610

 

الخبر المعارض لأمارة غير حجّة:

الجهة الخامسة: في أنّه إذا كان خبر الثقة بذاته مورثاً للظنّ المستند إلى الوثاقة لكنّه تعارض مع أمارة اُخرى غير حجّة، وأوجب ذلك سقوطه عن إيراث الظنّ، فهل يبقى على حجّيّته، أو لا ؟

وهذا التعارض ينقسم إلى قسمين: فإنّه تارةً يفرض تعارضه مع أمارة اُخرى، وانتفاء الظنّ الحاصل منه بلحاظ حالة شخصيّة لشخص خاصّ لا يشترك فيه نوع العقلاء، وإنّما يكون ناشئاً عن انحراف ذاك الشخص عن الحالة العقلائيّة المتعارفة. واُخرى يفرض تعارضه مع أمارة اُخرى، وانتفاء الظنّ الحاصل منه في نظر نوع العقلاء، فكلّ عاقل يطّلع على تلك الأمارة المعارضة لا يبقى له عادة ظنّ ناشئ من هذا الخبر.

أمّا القسم الأوّل: فكما لو كان الشخص وهميّاً بحسب حالته النفسيّة، فيعتمد على اُمور وهميّة، فالرؤيا مثلاً تورث له الظنّ بالحكم، ففي مقام الكشف يوقع المعارضة بين الرؤيا وخبر الثقة، ويسقط خبر الثقة عن الكشف.

أو لم يكن وهميّاً في نفسه، ولكن أثّرت فيه اُمور خارجيّة أوجبت له عقدة نفسيّة، كما لو ابتلى صدفة في حياته بأخبار كاذبة كثيرة واردة من الثقات فحصلت له العقدة تجاه خبر الثقة، فأوجبت تلك العقدة إيقاعه للمعارضة بين خبر الثقة، وأدنى أمارة مخالفة بنحو ينتفي في نفسه الظنّ الناشئ من خبر الثقة.

نعم، لو فرض أنّ رؤيته لتلك الأخبار الكاذبة أوجبت تغيير موضوع حساب الاحتمالات في خبر الثقة في ذهنه، فبالرغم من أنّ الناس يعتقدون أنّ الثقة يصدق بمقدار تسعين من المئة ـ مثلاً ـ يعتقد هذا الشخص أنّه يصدق بمقدار سبعين من المئة، وأنّ كلّ مَن اطّلع على ما اطّلع عليه من كذب الثقات لصدّقه في

611

ذلك، فينتفي من نفسه الظنّ إذا تعارض خبر الثقة مع أمارة اُخرى تكشف أيضاً بمقدار سبعين من المئة، كان هذا خارجاً عمّا نحن فيه؛ إذ هو يعتقد أنّ زوال كاشفيّة هذا الخبر ليس بملاك خاصّ في نفس هذا الشخص، بل هو بملاك عامّ لو اطّلع عليه كلّ عاقل لصدّقه، وإنّما الكلام في المقام يكون فيما إذا فرض أنّه بالرغم من موافقته لسائر العقلاء في النسبة المئويّة لصدق خبر الثقة يختلّ في ذهنه تأثير حساب الاحتمالات، وينتفي الظنّ بالتعارض مع أدنى أمارة لأجل ماله من عقدة نفسيّة تجاه خبر الثقة ناشئة من اجتماع أخبار الثقات الكاذبة صدفة لديه، نظير العقدة النفسيّة التي قد تحصل للإنسان تجاه الطبيب بالرغم من علمه بإصابته للواقع غالباً، وذلك من ناحية ابتلائه صدفة في حياته الشخصيّة بأخطاء الأطبّاء.

وكما لو كانت حركة حساب الاحتمالات سريعة في ذهنه، فهذا قسم ثالث يوجب أيضاً انتفاء كشف خبر الثقة من نفسه بتعارضه مع بعض الأمارات من دون موافقة سائر العقلاء معه في ذلك، كما لو فرض أنّه أخبره ثقة بشيء، وسمع أيضاً همهمة من ثقة آخر مقترنة ببعض القرائن، فأوجب ذلك له الظنّ بأنّ هذا الثقة كذّب ذاك الثقة مع أنّ حساب الاحتمالات في ذلك لم يتوفّر بنحو يوجب هذا الظنّ في متعارف العقلاء، وكان ذلك بنحو أوجب انتفاء الظنّ من نفسه الحاصل من خبر الثقة الأوّل.

وقد نقل السيّد الاُستاذ عن بعض أنّه كان يحصل له القطع بالحكم الشرعيّ عن اتّفاق الشيخ الأنصاريّ، والسيّد ميرزا حسن الشيرازيّ، والشيخ ميرزا محمّد تقي الشيرازيّ على فتوى من الفتاوى، فنقول: إنّ هذا الشخص لو اطّلع على توافق اثنين من هؤلاء على فتوى حصل له الظنّ بالصحّة، فلو تعارض ذلك مع خبر الثقة فقد يسقط خبر الثقة في نظره عن الكشف.

وخلاصة الكلام: أنّه متى ما كان انتفاء الكشف في خبر الثقة بأمر من هذا

612

القبيل، أي: بالمعارضة لأمارة مّا بحسب حالة شاذّة لهذا الشخص، فهل يبقى خبر الثقة حجّة، أو لا ؟ التحقيق: بقاؤه على الحجّيّة، ولا نحتاج في ذلك إلى تكلّف إثبات انطباق السيرة على ذلك حتّى يناقش فيه أو لا يناقش، بل يكفينا إطلاق حديث «العمريّ وابنه ثقتان» ونحوه، وليست هناك قرينة على خلاف هذا الإطلاق: من ارتكاز عقلائيّ، فإنّ جعل الحجّيّة لخبر الثقة رغم تزاحمه بمثل هذه الأمارات لغلبة صدقه على صدقها إن لم يكن عليه ارتكاز العقلاء، فلا أقلّ من عدم الارتكاز العقلائيّ على خلافه.

وأمّا القسم الثاني: فكما لو تعارض خبر الثقة مع أخبار عديدة من غير الثقات، أو مع الشهرة، أو نحو ذلك من الأمارات الظنّيّة، ففقد ما كان له من الكشف بحسب نظر العقلاء، فعندئذ هل يكون هذا الخبر حجّة، أو لا ؟ تارةً يستشكل في حجّيّته ثبوتاً، واُخرى يستشكل فيها إثباتاً:

أمّا الإشكال الثبوتيّ: فبتقريب أنّ مبنانا في الأحكام الظاهريّة يكون على الطريقيّة لا السببيّة، وعليه فلا يعقل ثبوتاً جعل الحجّيّة لهذا الخبر؛ لأنّ جعلها له دون نقيضه ترجيح بلا مرجّح. وبكلمة اُخرى: إنّ ملاك الحجّيّة غير موجود في المقام؛ لأنّ ملاكها الكشف، وهو غير ثابت لهذا الخبر، فإنّ نسبة هذا الخبر ونقيضه إلى الواقع على حدّ سواء.

وأمّا الإشكال الإثباتيّ: فتقريبه أنّ الوثاقة كما عرفت اُخذت بما لها من الكشف لا بما هي حالة نفسيّة، ومع قطع النظر عن الكشف يصبح التعليل بالوثاقة تعليلاً تعبّديّاً صرفاً، والمفروض أنّ الخبر فيما نحن فيه غير كاشف بالفعل، واقتضاء الكشف غير الكشف.

وربّما يجاب عن الإشكالين بأنّ من الممكن افتراض أنّ المولى رأى أنّ الموافق للواقع في أخبار الثقات المعارضة للشهرة ـ مثلاً ـ أكثر من الموافق للواقع

613

في تلك الشهرات، فيعقل ثبوتاً جعله للحجّيّة لخبر الثقة المعارض للشهرة. كما ينتفي بذلك أيضاً الإشكال الإثباتيّ؛ لأنّ الكشف المأخوذ في الدليل يحمل على الكشف لدى المولى، فلو كان المولى يرى أنّ صدق خبر الثقة المعارض للشهرة أكثر من صدق الشهرة المعارضة له فالكشف ثابت في المقام، ولو اطّلع العبد على ذلك عرف كاشفيّة خبر الثقة.

ولا يرد على هذا التقريب: ما نقوله في بعض الأحيان: من أنّه ليس البناء على إعمال الغيب في مقام بيان الأحكام الشرعيّة، فإنّ ما قلناه إنّما هو بالنسبة للموضوعات الخارجيّة للأحكام، فلو قال السائل مثلاً: (هل أغتسل في هذا اليوم ؟) فقال الإمام: (نعم)، لم يحمل ذلك على أنّه(عليه السلام) كان يعلم بعلم الغيب بكونه مجنباً، فأمره بالغسل، إنّما يحمل على استحباب الغسل في ذلك اليوم. وأمّا بالنسبة لنفس الأحكام، وحدودها وملاكاتها التي يكون حسابها على المولى، فلابدّ للمولى من النظر إلى تمام الجهات ولو بإعمال الغيب حتّى يحكم.

كما أنّه لا يرد على هذا التقريب: أنّه بعد فرض تقيّد الحكم بالكاشفيّة يكون التمسّك هنا بالإطلاق تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فإنّ إحراز الكاشفيّة بمعنى غلبة الصدق في نظر المولى غير متحقّق لنا، فكيف نتمسّك بالإطلاق ؟ أو إحراز ذلك من نفس الإطلاق فيستبطن الدور.

والجواب على ذلك من قبل صاحب هذا الوجه: أنّ هذا المخصّص اللبّيّ ـ مثلاً ـ أحرزه نفس المولى، فإطلاق كلامه كإطلاق قوله: (أكرم جيراني) الدالّ على عدم وجود عدوّ له في جيرانه، إذا علم أنّه لا يريد إكرام عدوّه.

ولكن التحقيق: أنّ هذا التقريب وإن دفع الإشكال الثبوتيّ، لكنّه لا يدفع الإشكال الإثباتيّ، فإنّ ظاهر الدليل كان هو أخذ الوثاقة بما لها من الكشف، فالكشف لابدّ أن يكون مستنداً إلى الوثاقة كي يدخل الخبر في إطلاق دليل حجّيّة

614

خبر الثقة، والكشف بالنحو الذي بيّن في هذا التقريب لا يكون ناشئاً من الوثاقة، وإنّما المفروض أنّ المولى اطّلع على هذه الأخبار فرأى أنّ موافقتها للواقع أكثر من موافقة الأمارة الاُخرى المعارضة له. أمّا لو فرضنا المولى إنساناً اعتياديّاً غير مطّلع على ذات الواقع، ومحتاجاً في الكشف إلى عنوان الوثاقة، فسوف لن يرى أنّ النسبة المئويّة في الصدق في جانب خبر الثقة المعارض للشهرة ترجّح على النسبة المئويّة في الصدق في جانب الشهرة المعارضة له.

والصحيح مع ذلك هو حجّيّة خبر الثقة وإن عارضته أمارة اُخرى غير حجّة فانتفى كشفه في مورده، فإنّه ليس في ذلك محذور ثبوتيّ ولا إثباتيّ: أمّا المحذور الثبوتيّ فيكفي في دفعه التقريب السابق. وأمّا المحذور الإثباتيّ ـ وهو أخذ الكشف في دليل الحجّيّة ـ فندفعه بتقريب جديد. وتوضيحه: أنّ خبر الثقة في نفسه كاشف باعتبارين:

الأوّل: كشفه باعتبار مورده الخاصّ، وهذا الكشف تنتفي فعليّته بالتعارض مع أمارة اُخرى مثله في درجة الظنّ، بل في الحقيقة إنّ تعبيرنا بأنّ هذا الخبر يقتضي الكشف ولكن لم يصل اقتضاؤه إلى مرحلة الفعليّة لوجود المانع مسامحة في الكلام، والواقع أنّه بهذه المعارضة ينتفي أصل المقتضي للكشف؛ إذ الكشف في الأمارات الظنّيّة قائم على أساس حساب الاحتمالات المرتكز على أساس العلم الإجماليّ، والوجه في حصول الكشف الظنّيّ هو ثبوت المنكشف على تقدير أكثر أطراف العلم الإجماليّ، كما لو فرضنا أنّ دواعي الصدق في الثقة ثلاثة، وداعي الكذب واحد، فإذا أخبرنا بخبر علمنا إجمالاً بتحقّق أحد الدواعي الأربعة، والعلم الإجماليّ ينقسم على أطرافه بالتساوي، فيحصل الظنّ بالصدق بقدر ثلاثة أرباع اليقين، ولنفرض أنّ الأمارة التي عارضت خبر الثقة ـ وهي الشهرة مثلاً ـ توجد أسباب ثلاثة لموافقتها للواقع، وسبب واحد لمخالفتها، فإذا دلّ الخبر على شيء،

615

ودلّت الشهرة على نقيضه كان لنا علمان إجماليّان أحدهما في جانب الخبر،والآخر في جانب الشهرة، وهما يتفاعلان في علم إجماليّ ثالث عدد أطرافه عبارة عن حاصل ضرب أطراف أحد العلمين في أطراف الآخر مع استثناء ما يتحصّل بالضرب من الصور غير المعقولة، وهذا العلم الإجماليّ الثالث هو الذي يقتضي تحديد قيمة الأطراف، وقد فرضنا في هذا المثال أنّ أطراف كلّ واحد من العلمين الأوّلين أربعة، فحاصل الضرب ستّة عشر، وفروض موافقة الشهرة والخبر في المطابقة للواقع أو المخالفة له غير معقولة؛ لأنّ المفروض تناقض مدلوليهما، فتستثنى ستّة فروض، ثلاثة منها في صالح الخبر، وهي فروض اجتماع أحد دواعي الصدق الثلاثة في الخبر مع سبب المخالفة للواقع في الشهرة، وثلاثة منها في صالح نقيض الخبر، وهي فروض اجتماع أحد الأسباب الثلاثة لموافقة الشهرة للواقع مع داعي الكذب في الخبر، فلم يبق هناك اقتضاء للكشف الظنّيّ للخبر، على شرح وتحقيق مربوط بأبحاث حساب الاحتمالات وليس هنا محلّه، فنقتصر على ما ذكرناه من الإشارة.

الثاني: كشفه باعتباره دخيلاً في تكوين العلم الإجماليّ بصدق مقدار خاصّ، فهو جزء الكاشف عن ذلك المقدار الخاصّ، توضيح ذلك: أنّنا نفترض أنّ لدينا مئة خبر من أخبار الثقات، وقد وقع التعارض بين مدلول خمسين منها ومدلول خمسين شهرة، ولا مانع ثبوتاً من جعل المولى الحجّيّة للأخبار المعارضة للشهرة، ولو من باب علمه تعالى بأنّ هذه الأخبار مطابقة للواقع دون ما يعارضها من الشهرة، لكن بحسب عالم الإثبات لم يثبت لنا عدا حجّيّة خبر الثقة الذي يكون لوثاقته كشف، ومعنى ذلك أنّنا نفرض المولى شخصاً متعارفاً يحتاج إلى الكشف من ناحية الوثاقة دون مولانا تبارك وتعالى العالم بكلّ شيء، فنرى أنّه هل تكون هذه الأخبار الخمسون للثقات لها جنبة كشف بالنسبة له، أو لا ؟ والجواب بالإيجاب؛ وذلك لأنّ العلم الإجماليّ بصدق عشرة من مئة ثقة ـ مثلاً ـ المستنتج بقانون

616

المنطق الذاتيّ تكون هذه الأخبار الخمسون جزء العلّة في تكوينه، وهذا الكشف له استناد إلى الوثاقة باعتبار أنّه لولا وثاقتهم لم يحصل العلم بصدق عشرة منهم.

ويتدخّل في تحقّق هذا العلم الإجماليّ المضعّف الكيفيّ، فلو استبدلنا هذه الأخبار الخمسين بالشهرات الدالّة على نقيضها لم يحصل ذلك العلم؛ لفقدان ما كان من المضعّف الكيفيّ، وهو وحدة سنخ الأمارات.

نعم، لو غضّ النظر عن المضعّف الكيفيّ ولوحظ ما يحصل من الظنّ بواسطة المضعّف الكمّيّ فنسبة حصول الظنّ إلى هذه الأخبار الخمسين ونقيضها المستفاد من الشهرات على حدّ سواء، ولا يفترق الكشف بالاستبدال. وبكلمة اُخرى: تتساوى نسبة هذه الأخبار ونقيضها إلى الواقع والكشف عنه، ولا نعني بعدم تأثير الخبر في الكشف عدا تساوي نسبته هو ونقيضه إلى الواقع، فيتمّ عندئذ الإشكال الإثباتيّ، وقد اتّضح بذلك أنّ الإشكال الإثباتيّ إنّما يتوجّه بقطع النظر عن المضعّف الكيفيّ، أمّا بالنظر إليه فلا يبقى موضوع للإشكال.

إن قلت: إنّ المضعّف الكيفيّ يؤثّر في تقوية ظنّ الصدق بالنسبة لكلّ واحد واحد من الأخبار، فيصير كلّ واحد من الأخبار الخمسين أرجح من الشهرة الدالّة على نقيضه، فيحصل الظنّ بصدق كلّ واحد بخصوصه، فلماذا سلّمتم عدم الكشف بالاعتبار الأوّل، أعني: اعتبار المورد؟!

قلت: نفرض قوّة كلّ واحدة من الشهرات في نفسها، أي: من جهات اُخرى خارجيّة بحيث يحصل التعادل بينها وبين خبر الثقة بما له من الكشف الإضافيّ الذي اكتسبه من المضعّف الكيفيّ(1).

 


(1) لا يخفى أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عدل عن هذا الرأي في بحث الطهارة، فردّ ما اختاره هنا لدى تعرّضه لمسألة مطهّريّة ماء الورد بأنّ ظهور دليل الحجّيّة في الانحلال،

617


وملاحظة كلّ فرد فرد، وعدم فرض أفراد كثيرة في المقام، كلّ هذا دليل على أنّ الملحوظ هو كاشفيّة خبر الثقة في كلّ مورد مورد لا كاشفيّته باعتبار العموم المجموعيّ وتدخّله في تكوّن ذلك العلم الإجماليّ، فإطلاق دليل الحجّيّة قاصر عن الشمول للخبر المبتلى بالمزاحم في الكشف. هذا ما أفاده في ذاك البحث، ولكنّه لم يطبع في كتابه(رحمه الله)المسمّى بــ (بحوث في شرح العروة الوثقى).

أقول: إنّ هذا المقدار من البيان لم يكن كافياً للعدول عن مبنى القول بحجّيّة خبر الثقة المعارض بأمارة ظنّيّة غير حجّة، بل كان لابدّ أيضاً لكي يتمّ هذا العدول أن يبطل ما ذكره هنا: من الاستشهاد بالأخبار العلاجيّة.

وعلى أيّة حال، فالإشكال الذي أورده في بحث الطهارة على ما ذكره هنا متين. وحتّى لو غضضنا النظر عنه يمكن أن يقال: إنّ احتمال دخل إيراث الخبر للظنّ بصدق مورده، وهو الكشف الأوّل في حجّيّة الخبر وارد، ولو بنكتة أنّ الكشف الثاني في موارد الأخبار المظنونة الصدق أقوى، ولم يعلم ثبوت السيرة على عدم اشتراط ذلك في حجّيّة الخبر، ولم يعلم كون خبر ثقة من هذا القبيل كان كثير الابتلاء به في زمان الأئمّة(عليهم السلام)، كي يجري التقريب السابق لإثبات السيرة، ولم يعلم كون مثل قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان» ظاهراً عرفاً في دخل الكشف الثاني فحسب دون الأوّل.

على أنّنا ننكر في المقام التفكيك خارجاً بين الكشفين بالمقياس الرياضي فهما متلازمان؛ إذ لو فرضنا أنّ تبديل الروايات الخمسين بالشهرات أعطى احتمال تواجد الواقع قوّة بجهات خارجيّة بقدر ما فقدنا القوّة الناتجة من المضعّف الكيفيّ، فالكشف الرياضيّ بالاعتبار الثاني أيضاً لم يختلف عنه عمّا قبل التبديل، إذن فنسبة هذه الأخبار ونقيضها إلى الكشف عن الواقع على حدّ سواء في كلا الاعتبارين، فبالتالي فقدنا الكشف

618


بكلا الاعتبارين. نعم، المضعّف الكيفيّ يمتاز بتأثيره في تولّد العلم الإجماليّ غير المطابق للحساب الرياضيّ بصدق عشرة مثلاً، ولكن حجّيّة خبر الثقة لم تكن قائمة على أساس تولّد هذا العلم أصلاً، فإنّ تأثير هذا العلم في الجعل الذي يكون على شكل القضيّة الحقيقيّة بعيد؛ لأنّه ليس ممّا يقرّب المولى إلى أهدافه الواقعيّة، وإنّما الذي يقرّبه إليها هو مقدار الكشف الرياضيّ.

فقد اتّضح: أنّ هذا الوجه المختار لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لحلّ الإشكال في المقام غير تامّ.

وقد اختار اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في دورته المتأخّرة القول بعدم حجّيّة خبر الثقة المعارض بأمارة أقوى منه غير حجّة على ما نقل عنه في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله(1)، وذلك بدعوى عدم شمول السيرة العقلائيّة لمثل هذا الخبر؛ لأنّ الوثاقة التي هي ملاك الحجّيّة عقلائيّاً إنّما هي ملحوظة باعتبار الكشف المنكسر في المقام، وعدم تماميّة تقريب الاستدلال بسيرة المتشرّعة فيه، وانصراف السنّة اللفظيّة عنه. ولم يرد في تقرير السيّد الهاشميّ ردّ على الدليل الذي ذكره اُستاذنا في الدورة السابقة والذي ردّه في بحث الطهارة كما قلنا.

وبالإمكان أن يقال: إنّناقد فرغنا فيما سبق عن عدم ورود ما مضى: من الإشكال الثبوتيّ في المقام: من أنّ نسبة الكشف إلى مفاد الخبر ونقيضه على حدّ سواء، فلا يعقل ثبوتاً جعل الحجّيّة له التي هي بملاك الكشف والطريقيّة؛ وذلك لما مضى: من الجواب عليه بأنّ من الممكن افتراض أنّ المولى رأى أنّ الموافق للواقع في أخبار الثقات المعارضة للشهرة مثلاً أكثر من الموافق للواقع من تلك الشهرات، فيعقل ثبوتاً جعله للحجّيّة لخبر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع بحوث في علم الاُصول للسيّد الهاشميّ، ج 4، ص 426.

619


الثقة المعارض للشهرة. إذن لم يبق في المقام عدا الإشكال الإثباتيّ، وهو ما يستظهر من الدليل: من أنّ الوثاقة اُخذت بما لها من الكشف وقد انتفى الكشف في المقام بسبب المعارضة للشهرة.

وبالإمكان الجواب على هذا الإشكال بأنّ المفهوم من أخذ الوثاقة وإن كان عرفاً هو أخذها بما لها من الكشف عند النصّ، ولكن يكفي في إشباع هذا الاتّجاه العرفيّ في فهم الكلام ما لها من الكشف النوعيّ الثابت حتّى عند المعارضة للشهرة، فإنّ الذي ينتفي بمعارضة الشهرة ـ مثلاً ـ إنّما هو الظنّ الشخصيّ، وكذلك الظنّ النوعيّ بلحاظ مجموع الأمارتين المتعارضتين، أو قل: الظنّ النوعيّ، بمعنى كون الخبر مفيداً للظنّ لغالب الناس، ولكنّه على أيّ حال لم ينتف الظنّ النوعيّ بلحاظ ذات خبر الثقة بمعنى كون خبر الثقة غالباً مفيداً للظنّ، أو كونه في ذاته غالب المطابقة للواقع، ولا موجب لانصراف الإطلاق عن ذلك إلّا دعوى مخالفته للسيرة والارتكاز العقلائيّين. والواقع: أنّه لو كان دليلنا على حجّيّة خبر الثقة منحصراً بالسيرة لما أمكن حلّ الإشكال الإثباتيّ؛ لعدم وضوح ثبوت سيرة على حجّيّة خبر الثقة المعارض بأمارة غير حجّة تساويه أو تفوقه في الكشف، وبالتالي تكسر الظنّ الذي كان المفروض أن يتولّد ببركة الخبر، ولكن ليس هناك ارتكاز لعدم الحجّيّة أيضاً كي يسقط به إطلاق الدليل اللفظيّ. وتوضيح ذلك: أنّنا لو تكلّمنا في السيرة العقلائيّة، فصحيح أنّ السيرة العقلائيّة إن فسّرت بمعنى عملهم في معاشهم بخبر الثقة كان من الواضح عدم شمولها لخبر ثقة انكسر الظنّ الناشئ منه بمعارضته لأمارة اُخرى غير حجّة، ولكن حينما نفسّر السيرة العقلائيّة بمعنى أنّهم بما هم موالي يجعلون الحجّيّة لخبر الثقة، أو بمعنى أنّ المولويّات المجعولة من قِبَل العرف والعقلاء مجعولة في دائرة الأحكام الواصلة بخبر الثقة، فالسيرة العقلائيّة والارتكاز العقلائيّ بهذا المعنى إن لم

620

وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه: أنّ خبر الثقة حجّة ولو كان معارضاً لأمارة اُخرى غير حجّة أوجبت انتفاء كشفه.

ويؤيّد ذلك بعض الأخبار العلاجيّة، حيث جاء فيه الترجيح بموافقة الكتاب، وبعد فرض التساوي من هذه الناحية بمخالفة العامّة، فإنّ هذا دليل على أنّ الخبر المخالف للكتاب كان في نفسه حجّة حتّى في فرض تعارضه مع الخبر الموافق


يكونا قائمين على حجّيّة خبر الثقة المعارض لأمارة غير حجّة مساوية له في الكشف أو أقوى منه كما هو الحال في حجّيّة الظهور، فلا إشكال في عدم استبعاد العقلاء لحجّيّة هذا النوع من الخبر كاستبعادهم لحجّيّة التفاؤل، والقرعة، والاستخارة، كي يمنع ذلك عن انعقاد الإطلاق للدليل اللفظيّ.

وأمّا سيرة أصحاب الأئمّة فاكتشاف ثبوتها على حجّيّة خبر الثقة المعارض للأمارة غير الحجّة المساوية له في الكشف أو الأقوى منه بالتقريب الذي مضى عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في إثبات السيرة على أصل حجّيّة خبر الثقة مشكل؛ لعدم وضوح كثرة الابتلاء وقتئذ بخبر ثقة من هذا القبيل كي يتمّ هنا ذاك التقريب.

فتحصّل إلى هنا: أنّ هذا التقريب لحلّ الإشكال في المقام كفيل بحلّ الإشكال الإثباتيّ بلحاظ الدليل اللفظيّ لا بلحاظ السيرة، ونضمّ هذا التقريب إلى ما مضى: من الجواب على الإشكال الثبوتيّ، كي ندفع بمجموعهما الإشكال الثبوتيّ والإثباتيّ معاً.

هذا. ولكن الظاهر أنّ دعوى انصراف دليل حجّيّة خبر الثقة عن خبر معارض بأمارة عقلائيّة تسقط كشفه متين، فإنّ المترقّب من العقلاء هو أنّهم لو أرادوا جعل الحجّيّة لخبر الثقة فإنّما يجعلونها في غير هذا المورد، وهذا يكفي للانصراف (بلا حاجة إلى افتراض ارتكاز عدم الحجّيّة كالارتكاز الثابت في التفاؤل والاستخارة)، فإنّ المفهوم عرفاً وعقلائيّاً من دليل الحجّيّة: أنّ الحجّيّة جعلت بنفس النكتة التي لو كان العقلاء يجعلون الحجّيّة لكانوا يجعلونها بتلك النكتة.

621

للكتاب، وترجيح الثاني عليه بموافقة الكتاب، مع أنّ الخبر المخالف للكتاب بمثلالتخالف العموميّ أو الإطلاقيّ ينتفي غالباً كشفه بمعارضته لكشف العموم أو الإطلاق الكتابيّ(1).

وإن لم نسلّم دعوى هذه الغلبة بنحو يوجب الاستشهاد على المطلوب بهذا التقريب أمكننا تأييد المطلوب بهذا الحديث بتقريب آخر، وهو: أنّ هذا الحديث دلّ على أنّه إذا كان أحد المتعارضين موافقاً للكتاب وللعامّة، والآخر مخالف للعامّة وللكتاب قدّم الأوّل على الثاني. فالأوّل في هذا الفرض حجّة مع أنّه معارض بما يساويه في الكشف عادةً أو يتقارب منه؛ إذ الأوّل وإن كان مؤيّداً في قبال الثاني بموافقة الكتاب ومخالفة الثاني له، لكن الثاني أيضاً مؤيّد في قبال الأوّل بمخالفته للعامّة وموافقة الأوّل له، فهاتان أمارتان متساويتان تقريباً(2).

على أنّنا نقول: إنّ ظاهر(3) كلام الإمام(عليه السلام) في هذا الخبر عرفاً هو أنّ كلّ واحد من الخبرين بالرغم من ابتلائه بالمعارض فيه اقتضاء الحجّيّة بحيث لو أمكن جعلهما معاً حجّة لجعلا حجّة، ولكنّه لا يمكن ذلك، فجعلت الحجّيّة مختصّة


(1) هذا غير واضح بعد فرض قيام ديدن الشريعة على التخصيص والتقييد، أو فرض كون هذا جمعاً عرفيّاً، أمّا لو لم نفرض هذا ولا ذاك فقد بطل أصل الجمع بالتخصيص والتقييد، وصار حال المخصّص والمقيّد حال المعارض بالتباين.

(2) قد يقال: إنّه إن تمّ استظهار تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامّة فقد يكون هذا بنفسه شاهداً على أنّهم(عليهم السلام) كانوا يرون أماريّة موافقة الكتاب أقوى من أماريّة مخالفة العامّة.

(3) هذا الاستظهار عندي غير واضح.

622

بأحدهما المرجّح بموافقة الكتاب أو مخالفة العامّة(1).

وليس هذا الخبر بنفسه مبتلى بالمعارضة، كي تكون حجّيّته بنفسه محطّاً لهذا البحث، فلا بأس بالاستشهاد به لمحلّ الكلام.

بقي هنا شيء، وهو: أنّه قد تكثر من قِبَل ثقة الأخبار المعارضة لأمارات اُخرى والروايات المستبعد صدورها من الإمام، وقد ظهر ممّا مضى أنّ خبر الثقة حجّة ولو لم يحصل الظنّ منه لمعارضته لأمارة اُخرى، بل ولو حصل الظنّ بخلافه، لكنّنا نقول هنا: إنّه قد يسقط بحسب مقام الإثبات عن درجة الوثاقة بكثرة ابتلاء أخباره بهذا البلاء، توضيح ذلك: أنّه إن فرض ثبوت وثاقته لنا بالمباشرة بحساب الاحتمالات فقد يقع التزاحم بين ذاك الحساب والحساب الناشئ من ملاحظة هذه الأخبار العجيبة المستبعد مطابقتها للواقع بنحو يختلّ الحساب الأوّل في التأثير، وإن فرض ثبوت وثاقته لنا بمثل شهادة الشيخ أو النجاشيّ(قدس سرهما)، فإن احتملنا أنّ الشيخ أو النجاشيّ كان في شهادته مستنداً إلى حساب للاحتمالات غالب على هذا الحساب الناشئ من ملاحظة هذه الأخبار منه بنحو يوجب العلم بالوثاقة، بحيث لو اطّلعنا على ذاك الحساب لوافقنا على ما يقوله الشيخ أو


(1) هذا التقريب للتمسّك بخبر الترجيح والتقريب الأوّل لو تمّا يأتيان أيضاً في مقبولة عمر بن حنظلة، بينما التقريب الثاني ـ وهو أقوى التقريبات ـ يختصّ بما ينظر إليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، وهو ما دلّ على تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامّة، ولا يأتي في مثل مقبولة عمر بن حنظلة غير الدالّة على الترتيب بين المرجّحين، ويأتي احتمال كون المقبولة ناظرة إلى افتراض كون ما فيه الترجيح هو المحتفظ رغم المعارضة بكشفه دون ما ليس فيه الترجيح، ولذا جعلت الحجّيّة له لا لمعارضه.

623

النجاشيّ، كان قوله حجّة، وإن اطمأننّا بخلاف ذلك ـ كما هو كذلك عادةً ـ(1)ورأينا أنّ شهادته إمّا ناشئة من عدم اطّلاعه على هذه الأخبار منه، أو غفلته عن هذه النكتة التي حتّى الآن لم تكن ملتفتاً إليها في علم الاُصول، أو تقديمه لذاك الحساب على هذا الحساب باجتهاد غير صحيح عندنا، سقط قوله عن الحجّيّة. وبهذا البيان الذي ذكرناه يسقط بعض المشهودين بوثاقتهم في علم الرجال عن الوثاقة.

 

الخبر الموثوق به بغير وثاقة الراوي:

الجهة السادسة: في أنّه هل يكون الخبر الموثوق به من غير ناحية وثاقة الراوي حجّة، أو لا ؟

وبما أنّ عنوان الموثوق به الوارد في كلامهم لدى الحكم بالحجّيّة فيه شيء من الغموض والإجمال نشقّق المطلب، فنقول: لو كان المراد بالوثوق الاطمئنان الشخصيّ فلا إشكال في حجّيّة الخبر الموثوق به لا بما هو خبر اطمئنانيّ، بل بنفس عنوان الاطمئنان، أي: أنّ الاطمئنان حجّة ولو نشأ من شيء آخر غير الخبر.

وإن كان المراد الاطمئنان النوعيّ فهذا العنوان الضخم مرجعه بحسب التدقيق الفنّيّ إلى كون أمارة مّا لو خلّيت وطبعها لأفادت الاطمئنان بحساب الاحتمالات، ولكن لمزاحمة أمارة اُخرى له أوجبت تغيير الحساب زال الاطمئنان ولم تفد إلّا الظنّ أو الشكّ، فمعنى إفادتها للاطمئنان النوعيّ أنّه لو لم يكن مبتلى بالمزاحم لأفاد الاطمئنان. وبهذا التحليل يسقط عنوان الاطمئنان


(1) لعلّ منشأ هذا الاطمئنان هو أنّ الشاهد لم يكن معاصراً للمشهود له ومعاشراً له، والمشهود له ليس من قبيل زرارة وأضرابه، إضافة إلى ما اُشير إليه في المتن: من أنّ هذه النكتة على ما يبدو كانت مغفولاً عنها حتّى الآن.

624

النوعيّ عمّا يبدو له في النظر من الهيبة، وبعد هذا يبقى السؤال عن مدرك حجّيّة مثل هذا الخبر.

وكذلك إن كان المراد بالوثوق هو الظنّ الشخصيّ فيسأل عن مدرك الحجّيّة فنقول:

إنّ المدرك الصحيح لحجّيّة خبر الواحد إنّما هو أمران: السيرة والسنّة، وشيء منهما لا يثبت حجّيّة الخبر الموثوق به بمعنى الاطمئنان النوعيّ، أو الظنّ الشخصيّ.

أمّا السيرة: فلأنّه إن ثبت لنا عمل بعض أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) في ذلك الزمان بخبر لم يكن راويه ثقة، أمكننا حمله على أنّه أوجب له ببعض القرائن الاطمئنان الشخصيّ، ولم يثبت لنا عملهم بذلك في موارد كثيرة بحيث يستبعد بحساب الاحتمالات إلى حدّ القطع أو الاطمئنان، ولا يأتي التقريب الماضي لإثبات السيرة في خبر الثقة هنا؛ لما مضى: من ورود أخبار كثيرة محتملة الانطباق على الردّ عن خبر غير الثقة وإن أورث الظنّ مثلاً(1).

أمّا السنّة: فتقريب الاستدلال بها: أنّ الظاهر منها ـ كما عرفت ـ أخذ الوثاقة في الموضوع بما لها من الطريقيّة لا بما هي صفة، فنتعدّى إلى كلّ خبر كانت له الطريقيّة بمقدار خبر الثقة ولو باعتبار إخباره بمثل الشهرة وبعض القرائن.

ويرد عليه:

أوّلاً: النقض بمطلق الظنّ المساوي للظنّ الحاصل من خبر بعض الثقات؛ إذ بعد


(1) مضافاً إلى ما قد يقال في خصوص الاطمئنان النوعيّ: من أنّه لم نعلم بكثرة ابتلائهم بخبر غير ثقة يوجب الاطمئنان النوعيّ.

625

فرض لزوم إلغاء عنوان الوثاقة لأنّها اُخذت في الموضوع لأجل الطريقيّة، يلزم إلغاء عنوان الخبر بنفس الملاك، كما استدلّ بعض على حجّيّة الشهرة بقياس المساواة بينها وبين خبر الثقة، وقد اُجيب على هذا الاستدلال بمنع مساواتها لخبر الثقة. لكن الصحيح أنّها قد تساويه، فإنّ الظنّ الناشئ من الشهرة قائم على أساس حساب الاحتمالات الذي قد تتوفّر نكاته في الشهرة بمقدار ما تتوفّر في خبر بعض الثقات أو أزيد.

وثانياً: الحلّ، وهو: أنّنا وإن كنّا نسلّم كون الوثاقة مأخوذة بعنوان الطريقيّة، وكون الطريقيّة بنفس الدرجة محفوظة في بعض أخبار غير الثقات، ولكنّنا نقول: إنّه لا تترتّب على هاتين المقدّمتين النتيجة المطلوبة من حجّيّة خبر غير الثقة المشتمل على نفس المستوى من الطريقيّة؛ وذلك لأنّ الحكم الظاهريّ قائم على أساس ركيزتين، إحداهما الطريقيّة بالدرجة الخاصّة وهي أمر موضوعيّ خارجيّ، والاُخرى الاهتمام بالأغراض الواقعيّة نتيجة للتزاحم بينها في مقام الحفظ، وهذا أمر نفسانيّ قائم بنفس المولى، وهذا الوجه مبنيّ على الغفلة عن الركيزة الثانية والنظر إلى الركيزة الاُولى فحسب، فإنّ الركيزة الاُولى وإن كانت منحفظة في المقام لكن الركيزة الثانية ليست مضمونة هنا؛ لأنّنا نحتمل أنّ المولى لمّا جعل الحجّيّة لخبر الثقة كان ذلك مع ما له من مادّة الاجتماع مع الأمارات الاُخرى وافياً بالمقدار الذي يهمّه من أغراضه نتيجة للتزاحم، ولم يبق ملاك لجعل الحجّيّة لتلك الأمارات.

وقد يستدلّ على حجّيّة ذلك بمنطوق آية النبأ، بدعوى أنّ التبيّن يشمل بإطلاقه التبيّن عن حال الراوي ـ أعني: وجود داعي الكذب وعدمه عنده ـ كما يكفي التبيّن عن حال الرواية، والتبيّن عن حال الراوي موجود فيما نحن فيه.

626

ويرد عليه: أنّه إن سلّم هذا الإطلاق فإنّما يدلّ على حجّيّة خبر غير الثقة الذي علمنا بعدم داعي الكذب في نفسه بالنسبة لهذا الخبر ولم يبق عدا احتمال الخطأ؛ وذلك لأنّ التبيّن من البيان، وهو ظاهر في التبيّن العلميّ ولا يشمل الظنّ، وكون الظنّ بياناً تعبّداً أوّل الكلام، ولا معنى لإثباته بنفس قوله: ﴿تَبيّنوا﴾(1).

نعم، لو تمّت دلالة آية النفر على حجّيّة الخبر أمكن أن يقال: إنّ الخبر الظنّيّ لم يثبت خروجه بالتقييد عن إطلاق الآية، ونحن نأخذ بإطلاقها ما لم يثبت مقيّد، فالخبر الظنّيّ ـ لو بني على تماميّة دلالة آية النفر ـ حجّة، على تأمّل وإشكال في ذلك يظهر من تضاعيف ما قلناه(2)، على أنّ أصل دلالة آية النفر قد عرفت عدم تماميّتها.


(1) وقد يقال بدلالة آية النبأ على حجّيّة الخبر المظنون الصدق لا باعتبار حصول التبيّن من حال الراوي من حيث داعي الكذب وعدمه، حتّى يناقش في شمول إطلاق التبيّن للتبيّن عن حال الراوي، بل بدعوى أنّ الظنّ بالصدق تبيّن عن حال الرواية، والتبيّن عن حال الرواية مقصود بالآية قطعاً.

وجوابه: أنّ التبيّن ظاهر في التبيّن العلميّ، فلو لم يفد خبر الفاسق العلم ولا الاطمئنان الشخصيّ، وإنّما أفاد الظنّ لا أكثر، سواء كان بمعنى احتمال الكذب أو احتمال الخطأ أو كليهما، لم تكن الآية دليلاً على حجّيّته.

(2) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى إمكان دعوى جعل بعض ما يمكن أن يكون رادعاً عن حجّيّة خبر غير الثقة مقيّداً لإطلاق آية النفر ومخرجاً لخبر غير الثقة المفيد للظنّ عن إطلاقها. ولكن تماميّة شيء منها سنداً ودلالة للتقييد محلّ تأمّل. ولعلّه ينظر(رحمه الله)إلى ما مضى: من أنّ التبيّن في آية النبأ ظاهر في التبيّن العلميّ، فعندئذ يمكن أن يقال: إنّ آية النفر دلّت على حجّيّة كلّ خبر، وآية النبأ دلّت على عدم جواز الأخذ بخبر الفاسق إلّا بالتبيّن المفيد للعلم، وهذا يعني عدم حجّيّة خبر الفاسق المفيد للظنّ، وتقدّم آية النبأ على آية النفر بالأخصّيّة.

627

 

الإخبار عن حدس:

الجهة السابعة: في أنّ أدلّة حجّيّة خبر الثقة هل تشمل الإخبار عن حدس، أو لا؟ والصحيح هو الثاني؛ إذ مضى أنّ الدليل الصحيح على حجّيّة خبر الواحد منحصر في السيرة والسنّة، وشيء من هذين الدليلين لا يشمل الخبر الحدسيّ:

أمّا السيرة: فلا يمكن إثبات حجّيّة الخبر الحدسيّ بها سواء قرّبناها بالتقريب المشهور، أو قرّبناها بالتقريب الذي اختصصنا به.

أمّا التقريب المشهور ـ وهو: أنّ العقلاء في كلّ زمان ومكان يعتمدون على خبر الثقة ويعملون به، ولم يردع الشارع عنه ـ: فاختصاصه بالإخبار عن حسّ واضح، فإنّ سيرة العقلاء على ذلك مرجعها إلى هذا الارتكاز العقلائيّ العامّ الذي نجده في أنفسنا، ولا نشكّ في أنّ هذا الارتكاز مختصّ بالخبر الحسّيّ. وأمّا الخبر الحدسيّ فالمرتكز هو عدم الاعتماد عليه بما هو خبر وإن كان المرتكز الاعتماد عليه للعامي بما هو فتوى من باب رجوع الجاهل إلى العالم، فنحن لسنا جازمين بشمول السيرة بهذا المعنى للخبر الحدسيّ ولا شاكّين في ذلك، بل جازمون بالخلاف.

وأمّا التقريب الذي اختصصنا به ـ وهو: أنّ أصحاب الأئمّة إمّا كانوا يعملون بما كان داخلاً تحت ابتلائهم من أخبار الثقات، أو لا: وعلى الثاني: إمّا أنّهم سألوا المعصوم(عليه السلام) عن حكمه وأجابهم الإمام بالنفي، أو لا، وعلى تقدير الإجابة بالنفي: إمّا أنّه وصلنا الجواب، أو لا. وجميع الشقوق الأخيرة باطل بالبيان الذي أسلفناه، فتعيّن الأوّل ـ: فأيضاً لا يثبت أكثر من حجّيّة الخبر الحسّيّ، فإنّ الذي كان داخلاً تحت ابتلائهم وكان عليه مدار الاستنباط كانت أخباراً حسّيّة، والخبر

628

الحدسيّ لم يكن داخلاً تحت ابتلائهم بما هو خبر(1) وإن كان داخلاً تحت الابتلاء بما هو فتوى.

وأمّا السنّة: فقد مضى أنّ حجّيّة خبر الثقة تثبت من السنّة بحديث «العمريّ وابنه ثقتان» وحده، أو بضمّ أحاديث اُخرى إليه، ولو كان قد اقتصر في هذا الحديث على قوله: «فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان» أمكن القول بشموله للخبر الحدسيّ، بدعوى: أنّ الأداء عنه مطلق يشمل الأداء عن حسّ والأداء عن حدس، لكنّه معلّل بقوله: «فإنّهما الثقتان المأمونان»، وقد مضى أنّ ظاهر التعليل في مثل المقام هو التعليل بأمر عقلائيّ لا بأمر تعبّديّ صرف. ومن المعلوم أنّ الوثاقة في باب الإخبار إنّما تكون في نظر العقلاء في الخبر الحسّيّ؛ لكون الثقة بعيداً فيه عن الكذب؛ لوثاقته، وعن الخطأ؛ لحسّيّة الخبر. وأمّا الخبر الحدسيّ فتكثر الأخطاء فيه، ولا يعدّ مخبره ثقة فيما قاله بما هو خبر يحتاج عالم آخر إلى الأخذ به، وإن كان يعدّ ثقة في ذلك بما هو فتوى يحتاج إليها العامي، فيدلّ هذا الحديث على حجّيّة الفتوى للعامي، ولا يدلّ على حجّيّة الخبر الحدسيّ لفقيه آخر. أمّا حمل الحديث على فرض المخبر عن حدس ثقة في خبر بما هو خبر تعبّداً، فهو خلف ما قلناه: من أنّ ظاهر التعليل هو التعليل بأمر عقلائيّ لا بأمر تعبّديّ صِرف(2).

 


(1) لعلّ المقصود: إنّ الخبر الحدسيّ بما أنّ حجّيّته بما هو خبر مرفوضة في نظر العقلاء فلا يوجد حتّى التحيّر والشكّ لديهم حوله، فعدم كثرة السؤال والجواب ليس غريباً.

(2) هذا البيان لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في إبطال دلالة السنّة على حجّيّة خبر الثقة الحدسيّ مبتن على ما كان يعتقده وقتئذ: من أنّ الحديث الوحيد القطعيّ أو شبه القطعيّ من أحاديث حجّيّة خبر الثقة هو حديث «العمريّ وابنه ثقتان».

629

ثُمّ إذا شككنا في خبر مّا أنّه خبر عن حسّ أو عن حدس، وكان المخبر به ممّا يقبل عادة إدراكه بالحسّ، فالظاهر أنّه لم يستشكل أحد ـ ولا ينبغي الإشكال ـ في البناء على الحسّيّة، وحجّيّة خبر الواحد.

والوجه في ذلك في نظر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) هو بناء العقلاء على أصالة الحسّ لدى دوران الأمر بينه وبين الحدس.

وتحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنّ بناء العقلاء على الحسّ قائم على أساس نكتة الكشف في نفس الخبر، توضيح ذلك: أنّه مضى أنّ البناء العقلائيّ لا يقوم على أساس أمر تعبّديّ صرف بأن يرجّحوا أحد طرفي الاحتمال المتساويين على الآخر تعبّداً، بل يقوم على أساس ثبوت الكاشف في المرتبة السابقة، ولمّا كان الغالب في الأخبار التي من شأنها إدراكها بالحسّ كونها بداعي الإخبار عن حسّ لا عن حدس تحقّق للخبر ظهور تصديقيّ سياقيّ في كونه بهذا الداعي، نظير أنّ غلبة كون مثل قوله: (زيد قائم) بداعي الإخبار عن ثبوت المحمول للموضوع أوجبت ظهوراً تصديقيّاً سياقيّاً للكلام في ذلك، فالمخبر حينما يخبر عن شيء من شأنه إدراكه حسّاً كموت زيد، يكون كأنّه قال مثلاً: (إنّي أدركت حسّاً أنّ زيداً


أمّا بناءً على كون التوقيع الشريف أيضاً كذلك ـ وهو قوله: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» ـ فهذا التقريب لإبطال الاستدلال لا يأتي فيه كما هو واضح، فينحصر أمر إبطال الاستدلال به ببيان آخر مشترك بين الحديثين، وهو دعوى: أنّ رفض العقلاء لحجيّة الخبر الحدسيّ واستبعادهم لها يوجب عدم تماميّة الإطلاق في نظر العرف للدليل اللفظيّ الدالّ على الحجّيّة، فلا يكون الدليل اللفظيّ شاملاً للخبر الحدسيّ، ففرق بين أن نفترض أنّ العقلاء لم يجعلوه حجّة ولكن لا يستنكرون جعله حجّة من قِبَل المولى، وبين استنكارهم لذلك. فالثاني يوجب انصراف الإطلاق بلا إشكال.

630

مات)، فإذا كان هذا المخبر ثقة اعتمدنا على ما يظهر من كلامه: من أنّ إخباره إخبار حسّيّ، فالحسّيّة في الحقيقة تثبت بضمّ قانون حجّيّة الظهور إلى حجّيّة خبر الثقة من دون أن تكون أصالة الحسّ أصلاً ثالثاً مستقلاًّ في قبال أصالة الظهور وحجّيّة خبر الثقة، فلو اكتنف الكلام بما يصلح للقرينيّة على الحدس ويوجب الإجمال سقط الدليل على حسّيّة الخبر، كما يسقط لدى إقامة القرينة الفعليّة على الحدس. أمّا لو قلنا بأصالة الحسّ كأصل مستقلّ بقطع النظر عن ظهور الكلام فأجريناها في موارد اكتناف الكلام بما يصلح للقرينيّة على الحدس ويوجب الإجمال، فهذا يعني أنّ أصالة الحسّ أصل تعبّديّ بحت، وترجيح لأحد طرفي الاحتمال المتساويين على الآخر تعبّداً غير قائم على أساس ثبوت كاشف في المرتبة السابقة، وقد قلنا: إنّ بناء العقلاء لا يقوم على أساس من هذا القبيل.

 

 

631

 

دلالة العقل على حجّيّة الخبر

الرابع: العقل. ونحن نقتصر من وجوه تقريره التي ذكرت في المقام على بيان وجه واحد، وهو: أنّنا نعلم إجمالاً بصدور كثير من الأخبار التي بأيدينا، فنعلم إجمالاً بثبوت جملة من التكاليف التي كلّفنا بها في ضمن هذه الأخبار، فيتنجّز بحكم العقل بسبب هذا العلم الإجماليّ تمام الأطراف، فيجب الأخذ بتمام هذه الأخبار(1). وهذا وإن لم يكن عبارة عن الحجّيّة الشرعيّة، وإنّما هو أخذ بالاحتياط، لكنّه متّحد نتيجة مع فرض الحجّيّة.

والكلام في تمحيص هذا الوجه يقع في مقامين:

الأوّل: أنّ هذا التقريب هل يختصّ بخصوص الأخبار التي أراد هذا المستدلّ إثبات حجّيّتها، أو يأتي في كلّ أمارة ظنّيّة: من الشهرة وغيرها ؟

والثاني: أنّ مفاد هذا الوجه لو اختصّ بالأخبار هل يتّحد نتيجة مع الحجّيّة، أو يختلف عنها نتيجة كما يختلف عنها مفهوماً.

 

الدليل العقليّ في كلّ أمارة ظنّيّة:

أمّا المقام الأوّل: فقد ذكر الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) في مقام النقض على المستدلّ بهذا الوجه: أنّه إن تمّ هذا لزم الأخذ بمطلق الأمارات الظنّيّة لا خصوص الأخبار


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّه لو تمّ هذا التقريب بناءً على ما اُفيد في المقام: من انحلال العلوم الثلاثة المتداخلة التي تصوّروها في المقام بعضها ببعض، واستقرار الأمر على أضيق العلوم، وهو العلم في دائرة الأخبار، فبالإمكان أن يقال: إنّ أضيق الدوائر هي دائرة الأخبار التي أثبتنا حجّيّتها بالأدلّة السابقة، أي: دائرة أخبار الثقات.

632

المقصود لهذا المستدلّ إثبات حجّيّتها؛ لوجود مثل هذا العلم الإجماليّ في مطلق الأمارات، وهو ممّا لا يلتزم به هذا المستدلّ.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ تبعاً للمحقّق الخراسانيّ(قدس سره) بانحلال العلم الإجماليّ الكبير بالعلم في دائرة الأخبار التي يقصد إثبات حجّيّتها. وتوضيح ذلك: أنّ لنا علوماً إجماليّة ثلاثة متداخلة الأطراف: أوّلها: العلم الإجماليّ بتكاليف إلزاميّة في ضمن كلّ الشبهات. والثاني: العلم الإجماليّ بتكاليف إلزاميّة في ضمن مفاد الأمارات الظنّيّة. والثالث: العلم الإجماليّ بالتكاليف الإلزاميّة في ضمن الأخبار المنظورة لهذا المستدلّ. والعلم الأوّل ينحلّ بالثاني، والثاني ينحلّ بالثالث، فإنّ أساس الانحلال ـ على ما ذكروه في محلّه ـ هو أن لا يكون المعلوم بالعلم الكبير أزيد من المعلوم بالعلم الصغير، وهذا الشرط متوفّر في المقام، ولهذا القانون لازم مساو، وهو: أنّنا لو أخرجنا مقدار المعلوم بالعلم الصغير، وضممنا الباقي إلى باقي أطراف العلم الكبير لم يكن العلم الإجماليّ ثابتاً. والأمر فيما نحن فيه كذلك، فوزان ما نحن فيه تماماً وزان ما إذا علمنا إجمالاً بإخبار معصوم ـ مثلاً ـ بوجود أوان خمسة متنجّسة ضمن خمسين إناء، وعلمنا أيضاً بإخباره بوجود أوان خمسة متنجّسة ضمن عشرين منها الموضوعة في طرف الشرق مثلاً، وهنا لا إشكال في أنّ العلم الأوّل ينحلّ بالثاني.

أقول: التحقيق في المقام: أنّ العلم الإجماليّ الأوّل وإن كان ينحلّ بالثاني، ولكن العلم الثاني لا ينحلّ بالثالث، وليسا كالعلمين بالآنية المتنجّسة الحاصلين بمثل إخبار المعصوم.

وتوضيح ذلك: أنّ العلم المتوسّط في الحقيقة تولّد من تركيب علمين صغيرين هما في عرض واحد، وإنكار أحدهما مستلزم لإنكار الآخر؛ لأنّهما بملاك واحد: أحدهما: العلم بصدق بعض الأخبار، وهذا ملاكه استبعاد تجمّعهم على الكذب

633

بالمضعّف الكمّيّ والكيفيّ. وثانيهما: العلم بصدق بعض الشهرات مثلاً. وهذا ثابت بعين ملاك الأوّل، والنسبة بين أطراف كلّ من العلمين إلى الآخر من حيث المورد هي العموم من وجه، فمثلاً نفترض: أنّ عدد الأخبار مئة، ونعلم بصدق عشرة من المئة، وعدد الشهرات مئة، ونعلم بصدق عشرة منها، وهاتان المئتان متداخلتان في تسعين مورداً، فمجموع الموارد عبارة عن مئة وعشرة، وهي تشكّل موارد العلم المتوسّط مثلاً. وهنا نسأل القائل بانحلال العلم المتوسّط بالعلم الصغير عن أنّ هذين العلمين الصغيرين هل يحتمل انطباق تمام المعلوم بأحدهما على الآخر بأن يكون تمام العشرة الصادقة ضمن التسعين المشتركة، أو لا يحتمل ذلك ؟ فإن قلنا بالثاني لزم كون عدد المعلوم بالعلم المتوسّط أزيد من المعلوم بالعلم الصغير؛ إذ لا أقلّ ـ على هذا الفرض ـ من أن يوجد في كلّ مادّتي الافتراق صادق واحد، وإذا ضمّت العشرة الصادقة المعلومة بأحد العلمين إلى الصادق الواحد في مادّة افتراق الآخر كان المعلوم بالعلم المتوسّط عبارة عن أحد عشر مورداً، فلم ينطبق على ما نحن فيه ما جعلوه أساساً للانحلال: من عدم كون المعلوم بالعلم الكبير أزيد من المعلوم بالعلم الصغير. وإن قلنا بالأوّل ـ وهو الذي ينبغي أن يقال به في المقام؛ إذ لا وجه للعلم بعدم تصادق المعلومين ـ انطبق على ما نحن فيه ما جعلوه أساس الانحلال؛ لأنّ المعلوم بالعلم المتوسّط لا يزيد على العشرة، ولكنّه مع ذلك يستحيل الانحلال؛ إذ الانحلال بأحد العلمين الصغيرين، وخروج مادّة الافتراق للعلم الآخر عن الطرفيّة ترجيح بلا مرجّح، والانحلال بهما معاً وخروج مادّتي الافتراق عن الطرفيّة يعني تشكّل علم رابع بصدق عشرة من التسعين المشتركة، وهو خلف المفروض: من أنّ العدد الذي يقطع بصدق عشرة منه إنّما هي المئة، ولذا لم يفترض علم رابع.

وبهذا يتّضح: أنّ ما ذكروه كأساس للانحلال غير صحيح؛ لانطباقه على بعض الموارد التي لا انحلال فيها.

634

نعم، ما ذكروه من اللازم المعرّف للانحلال وعدمه ينطبق على المقام ويعطي عدم الانحلال، فإنّنا لو أفرزنا عشرة أخبار من مادّة الافتراق كان العلم الإجماليّ فيما بقي من مادّة الاجتماع ومادّة افتراق الشهرات ثابتاً على حاله. نعم، لو أفرزنا عشرة من مادّة الاجتماع انتفى العلم الإجماليّ، ولكن معرّف الانحلال عبارة عن انتفاء العلم الإجماليّ بمجرّد إفراز المعلوم بالعلم الصغير من أطراف العلم الصغير مطلقاً، أي: سواء طبّق على هذه الجملة من الأطراف، أو تلك الجملة، أو جملة ثالثة، وهكذا.

وعليه، فما جعلوه معرّفاً للانحلال واعتقدوا مساواته لتحقّق أساس الانحلال يكون أخصّ مورداً من ذاك الأساس.

ويمكن إجراء التعديل على ما جعلوه أساساً للانحلال بإضافة قيد إليه، وهو أن لا يكون العلم الكبير مستنتجاً من العلم الصغير الذي يراد حلّ الكبير به وعلم صغير آخر.

وحقيقة الأمر: أنّ العلم المتوسّط في المقام علم إجماليّ مردّد بين أقلّ وأكثر متباينين من حيث المورد، فنحن نعلم بصدق عشرة من مادّة الاجتماع، أو عشرتين من مادّتي الافتراق، أو التلفيق بينهما كأن يصدق ـ مثلاً ـ خمسة من مادّة الاجتماع، وخمستان من مادّتي الافتراق. فعلى التقدير الأوّل لا يكون المعلوم بالعلم الكبير أزيد من المعلوم بالعلم الصغير، وعلى باقي التقادير يكون أزيد منه.

ومن هنا يظهر: أنّه يمكن إجراء التعديل على ما جعلوه أساساً للانحلال، بأن يقال: إنّ أساس الانحلال هو أن لا يزيد المعلوم بالعلم الكبير على المعلوم بالعلم الصغير على جميع التقادير.

هذا. ويمكن دعوى الانحلال في المقام بتقريب آخر، وهو: أنّ العلم الإجماليّ المتوسّط ـ كما عرفت ـ مردّد بين الأقلّ والأكثر؛ إذ هو مردّد بين عشرة كلّها من