الوسائل 19: 55 و 56، الباب 31 من أبواب القصاص في النفس.