228

السيّد(قدس سره)باُسبوع.

إنّني ـ والله ـ طيلة فترة الاحتجاز كنت أرى السيّد الشهيد(قدس سره)يتفانى من أجل الإسلام، ومن أجل المسلمين، ومن أجل العراقيّين المؤمنين المجاهدين، ولم أره يفكّر بنفسه ومصيره، وما سوف يعاني قبل الإعدام من تعذيب وحشىّ في غرف وأقبية الأمن العامّ.

تفاني السيّد الشهيد تفان عظيمٌ، وإخلاصه إخلاص عظيم، والشيء الذي أودّ أن أقوله: هو أنّه مهما فعلنا ومهما قمنا وأدّينا من أعمال جهاديّة ضدّ السلطة الظالمة كوفاء للسيّد الشهيد، لايفي ذلك بجزء يسير من حقّه علينا؛ لأنّ السيّد الشهيد تعذّب واستشهد من أجلنا، وإلاّ فإنّه كان بإمكانه أن يجنّب نفسه كلّ المشاقّ والصعاب والآلام التي تحمّلها، ويعيش كأىّ مرجع آخر، ويجنّب نفسه الاستشهاد وهو في هذا العمر.

 

قِصّة استشهاده(رحمه الله):

أمّا استشهاده(قدس سره)فكان مروّعاً ومؤثّراً، فقد جاء مدير أمن النجف ظهراً ومن دون علم سابق، وقال للسيّد(قدس سره): إنّ المسؤولين يودّون اللّقاء بك في بغداد. فقال السيّد: «إن كانت زيارة فلا أذهب، وإن كان اعتقالاً فاعتقلني». فقال مدير الأمن: «سيّدنا اعتقال». فأخذ السيّد الشهيد وهو في كامل الاطمئنان بالاستشهاد ولقاء الله تعالى وأجداده الطاهرين؛ إذ كان (رضوان الله عليه) قد رأى رؤياً بعد انتهاء المفاوضات مع الشيخ الخاقانيّ: كأنّ أخاه المرحوم السيّد

229

إسماعيل الصدر، وخاله آية الله المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين، كلّ واحد منهما جالس على كرسىّ، وقد جعلوا كرسيّاً في الوسط للسيّد(قدس سره) وملايين الناس من البشر ينتظرونه، فقال لي(قدس سره)بعد أن قصّ علىّ هذه الرؤيا: أنا اُبشّر نفسي بالشهادة! وفعلاً في نفس الاُسبوع استشهد، رضوان الله عليه.

بعد يوم من اعتقال السيّد(قدس سره)جاء أحد ضبّاط الأمن إلى بيت السيّد، وقال: «إنّ السيّد يريد اُختة العلويّة بنت الهدى». وهذه المرأة المظلومة ـ التي مازالت مواقفها وبطولاتها وصمودها وحياتها الحافلة بالجهاد مجهولةً ـ ذهبت وكأنّها أسد في شجاعتها وثباتها وتماسكها غير مبالية بشيء!

بعد اعتقال بنت الهدى بيوم جاؤوا إلى المرحوم الحجّة السيّد محمّد صادق الصدر، وأروه جثمان السيّد الشهيد، وتمّ الدفن بحضوره، وقد شاهد آثار التعذيب في رأسه الشريف، ولم يسمحوا له برؤية بدنه الشريف. واللهُ يعلم بما قد فعلوا ببدنه الطاهر.

هذا الدم الطاهر الزكىّ هو في الواقع أمانة في أعناقنا، فالسيّد الشهيد حينما كان يقول لنا: يا أبنائي، كان يقولها من قلب صادق، وشعور حقيقيّ، يرانا أبناءً له، فإذا لم نثأر لهذا الدم الطاهر، ونتنازل عن كلّ شيء من أجله، فمن ذا الذي يثأر له؟! وينتقم من ظالميه؟! ويقرّ عين محمّد(صلى الله عليه وآله) وعلىّ والزهراء والحسن والحسين(عليهم السلام)؟! إنّ السيّد الشهيد من هذه الذرّيّة الطاهرة، ومن هذه الشجرة المباركة، فليس من المعقول أن نسكت على دمه الذي هو كدم الحسين(عليه السلام)،

230

ونفس المظلوميّة التي أصابت الحسين سيّد الشهداء أصابت الشهيد والمرجع المظلوم السيّد الصدر، رضوان الله عليه».

انتهى ما أردت نقله من نصّ كلام الشيخ النعمانيّ ـ حفظه الله ـ بتغيير يسير.

ولقد أثكل المسلمون في كلّ أنحاء العالم باستشهاده، وسادت مظاهر العزاء والحداد والتظاهرات والإضرابات ومجالس التأبين كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ. وقد رثاه الشعراء بقصائد رائعة، ومن أروعها ما أنشأه المرحوم السيّد الدكتور داود العطّار، والتي مطلعها:

باقِرَ الصدرِ منّا سلاما *** أىُّ باغ سقاكَ الحِماما

أنتَ أيقظتنا كيف تغفو *** أنت أقسمت أن لَن تناما والقصيدة معروفة.

وأبّنه العلماء الأعلام والمراجع العظام، وعلى رأسهم: آية الله العظمى، مفجّر الثورة الإسلاميّة في إيران، وقائد المسيرة الإسلاميّة في العالم، سماحة الإمام روح الله الموسوىّ الخمينىّ ـ دام ظله ـ الذي قال في تأبينه ما كانت ترجمته باللّغة العربية كالتالي:

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّا لله وإنّا إليه راجعون!

تبيّن ـ ببالغ الأسف ـ من خلال تقرير السيّد وزير الشؤون الخارجيّة، والذي تمّ التوصّل إليه عن طريق مصادر متعدّدة وجهات مختصّة في الدول الإسلاميّة، وحسب ما ذكرته التقارير الواردة من مصادر اُخرى: أنّ المرحوم آية الله الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر

231

وشقيقته المكرّمة المظلومة، والتي كانت من أساتذة العلم والأخلاق ومفاخر العلم والأدب، قد نالا درجة الشهادة الرفيعة على أيدي النظام البعثىّ العراقيّ المنحطّ، وذلك بصورة مفجعة!

فالشهادة تراث ناله أمثال هذه الشخصيات العظيمة من أوليائهم، والجريمة والظلم ـ أيضاً ـ تراث ناله أمثال هؤلاء ـ جناة التأريخ ـ من أسلافهم الظلمة.

فلا عجب لشهادة هؤلاء العظماء الذين أمضوا عمراً من الجهاد في سبيل الأهداف الإسلاميّة على أيدي أشخاص جناة قضوا حياتهم بامتصاص الدماء والظلم، وإنّما العجب هو أن يموت مجاهدو طريق الحقّ في الفراش دون أن يلطّخ الظلمة الجناة أيديهم الخبيثة بدمائهم!

ولاعجب أن ينال الشهادة المرحوم الصدر وشقيقته المظلومة، وإنّما العجب أن تمرّ الشعوب الإسلاميّة، وخاصّة الشعب العراقىّ النبيل، وعشائر دجلة والفرات، وشباب الجامعات الغيارى، وغيرهم من الشبّان الأعزّاء في العراق على هذه المصائب الكبرى التي تحلّ بالإسلام وأهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)دون أن تأبه لذلك، وتفسح المجال لحزب البعث اللّعين؛ لكي يقتل مفاخرهم ظلماً الواحد تلو الآخر.

والأعجب من ذلك هو أن يكون الجيش العراقىّ وسائر القوى النظاميّة آلة بيد هؤلاء المجرمين، يساعدونهم على هدم الإسلام والقرآن الكريم.

232

إنّني يائس من كبار القادة العسكريّين، ولكنّني لست يائساً من الضبّاط والمراتب والجنود، وما أتوخّاه منهم هو: إمّا أن يثوروا أبطالاً، وينقضّوا على أساس الظلم كما حدث في إيران، وإمّا أن يفرّوا من معسكراتهم وثكناتهم، وألاّ يتحمّلوا عار مظالم حزب البعث.

فأنا غير يائس من العمّال وموظّفي حكومة البعث المغتصبة، وآمل أن يضعوا أيديهم بأيدي الشعب العراقىّ، وأن يزيلوا هذا العار عن بلاد العراق.

أرجوه تعالى أن يطوي بساط ظلم هؤلاء الجناة.

وها أنا اُعلن الحداد العامّ مدّة ثلاثة أيّام اعتباراً من يوم الأربعاء الثالث من شهر (اُرديبهشت) الثالث والعشرين من نيسان، كما اُعلن يوم الخميس عطلةً عامّة، وذلك تكريماً لهذه الشخصيّة العلميّة، ولهذا المجاهد الذي كان من مفاخر الحوزات العلميّة، ومن مراجع الدين، ومفكّري المسلمين.

وأرجو الخالق تعالى أن يعوّضنا عن هذه الخسارة الكبرى والعظيمة على الإسلام والمسلمين. والسلام على عباد الله الصالحين.

(الثاني من شهر اُرديبهشت سنة 1359)

روح الله الموسويّ الخمينىّ

هذا كلّ ما أردت تسجيله هنا من ترجمة مختصرة عن حياة شهيدنا الغالي آية الله العظمى، مفجّر الثورة الإسلاميّة في العراق، السيّد محمّد باقر الصدر، تغمّده الله برحمته.

233

وأقول: إنّها ترجمة مختصرة؛ لأنّ حياته الشريفة على رغم قصرها ـ حيث لم يكمل(رحمه الله)السابعة والأربعين من عمره ـ زاخرة ببحر من العطاء والجهاد والفداء والتضحيات، وليست هذه الترجمة عدا اغتراف غرفة من هذا البحر، وبإمكانك أيّها القارئ الكريم أن تطّلع ـ بمطالعة الكتب الاُخرى التي كتبت عنه(رحمه الله)وباستنطاق سائر طلاّبه وغيرهم ممّن أدركوه وعاشروه ـ على معلومات اُخرى كثيرة عن حياته المباركة التي كانت كلّها وقفاً لخدمة الدين والعلم، ومازالت ثمرات مشاريعه القيّمة تدرّ على المسلمين بالخيرات والبركات، فهو على رغم اغتيال الاستكبار العالمىّ له سيبقى خالداً مدى الأعوام والدهور من خلال عطاءاته التي لاتنتهي، ومعين علمه وجهاده الذي لاينضب.

ولقد صدق المرحوم الدكتور السيّد داود العطّار(رحمه الله) إذ قال:

يا أبا جعفر سوف تبقى *** مشعلاً هادياً يتسامى

كَذِبَ البعثُ ما زلتَ فينا *** كالخمينىِّ تَهدي الأناما

فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استُشهد ويوم يُبعث حيّاً.

تلميذه الصغير كاظم الحسينيّ الحائريّ

( 20 / شعبان المعظّم / 1406 هـ )