762

الإجماع ناظراً إلى جعل طريق آخر غير الاحتياط بشرط عدم إيجابه لتنجيز زائد، وحينئذ إن قلنا بإمكان جعل الحجّيّة التخييريّة ثبتت بالإجماع الحجّيّة التخييريّة لا حجّيّة الظنّ، والحجّيّة التخييريّة إنّما أبطلناها في مقابل حجّيّة الظنّ بعد تماميّة المنجّز التامّ في الرتبة السابقة من باب عدم جواز تحكيم غير مقطوع الحجّيّة وهو الوهم على منجّز ثابت في نفسه، لا في مقابل الاحتياط التخييريّ الناشئ من عدم وجود المنجّز إلّا بمقدار التخيير.

وإن فرضنا عدم إمكان جعل الحجّيّة التخييريّة لم يبق موضوع لهذا الإجماع؛ لأنّه إنّما يكون ثابتاً في مورد لا يستلزم تنجيزاً زائداً، وهنا يستلزم التنجيز الزائد. نعم، لو ادّعينا بقطع النظر عن الإجماع القطع أو الاطمئنان بأنّ الشارع يجعل حتماً طريقاً آخر غير الاحتياط تكميلاً للشريعة (و هذه الدعوى صحيحة) قلنا في هذا الفرض بناءً على عدم معقوليّة الحجّيّة التخييريّة بحجّيّة الظنّ وإن لزم من ذلك تنجيز زائد، فإنّ هذا غير مربوط بالإجماع حتّى يقال: إنّ مورده أو القدر المتيقّن من مورده غير هذا، وإنّما هو مبتن على كون عدم جعل طريق آخر غير الاحتياط نقصاً، وعدم احتمال النقص في الشريعة، وهذا لا يفرّق فيه بين لزوم زيادة التنجيز وعدمه. ولكن الصحيح أنّ فرض الحجّيّة التخييريّة ليس عليه إشكال.

 

شرائط الحكومة

وأمّا الحكومة فتبتني أيضاً على شروط ثلاثة:

الشرط الأوّل: أن نسلّم أنّ البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان يختلف عند الانسداد منه عند الانفتاح، فهو عند الانفتاح وإن كان عبارة عن العلم لكنّه عند الانسداد عبارة عن الظنّ، وذلك بأحد تقريبين:

التقريب الأوّل: أن يقال: إنّ مقتضى العبوديّة والمولويّة بحسب العقل العمليّ أن يثبت بالفعل حقّ الطاعة على العبد، فإذا كان باب العلم مفتوحاً تمثّل ذلك في

763

التكاليف المعلومة، وإذا لم يكن باب العلم مفتوحاً فلابدّ من تمثّله في المظنونات.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّه إذا قامت أمارة تفيد الظنّ بحكم إلزاميّ من قِبَل المولى فاحتمال الخلاف إنّما يكون معذّراً في حال يترقّب زوال احتمال الخلاف، وأمّا في حال لا يترقّب زواله في جلّ الموارد فلا يراه العقل العمليّ معذّراً.

ولا يخفى أنّه إنّما تظهر ثمرة للحكومة إن قلنا بعدم كون العلم الإجماليّ منجّزاً أكثر من التنجيز التخييريّ، وإلّا فلا ثمرة فيها لتنجيز المظنونات بالعلم الإجماليّ، بل بناءً على تنجيزها به لا يبقى موضوع للتقريب الأوّل؛ لأنّه في التقريب الأوّل إنّما نستنتج منجّزيّة الظنّ من أنّه بدونها لا يتمثّل حقّ المولويّة بالنحو الذي ينبغي في عمل الإنسان، والاقتصار على الموهومات ليس أداء لحقّ المولويّة، لكن بناءً على تنجيز المظنونات بالعلم قد تمثّل هذا الحقّ في المظنونات بقطع النظر عن منجّزيّة الظنّ، فانتفى موضوع هذا التقريب لمنجّزيّته.

الشرط الثاني: أن تتساقط الاُصول المؤمّنة الشرعيّة في الأطراف حتّى تصل النوبة إلى حكم العقل بمنجّزيّة الظنّ، فإنّه معلّق على عدم ترخيص الشارع في الخلاف.

الشرط الثالث: أن لا نقول بأنّ العلم الإجماليّ بنفسه يقتضي الموافقة القطعيّة، بل نقول ـ لو قلنا باقتضائه لها ـ بأنّه إنّما يقتضي الموافقة القطعيّة بسببتعارض البراءات العقليّة في الأطراف وتساقطها، حتّى يتمّ بذلك حلّ الحكومة للعلم الإجماليّ باعتبار نجاة البراءة العقليّة في غير مظنونات التكليفعن التعارض.

وهذا شرط لثبوت الحكومة بالنحو الذي يريده الانسداديّ من الاقتصار على المظنونات الثابت حجّيّتها بحكم العقل والرجوع في الباقي إلى البراءة، فلو قلنا

764

بأنّ العلم الإجماليّ يقتضي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة لا بتعارض البراءاتالعقليّة في الأطراف وتساقطها لم تكن حجّيّة الظنّ بالحكومة مجدية في رفع اليد عن الاحتياط في غير المظنونات، وبالتالي يكون لزاماً علينا ضمّ بعض من غير المظنونات إلى المظنونات في الامتثال بمقدار لا يلزم منه العسر والحرج؛ إذ لا يمكننا نفي غير المظنونات لا بالبراءة الشرعيّة ولا بالبراءة العقليّة:

أمّا الاُولى: فلأنّ الحكومة إنّما تحقّقت في طول تساقط البراءات الشرعيّة بالتعارض؛ إذ لو جرت في المظنونات لقدّمت على حجّيّة الظنّ بالحكومة. إذن فحجّيّة الظنّ بالحكومة لا تمنع البراءة في المظنونات عن معارضتها للبراءة في غيرها؛ لأنّها كانت في طول هذه المعارضة والتساقط.

وأمّا الثانية: فلأنّ المفروض عدم جريان البراءة العقليّة في أطراف العلم الإجماليّ بقطع النظر عن المعارضة.

وهذا بخلاف ما لو قلنا: إنّ البراءات العقليّة إنّما تساقطت بالتعارض، فعندئذ تكون حجّيّة الظنّ على الحكومة مساوقة لعدم ابتلاء البراءة العقليّة في غير المظنونات بالمعارض.

إن قلت: إنّ هذا الشرط الثالث لا يختصّ بالحكومة، بل يكون ثابتاً في الكشف أيضاً، فإنّ الكشف عن حجّيّة الظنّ شرعاً كان أيضاً في طول تساقط البراءة الشرعيّة، فلا ترجع البراءة الشرعيّة مرّة اُخرى، ولابدّ لنا في إثبات الترخيص في المخالفة في غير المظنونات من التمسّك بالبراءة العقليّة، وإلّا لم يبق مجال للترخيص في المخالفة إلّا بمقدار نفي العسر والحرج، والبراءة العقليّة إنّما تجري في غير المظنونات بعد الكشف عن حجّيّة الظنّ بناءً على كون سقوطها في المظنونات وغير المظنونات بالتعارض، فإذا أصبح الظنّ حجّة أصبحت البراءة العقليّة في غير المظنونات خالية عن المعارض. أمّا لو قلنا بأنّ العلم الإجماليّ

765

بنفسه يمنع عن جريان البراءة العقليّة لا بواسطة التعارض إذن لا مجال لنفي غير المظنونات بها، وبالتالي يكون لزاماً علينا ضمّ بعض من غير المظنونات بالمظنونات في الامتثال بقدر لا ينتهي إلى العسر والحرج.

قلت: إن للكشف مجالاً رغم فرض القول بأنّ العلم الإجماليّ يقتضي بنفسه الموافقة القطعيّة، وذلك بناءً على أحد مبنيين في علم الاُصول:

الأوّل: ما بنى عليه المحقّق العراقيّ والمحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله): من أنّ الأصل المثبت للتكليف إذا جرى في أحد طرفي العلم الإجماليّ أوجب انحلال العلم الإجماليّ، رغم إيمانهما بأنّ العلم الإجماليّ يقتضي بنفسه الموافقة القطعيّة. وتحقيق صحّة هذا المبنى وعدمه موكول إلى محلّه، وإنّما المقصود هنا أنّه بناءً على هذا المبنى يكون العلم الإجماليّ منحلاًّ بالظنّ بالتكليف الذي فرضت حجّيّته على الكشف، فإنّه أصل مثبت للتكليف في بعض أطراف العلم الإجماليّ، فتجري البراءة العقليّة في باقي الأطراف بلا معارض.

الثاني: لو بنينا على أنّ القول بحجّيّة الظنّ على الكشف يؤدّي إلى حجّيّة مثبتاته لدخول ذلك في كبرى حجّيّة مثبتات الأمارة (وهذا ما ناقشناه فيما سبق)، فهذا ينتج لنا في المقام انحلال العلم الإجماليّ بسبب الظنّ الذي يكون حجّة على الكشف، وتوضيح ذلك: إنّ المعلوم بالإجمال تارةً يحتمل تعيّن انطباقه على غير المظنون حتّى مع فرض مطابقة الظنّ للواقع، واُخرى ليس كذلك، مثال الأوّل: ما لو علمنا بنجاسة إناء زيد مثلاً، وكان إناء زيد مردّداً بين إناءين، وظننّا بنجاسة أحدهما بالخصوص، فهنا يحتمل تعيّن انطباق المعلوم بالإجمال على الفرد الآخر غير ما ظننّا بنجاسته حتّى مع فرض مطابقة الظنّ للواقع؛ إذ من المحتمل كون إناء زيد هو الإناء الآخر غير ما ظننّا بنجاسته. ومثال الثاني: هو ما نحن فيه، فإنّه على تقدير مطابقة الظنّ للواقع في المقام لا يحتمل تعيّن انطباق المعلوم بالإجمال على

766

غير المظنون، بل إمّا أنّه لا ينطبق إلّا على المظنون، كما لو كان التكليف في علم الله ثابتاً في المظنون دون غيره، أو تكون نسبته إلى المظنون وغير المظنون على حدّ سواء، كما لو كان التكليف في علم الله ثابتاً في المظنون وغير المظنون، فلئن قلنا بعدم انحلال العلم الإجماليّ بحجّيّة الظنّ في القسم الأوّل، فلا ينبغي الإشكال في انحلاله في القسم الثاني؛ وذلك لأنّ الظنّ الذي فرض أمارة شرعيّة في المقام يدلّ بالملازمة على عدم تعيّن انطباق المعلوم بالإجمال على غير المظنون؛ لما عرفت: من أنّه لو كان مفاد الظنّ مطابقاً للواقع لا يحتمل تعيّن انطباق المعلوم بالإجمال على غيره، وهذا يكفي في جريان البراءة العقليّة في غير المظنون وعدم العقاب على مخالفة غير المظنون؛ لأنّ الأمارة قد دلّت على أنّ المعلوم بالإجمال إمّا لا يصلح للانطباق على غير المظنون، أو تكون نسبته إلى المظنون وغير المظنون على حدّ سواء، فعلى الأوّل لا موضوع لوجوب الامتثال في غير المظنون، وعلى الثاني أيضاً لا يجب الامتثال فيه؛ لأنّ العلم الإجماليّ غاية ما يقتضيه هي الموافقة القطعيّة للجامع بوصف مصادفته للتكليف الواقعيّ، وقد حصل ذلك بحكم الأمارة في ضمن العمل المظنون.

ثُمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا: أنّ الكشف والحكومة إنّما يتّمان بناءً على جريان البراءة العقليّة في غير المظنونات، ومن هنا يمكن أن يتخيّل أنّه لا مجال لهما بناءً على مختارنا: من إنكار البراءة العقليّة رأساً.

ولكن الواقع: أنّنا وإن أنكرنا البراءة العقليّة، ولكنّنا نؤمن ـ كما سيتّضح إن شاء الله في بحث البراءة ـ ببراءة شرعيّة في رتبة البراءة العقليّة، وفرضت غايتها البيان بنحو يشمل العلم الإجماليّ، ففي مورد العلم الإجماليّ تسقط هذه البراءة بنفس العلم الإجماليّ لا بالتعارض ـ بخلاف البراءة المفهومة من مثل قوله: (رفع ما لا يعلمون) ـ فبعد فرض حجّيّة الظنّ شرعاً بالكشف، وانحلال العلم الإجماليّ بأحد

767

التقريبين الماضيين تجري هذه البراءة في غير المظنونات وإن كانت لا تجري البراءة المستفادة من مثل (رفع ما لا يعلمون)، والفرق بينهما هو: أنّ البراءة الثانية سقطت في المظنونات بالتعارض مع البراءة في غير المظنونات، وبسقوطها بالتعارض ثبتت حجّيّة الظنّ بالكشف، فحجّيّة الظنّ بالكشف لا تمنع عن معارضة البراءة في المظنونات للبراءة في غيرها، فإنّها إنّما ثبتت في طول المعارضة والتساقط، وأمّا البراءة الاُولى فلم تسقط في المظنونات بالتعارض مع البراءة في غيرها، بل سقطت بنفس العلم الإجماليّ المانع بذاته عنها وعن البراءة في غير المظنونات، فإذا انحلّ العلم الإجماليّ بلحاظ غير المظنونات ببركة حجّيّة الظنّ ارتفع المانع عن جريان البراءة في غير المظنونات، فتجري وتنحصر وظيفتنا في امتثال المظنونات.

هذا تمام كلامنا في بحث مقدّمات الانسداد حاذفين هنا التنبيهات(1).

 


(1) قد فرغ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عن مبحث الانسداد في هذه الدورة في اليوم الثامن من شهر جمادي الآخرة من سنة 1385 الهجريّة. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.