71

تقدّم الزكاة على الخمس أو بالعكس

72

 

73

بسم الله الرحمن الرحيم

قد يتّفق في السكك الذهبيّة كالسكّة الإيرانية أو العثمانية أو غيرهما أنّها تصبح موضوعاً للزكاة لتماميّة النصاب، وفي نفس الوقت تكون زائدةً على المؤونة فيتعلّق بها الخمس، فيدور الأمر بين أن تزكّى أوّلاً ثم يخمّس الباقي وبذلك ستقلّ حصّة الخمس، أو تخمّس أوّلاً ثم يزكّى الباقي وبذلك ستقلّ حصّة الزكاة، بل قد تنعدم نهائيّاً بسبب سقوط المال باستثناء خمسه عن النصاب، فأيّ الطريقين هو الصحيح؟ ويتصوّر نحو هذا الحديث في الغلّات والأنعام أيضاً.

وقد تقول في سكك الذهب المألوفة اليوم إنّها خارجة عن هذا البحث؛ لأنّها ليست من النقد الرائج في السوق، وذلك إمّا بسبب عدم وضوح مقدار قيمة الذهب والفضّة لأكثريّة الناس، أو بسبب تزلزل مقدار قيمة المادّة بالصعود والنزول في مساحة واسعة من درجات الصعود والنزول أو في أزمنة متقاربة، وقد تكون كلّ هذه الأُمور مجتمعة مؤثّرة في عدم رواج التعامل.

إلّا أنّ الدليل على شرط الرواج بهذا المعنى غير واضح، فإنّ المتيقّن من تقييد إطلاقات الزكاة في الذهب والفضّة من قبيل روايات الباب الثامن من أبواب زكاة

74

الذهب والفضة هو التقييد بالسكّة كما ورد في صحيحة علي بن يقطين: «قلت: وما الركاز؟ قال: الصامت المنقوش»(1).

والدليل على شرط الرواج الفعلي بالسوق يمكن أن يكون أحد أُمور ثلاثة:

الأوّل: خبر علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى بن جعفر(علیه السلام): «لا تجب الزكاة في ما سبك فراراً به من الزكاة، ألا ترى أنّ المنفعة قد ذهبت فلذلك لا تجب الزكاة»(2).

فقد يستظهر منه: أنّ المقصود بالمنفعة الذاهبة رواجه الفعلي كنقد في السوق.

إلّا أنّ سند الحديث ضعيف بإسماعيل بن مراد.

والثاني: عنوان الدرهم والدينار الواردين في موضوع زكاة النقدين فإنّهما لا يخلوان من الإشارة إلى رواج النقديّة في السوق.

والجواب: أنّ موضوع الزكاة في الروايات _ كما أشرنا _ إنّما هو الذهب والفضّة، وأمّا الدينار والدرهم فأكثر ذكرهما في الروايات لا يكون بعنوان شرط رواج النقديّة، بل يكون بعنوان تحديد النصاب،(3) وقسم منها ورد عنوان الدينار والدرهم فيهما كإشارة إلى ما يقابل التبر أو النقر أو غير المسكوك، وليست واضحة في الإشارة إلى رواج النقديّة في السوق بحيث تكون صالحة لتقييد إطلاق عنوان الصامت المنقوش أو عنوان الذهب والفضّة برواج النقديّة في السوق، فمقتضى إطلاق الأدلّة كفاية النقش الثابت على السكك الذهبية المألوفة اليوم.

والثالث: دعوى انصراف عنوان النقش أو ما يشير إليه أيضاً إلى نكتة الرواج في السوق؛ إذ لا تتصور نكتة عرفية أو عقلائية لدخل النقش في ضريبة الزكاة إلّا بنكتة دخلها في الرواج السوقي.

 


(1) وسائل الشیعة، ج9، ص154، الباب8 من أبواب زكاة الذهب والفضة.

(2) المصدر السابق، ص160، الباب 11 من أبواب زكاة الذهب والفضة، ح11.

(3) راجع المصدر السابق، ص137، الباب الأول والثاني من أبواب زكاة الذهب والفضة.

75

والجواب: أنّه يكفي في بقاء الإطلاقات على إطلاقها احتمال عقلائي آخر، وهو أن يكون أثر النقش من قبل السلطة إعطاؤه للذهب أو الفضّة قوّة التعامل بهما ولو بمقدار ما ينشأ عن سكّة الحكومة من ضمان الوزن والجودة، وهذا ثابت في السكك الذهبية المألوفة اليوم. وعليه فالأقوى تعلّق الزكاة بها.

وأمّا الحديث عن تقدّم الخمس على الزكاة وبالعكس فقد يقال: إنّه يخرج عن هذا البحث ما يتعلّق به الخمس منذ البدء كما في المعدن والغوص والكنز وغنيمة الحرب، فإنّ الزكاة تجب بعد سنة والخمس قد وجب قبل ذلك، وطبيعي أنّ الزكاة لا تجب إلّا على ما بقي في الملك وهي الأربعة أخماس الباقية لو بقيت سنةً.

ومن هنا قد يقال: إنّ الخمس دائماً يتقدّم على الزكاة؛ لأنّ الخمس يتعلّق دائماً بالمال من أوّل يوم وإن كان متعلّقه هو المال الذي سيبقى في علم الله سنة كاملة ولا يصرف في المؤونة، ولهذا يجوز إخراج الخمس من أوّل السنة وإن جاز تأخيره إلى آخر السنة، في حين أنّ الزكاة تجب في آخر السنة فلا تجب إلّا في الأربعة أخماس الباقية.

وهذا البيان لو تم فإنّما يتم في الأعيان الزكوية التي تكون الزكاة فيها مشروطة بمضي الحول وهي النقدان والأنعام.

أمّا لو مضى الحول على أُصول الغلّات وخُمِّست بعينها قبل بدو الصلاح فاختصاص الزكاة على المالك الأوّل بغلّات ما بقي في ملكه واضح، ولو أُخرج خمس الأُصول بدفع القيمة فبقيت الأُصول لمالكها فثبوت الزكاة على تمام الغلّات واضح، ولو بقي غاصباً لخمس الأُصول فاختصاص الزكاة بغلّات الأربعة أخماس غير المغصوبة واضح.

وهناك وجه ثان لإثبات تقديم الخمس على الزكاة وهو أنّ الزكاة تتعلّق بالماليّة، لا بالعين بخصوصيّاتها العينية؛ بدليل جواز إخراجها من غير ذات الأعيان المتعلّقة للزكاة، ولكن الخمس يتعلّق بالأعيان على نحو الشركة والإشاعة على ما هو الظاهر من رجوع الضمير إلى ما غنمتم في قوله تعالى: ﴿َكوَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ

76

خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ و...﴾(1)وقد فسّرت الغنيمة الواردة في الآية في صحيحة علي بن مهزيار بمطلق الفائدة، حيث قال بعد قراءة الآية: فالغنائم والفوائد يرحمك الله، فهي الغنيمة يغنمها المرء والفائدة يفيدها... (2).

وعليه فتعلّق الخمس يُسقط ملكيّة خمس العين وقد أُخذ في موضوع الزكاة شرط ملكيّة العين، إذاً فالخمس متى ما تعلّق بالعين الزكوية يكون رافعاً لموضوع الزكاة.

ولعلّه لأحد هذين الوجهين أفتى السيد الخوئي(رحمه الله) بتقدّم الخمس على الزكاة حيث ورد عليه سؤال هذا نصّه:

«الأموال التي تتعلق بها الزكاة _ الغلّات والنعم والنقدين _ إذا حال عليها الحول، هل تخمّس أيضاً، وعلى فرض التخميس أيّهما يقدم أوّلاً؟».

فأجاب(رحمه الله) بما نصّه:

«نعم، إذا كانت بشرائط كلّ واحد منهما والخمس منهما مقدّم، والله العالم» (3).

والآن نريد أن نقلب الأمر فنفترض أنّ الزكاة هي التي ترفع موضوع الخمس وذلك لعدّة وجوه:

الأوّل: روايتان قد تفترض دلالتهما على ذلك، أوليهما: صحيحة علي بن مهزيار كتب إليه إبراهيم بن محمد الهمداني: «أقرأني عليّ كتاب أبيك في ما أوجبه على أصحاب الضياع أنّه أوجب عليهم نصف السدس بعد المؤونة وأنّه ليس على من لم تقم ضيعته بمؤونته نصف السدس ولا غير ذلك، فاختلف من قبلنا في ذلك فقالوا: يجب على الضياع الخمس بعد المؤونة، مؤونة الضيعة وخراجها لا مؤونة الرجل

 


(1) الأنفال: 41.

(2) وسائل الشيعة، ج9، ص501، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، ح5.

(3) صراط النجاة، ج3، ص 119.

77

الأوّل: روايتان قد تفترض دلالتهما على ذلك، أوليهما: صحيحة علي بن مهزيار كتب إليه إبراهيم بن محمد الهمداني: «أقرأني عليّ كتاب أبيك في ما أوجبه على أصحاب الضياع أنّه أوجب عليهم نصف السدس بعد المؤونة وأنّه ليس على من لم تقم ضيعته بمؤونته نصف السدس ولا غير ذلك، فاختلف من قبلنا في ذلك فقالوا: يجب على الضياع الخمس بعد المؤونة، مؤونة الضيعة وخراجها لا مؤونة الرجل وعياله. فكتب وقرأه عليّ بن مهزيار: عليه الخمس بعد مؤونته ومؤونة عياله وبعد خراج السلطان»(1).

والسند منتهٍ بإبراهيم بن محمد الهمداني وهو وكيل الناحية، فإن لم تثبت وثاقته بذلك وفقاً لمناقشة السيد الخوئي(رحمه الله) في ثبوت الوثاقة بالوكالة(2) فلعلّه يكفي في المقام ما في الحديث من جملة: «وقرأه علي بن مهزيار» فإنّ هذا إسقاط لإبراهيم بن محمد الهمداني من السند ويصبح علي بن مهزيار راوياً مباشرة.

وأمّا الدلالة فيقال: إنّ خراج السلطان هو الزكاة أو يشمل الزكاة، فالحديث دلّ على أنّ الخمس يحسب بعد خروج الزكاة.

ويمكن أن تناقش هذه الدلالة أوّلاً: بأنّ المقصود بالسلطان السلطان الجائر، فمعنى العبارة أنّ ما يأخذه السلطان قهراً على الإنسان لا يجب دفع خمسه، وهذا لا علاقة له بأنّه لو كان السلطان عادلاً فهل تحسب معه أوّلاً الزكاة ثم الخمس أو بالعكس.

وثانياً: أنّ هذا وارد في الضياع والغلّات والتي قلنا: إنّ بدوّ الصلاح فيها لا يعني مرور الحول عليها، وإذا أُخذ منها شيء سواء كان بظلم السلطان أو بعنوان الزكاة من قبل إمام عدل فمن الواضح أنّه حينما يمرّ عليه الحول لا يتعلّق به الخمس إلّا بما هو موجود فعلاً عنده.

والثانية: رواية أحمد بن محمد بن عيسى بن يزيد(3) أو رواية أحمد بن محمد بن عيسى عن زيد(4) قال: «كتبت جعلت لك الفداء تعلّمني ما الفائدة وما حدّها؟

 


(1) وسائل الشيعة، ج9، ص500، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، ح4.

(2) معجم رجال الحدیث، ج1، ص71.

(3) الكافي، ج2، ص729، الباب 130 من أبواب التاريخ، ح12.

(4) وسائل الشيعة، ج9، ص 503، الباب 8 من أبواب ما يجب فیه الخمس، ح7.

78

رأيك أبقاك الله أن تمنّ عليّ ببيان ذلك لكي لا أكون مقيماً على حرام لا صلاة لي ولا صوم، فكتب: الفائدة ممّا يفيد إليك في تجارة من ربحها وحرث بعد الغرام أو جائزة»(1). بناءً على أنّ هذا الحديث أفضل دلالة من الحديث الأوّل؛ لإمكان أن يقال: إنّ المقصود بالغرام ما يغرمه الإنسان من زكاة، سواء دفعها للسلطان الجائر أو للإمام العادل، وأنّه لا يختصّ بالحرث بل يشمل ربح التجارة.

ولو صحّ كلّ هذا فسنده ساقط إمّا بأحمد بن محمد بن عيسى بن يزيد لجهالته أو بزيد لجهالته.

والثاني: روايات أنّ الخمس بعد المؤونة، كصحيحة علي بن أبي راشد: «قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم: وأيّ شيء حقّه؟ فلم أدر ما أجيبه؟ فقال: يجب عليهم الخمس فقلت: ففي أيّ شيء؟ فقال: في أمتعتهم وصنائعهم قلت: والتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال: إذا أمكنهم بعد مؤونتهم»(2). ووجه الاستدلال بذلك على المقصود هو أنّ الزكاة إمّا أن تعتبر مؤونة فيكون الخمس بعد الزكاة، أو تعتبر في الفهم العرفي أولى من المؤونة؛ إذ لا شكّ أنّ الزكاة لو تعلّقت بالصرف مثلاً بالذمّة كان أداؤها من المال مؤونة ولا خمس فيها، فكيف بالزكاة المتعلّقة بالعين حالياً؟! وعليه فالخمس بعد الزكاة.

وهذا يرفع موضوع الوجهين اللذين بيّنّاهما لتقديم الخمس على الزكاة وهو كون الخمس بنحو الشركة أو كونه متعلّقاً بالمال من أوّل السنة؛ لأنّ دليل (الخمس بعد المؤونة) قيّد الخمس بأيّ وجه كان بما بعد الزكاة، فالزكاة رافعة لموضوعه فلا خمس حتّى يكون بنحو الشركة أو يثبت من أوّل السنة.

 


(1) وسائل الشيعة، ج9، ص 503، الباب 8 من أبواب ما يجب فیه الخمس، ح7.

(2) المصدر السابق، ص500، ح3.

79

والثالث أنّ روايات تعلّق الزكاة ساكتة جميعاً عن مشكلة تعلّق الخمس بالعين الزكوية، كما أنّ روايات تعلّق الخمس ساكتة جميعاً عن مشكلة تعلّق الزكاة بالعين التي هي متعلّقة للخمس.

وهذا السكوت الثاني إنّما فرضناه لأنّنا نفترض التنازل عن الوجه السابق وهو كون الزكاة مؤونة أو كالمؤونة، وإلّا فروايات الخمس ليست ساكتة عن ذلك.

وعندئذٍ نقول: لا غرابة في سكوت روايات الخمس عن مشكلة تعلّق الزكاة؛ لأنّ دائرة الأعيان التي تتعلّق بها الخمس واسعة جدّاً، فقد يكون النظر فيها إلى الحكم الحيثيّ؛ أي أنّ الحكم من حيث وظيفة الخمس بما هي كذا باعتبار أنّ الموارد الغالبة خالية عن مسألة الزكاة، وهذا بخلاف أدلّة زكاة النقود أو الأنعام فإنّها واردة في ما هو عين زكويّة، وفي نفس الوقت هو عين يتعلّق بها الخمس، فلو كان يتقدّم الخمس على الزكاة لكان المفروض أن ينبّه عليه.

80

 

81

مسألتان في العمرة

82

 

83

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

حد الفصل الواجب بين العمرتين المتتاليتين

المسألة الأُولی: من أتی بعمرتين متتاليتين، فهل يشترط في صحّة العمرة الثانية الفصل بينهما بوقوع كلّ واحدة منهما في شهر هلالي غير الشهر الآخر على أساس أنّ لكلّ شهر عمرة، أو يُشترط الفصل بينهما بمقدار شهر أو لا يشترط، لا هذا ولا ذاك؟

الظاهر أنّ أصل اشتراط أحدهما لا ينبغي التشكيك فيه؛ لروايات الباب 12 من كفّارات الاستمتاع من الوسائل(1)، الناصّة في من اعتمر عمرة مفردة فغشي أهله قبل أن يفرغ من طوافه وسعيه على أنّه قد أفسد عمرته، وعليه بدنة، وعليه أن يقيم بمكّة حتى يخرج الشهر الذي اعتمر فيه، فيخرج إلى بعض المواقيت. وفي إحدى تلك الروايات: «يخرج إلى الوقت الذي وقّته رسول الله(صلى الله عليه و آله) لأهله»، فيحرم منه ثم يعتمر. فلولا فساد العمرة الثانية بعدم الفصل لم يكن وجه لضرورة إقامته إلى أن

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص 128-129.

84

ينتهي الشهر السابق، بل كان بإمكانه أن يخرج للعمرة قبل انتهاء الشهر.

والظاهر من مصطلح الشهر في لسان الشريعة الشهر الهلالي: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾(1).

فالصحيح أنّ الشرط في صحة العمرة الثانية وقوعها في شهر هلالي غير الشهر الذي وقعت فيه العمرة الأُولى، لا فاصل مقدار الشهر بينهما.

هل يجوز الرجوع إلی مكة محلّاً في نفس شهر الخروج منها؟

المسألة الثانية: من كان في مكة بصورة مشروعة وخرج من مكة ومن الحرم وأراد الرجوع في نفس الشهر، فهل يجوز له الرجوع مُحلّاً مطلقاً، أو يُشترط في جواز رجوعه مُحلاً أن يكون قد اعتمر في ذلك الشهر؟ الظاهر هو الأول، ويدلّ على ذلك خبران صحيحان:

الأول: صحيح حمّاد بن عيسى عن أبي عبدالله(علیه السلام): «...قلت: فإن جهل فخرج إلى المدينة أو إلى نحوها بغير إحرام ثم رجع في إبّان الحج في أشهر الحجّ يريد الحجّ فيدخلها مُحرماً أو بغير إحرام؟ قال: إن رجع في شهره دخل بغير إحرام، وإن دخل في غير الشهر دخل مُحرماً...»(2).

فإنّه جعل العنوان لوجوب الإحرام وعدمه رجوعه في شهره أو في غير شهره، وهذا غير عنوان كونه مُعتمراً في ذلك الشهر وعدمه.

والثاني: صحيح جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(علیه السلام): «في الرجل يخرج إلى جدّة في الحاجة؟ قال: يدخل مكة بغير إحرام»(3).

فإنّ تقييده بمن أتی بالعمرة في نفس الشهر خلاف ما فيه من الإطلاق.

 


(1) التوبة: 36.

(2) وسائل الشيعة، ج11، ص303، الباب 22 من أبواب أقسام الحج، ح6.

(3) المصدر السابق، ج12، ص407، الباب 51 من أبواب الإحرام، ح3.

85

ويؤيّدهما خبران غير تامّين سنداً:

أحدهما: مرسلة حفص بن البختري وأبان بن عثمان عن رجل عن أبي عبدالله(علیه السلام): في الرجل يخرج في الحاجة من الحرم، قال: «إن رجع في الشهر الذي خرج فيه دخل بغير إحرام، وإن دخل في غيره دخل بإحرام»(1).

والثاني: مرسلة الصدوق عن الصادق(علیه السلام): «إذا أراد المتمتّع الخروج من مكة إلى بعض المواضع فليس له ذلك؛ لأنّه مرتبط بالحجّ حتی يقضيه إلا أن يعلم أنّه لا يفوته الحج، وإن علم وخرج وعاد في الشهر الذي خرج فيه دخل مكة مُحلّاً، وإن دخلها في غير ذلك الشهر دخلها مُحرماً»(2).

ولكن يعارض كل هذه الروايات موثّق إسحاق بن عمّار، قال: «سألت أبا الحسن(علیه السلام)عن المتمتّع يجيء فيقضي متعته ثم تبدو له الحاجة فيخرج إلى المدينة وإلى ذات عرقٍ، أو إلى بعض المعادن؟ قال: يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتّع فيه؛ لأنّ لكلّ شهر عمرة، وهو مرتهن بالحجّ. قلت: فإنّه دخل في الشهر الذي خرج فيه؟ قال: كان أبي مجاوراً هاهنا فخرج يتلقّى بعض هؤلاء، فلمّا رجع فبلغ ذات عرق أحرم من ذات عرق بالحجّ، ودخل وهو مُحرم بالحج»(3).

فإنّه(علیه السلام)أمر في هذا الحديث بالإحرام لمن يدخل في غير الشهر الذي تمتّع فيه ولو كان دخوله في الشهر الذي خرج فيه، واستشهد(علیه السلام)بفعل أبيه(علیه السلام)الذي أحرم بإحرام الحجّ المفرد من ذات عرق باعتبار أنّه كان مجاوراً لمکّة، فکانت وظيفته الإفراد.

 


(1) المصدر السابق، ح4.

(2) المصدر السابق، ج11، ص304، الباب22 من أبواب أقسام الحج، ح10.

(3) المصدر السابق، ص303، ح8.

86

ومقتضى الجمع العرفي بين هذه الموثّقة وبين ما جعل العنوان الذي يجب معه الإحرام أو لا يجب (دخوله في شهر الخروج أو في شهر آخر) _ وهي الروايات الثلاث الأُولى _ هو حمل هذا الأمر على الاستحباب.

87

محلّ الذبح في الحج

88

 

89

تعتبر منى محلّ ذبح الهدي في حج التمتّع، وقد يُستدل على ذلك بوجوه:

1_ قوله تعالى: >وَأَتِمُّوا﴿الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّٰهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ...﴾(1).

فقد استدلّ السيد الخوئي(رحمه الله) بهذه الآية المباركة لإثبات أنّ محلّ ذبح الهدي في الحجّ بمنى؛ تارةً بها وحدها، وأُخرى بمعونة ضمّ موثقة زرعة إليها(2).

أمّا تقريب الاستدلال بالآية وحدها فهو أنّه لا يوجد فقهيّاً في محلّ ذبح الهدي غير احتمالين:

الأوّل: أن يكون محلّه منى.

والثاني: أن لا يكون له محلّ معيّن.

وقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ يرفض الاحتمال الثاني بصريح العبارة، فينحصر الأمر في الاحتمال الأوّل.

أقول: لو لم نحتمل في محلّ الهدي احتمالاً ثالثاً حقّاً لتمّ هذا الاستدلال، أمّا لو احتملنا في محلّ الهدي كونه أوسع من منى _ وهو عنوان الحرم مثلاً أو عنوان مكّة وما حواليها _ فهذا الاستدلال لا يتمّ.

 


(1) البقرة: 196.

(2) المعتمد، كتاب الحج، ج5، ص208.

90

وأمّا تتميم الاستدلال بالآية بموثقة زرعة فتلك الموثقة عبارة عمّا ورد عنه من قوله: «سألته عن رجل أُحصر في الحجّ؟ قال: فليبعث بهديه إذا كان مع أصحابه، ومحلّه أن يبلغ الهدي محلَّه، ومحلّه منى يوم النحر إذا كان في الحجّ، وإن كان في عمرة نحر بمكّة...»(1).

فهذه الرواية قد فسّرت المقصود بما في الآية الشريفة من بلوغ الهدي محلّه، وذكرت أنّ محلّ الهدي هو منى.

وقد ذكر السيد الخوئي(رحمه الله)(2) أنّ هذا الدليل ليس له إطلاق لحالات العذر حتّى يثبت به سقوط الهدي رأساً عند العجز عن ذبحه بمنى إلى بدل _ وهو الصوم _ أو لا إلى بدل؛ فإنّ الآية والرواية ليستا بصدد بيان محلّ الهدي ابتداءً، فغاية ما يثبت بهما أنّ محلّ الهدي في الحالات الاعتيادية هو منى، أمّا مع العجز فنرجع إلى إطلاقات دليل وجوب الهدي، كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجَّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾(3).

أقول: لا يخفى أنّ الاستدلال بمجموع الآية والرواية يكون في قوّة الاستدلال بالرواية لا الآية، وعلى أيّ حال لم يتّضح لدينا معنى ضمّه(رحمه الله) في المقام الرواية إلى الآية لإثبات أنّ محلّ الذبح هو منى؟! فإنّ الرواية وحدها دالّة على المقصود، وضمّ الآية إليها لا يزيد شيئاً في المقام.

2_ صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبدالله(علیه السلام)، «في رجل يضلّ هديه فيجده رجل آخر فينحره، فقال: إن كان نحره بمنى فقد أجزأ عن صاحبه الذي ضلّ عنه، وإن كان نحره في غير منى لم يجزئ عن صاحبه»(4).

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص182، الباب2 من أبواب الإحصار والصد، ح2.

(2) المعتمد، كتاب الحجّ، ج5، ص211.

(3) البقرة: 196.

(4) وسائل الشيعة، ج14، ص137، الباب 28 من أبواب الذبح، ح2.

91

وقد ذكر السيد الخوئي(رحمه الله) أنّ الاستدلال بهذا الحديث على أصل المطلب _ وهو كون محلّ الذبح منى _ تام في ذاته، إلّا أنّه أيضاً لا إطلاق له لحال العذر عن الذبح في منى؛ لأنّه لم يكن ابتداءً بصدد بيان محلّ الذبح، فمع العذر نتمسّك أيضاً بإطلاقات الذبح لإثبات وجوب الذبح، ولو في مكان آخر(1).

3_ رواية إبراهيم الكرخي عن أبي عبدالله(علیه السلام)، «في رجل قدم بهديه مكّة في العشر فقال: إن كان هدياً واجباً فلا ينحره إلّا بمنى، وإن كان ليس بواجب فلينحره بمكّة إن شاء، وإن كان قد أشعره أو قلّده فلا ينحره إلّا يوم الأضحى»(2).

وقد ناقش السيد الخوئي(رحمه الله) في سند الحديث بإبراهيم الكرخي الذي لم يشهد بوثاقته(3).

أقول: وهذا لا يهمّنا؛ لنقل ابن أبي عمير عنه، فبناءً على مسلكنا من كون نقل أحد الثلاثة دالّاً على التوثيق يتم سند الحديث.

وأمّا فقه الحديث: فالظاهر أنّ الحجّ كان حج قران؛ بقرينة قوله: «قدم بهديه». وأمّا قوله: «في العشر» فالظاهر أنّه إشارة إلى سؤال، وهو أنّه ما دام قد قدم بهديه في العشر في داخل ذي الحجّة أفلا يجوز له الذبح داخل العشر وقبل الأضحى وقبل الانتقال إلى منى؟ فكأنّ السائل يسأل سؤالين: أحدهما عن مدى جواز ذبحه في مكّة وقبل منى، والآخر عن مدى جواز الاستعجال بالذبح قبل الأضحى في العشر الأُولى، فأجاب الإمام(علیه السلام)عن السؤال الأوّل بقوله: «إن كان هدياً واجباً فلا ينحره إلّا بمنى، وإن كان ليس بواجب فلينحر بمكّة إن شاء»، وكأن المقصود من الهدي الواجب ما أُشعر أو قلّد، ومن غير الواجب ما لم يشعر ولم يقلّد، وأجاب عن السؤال الثاني بقوله: «وإن كان قد أشعره أو قلّده فلا ينحره إلّا يوم الأضحى».

 


(1) المعتمد، كتاب الحجّ، ج5، ص211.

(2) وسائل الشيعة، ج14، ص88، الباب4 من أبواب الذبح، ح1.

(3) المعتمد، كتاب الحجّ، ج5، ص201.

92

ولعلّ هذا الالتواء والغموض في الجواب ناتج عن النقل بالمعنى. وعلى أيّة حال فالمعنى الذي استفدناه من هذا الحديث _ بتفسيره بما شرحناه _ قد ورد بصريح العبارة في حديث آخر وهو:

4_ صحيحة مسمع عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «إذا دخل بهديه في العشر فإن كان أشعره وقلّده فلا ينحره إلّا يوم النحر بمنى، وإن كان لم يقلّده ولم يشعره فلينحره بمكّة إذا قدم في العشر»(1).

ولئن كان سند الحديث السابق معيباً بإبراهيم الكرخي حسب مبنى السيد الخوئي(رحمه الله) فَلِم لم يستدلّ على المقصود بهذا الحديث الذي لا غبار على سنده؟!

نعم، العيب الموجود في كلا الحديثين أنّهما واردان في حجّ القران، في حين أنّ كلامنا في حج التمتع، فيتوقف الاستدلال بهذين الحديثين على دعوى عدم احتمال الفرق فقهيّاً في محلّ الهدي بين القران والتمتع؛ فإن تمّ هذا كفانا الحديث الثاني، وإن لم يتم لم تتم دلالة الحديث الأوّل أيضاً.

5_ حديث عبد الأعلى الذي رواه أبان عنه قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): «لا هدي إلّا من الإبل، ولا ذبح إلّا بمنى»(2).

وقد ناقش السيّد الخوئي(رحمه الله) في سند الحديث بعبد الأعلى؛ لاشتراكه بين العجلي الثقة ومولى آل سام الذي لم تثبت وثاقته، بل نقل أبان عنه قرينة على أنّ المقصود هو مولى آل سام.

أقول: إنّنا لا نهتم بذلك؛ لأنّ عبد الأعلى مولى آل سام ممّن قد روى عنه ابن أبي عمير.

نعم، لدينا نقاش في دلالة الحديث؛ لأنّ وحدة السياق بين نفي الهدي إلّا من الإبل ونفي الذبح إلّا بمنى يبطل الدلالة؛ للقطع باستحباب الأوّل.

 


(1) وسائل الشيعة، ج14، ص89، الباب4 من أبواب الذبح، ح5.

(2) المصدر السابق: ص 90، ح 6.

93

نعم، لدينا نقاش في دلالة الحديث؛ لأنّ وحدة السياق بين نفي الهدي إلّا من الإبل ونفي الذبح إلّا بمنى يبطل الدلالة؛ للقطع باستحباب الأوّل.

6_ حديث مسمع عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «منى كلُّه منحر، وأفضل المنحر كلّه المسجد»(1).

وقد ناقش السيد الخوئي(رحمه الله) في هذا الحديث سنده مع تسليمه للدلالة، فذكر أنّ دلالة الحديث واضحة، ولكنّ السند ضعيف بالحسن اللؤلؤي الذي وقع فيه التعارض بين توثيق النجاشي وتضعيف ابن الوليد له، حيث استثنى من روايات محمد بن أحمد بن يحيى ما كان ينفرد به الحسن بن الحسين اللؤلؤي، على أساس أنّ محمد بن أحمد بن يحيى وإن كان ثقة في نفسه لكنه يروي عن الضعفاء، وتبعه على ذلك الشيخ الصدوق وأبو العباس بن نوح(2).

أقول: إنّ تماميّة دلالة الرواية موقوفة على ما مضى من دعوى أنّ الاحتمال الفقهي يدور بين أن يكون منى هو المذبح وأن لا يكون أيّ تعيّن لمحل الذبح، فعندئذٍ يكون قوله: «منى كلّه منحر» دالاً على الأوّل. أمّا إذا تردّدنا بين أن يكون المنحر هو منى أو ما هو أوسع من منى كالحرم أو مكّة وما حواليها، فالرواية لا تدل على اختصاص المنحر بمنى، فإنّها ليست ذات مفهوم، وإنّما هي بصدد بيان أنّ النحر في منى لا يكون في خصوص المسجد؛ لأنّ منى كلّه منحر ولكن المسجد أفضل.

وعلى أيّ حال فلو تمّ إطلاق لإثبات أنّ الهدي في حجّ التمتع يجب أن يُذبح في منى، فقد يتصوّر أنّ من وجد الهدي ولكنه عجز عن ذبحه بمنى يسقط عنه الذبح، إمّا إلى بدل وهو الصوم أو لا إلى بدل.

ولكن يمكن أن يقال: إنّه حتّى لو تمّ إطلاق من هذا القبيل فإنّنا نقيّده بإخراج فرض العجز عن الذبح في منى بأحد وجوه، لو تمّ أيّ واحد منها لثبت أنّ الهدي لا يسقط بالعجز عن ذبحه في منى، وأمّا دليل الانتقال إلى البدل وهو الصوم فإنّما ورد في من لم يجد الهدي، لا في من وجد الهدي ولكن عجز عن ذبحه في منى.

 


(1) المصدر السابق، ح7.

(2) المعتمد، كتاب الحجّ، ج5، ص210.

94

ولكن يمكن أن يقال: إنّه حتّى لو تمّ إطلاق من هذا القبيل فإنّنا نقيّده بإخراج فرض العجز عن الذبح في منى بأحد وجوه، لو تمّ أيّ واحد منها لثبت أنّ الهدي لا يسقط بالعجز عن ذبحه في منى، وأمّا دليل الانتقال إلى البدل وهو الصوم فإنّما ورد في من لم يجد الهدي، لا في من وجد الهدي ولكن عجز عن ذبحه في منى.

أمّا الوجوه التي قد يمكن الاعتماد على بعضها لإثبات عدم سقوط الهدي بالعجز عن الذبح في منى فهي ما يلي:

الوجه الأوّل: دعوى الضرورة الفقهية على ذلك، فلعلّ عدم سقوط التكليف عن المتمتع بمجرّد عجزه عن ذبحه بمنى من المسلّمات.

إلّا أنّ هذا الوجه إنّما ينفع لو جزمنا بقيام الضرورة الفقهية على بقاء وجوب الذبح مع سقوط قيد كونه في منى، أمّا لو ادّعينا أنّ الضرورة إنّما قامت على عدم سقوط الهدي بلا بدل، فهذا الوجه لو تمّ وحده لورّطنا في مشكلة الجمع بين ذبح الهدي والصوم عملاً بالعلم الإجمالي، إلّا إذا ادّعينا احتمال التخيير ورفعنا تعيين أحدهما بالبرائة من التعيين.

الوجه الثاني: التمسك بالروايات الواردة في متمتّع يجد الثمن ولا يجد الغنم إلى أن يريد الرجوع إلى أهله، كصحيحة حريز عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «يخلف الثمن عند بعض أهل مكّة ويأمر من يشتري له ويذبح عنه، وهو يجزئ عنه، فإن مضى ذو الحجة أخّر ذلك إلى قابل من ذي الحجة»(1).

فإنّ الظاهر من ذلك أنّ ذاك البعض سيذبحه في مكّة، إمّا لأنّه يصعب عليه نقله إلى منى لأجل المنوب عنه _ خصوصاً في تلك الأيّام التي لم تكن فيها وسائل النقل حديثة ومتوفّرة كما هي اليوم _ فالشريعة لم تشأ تكليفه بالذبح في منى، وإمّا لأنّ قيد الذبح في منى يختص بأيّام منى _ أعني أيّام التشريق _ وقد انتهت. ومنشأ هذا الظهور سكوته(علیه السلام)عن إيجاب ذبحه في منى، رغم أنّ وجوب ذلك في هذه الحالة ليس من الواضحات، ففرض جعل الثمن عند بعض أهل مكّة ليذبح عنه ظاهره هو الذبح في مكّة، وإلّا لنبّه الإمام(علیه السلام)على ذلك.

 


(1) وسائل الشيعة، ج14، ص176، الباب44 من أبواب الذبح، ح1.

95

فإنّ الظاهر من ذلك أنّ ذاك البعض سيذبحه في مكّة، إمّا لأنّه يصعب عليه نقله إلى منى لأجل المنوب عنه _ خصوصاً في تلك الأيّام التي لم تكن فيها وسائل النقل حديثة ومتوفّرة كما هي اليوم _ فالشريعة لم تشأ تكليفه بالذبح في منى، وإمّا لأنّ قيد الذبح في منى يختص بأيّام منى _ أعني أيّام التشريق _ وقد انتهت. ومنشأ هذا الظهور سكوته(علیه السلام)عن إيجاب ذبحه في منى، رغم أنّ وجوب ذلك في هذه الحالة ليس من الواضحات، ففرض جعل الثمن عند بعض أهل مكّة ليذبح عنه ظاهره هو الذبح في مكّة، وإلّا لنبّه الإمام(علیه السلام)على ذلك.

فلئن سقط قيد منى بالعجز عنه في أيّام منى فهو المطلوب، ولئن سقط قيد منى بمجرّد صعوبة الالتزام بذلك من قبل النائب فسقوطه بالعجز عنه أولى.

وصحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر عن النضر بن قراوش _ ويكفي في توثيقه نقل أحمد بن محمد بن أبي نصر عنه _ قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن رجل تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فوجب عليه النسك، فطلبه فلم يجده وهو موسر حسن الحال، وهو يضعف عن الصيام، فما ينبغي له أن يصنع؟ قال: يدفع ثمن النسك إلى من يذبحه بمكّة إن كان يريد المضيّ إلى أهله، وليذبح عنه في ذي الحجة، فقلت: فإنّه دفعه إلى من يذبح عنه، فلم يصب في ذي الحجة نسكاً وأصابه بعد ذلك؟ قال: لا يذبح عنه إلّا في ذي الحجة ولو أخّره إلى قابل»(1).

وهذه الرواية أظهر من الأُولى في الذبح بمكّة؛ لمكان قوله: «يدفع ثمن النسك إلى من يذبحه بمكة»؛ فإن فرض تعلق «بمكّة» بـ «يدفع» أو كونه وصفاً للموصول أي: مَن يكون بمكّة، خلاف الظاهر، والظاهر تعلقه بـ «يذبحه».

ولا تعارضها صحيحة أبي بصير عن أحدهما(علیهما السلام) قال: «سألته عن رجل تمتّع فلم يجد ما يهدي، حتّى إذا كان يوم النفر وجد ثمن الشاة، أيذبح أو يصوم؟ قال: بل يصوم؛ فإنّ أيّام الذبح قد مضت»(2).

وذلك لأنّ احتمال الفرق وارد بين من يجد الثمن لكنّه لا يحصل على الحيوان، ومن لا يجد الثمن أصلاً.

 


(1) المصدر السابق، ح2.

(2) المصدر السابق، ص177، ح3 و4.