319

الإجماع لا يفيدنا شيئاً غير ما كان يفيدنا نقله للإجماع، فإنّ نقله لقول المعصوم حدسيّ واستنتاج من الإجماع بحسب الفرض، فإن كان مقدار الآراء التي يعتمد عليها هذا النقل كافياً لدى المنقول إليه للكشف عن رأي المعصوم على أساس الملازمة بين المعلومين أو على أساس الملازمة بين العلمين، فقد ثبت لديه رأي المعصوم، وإن لم يكن ذلك كافياً لدى المنقول إليه، فلا فائدة لنقل رأي المعصوم الذي عرفناه معتمداً على حدس غير مقبول لدى المنقول إليه.

 

3 ـ نقل جزء الكاشف:

المسألة الثالثة: في نقل جزء الكاشف، كما لو نقل الثقة اتّفاق عشرة من العلماء على رأي ولم يكن هذا كافياً لدينا في الكشف عن رأي المعصوم، فضممنا ذلك إلى أقوال عشرة آخرين عرفناها وجداناً أو بنقل ثقة آخر، وكان مجموع الآراء العشرين كافياً لدينا للكشف عن الحكم الشرعيّ، فهل يثبت بذلك الحكم الشرعيّ، أو لا؟

ذكر المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله): أنّ دليل الحجّيّة لا يشمل جزء الكاشف؛ لأنّ دليل الحجّيّة يدلّ على التنزيل، والتنزيل يكون بلحاظ الأحكام الشرعيّة، والمنقول في المقام لا هو حكم شرعيّ ولا هو موضوع لحكم شرعيّ. نعم، لو كان النقل نقلاً لتمام الكاشف الملازم للحكم الشرعيّ، قلنا: إنّ هذا نقل بالملازمة للحكم الشرعيّ، فيتمّ التنزيل بلحاظ الدلالة الالتزاميّة، أمّا جزء الملازم للحكم فليس ملازماً له كي يكون نقله نقلاً بالالتزام للحكم الشرعيّ(1).

ويرد عليه: أنّ الحكم الشرعيّ وإن لم يكن لازماً لجزء الكاشف على الإطلاق


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 69 و70.

320

لكنّه لازم له على تقدير تحقّق الجزء الآخر، فالناقل ينقل بالملازمة الحكم الشرعيّ على تقدير تحقّق الجزء الآخر، وقد أحرزنا الجزء الآخر بالوجدان أو بالتعبّد. وبكلمة اُخرى: إنّ الصور العقليّة المتصوّرة في المقام ثلاث:

1 ـ عدم تحقّق مجموع جزءي الكاشف.

2 ـ الإجماع على ما هو الخطأ واقعاً.

3 ـ كون هذا الرأي رأي المعصوم.

والاحتمال الأوّل منفيّ بإخبار الثقة عن أحد الجزءين، وثبوت الجزء الآخر بالوجدان أو بخبر ثقة آخر. والاحتمال الثاني غير محتمل بحسب الفرض. إمّا على أساس الملازمة بين المعلومين، أو على أساس الملازمة بين العلمين. فينحصر الأمر في الاحتمال الثالث.

 

الإجماع المركّب:

بقي الكلام في الإجماع المركّب، وخلاصة القول فيه: أنّه تارةً نفترض أنّ صاحب كلّ من القولين أو الأقوال ينفي الاحتمال الآخر غير القولين أو الأقوال بدليل خاصّ غير دليل القول الذي اختاره، واُخرى نفترض أنّ دليله على نفي رأي جديد ليس إلّا نفس دليله على ما اختاره من القول، فلو شكّ فيه لَشكّ حتّى في نفي الرأي الجديد. ففي الفرض الأوّل قد وجد إلى صفّ الإجماع المركّب إجماع بسيط على نفي رأي جديد، وهو يكفي لنفيه بحسب الفرض. وفي الفرض الثاني لا نافي لرأي جديد إلّا الإجماع المركّب، فإن بنينا على حجّيّة الإجماع من باب دخول المعصوم في المجمعين، أو قاعدة اللطف، فنفس البيان يتمّ في الإجماع المركّب أيضاً. أمّا لو بنينا على حجّيّة الإجماع على أساس استحالة خطأ الجميع، فمن يؤمن بالاستحالة يجب أن يرى أنّه هل يؤمن بها في خصوص

321

الإجماع البسيط، أو حتّى في الإجماع المركّب. فعلى الثاني يلتزم بنفي الرأي الجديد في المقام، بخلافه على الأوّل.

أمّا نحن فقد قلنا: إنّ الكشف قائم في المقام على أساس حساب الاحتمالات وتعاضد القرائن الناقصة بعضها بالبعض، وهذا لا يأتي في الإجماع المركّب؛ لأنّنا قد أحرزنا خطأ ما عدى رأي واحد من الآراء، فقد خسرنا قسماً من القرائن الناقصة الدخيلة ـ بحسب الفرض ـ في تماميّة الكشف، والمفروض أنّهم لم يتّفقوا على نفي الرأي الجديد بغضّ النظر عن أدلّة أقوالهم المختلفة كي يبقى الكشف عن نفي الرأي الجديد ثابتاً رغم الخطأ في دليل ما اختاروه من القول(1).

وفي ختام البحث عن الإجماع نشير إلى أنّ الإجماع حينما يكون حجّة إنّما يثبت به المتيقّن إرادته من معقد الإجماع، أمّا ظهور معقد الإجماع فليس حجّة في مقام إثبات الحكم الشرعيّ؛ وذلك لأنّ ظهور معقد الإجماع ـ بعد فرض عدم انفكاك الأمر المجمع عليه عن الحكم الشرعيّ ـ ظهور للشهادة من قِبل المجمعين على حكم الشرع، ولا دليل على حجّيّة ظهور شهادتهم عليه. وبكلمة اُخرى: إنّ


(1) قد يفترض أنّ الأقوال الساقطة وإن خرجت من الحساب بلحاظ المضعّف الكمّيّ لكنّها قد تؤثّر بلحاظ المضعّف الكيفيّ. فلو كانت الأقوال الموافقة لكلّ واحد من الرأيين ـ مثلاً ـ عشرة فصحيح أنّنا اكتشفنا خطأ عشرة من الأقوال، وسقطت تلك الأقوال من الحساب الكمّيّ، ولكن افتراض غفلة عشرين عالماً عن الدليل الصحيح للرأي الصحيح في مسألة واحدة يستبطن مضعّفاً كيفيّاً يضمّ إلى المضعّف الكمّيّ الموجود في العشرة الباقية، وينشأ المضعّف الكيفيّ من اشتراك جميع الأقوال في جهة مشتركة، وهي الغفلة عن دليل الوجه الصحيح لو أخطأت جميعاً. لكن عملاً لا أظنّ أن نحصل على مورد بحيث تكون لهذا المضعّف الكيفيّ قيمة تذكر مادامت الأقوال منصبّة على رأيين مختلفين.

322

الاحتجاج بكلام شخص له أو عليه إنّما هو في طول ثبوت كون ذلك الكلام كلاماً له، فإذا نقل الراوي الثقة من المولى كلاماً مثلاً، ثبت أوّلاً ـ ولو بالتعبّد ـ أنّ هذا الكلام كلام للمولى، ثُمّ يصبح ظهور هذا الكلام حجّة للعبد على المولى، وللمولى على العبد، ولا يكون هذا الظهور حجّة بين المولى والعبد في المرتبة السابقة على ثبوت كون هذا الكلام كلامه أو في عرضه، فإنّ موضوع الحجّيّة لشخص أو عليه إنّما هو ظهور كلامه، وفيما نحن فيه لم يثبت في المرتبة السابقة على حجّيّة الظهور كلام للمولى له هذا الظهور، كي يكون هذا الظهور حجّة على المولى وعلى العبد(1).

هذا تمام الكلام في الإجماع، ولنلحق ببحث الإجماع بحثي التواتر والشهرة:


(1) لم يتعرّض اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لمسألة حجّيّة ظهور معقد الإجماع وعدمها في أثناء البحث، وإنّما هو من إفادته خارج البحث. وعلى أيّ حال فما ذكره (رضوان الله عليه) هنا ينقض بروايات الرواة عن الأئمّة(عليهم السلام)، حيث لا إشكال في الأخذ بظواهرها مع أنّها من ظواهر شهادة الشاهد على كلام الشارع، وليست ظواهر كلام فرغنا عن كونه كلام الشارع.

أمّا الجواب عليه بأنّنا أوّلاً نثبت تعبّداً بخبر الثقة أنّ هذا كلام المولى، ثُمّ نتمسّك بظهور ما ثبت كونه كلام المولى، فيرد عليه: أنّ هذا إنّما يتمّ في موردين: أحدهما: ما لو عرفنا أنّ الناقل التزم بنقل ألفاظ الإمام(عليه السلام). والثاني: ما لو كان كلام الناقل صريحاً في أنّ كلام الإمام كان يساوي العبارة التي ذكرها في مقام النقل في الظهور تماماً. بينما الغالب أنّه ليس النقل نقلاً للعبارة، ولا هناك تصريح بمساواة عبارة الإمام وعبارته التي جاء بها في مقام النقل بالمعنى في الظهور، وإنّما هناك ظهور في ذلك، ومقتضى البيان الذي ذكره الاُستاذ (رضوان الله عليه) هو عدم حجّيّة هذا الظهور.

وأمّا الحلّ فهو أنّ دليل حجّيّة الخبر تعبّداً سواء كان عبارة عن بناء العقلاء، أو عن الدليل اللفظيّ يفهم منه حجّيّة الخبر. فبحجّيّة هذا الظهور يحرز تعبّداً ظهور كلام المولى أو صريحه، وعندئذ يحتجّ للمولى وعليه بظهور كلامه أو صريحه.

323

 

التواتر

أمّا بحث التواتر: فأساس حصول العلم في التواتر هو ما عرفته في باب الإجماع: من تراكم احتمالات الصدق وتعاضدها فيما بينها إلى أن تنقلب إلى القطع وضعف احتمال كذب المجموع بضرب القيم الاحتماليّة لكذب كلّ واحد بعضها في البعض الآخر ممّا يؤدّي إلى ضآلة احتمال كذب الخبر، إضافة إلى الضعف الناشئ من فرضيّة تماثل الصدف. وتوضيح ذلك: أنّ ضعف مخالفة الخبر المتواتر للواقع ينشأ من أمرين:

الأوّل: ما نسمّيه بالمضعّف الكمّيّ، وهو التكثّر العدديّ للأخبار المؤدّي إلى ضرب القيم الاحتماليّة للكذب بعضها في بعض، ولابدّ في حساب ذلك من النظر إلى أصل قيمة كذب كلّ خبر، فإنّ نتيجة ضرب الكسور الضئيلة أصغر من نتيجة ضرب الكسور الكبيرة. فكلّما كان احتمال الكذب منذ البدء أضعف، كان الوصول إلى العلم بتراكم الأخبار أسرع.

والثاني: ما نسمّيه بالمضعّف الكيفيّ، وهو الضعف الناشئ من تماثل الصدف المتكرّرة ووحدة مصبّ الخطأ أو مصبّ داعي الكذب، فتجمّع دواعي الكذب أو أسباب الخطأ على نقطة واحدة أبعد من انقسامها على نقاط متعدّدة، فمثلاً لو صمّم آلاف من الناس الكذّابين على اختلاق قصّة كاذبة، فاختلق كلّ واحد منهم قصّة غير قصّة الآخر لم تكن في ذلك غرابة. أمّا لو اختلق كلّ واحد منهم عين قصّة الآخر صدفة، ومن دون اطّلاع على ما اختلقه الآخر، لعدّ ذلك من أعجب الغرائب؛ لأنّ الناس مختلفون عادةً في أفكارهم وظروفهم ومصالحهم والإيحاءات التي يجدونها في أنفسهم وما إلى ذلك، فاتّفاقهم رغم كلّ هذا على اختلاق قصّة واحدة على أساس توارد الخواطر على شيء واحد بعيد غاية البُعد.

324

وكلّما تقاربت الصدف في التماثل أكثر فأكثر كان المضعّف الكيفيّ أقوى وأسرعتأثيراً في خلق العلم في النفس.

ويمكن تقسيم الأخبار المتكثّرة بلحاظ المضعّف الكمّيّ والكيفيّ إلى خمسة أقسام:

القسم الأوّل: أن لا توجد وحدة أو تقارب في المخبر به. كما لو نظرنا إلى كتاب معيّن ورد فيه عدد كبير من الأحاديث إلى حدّ لم نحتمل كذب الجميع رغم ورودها في اُمور شتّى ولا توحّد ولا تقارب بين مضامينها.

وحصول العلم في هذا القسم أبطأ منه بكثير في الأقسام الآتية؛ لعدم وجود المضعّف الكيفيّ بشكل ملحوظ، وإن كان يوجد بالدقّة المضعّف الكيفيّ بمقدار مّا ولو باعتبار وحدة زمان صدور تلك الأخبار أو اشتراكها في جامع مّا ككونها جميعاً من روايات الأحكام، ونحو ذلك من الوحدات المناسبة لاستبعاد الكذب والاشتباه. ولو لاحظنا مقداراً من الأخبار نسبتها إلى تمام العالم وخصوصيّاته مقاربة لنسبة أخبار هذا الكتاب إلى زمانه القصير وشعبته الخاصّة بأن كانت كلّ شعبة من شعب أخبار العالم أقلّ بقليل من العدد المورث للقطع بعدم كذب الجميع، ولكن المجموع كان عدداً هائلاً ـ طبعاً من غير الأخبار المقطوعة الصدق ـ إلى حدّ يقطع عادةً بعدم كذب الجميع، كان هذا قطعاً حاصلاً من محض المضعّف الكمّيّ من دون مضعّف كيفيّ إلّا بمقدار اشتراك كلّ هذه الأخبار في جامع الخبريّة(1).

 


(1) نقل عمّا لم أحضره في الدورة الأخيرة لاُستاذنا الشهيد: العدول عن كفاية المضعّف الكمّيّ وحده في الخبر المتواتر الذي لو تمّ لكان معناه أنّه لا يشترط في التواتر وحدة المصبّ، وهذا أمر غريب لا يقول به الأصحاب، ووجه العدول عنه: أنّنا لو حصلنا ـ مثلاً ـ على مئة خبر من الأخبار التي لا تصبّ في مصبّ واحد باختيارها عشوائيّاً، فمجرّد المضعّف الكمّيّ الذي هو عبارة عن ضرب القيم الاحتماليّة لكذب هذه الأخبار

325

القسم الثاني: أن تكون الأخبار المتكثّرة متوحّدة فيما بينها من مدلول تحليليّ تضمّنيّ أو التزاميّ، كشجاعة مَن نقلت عنه قضايا كثيرة تدلّ على الشجاعة مع فرض أنّ مصبّ داعي الكذب المحتمل هو المدلول المطابقيّ لتلك الأخبار لا المدلول التحليليّ.

وهذا القسم أقوى وأسرع في إيجاد العلم من القسم الأوّل؛ وذلك على أساس ما يتمتّع به من المضعّف الكيفيّ باعتبار التقارب الموجود في مصبّ داعي الكذب في هذه الأخبار؛ لأنّ المداليل المطابقيّة يوجد بينها شيء من التقارب، ولهذااشتركت في المدلول التحليليّ.

 


بعضها في بعض لا يكفي لذوبان ناتج الضرب في النفس رغم ضآلته؛ وذلك لأنّنا يوجد لدينا إلى صفّ ذلك علم إجماليّ بوجود مئة خبر كاذب ضمن مجموع الأخبار الكثيرة جدّاً، فكلّ مئة من الأخبار نختارها عشوائيّاً نحتمل لا محالة انطباق المعلوم بالإجمال عليه، وذوبان هذا الاحتمال في بعض أطراف العلم الإجماليّ دون بعض ترجيح بلا مرجّح، وذوبانه في كلّ الأطراف خلف فرض العلم الإجماليّ. إذن فلابدّ في مقام ذوبان احتمال الكذب من مضعّف كيفيّ يعالج مشكلة الترجيح بلا مرجّح، وذلك على أساس وحدة المصبّ.

نعم، لا نمنع عن حصول الاطمئنان بصدق بعض الأخبار المئة إجمالاً؛ لأنّ المضعّف الكمّيّ وحده كاف في ضآلة احتمال كذب الجميع بضرب احتمالات الكذب بعضها في بعض.

أمّا حجّيّة هذا الاطمئنان فبما أنّ حجّيّته ليست عقليّة ولو كانت حجّة فإنّما هي حجّة عقلائيّة، فدعوى حجّيّة هذا الاطمئنان الإجماليّ الناشئ من تجميع الاحتمالات في دائرة واسعة عهدته على مدّعيه.

وهذا الكلام المنقول عن دورته الأخيرة موجود أيضاً في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة من كتابه في الاُصول.

326

القسم الثالث: عين الثاني بفرق أنّنا نفرض أن مركز داعي الكذب المحتمل هو المدلول التحليليّ وهو الغالب.

وهذا أقوى وأسرع تأثيراً في حصول القطع من القسم السابق؛ لأقوائيّة المضعّف الكيفيّ فيه؛ لأجل الوحدة الحقيقيّة الموجودة في مصبّ داعي الكذب المحتمل في الأخبار، بينما في القسم الأوّل لم يكن عدا التقارب في المصبّ.

القسم الرابع: أن تتطابق الأخبار حتّى في المدلول المطابقيّ، كما لو نقلت قضيّة واحدة دالّة على شجاعة زيد ـ مثلاً ـ بنقول كثيرة، وفرضنا أنّ مركز داعي الكذب المحتمل هو المدلول المطابقيّ للقضيّة لا المدلول التحليليّ وهو الشجاعة مثلاً.

وهذا أقوى وأسرع تأثيراً في حصول العلم من القسم الثالث؛ وذلك لأنّ مصبّ داعي الكذب المحتمل وإن كان واحداً في القسم الثالث كما هو واحد في القسم الرابع(1) ولكن القسمين يختلفان في مصبّ الاشتباه والخطأ المحتمل، ففي القسم الثالث لو فرض خطأ الناقلين، فمركز الأخطاء ليس واحداً؛ لأنّ المفروض تعدّد القصص المنقولة، بينما في القسم الرابع لوفرض الخطأ في النقل كان مركز الأخطاء واحداً؛ إذ كلّهم نقلوا قصّة واحدة، وبهذا اتّضح السرّ في أقوائيّة التواتر المعنويّ من


(1) قد يقال: إنّ دائرة الوحدة في مصبّ داعي الكذب المحتمل في القسم الرابع أوسع منها في القسم الثالث؛ إذ دائرة الوحدة في المصبّ في القسم الثالث كانت عبارة عن المدلول التحليليّ، وهنا عبارة عن المدلول المطابقيّ، وهذا كاف في الأقوائيّة.

إلّا أنّ هذا لا يصلح تفسيراً لأقوائيّة القسم الرابع من الثالث بعنوانهما؛ إذ قد يفرض أمران متواتران أحدهما بالتواتر الإجماليّ والثاني بالتواتر المعنويّ مع كون المدلول التحليليّ في الأوّل بقدر المدلول المطابقيّ في الثاني سعة، وفي مثل هذا الفرض يجب أن يتجلّى الفرق الحقيقيّ بين القسمين بعنوانهما في درجة القوّة، وهذا إنّما يكون بالنكتة التي أفادها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المتن: من وحدة مصبّ الاشتباه في الرابع دون الثالث.

327

التواتر الإجماليّ لاختصاصه بمضعّف كيفيّ آخر.

القسم الخامس: عين الرابع إلّا أنّنا نفرض أنّ مصبّ داعي الكذب المحتمل هو المدلول التحليليّ لا المطابقيّ وهو الغالب.

وحصول العلم هنا أسرع منه في القسم الرابع؛ لاشتراكه معه في المضعّفات السابقة واختصاصه بمضعّف كيفيّ آخر، وهو: أنّه بعد أن فرض أنّ مركز داعي الكذب ـ على فرض ثبوته ـ هو المدلول التحليليّ لا المطابقيّ، فتطابقهم على مدلول مطابقيّ واحد ـ على تقدير الكذب ـ يشكّل غرابة اُخرى؛ إذ هو يعني وحدة في مركز الخيالات وتبادر الأفكار على شكل الصدفة والاتّفاق، وهذه الوحدة تشكّل مضعّفاً كيفيّاً جديداً.

وهذا هو السرّ في أنّ التواتر اللفظيّ أقوى من التواتر المعنويّ؛ لأنّ مصبّ داعي الكذب هو المعنى، فالتوافق على اللفظ المنقول وحدة إضافيّة على وحدة مصبّ داعي الكذب.

ولا نجعل التواتر اللفظيّ قسماً سادساً، فإنّ اللفظ المنقول في الحقيقة عبارة عن أفعال كثيرة اتّفق النقل في جميعها، فلو فرضت في باب نقل الفعل دون اللفظ أفعال بعدد الأفعال الثابتة في اللفظ لم يكن فرق من هذه الناحية بينهما في استبعاد الخلاف.

وقد يحصل التواتر في نقل قصّة معيّنة في خصوصيّاتها زماناً ومكاناً وغير ذلك، وهذا يؤثّر في البطء في حصول العلم؛ لوقوع التزاحم بين حسابين للاحتمال، فإنّ توافقهم على الكذب أو الخطأ في أصل القصّة صدفة وإن كان بعيداً ولكن يلزم من كونهم صادقين أن يكون أكثرهم خاطئين في الخصوصيّات، وهذا في نفسه أمر بعيد أيضاً، ومع هذا يكون التواتر غالباً تامّاً ويحصل العلم بغلبة حساب الاحتمال الأوّل على الثاني؛ لأنّ مركز داعي الكذب أو سبب الخطأ على الأوّل واحد بينما الخطأ على الثاني وقع في نقاط مختلفة، وقد مضى أنّ وحدة المصبّ وتماثل الصدف يؤثّر في قوّة الاستبعاد.

328

 

التواتر مع الواسطة:

بقي الكلام في التواتر مع الواسطة(1)، وهو ـ على ما ذكره الأصحاب ـ مشروط بحصول التواتر في كلّ طبقة متأخّرة على كلّ نقل من نقول الطبقة المتقدّمة. فلو فرضنا أقلّ التواتر مئة والناقلون المباشرون للقضيّة كانوا مئة، فقد قالوا: إنّه لابدّ في الطبقة الثانية أن يتواتر نقل كلّ واحد من اُولئك بمئة نقل، وفي الطبقة الثالثة أن يتواتر كلّ نقل في الطبقة الثانية بمئة نقل، وهكذا الحال إلى أن ينتهي الأمر إلينا.

أقول: إنّ هذا التصوير للتواتر مع الواسطة وإن كان صحيحاً لكن وقوعه خارجاً لا يعدو عادةً أن يكون أمراً خياليّاً.

ونحن لدينا ـ بحسب مبنانا في فهم التواتر ـ صورة اُخرى للتواتر غير المباشر، وهي: أن نأخذ كلّ خبر واحد من الأخبار الذي يحكي عن القضيّة بواسطة أو بوسائط، ونضيف قيمته الاحتماليّة إلى الخبر الآخر الذي يحكي أيضاً عن القضيّة بالواسطة أو الوسائط، وهكذا تتعاضد القيم الاحتماليّة ويتضاءل احتمال الكذب والخطأ في الجميع بالضرب إلى أن يحصل العلم بسبب ذوبان الاحتمال الضئيل في النفس. نعم، حصول العلم هنا أبطأ منه في الخبر بلاواسطة؛ لأنّ القيمة الاحتماليّة للخبر مع الواسطة أضعف منها للخبر بلا واسطة. وأكثر ما تثبت لدينا من تواترات إنّما تستعمل فيها هذه الطريقة لا الطريقة الاُولى.


(1) بحث التواتر مع الواسطة أخذته ممّا نقل عن القسم الذيلم أحضره من الدورة الأخيرة.

329

 

الشهرة

وأمّا بحث الشهرة: فقد نقصد بالشهرة الشهرة الروائيّة التي جعلت إحدى المرجّحات في باب الخبرين المتعارضين، ويأتي البحث عنها في باب التعادل والتراجيح إن شاء الله. واُخرى نقصد بها عمل المشهور بالخبر الذي يجعل جابراً للسند. ويأتي البحث عنه في باب حجّيّة خبر الواحد إن شاء الله. وثالثة يقصد بها الشهرة الفتوائيّة ويبحث عن مدى إثباتها لتلك الفتوى، وهذه هي المقصودة بالبحث في المقام.

والاعتماد على الشهرة الفتوائيّة تارةً يكون على أساس حصول العلم والاطمئنان، واُخرى على أساس التعبّد:

أمّا على أساس العلم والاطمئنان فالكلام فيها هو الكلام في الإجماع: من أنّ حصول القطع بذلك يكون على أساس حساب الاحتمالات، وأنّه يفترق ذلك عن باب التواتر بوجود عوائق خمسة عن حصول العلم بذلك، وتزيد الشهرة على الإجماع بضعف كمّيّ باعتبار أقلّيّة عدد المفتين، وبضعف كيفيّ باعتبار أنّ وجود المخالف يزاحم الحساب المتحصّل من آراء الموافقين(1).

هذا. وما نجده أحياناً من إفتاء المشهور بما نقطع بخطئه يضعّف لدينا قيمة الشهرة أيضاً(2).

وأمّا على أساس التعبّد فقد ذكر في مقام الاستدلال على حجّيّة الشهرة اُمور ثلاثة:

الأوّل: مقبولة عمر بن حنظلة، وفيها ـ بعد فرض السائل تساوي الراويين في


(1) هذا فيما لو عرفنا وجود المخالف.

(2) كما أنّ خطأ المشهور يضعّف لدينا قيمة الإجماع أيضاً.

330

العدالة ـ: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(1).

وتقريب الاستدلال بها موقوف على مقدّمتين:

الاُولى: أنّ المراد بالمجمع عليه هو الشهرة، ويدلّ عليه جعله قبال الشاذّ، فإنّ المجمع عليه لا يوجد في مقابله شاذّ، كما أنّ إطلاق عدم الشهرة على الشاذّ قرينة اُخرى على أنّ ما في مقابله كان مشهوراً لا مجمعاً عليه.

والثانية: أنّ قوله: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» تعليل عامّ يشمل الشهرة الفتوائيّة، ولا يضرّنا كون مورد الحديث الشهرة الروائيّة، فإنّ المورد لا يخصّص الوارد.

ويرد على المقدّمة الاُولى: أنّ كون شيء مجمع عليه إنّما ينافي وجود شاذّ في قباله في باب الفتوى، أمّا في باب الرواية فلا منافاة بين كون إحدى الروايتين مجمعاً عليها، أي: مرويّة ومعترفاً بها لدى الكلّ، والاُخرى شاذّة لم يروها إلّا بعض نادر. كما أنّ إطلاق غير المشهور على الشاذّ ليس قرينة على المقصود؛ إذ قد يكون المقصود بالمشهور هو الواضح المعروف لا ما اصطلح عليه عندنا في قبال المجمع عليه.

ويرد على المقدّمة الثانية: أنّ عدم الريب المذكور في التعليل الوارد في هذا الحديث فيه عدّة احتمالات، منها ما لا يوافق المقصود، ومنها ما لا يوافق ظاهر الحديث:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المراد به نفي الريب حقيقة بأن يكون الكلام إخباراً


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 1، ص 75 ـ 76.

331

عن عدم الشكّ واقعاً في صحّة المجمع عليه، وهذا وإن كان معقولاً في الشهرةالروائيّة باعتبارها توجب العلم غالباً ولو علماً اعتياديّاً لكنّه لا ينفع المقصود، وهو إثبات حجّيّة الشهرة الفتوائيّة الثابت فيها الريب تكويناً، كما هو واضح.

والمقصود بنفي الريب عن صحّة الرواية نفي الريب عن ورودها عن الإمام(عليه السلام)، لا مطابقتها للواقع كي لا يبقى ريب في بطلان الرواية الاُخرى.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد به نفي الريب تعبّداً من قِبَل الشارع.

وهذا الاحتمال لو فرض مثبتاً للمقصود فهو خلاف ظاهر الحديث؛ لتوقّفه أوّلاً على التصرّف في القضيّة التي هي بطبعها إخباريّة بحملها على الإنشاء، أو التصرّف في المخبر به بحمله على نفي الريب التعبّديّ لا الحقيقيّ؛ ولمنافاته ثانياً لما يترقّب من طبيعة التعليل، وهو أن يكون تعليلاً بشيء مرتكز عند العقلاء، كي يكون هذا التعليل تقريباً للحكم إلى الذهن، فلو فرضنا أنّ المعلّل به هو أمر تعبّديّ يفرضه الإمام الآن لم تكن للتعليل هذه الخصوصيّة.

الاحتمال الثالث: أن يكون المراد هو الإخبار عن عدم الريب تعبّداً عند العقلاء.

وهذا يمتاز على الاحتمال الثاني بتحفّظه على ما يتطلّبه ظاهر التعليل: من كونه تعليلاً بما يقرب الحكم إلى الذهن بارتكازيّته، ولكنّه أيضاً خلاف الظاهر من ناحية حمل عدم الريب على غير المعنى الحقيقيّ.

ولو فرضناه موافقاً للظاهر، قلنا: إنّ هذا الاحتمال لا يفيد المقصود، فإنّه لو تمّ فإنّما يقتصر فيه على ما يساعد عليه ارتكاز العقلاء، ولا يثبت الحكم في الشهرة الفتوائيّة التي من الواضح فيها عدم وجود تعبّد عقلائيّ وبناء عقلائيّ على حجّيّتها.

الاحتمال الرابع: أن يكون المقصود نفي الريب النسبيّ، أي: أنّه وإن كان الريب

332

ثابتاً في كلتا الروايتين لكن انتفاء الريب في الرواية المجمع عليها يكون بمعنى أنّ الشذوذ الذي هو باب من أبواب تطرّق الريب منسدّ بالنسبة لها، بينما هو مفتوح بالنسبة للخبر الشاذّ.

وهذا أيضاً يمتاز على الاحتمال الثاني بتحفّظه على التعليل بأمر مفهوم عند العقلاء، لكنّه أيضاً خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من عدم الريب هو عدم الريب حقيقة ومن جميع الجهات، لا عدم الريب النسبيّ.

ولو سلّمنا موافقة هذا الاحتمال لظاهر الحديث، قلنا: إنّه لا ينفعنا في المقام، لا لما اُفيد(1): من أنّ عدم الريب النسبيّ لا يصلح جعله قاعدة عامّة، فإنّ حاله حال سائر التعليلات يصلح جعله قاعدة عامّة، بل لأنّ هذا التعليل يكون بصدد بيان الوجه لترجيح هذا على ذاك بعدم الريب فيه بالنسبة إلى ذاك بعد فرض الفراغ عن حجّيّة أحدهما، أي: أنّه بعد ما فرض الفراغ عن حجّيّة أحدهما يكون ما هو أقلّ ريباً منهما أولى بالحجّيّة من الآخر، لا بصدد بيان تأسيس الحجّيّة لكلّ أمارة يوجد ما هو أخسّ منها إلى أن نصل إلى أخسّ الأمارات، فالتعدّي بقانون التعليل إنّما يكون إلى كلّ مورد علمنا بحجّيّة إحدى الأمارتين وكانت إحداهما أقلّ ريباً من الاُخرى. ولأجل هذا التعليل ومثله قال بعض في باب الخبرين المتعارضين بكفاية مطلق الترجيحات المتصوّرة في المقام ممّا يجعل احتمال الصدق في أحدهما أقوى من الآخر.

أمّا الشهرة الفتوائيّة التي يكون الكلام في أصل حجّيّتها، فهي أجنبيّة عن مفاد الحديث، ولم تثبت لنا في المرتبة السابقة حجّيّة إحدى الفتويين، كي نجعل الشهرة موجبة لتعيينها.


(1) راجع فوائد الاُصول للمحقّق الكاظميّ(رحمه الله)، ج 2، ص 54.

333

وعدم الالتفات إلى النكتة التي شرحناها أوجب إبراز الإشكال في الاستدلال بالحديث بصياغة عدم قابليّة هذا التعليل لجعله قاعدة عامّة. وواقع الأمر ما ذكرناه.

الثاني: ما رواه في عوالي اللآلي عن العلاّمة(رحمه الله) مرفوعاً عن زرارة قال: «سألت الباقر(عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأ يّهما آخذ؟ قال(عليه السلام): يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذّ النادر ...»(1).

وتقريب الاستدلال بذلك: أنّ مورد الحديث وإن كان هو الخبرين المتعارضين لكن المورد لا يخصّص الوارد، فمقتضى إطلاق قوله: «خذ بما اشتهر بين أصحابك» حجّيّة الشهرة وإن كانت في الفتوى.

وهذا الوجه ـ بغضّ النظر عن سقوط الحديث سنداً ـ يظهر ممّا مضى في المقبولة الإيراد عليه:

أوّلاً: بأنّه لم يثبت كون المراد بالشهرة الأكثريّة في قبال الأقلّيّة كما هو المصطلح عندنا، فلعلّ المراد بها الوضوح لدى الكلّ.

وثانياً: أنّ ظاهر الحديث كونه في مقام تعيين الحجّة دون تأسيس أصل الحجّيّة(2)، فلا يشمل مثل الفتويين المتعارضتين.

هذا مضافاً إلى ما يرد على الاستدلال بهذا الحديث من غير ما ذكرناه(3).

 


(1) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 9 من صفات القاضي، ح 2، ص 185.

(2) لعلّه أخذ ـ رضوان الله تعالى عليه ـ هذا الظهور من قول السائل: «بأيّهما آخذ»، فكأنّ الأخذ بأحدهما كان مفروغاً عنه فيطلب التعيين.

(3) لعلّه (رضوان الله عليه) يشير بذلك إلى ما قد يقال: من أنّ (ما) الموصولة من المبهمات التي يصلح المورد للمنع عن انعقاد الإطلاق لها في غير دائرة المورد، أو إلىمنع

334

الثالث: دليل حجّيّة خبر الواحد.

وتقريب الاستدلال به على حجّيّة الشهرة هو: أنّ المستظهر من دليل حجّيّة خبر الواحد أنّه ليست حجّيّته لملاك في نفسه، بل للطريقيّة إلى الواقع، وبذلك نتعدّى إلى الشهرة؛ لمساواتها في الكشف لخبر الواحد أو أقوائيّتها منه.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ المقارنة بين ما عرفته: من ملاك كشف الشهرة القائم على أساس حساب الاحتمالات، وما سيجيء إن شاء الله: من ملاك كشف خبر الثقة القائم على أساس حساب الاحتمالات، توضّح أنّ كشف الشهرة بما هي شهرة أضعف من كشف خبر الثقة بما هو خبر ثقة. نعم، يمكن أن تقترن صدفة الشهرة بما يوجب أقوائيّتها في الكشف، أو يقترن خبر الثقة بما يوجب أضعفيّة كشفه.

وثانياً: أنّ ملاك جعل الحكم الظاهريّ الطريقيّ ـ على ما يظهر ممّا مضى منّا: من قيامه على أساس التزاحم بين ملاكات الأحكام الواقعيّة ـ ليس هو الكشف فحسب، بل هو الكشف مع عدم كون ملاك ما تحفّظ عليه بهذا الحكم الظاهريّ مزاحماً بملاك أقوى يكسر قيمة الكشف، ونحن نحتمل في الشهرات المستثنى


تماميّة الإطلاق في الوارد حتّى لو لم يكن موصولاً؛ لصلاحيّة المورد للقرينيّة على شرح سيأتي منّا ـ إن شاء الله ـ في البحث عن الروايات التي قد يستدلّ بها على عدم حجّيّة خبر الواحد.

وهذا لا ينافي ما سيأتي منه(قدس سره) في بحث التعادل والتراجيح إن شاء الله: من استظهار أنّ المقصود من هذا الحديث هو الشهرة الفتوائيّة لا الروائيّة، فإنّ المقصود بذلك ليست هي حجّيّة كلّ فتوى مشهورة، وإنّما المقصود به كون الشهرة الفتوائيّة على طبق أحد الخبرين المتعارضين مرجّحة له على الخبر الآخر.

335

منها ما ورد خبر الثقة على طبقها عدم تحقّق مقتض للحجّيّة خال عن المزاحمة بما لا يُبقي داعياً لحفظ بعض الأغراض بجعل الحجّيّة، كما لو كان المولى يعلم أنّ أكثر الملاكات الإلزاميّة الثابتة ضمن موارد الشهرة واصلة بخبر الثقة أيضاً الذي جعله حجّة، ومعه لم يرَ مقتضياً لجعل الحجّيّة للشهرة(1).

وبما ذكرناه يبطل هذا الكلام السيّال في علم الاُصول، وهو إثبات أمارة بمساواتها في الكشف لأمارة اُخرى ثبتت حجّيّتها، أو أقوائيّتها من تلك الأمارة في الكشف(2).

 


(1) وللسيّد الخوئيّ بيان آخر لإبطال الاستدلال على حجّيّة الشهرة بدليل حجّيّة خبر الواحد، وهو إبداء احتمال كون ملاك حجّيّة خبر الواحد غلبة المطابقة للواقع، ولعلّ المولى كان يعلم غلبة مطابقة خبر الواحد للواقع وعدم غلبة مطابقة الشهرة له، ولم نعلم أنّ الملاك كان هو الظنّ كي نتعدّى إلى ما يساويه أو يقوى عليه في الظنّ.

وأورد عليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ على ما نقل عمّا لم أحضره في الدورة الأخيرة ـ بأنّ إفادة الشهرة للظنّ العقلائيّ المتعارف لا تنفكّ خارجاً عن غلبة مطابقتها للواقع، وهذا وجدانيّ بالإضافة إلى كونه مبرهناً عليه في بحث حساب الاحتمالات.

أقول: كأنّ هذا إشارة إلى ما استفاده(رحمه الله) في كتاب (الاُسس المنطقيّة للاستقراء) من معادلة برنولي: من أنّه إذا اتّسع عدد حادثة مّا نحتمل وقوع صدفة ضمن كلّ عدد منها كان احتمال تساوي عدد وقوع تلك الصدفة ضمن أعداد الحادثة لحاصل ضرب عدد الحادثة في درجة احتمال وقوع تلك الحادثة في مرّة بعينها أو اقترابه من التساوي قريباً من الواحد.

أقول: إنّ هذا الكلام وإن كان لا تبعد صحّته في نفسه لكن استفادته من معادلة برنولي محلّ إشكال على ما شرحنا ذلك في بعض تعاليقنا على كتاب (الاُسس المنطقيّة للاستقراء).

(2) قد يقال بالتهافت بين القول بحجّيّة مثبتات الأمارة والقول بعدم حجّيّة أمارة مساوية في الكشف للأمارة التي قام الدليل على حجّيّتها، أو أقوى منها.

336


وتوضيح ذلك: أن يقال: إنّه إذا كان العرف يفهم من دليل حجّيّة الأمارة حجّيّة مثبتاتها أيضاً بنكتة أنّ تمام المقياس هو الكشف الذي نسبته إلى المفاد الأوّليّ للأمارة والملازمات على حدّ سواء، فنفس النكتة توجب التعدّي إلى الأمارة الاُخرى المماثلة لهذه الأمارة أو الأقوى منها؛ لأنّ تمام النكتة في حجّيّة الأمارة الاُولى هي الكشف الثابت في الأمارة الثانية أيضاً بدرجة متساوية أو أقوى. وإذا كان العرف يحتمل أن لا يكون الكشف هو تمام النكتة في الحجّيّة فكما لا يتعدّى إلى الأمارة الثانية كذلك لا يبقى مبرّر لحجّيّة مثبتات الأمارة؛ إذ لعلّ نكتة الحجّيّة التي ليست هي الكشف محضاً تختصّ بالمفاد الأوّليّ للأمارة.

والواقع: أنّ دليل حجّيّة الأمارة تارةً يفرض شموله ابتداءً لمثبتات الأمارة في عرض شموله للمدلول الأوّليّ لها، وعندئذ لا شكّ في حجّيّة مثبتاتها من دون أن ينتقض ذلك بعدم حجّيّة الأمارة الثانية كما هو واضح. مثاله: ما إذا كان الدليل على حجّيّة خبر الثقة عبارة عن السيرة العقلائيّة التي نسبتها إلى المفاد الذي قصده المخبر وملازماته التي لم يقصدها على حدّ سواء.

واُخرى يفرض أنّ دليل حجّيّة الأمارة انصبّ بمضمونه ابتداءً على المدلول الأوّليّ للأمارة، لكنّنا تعدّينا إلى مثبتات الأمارة بعدم الفرق، وهذا هو الذي يمكن أن يتخيّل وروده نقضاً على المقام، فيقال: لو استظهر من دليل الحجّيّة أنّ تمام الموضوع للحجّيّة هو هذه المرتبة من الكشف فكما نتعدّى من الدلالة المطابقيّة إلى الملازمات كذلك نتعدّى من خبر الثقة مثلاً إلى كلّ ما يساويه في الكشف، ولو لم يستظهر ذلك لم نتعدّ لا إلى ما يساوي خبر الثقة في الكشف ولا إلى الملازمات.

والجواب: أنّ الأخبار الإلزاميّة ـ مثلاً ـ حينما جعلت حجّة يكون المستظهر لنا من

337

 

 


دليل حجّيّتها أنّه كان الملاك في الحجّيّة أنّ صدقها أكثر من كذبها الموجب لكون حجّيّتها مربحة للمولى للملاكات الإلزاميّة أكثر ممّا تخسّر المولى ملاكات ترخيصيّة، و ـ على الأقلّ ـ نحتمل أن يكون النظر إلى الأكثريّة العدديّة للصدق من الكذب لا مجرّد أقوائيّة الاحتمال بمعناها النفسيّ. وهذه الأكثريّة العدديّة بهذه النسبة قد تكون غير محفوظة في الشهرات المتساوية في الكشف لخبر الثقة، أو الأقوى منها ـ مثلاً ـ بعد استثناء ما طابقت منها مع أخبار الثقات؛ لاحتمال وقوع أكثر الشهرات الصادقة في دائرة (ما طابق الأخبار).

ولا يأتي مثل هذا البيان في الدلالات الالتزاميّة، بأن يقال: إنّ المثبتات بعد استثناء ما طابق منها صدفة لدلالات مطابقيّة لأخبار اُخرى لعلّ نسبة الصدق في الباقي منها إلى الكذب فيه تكون أقلّ من نسبة الصدق في الدلالات المطابقيّة إلى الكذب فيها.

فإنّه يقال في الجواب على ذلك: إنّنا نشير إلى ذاك العدد من الأخبار التي لم تكن مثبتاتها مستفادة من أخبار اُخرى بالمطابقة ونقول: إنّ الدلالات المطابقيّة لتلك الأخبار نسبة مساهمتها في خلق الترجيح بغلبة الصدق في أيّ دائرة وضعت لا تكون أكبر من نسبة مساهمة مثبتاتها في خلق ذاك الترجيح حينما توضع في نفس تلك الدائرة بدلاً عن دلالاتها المطابقيّة؛ إذ المفروض أنّه لا يحتمل كذب اللوازم مع كذب المطابقيّة، فنستدلّ بحجّيّة دلالاتها المطابقيّة على حجّيّة المثبتات.

339

الأمارات الظنّيّة

4

 

خبر الواحد الثقة

 

○أدلّة عدم حجّيّة الخبر.

○أدلّة حجّيّة الخبر.

 

 

341

 

 

 

 

 

 

 

الأمارة الثالثة: خبر الواحد الثقة. ويُقصد بخبر الواحد ما لم يبلغ حدّ التواتر(1).

ولنبحث أوّلاً أدلّة عدم حجّيّته:

 

أدلّة عدم حجّيّة الخبر

قد اُستدلّ على عدم حجّيّة خبر الواحد بالأدلّة الأربعة:

 

1 ـ دعوى التمسّك بالكتاب:

أمّا الكتاب: فاستدلّ بالآيات الناهية عن الظنّ بلسان ﴿لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم﴾(2)، أو بلسان ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾(3) بدعوى شمول إطلاقها للظنّ الخبريّ.


(1) ذكر (رضوان الله عليه) هنا كلاماً عن كون هذا البحث داخلاً في علم الاُصول وعدمه، ودخل بهذه المناسبة في تعريف علم الاُصول، وقد حذفت ذلك اكتفاءً بما ذكره في أوّل علم الاُصول في دورته الأخيرة.

(2) سورة الإسراء، الآية: 36.

(3) ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلّاَ ظَنّاً إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾. سورة يونس، الآية: 36، ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْم إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾. سورة النجم، الآية: 28.

342

وقد أجاب على ذلك المحقّقون بما يرجع محصّله إلى وجوه ثلاثة:

الأوّل: دعوى حكومة أدلّة حجّيّة خبر الواحد على هذه الآيات؛ لأنّ موضوعها الظنّ وعدم العلم، وأدلّة حجّيّة خبر الواحد تجعل العلم والطريقيّة لخبر الواحد، فيخرج خبر الواحد عن كونه ظنّاً أو عدم كونه علماً.

ويرد عليه ـ بغضّ النظر عن الإشكال على أصل المبنى: من كون مفاد أدلّة حجّيّة خبر الواحد هو جعل الطريقيّة والعلم ـ: أنّنا لو لم نسلّم دلالة هذه الآيات في نفسها على عدم حجّيّة الظنّ حتّى بالنسبة للقياس فضلاً عن خبر الواحد، فلا موضوع للحكومة، فإنّ الحكومة فرع التعارض البدويّ. ولو سلّمنا دلالتها في نفسها على عدم حجّيّة الظنّ فكما أنّ دليل حجّيّة الظنّ يدلّ ـ بحسب مذاقهم ـ على جعله علماً، كذلك دليل عدم حجيّته يدلّ على عدم جعله علماً، فهما دليلان في عرض واحد تعارضا في جعل خبر الواحد علماً وعدمه، ولا مبرّر للحكومة. نعم، لا بأس بحكومة دليل جعل خبر الواحد علماً على أدلّة الأحكام المترتّبة على العلم وعدمه كدليل حرمة الإفتاء بغير علم. أمّا الدليل الذي ينفي حجّيّة الظنّ فهو في عرض الدليل الذي يثبت حجّيّته وينفي كون الظنّ علماً، كما أثبت دليل الحجّيّة كونه علماً. فهما متعارضان(1).

 


(1) هذا بناءً على المذاق الذي يرى أنّ الحجّيّة مطلقاً أو ـ على الأقلّ ـ في الأمارات لا يتصوّر لها مغزىً غير جعل العلم، فيقال عندئذ: كما أنّ دليل الحجّيّة يدلّ على جعل العلم كذلك دليل عدم الحجّيّة يدلّ على نفي جعل العلم. أمّا لو قيل: إنّ حمل دليل حجّيّة خبر الواحد على جعل العلم إنّما هو أمر استظهاريّ من بعض ألسنة الدليل، كقوله: «ليس لأحد التشكيك فيما يروي عنّا ثقاتنا»، وليس كلّ دليل يثبت الحجّيّة أو ينفيها فهو يثبت جعل العلم أو ينفيه، أمكن دعوى حكومة خصوص ذاك اللسان على آيات النهي عن

343

الثاني: أنّنا لو غضضنا النظر عن الحكومة وفرضنا أنّ دليل حجّيّة خبر الواحد لا يتكفّل جعل العلم والطريقيّة، بل يتكفّل جعل الحكم المماثل مثلاً، فأدلّة حجّيّة خبر الواحد تتقدّم على تلك الآيات بالأخصّيّة؛ لأنّها واردة في مطلق الظنّ، وتلك الأدلّة تختصّ بخبر الواحد.

وهذا الكلام بهذا النحو من الإهمال غير صحيح، بل لابدّ من استحضار الصور التفصيليّة لأدلّة حجّيّة خبر الواحد كي يرى أنّ هذا الجواب يتمّ بلحاظها أو لا؟ وباستحضار تلك الصور يعرف أنّ الجواب بالأخصّيّة يتمّ بلحاظ بعضها، ولكن بعضها الآخر ـ لو تمّت دلالته ـ لا معنى لتقديمه على الآيات بالأخصّيّة.

فسيرة العقلاء مثلاً ـ إن تمّت دليلاً على حجّيّة خبر الواحد ـ يجب أن يرى أنّها هل هي في الاستحكام بمرتبة لا تعدّ مثل هذه الآيات ردعاً لها، أو لا؟ فعلى الأوّل تقدّم على الآيات وإن فرضت غير أخصّ. وعلى الثاني لا تقدّم عليها وإن فرضت أخصّ.

وآية النبأ إن تمّت دليلاً على حجّيّة خبر الواحد، فنسبتها إلى تلك الآيات عموم من وجه، فإنّ أحسن تقريب لثبوت المفهوم لها ـ وإن كان المختار عدم ثبوت المفهوم لها ـ هو: أنّها تدلّ بمفهوم الشرط على عدم وجوب التبيّن عند عدم مجيء الفاسق بنبأ، وهذا يشمل بإطلاقه صورتي مجيء العادل بنبأ وعدمه، ففي


العمل بغير العلم، وكذلك لو اُستفيد من ذاك اللسان التنزيل منزلة العلم. نعم، يبقى الإشكال في أصل المبنى بأن يقال: إنّ جعل العلم التعبّديّ لا أثر له؛ لأنّ الأثر كان للعلم الوجدانيّ، وأنّ روح المستفاد من الدليل ليس عدا الاهتمام بالأغراض الواقعيّة، لا جعل العلم ولا التنزيل منزلة العلم، وليست هذه عدا صياغات تعبيريّة تشير إلى ذاك المعنى.