632

أمّا بلحاظ النصوص الخاصة: فلم يرد نص خاص في هذا الفرع، وإنّما النصوص كانت في فرض تعارض البيّنتين، وقد عرفت أنّ مقتضاها بعد سقوط البيّنتين هو التحالف وإعطاء المال إلى من حلف، وتقسيمه بينهما لو حلفا معاً، والقرعة لو نَكَلا معاً، فبناءً على التعدّي من مورد تعارض البيّنتين وتساقطهما إلى مورد عدم البيّنة بدعوى عدم احتمال الفرق عرفاً يثبت في المقام نفس الحكم.

حالة كون المال خارجاً عن يدهما

الفرع الثاني _ لو لم تكن لأحدهما اليد على المال وهما يدّعيان الملكيّة، وهنا أيضاً إمّا أن يمتلك أحدهما البيّنة، أو لا، فإن امتلك أحدهما البيّنة أخذ المال ببينته، وإن لم يمتلك أحدهما البيّنة فمقتضى القاعدة تحليفهما، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر أخذ الحالف المال، ولو نكلا فمقتضى القاعدة هو القرعة، ولو حلفا فلو استفدنا من دليل توجيه الحلف إليهما ودليل القضاء بالحلف تنفيذ كلا الحلفين بمعنى التقسيم، ثبت التقسيم وإلا فالقرعة.

هذا كلّه على القواعد، أمّا النص الخاص: فهنا أيضاً بناءً على التعدّي من مورد تعارض البيّنتين وتساقطهما إلى مورد عدم البيّنة تكون النتيجة هي التحالف وإعطاء المال للحالف، وتقسيمه بينهما لو حلفا، والقرعة لدى النكول.

حالة التداعي في غير المال

الفرع الثالث _ لو تنازعا في غير المال كالزوجيّة، فإن كانت لأحدهما بيّنة ثبت الحقّ له، وإلا فمقتضى القاعدة التحالف وإعطاء الحقّ للحالف، ولو حلفا أو نكلا فالقرعة، ولكنّنا هنا _ أيضاً _ نتعدّى عن مورد النصوص الواردة في فرض تعارض البينتين وتساقطهما، ونثبت بذلك القرعة لتعيين من عليه الحلف.

633

حالة النزاع بغير علم

الفرع الرابع _ لو تنازعا في المال أو غيره مع جهلهما معاً بالواقع، كما لو دار أمر المال أو الولد بينهما وهما أيضاً غير عالمين بالحقيقة، فهذا ليس من المرافعة المتعارفة، ولا يوجد مدّعٍ ومنكر بالمعنى المصطلح، ولا علاقة لذلك بمثل قوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»، وعندئذٍ إن كان المورد ممّا يمكن اطّلاع البيّنة على الواقع فيه _ وإن جهل الطرفان الواقع _ فقامت صدفةً بيّنة لصالح أحدهما ثبت الحقّ لمن شهدت البيّنة له، فإن اعترفا بصلاحيّة البيّنة تمّت الحجّة عليهما قبل حكم الحاكم، وإن لم يعترفا بصلاحيّتها لكن الحاكم رآها صالحة، حسم النزاع بينهما بالحكم، وأمّا إن لم يكن المورد قابلاً لقيام البيّنة أو لم تقم البيّنة صدفةً فمقتضى مطلقات القرعة هو الرجوع إلى القرعة لتعيين الواقع، سواء كان في الأموال أو في غيرها.

أمّا بلحاظ النصوص الخاصّة ففي غير الأموال ورد ما دلّ على القرعة، وفي الأموال ورد ما دلّ على التقسيم إضافةً إلى ما قد يُدّعى من السيرة العقلائيّة.

أمّا ما دلّ على القرعة في غير الأموال، فهو عبارة عن روايات القرعة في تعيين من له الولد من قبيل حديث أبي بصير التامّ سنداً عن أبي جعفر (عليه السلام): «أنّ عليّاً (عليه السلام) قضى في قوم تبايعوا جارية، فوطأها جميعهم في طهر واحد، فولدت غلاماً، فاحتجّوا فيه كلّهم يدّعيه، فأسهم بينهم فجعله للذي خرج سهمه وضمّنه نصيبهم»(1)، ونحوه أحاديث أُخرى سيأتي ذكرها قريباً، ومضى ذكرها أيضاً في بحث القرعة.

وأمّا ما دلّ على التقسيم في باب الأموال فهو بعض الروايات إضافة إلى ما قد يدّعى


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص188، الباب 13 من كيفيّة الحكم، ح6، وج14، ص567، الباب 57 من نكاح العبيد والإماء، ح4.

634

من السيرة العقلائيّة على قاعدة العدل والإنصاف.

وقد أفاد أُستاذنا الشهيد رضوان اللّه عليه(1): أنّ الاستدلال بالسيرة العقلائية على قاعدة العدل والإنصاف غير صحيح، سواء أُريد بذلك دعوى السيرة على القاعدة في نفسها وبغضّ النظر عن باب الخصومة والقضاء، أو أُريد به دعوى السيرة عليها في خصوص باب الخصومة والقضاء:

فلو أُريد الأول ورد عليه منع وجود سيرة من هذا القبيل، فلو تمّت سيرة على قاعدة العدل والإنصاف فإنّما هي في باب الخصومة بنكتة فصل الخصومة ورفعها والتنصيف يصلح لذلك، وليست على الإطلاق.

ولو أُريد الثاني ورد عليه: أنّه إن ثبتت السيرة في باب القضاء فهي مردوعة بإطلاق الأخبار الدالة على أنّ القضاء إنّما هو بالبيّنات والأيمان، إذاً فلا يجوز فصل الخصومة بقاعدة العدل والإنصاف إلا بنصّ خاص. وعلى أيّ حال فلا حاجة لنا في فصل الخصومة إلى هذه السيرة؛ لدلالة النص الخاص على قاعدة العدل والإنصاف فيه؛ حيث ورد _ في فرض تعارض البيّنتين وعدم مرجّح لإحداهما على الأُخرى _ الحكم بالتنصيف، ونتعدّى من فرض تعارض البيّنتين المتساويتين إلى ما لم تكن هناك بيّنة أصلاً؛ لأنّ الظاهر عرفاً من الكلام أنّ الحكم بالتنصيف يكون بنكتة أنّ البيّنتين بعد التعارض وعدم المرجّح كالعدم، فتتّجه هذه القاعدة في مقام فصل الخصومة حتى مع عدم وجود البيّنة. انتهى ما أردنا نقله عن أُستاذنا الشهيد (رحمه الله).

أقول: إنّ المفهوم عرفاً بمناسبات باب القضاء من قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» إنّما هو عدم تجاوز البيّنات والأيمان في القضاء، ولا يفهم منه إيقاف


(1) في بحث القطع في فرع الودعي من الفروع التي ينقض بها على عدم إمكانية الترخيص في مخالفة القطع.

635

القضاء حينما ينفد تأثير البيّنات والأيمان كما لو لم تكن بينة، أو سقطت بالتعارض، ونكلا عن اليمين، أو لم يمكن تحليفهما لجهلهما بالواقع، والسيرة على قاعدة العدل والإنصاف في باب القضاء _ لو كانت _ فهي لا تكون في مقابل البيّنات والأيمان وفي عرضها، وإنّما تكون بعد نفاد تأثير البيّنات والأيمان.

وعلى أيّ حال فثبوت السيرة على القاعدة حتى في باب القضاء غير واضح، فلعلّهم يرجعون إلى القرعة.

وأمّا ما أفاده _ رضوان اللّه عليه _ من دلالة النص في باب تعارض البيّنات ‏المتكافئة على قاعدة العدل والإنصاف فهذا أيضاً غير صحيح، فإنّ النصوص بين ما ورد في التنصيف بعد تحالفهما كحديث إسحاق بن عمّار(1) وبين ما هو محمول على ذلك بالتقييد كحديث غياث بن إبراهيم(2) الذي لم يكن مقيّداً بالتحليف، لكننّا نحمله على ذلك جمعاً بينه وبين حديث إسحاق بن عمّار. وعليه فمن المحتمل أن يكون التقسيم نتيجةً لحلفهما، لا لقاعدة العدل والإنصاف، ولا يمكن التعدّي إلى غير موارد الحلف.

وقد يقال: يكفي في الجمع بينهما حمل حديث غياث على فرض التحليف مع إبقاء إطلاقه لفرض نكولهما عند التحليف.

ولكن يتّضح الجواب على ذلك بالتدقيق في متن رواية غياث _ التي هي عمدة روايات التقسيم _ ورواية إسحاق التي نقيّد بها رواية غياث.

فمتن رواية غياث ما يلي:

«عن أبي عبداللّه (عليه السلام): أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دابّة


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص182، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح2.

(2) نفس المصدر، ح3.

636

وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلته بينهما نصفين».

فقوله: «قضى بها للذي في يده» يقتضي بإطلاقه الثابت بملاك ترك ذكر أنّه حلّفه أو لا (وهو شبيه بملاك ترك الاستفصال) أنّه يُقضى للمنكر بلا حاجة إلى يمينه، لكنّ هذا الإطلاق مقيّد برواية إسحاق، وهي ما يلي:

«عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابّة في أيديهما وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، فأحلفهما علي (عليه السلام) فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة؟ فقال: أُحلّفهما فأيّهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فإن كانت في يد أحدهما وأقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده».

فقوله: في ذيل الحديث: «أقضي بها للحالف الذي هو في يده» يقيّد إطلاق رواية غياث، وبذلك يثبت: أنّ المقصود بقوله في رواية غياث: «قضى بها للذي في يده» أنّه قضى بها له بعد تحليفه، وبما أنّها قضيّة في واقعة فهو منصرف إلى ما هو المألوف من حلف ذي اليد _ عند تحليفه _ دون نكوله، وبما أنّ الضمير في قوله: «لو لم تكن في يده جعلته بينهما نصفين» راجع إلى نفس هذا الشخص في هذه القصّة بفرق فرض عدم اليد... لا ينعقد له إطلاق لفرض النكول.

على أنّنا لو عملنا بروايات التقسيم لدى تعارض البيّنات جاء فيها احتمال كون التقسيم فيها نوع عمل بالبيّنات المتعارضة، لا عملاً بقاعدة العدل والإنصاف كقاعدة مستقلّة في ذاتها حتى يتعدّى إلى فرض عدم البيّنة.

ويمكن الاستدلال على قاعدة العدل والإنصاف في فصل الخصومة بروايات

637

أُخرى من قبيل:

1_ ما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام) في رجل أقرّ عند موته لفلان وفلان: لأحدهما عندي ألف درهم، ثم مات على تلك الحال؟ فقال علي (عليه السلام) «أيّهما أقام بيّنةً فله المال، وإن لم يقم واحد منهما البينة فالمال بينهما نصفان»(1). إلا أنّ سند الحديث ضعيف بالنوفلي.

2_ ما رواه السكوني أيضاً عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه في رجل استودع رجلاً دينارين، فاستودعه آخر ديناراً، فضاع دينار منها. قال: «يعطى صاحب الدينارين ديناراً، ويقسّم الآخر بينهما نصفين»(2). وهذا الحديث أيضاً ضعيف بالنوفلي كما أشار إليه أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) (3). ولو تمّ سند هذا الحديث لاقتصرنا على ما يكون من قبيل مورده من عدم إمكانية الحلف لجهلهما ولم نتعدَّ إلى فرض نكولهما.

3_ الحديث المرسل: «أنّ رجلين تنازعا في دابّة ليس لأحدهما بيّنة، فجعلها النبي (صلى الله عليه و آله) بينهما»(4). وهذا الحديث ساقط سنداً، ولو تمّ قُيِّد بما مضى من حديث إسحاق بن عمّار، واختصّ بصورة تحليفهما، وجاء احتمال كون التقسيم بنكتة إعمال الحلفين، لا بنكتة قاعدة العدل والإنصاف.

4_ رواية عبداللّه بن المغيرة، وقد وردت بسند الصدوق التامّ عن عبداللّه بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك، فقال: «أمّا الذي


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص400، الباب 25 من أحكام الوصايا.

(2) نفس المصدر، ص171، الباب 12 من أحكام الصلح.

(3) في فرع الودعي من مبحث القطع.

(4) سنن البيهقي، ج10، ص 255.

638

قال: هما بيني وبينك، فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له وأنّه لصاحبه، ويقسّم الآخر بينهما». ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن عبداللّه بن المغيرة عن بعض أصحابنا، وروي نحو الحديث أيضاً عن محمد بن أبي حمزة _ بسند تام _ عمّن ذكره، عن أبي عبداللّه (عليه السلام)(1). والسند الثاني والثالث وإن كانا ساقطين بالإرسال، ولكن بالإمكان تتميم السند الأول بأن يقال: إنّ التعبير بـ «غير واحد من أصحابنا» الذي قد يؤدّي معنى ما يزيد على الاثنين _ على الأقلّ _ حينما يصدر من مثل عبداللّه بن المغيرة الذي قيل عنه: «أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه» يورث الاطمئنان بحساب الاحتمالات بأنّ أحدهم _ على الأقلّ _ كان ثقةً، أو أنّ نقلهم جميعاً لعبداللّه بن المغيرة كان يوجب الاطمئنان بالصدور.

وبالإمكان أن يقال: إنّ هذا الحديث لا يدل على نفي التحليف؛ بأن يكون التقسيم بنفسه نظاماً للحكم في باب القضاء عند التداعي من دون التحليف خروجاً عن قاعدة «إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»، وذلك لأنّ الظاهر أنّ الحديث وارد بصدد الردّ على شبهة حصلت في ذهن السائل، وهي احتمال أن يقال: إنّ اليدين دليل على الشركة، فمن قال: «هما بيني وبينك» هو المنكر؛ لمطابقة قوله الأمارة وهي اليدان، ومن قال: «الدرهمان لي» هو المدّعي؛ لمخالفة قوله الأمارة وهي اليدان، فقد وضّح الإمام (عليه السلام): أنّ أماريّة إحدى اليدين بالنسبة لأحد الدرهمين سقطت نهائياً باعترافه، فهما إنّما يكونان على قدم سواء بالنسبة للدرهم الثاني، أمّا الدرهم الأول فلمن توافقا على أنّه له، فالدرهم الثاني هو الذي يقسّم بينهما، لا مجموع الدرهمين.


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص169، الباب 9 من أحكام الصلح، ح1.

639

أمّا أنّه متى يقسّم، قبل التحليف أو بعده، فلا إطلاق للحديث يشمل فرض عدم التحليف؛ لأنّه وارد مورد بيان أمر آخر. ومن هنا يظهر أيضاً أنّه لا إطلاق للحديث لفرض نكولهما معاً؛ لما قلنا من أنّه وارد مورد بيان أمر آخر وهو كون التقسيم وارداً على درهم واحد، لا على الدرهمين، ويكفي احتمال هذا المعنى على وجه يوجب الإجمال في الإطلاق.

وعليه فالحديث لا يدل على قاعدة العدل والإنصاف؛ لاحتمال كون التقسيم بنكتة إعمال الحلفين.

أما لو لم نقبل هذا التفسير _ الذي شرحناه _ للحديث، وقلنا: إنّ الحديث دلّ على التقسيم مطلقاً، فعندئذٍ نقول بما مضى في الحديث السابق من تقييده برواية إسحاق ابن عمّار، فيختصّ بعد التقييد بما لو تحالفا وجاء عندئذٍ احتمال كون التقسيم بنكتة الحلف، لا بنكتة قاعدة العدل والإنصاف.

5_ ما مضى من حديث أبي بصير التامّ سنداً عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «بعث رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) عليّاً (عليه السلام) إلى اليمن، فقال له حين قدم: حدّثني بأعجب ما ورد عليك، فقال: يا رسول اللّه أتاني قوم قد تبايعوا جارية فوطئها جميعهم في طهر واحد فولدت غلاماً فاحتجوا فيه كلهم يدّعيه، فأسهمت بينهم فجعلته للذي خرج سهمه وضمّنته نصيبهم، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): ليس من قوم تقارعوا، ثم فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلا خرج سهم المحقّ»(1). فقد يقال: إنّ هذا الحديث بقرينة قوله: «وضمّنته نصيبهم» دلّ على أنّ الأصل في تردّد الشيء بين شخصين هو قاعدة العدل


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص188، الباب13 من كيفيّة الحكم، ح6. و ج14، ص567، الباب57، من نكاح العبيد والإماء، ح4، ونحوه في الدلالة مرسلة المفيد المذكورة في نفس الباب من ج14، ح5.

640

والإنصاف حتى في مثل الوليد فضلاً عن الأموال. ولكن بما أنّ تطبيق قاعدة العدل والإنصاف بشكل كامل على الولد لم يكن ممكناً تنزّل إلى تطبيقها بأن يأخذ أحدهم الولد ويضمن للباقي نصيبهم، فوقع الكلام في أنّه من الذي يأخذ الولد ويضمن للباقي نصيبهم، فعيّن ذلك بالقرعة على تعيين الأب.

إلا أنّه لو تمّ الاستدلال بهذا الحديث على قاعدة العدل والإنصاف، فلابدّ من الاقتصار في الاستدلال به على ما يكون من قبيل مورده من الجهل من قبل الطرفين بالحال، فلا يُتعدّى إلى فرض نكولهما عن القسم.

والصحيح عدم تمامية الاستدلال بهذا الحديث على قاعدة العدل والإنصاف، وتوضيح ذلك: أنّ هذا الحديث دلّ على تعيين الولد لأحدهم بالقرعة، وأمّا تضمينه لنصيب الآخرين بالمال فلم يعلم كونه بنكتة أنّه كان الأصل هو تقسيم الولد بينهم، وبما أنّ هذا غير ممكن انتقل الأمر إلى تضمينه لحصّة الآخرين عملاً بقاعدة العدل والإنصاف بقدر الإمكان، بل الظاهر أنّ النكتة في ذلك هي أنّ من وطئ جاريةَ غيره فأولدها كان الولد أو قيمته لصاحب الجارية، كما دلّت على ذلك جملة من الروايات(1)، فبعد أن ثبت بالقرعة أنّ هذا الولد ولد فلان انطبقت عليه هذه القاعدة؛ إذ إنّه وطئ جاريةً مملوكةً لهم بالشركة، فضمن للآخرين حصصهم من قيمة الولد، فهذا الحديث حاله حال ما ورد _ بسند تام _ عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إذا وطئ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد فولدت، فادّعوه جميعاً أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد ولده، ويردّ قيمة الولد على


(1) راجع وسائل الشيعة، ج14، أبواب نكاح العبيد والإماء، خاصّةً الباب57 و61 و67 و88، وج17، الباب6 من كتاب الغصب.

641

صاحب الجارية. قال: فإن اشترى رجل جاريةً، وجاء رجل فاستحقّها وقد ولدت من المشتري، ردّ الجارية عليه، وكان له ولدها بقيمته»(1).

6_ ما ورد _ بسند تام _ عن سليمان بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قضى علي (عليه السلام) في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، وذلك في الجاهليّة قبل أن يظهر الإسلام، فأقرع بينهم، فجعل الولد للذي قرع، وجعل عليه ثلثي الدية للآخرين، فضحك رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) حتى بدت نواجذه». قال: «وقال: ما أعلم فيها شيئاً إلا ما قضى علي (عليه السلام)»(2). وهذا الحديث أقوى من سابقه في الدلالة؛ إذ لا يأتي فيه النقاش الذي بيّنّاه في سابقه من كون المقصود ضمان قيمة الولد للمَوالي من قبل الواطئ، فإنّ المفروض في هذا الحديث هو حرّيّة المرأة، وضمّنه ثلثي الدية للآخَريْنِ اللذَيْن وطئاها، ولم يضمّنه الدية للزوج، فهذا الضمان لا يتصوّر أن يكون إلا بنكتة تطبيق قاعدة العدل والإنصاف على الولد بقدر الإمكان، فيأتي في هذا الحديث التقريب الذي ذكرناه للاستدلال في الحديث السابق من دون أن يَرِد ما أوردناه عليه في الحديث السابق. وبهذا الحديث المصرّح بالضمان يُقيّد إطلاق ما قد يدل بسكوته عن ذلك على عدم الضمان؛ من قبيل ما عن الحلبي ومحمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وقع الحرّ والعبد والمشرك بامرأة في طهر واحد، فادّعوا الولد، أُقرع بينهم، فكان الولد للذي يخرج سهمه»(3)، وما عن الحلبي _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وقع المسلم واليهودي والنصراني على المرأة في طهر


(1) نفس المصدر، ج14، ص566، الباب57 من نكاح العبيد والإماء، ح1.

(2) نفس المصدر، ص566، الباب57 من نكاح العبيد والإماء، ح2.

(3) نفس المصدر، ص567، ح3. ورواه عن الحلبي في ج18، ص187، الباب13 من كيفيّة الحكم، ح1.

642

واحد أُقرع بينهم، فكان الولد للذي تصيبه القرعة»(1)، فإن دلّ هذان الحديثان بالسكوت على عدم الضمان قُيِّدا بالحديث الأول، بل يقال: إنّ الحديثين الأخيرين إنّما لم يذكرا الضمان لأنّ المتعارف من موردهما هو الزنا الذي لا حرمة للولد فيه شرعاً، وإنّما حكم فيهما بالقرعة لمجرّد حسم النزاع بينهم في تعيين الأب التكويني للولد، بينما الحديث الأول ورد في واقعة وقعت في زمان الجاهلية، ففرض علي (عليه السلام) حرمة للولد قبل نزول الإسلام بأحكام الزنا، فلا تعارض بين الروايات حتى بالإطلاق والتقييد.

فإن قيل: إنّ تطبيق علي (عليه السلام) لقاعدة العدل والإنصاف في زمان الجاهليّة لا يثبت صحّتها في الإسلام.

قلنا: إنّ نقل الإمام الصادق (عليه السلام) لهذه القصّة له ظهور عرفي في إمضاء هذا الحكم في الإسلام.

وبهذا تمّ الاستدلال بهذا الحديث على قاعدة العدل والإنصاف، إلا أنّه لابدّ هنا أيضاً من الاقتصار في الاستدلال على ما يكون من قبيل مورد الحديث من فرض الجهل بالحال من قبل الطرفين، فلا يتعدّى إلى فرض دعوى كلّ منهما العلم مع نُكولهما عن القسم مثلاً.

وقد تحصّل من ذلك: أنّ الصحيح في هذا الفرع الرابع في باب الأموال هو التقسيم بقاعدة العدل والإنصاف التي ثبّتناها في موارد جهل الطرفين، وفي غير باب الأموال هو القرعة.

هذا تمام الكلام في الفرض الأول من تعارض البيّنتين، وهو تعارض بيّنتي المتداعيين مع ما ألحقنا به من فروع أُخرى.


(1) وسائل الشيعة، ج17، ص571، الباب 10 من ميراث ولد الملاعنه.

643

اختلاف البيّنة في حقّ طرفٍ واحد

الفرض الثاني _ هو فرض تعارض البيّنتين اللتين هما معاً في صالح إثبات الحقّ لطرف واحد مع اختلافهما في تشخيص الحقّ أو تشخيص سبب الحقّ، كما لو قالت إحداهما: باع العين من عمرو بدينار، وقالت الأُخرى: باعها منه بدرهم، أو قالت إحداهما: باعها منه صباحاً، وقالت الأُخرى: باعها منه عصراً، أو قالت إحداهما: باع منه الكتاب الفلاني، وقالت الأُخرى: باع منه الكتاب الآخر، وما إلى ذلك من الأمثلة.

وقد جاء في الشرائع فيما لو شهد اثنان على سرقة شيء معيّن في وقت، وآخران على سرقته في وقت آخر على وجه يتحقق التعارض بينهما بأن لا يمكن سرقته مرّتين: سقط القطع بالشبهة، ولم يسقط الغرم، وكتب في الجواهر بعد ذكر قول المصنف (رحمه الله): «ولم يسقط الغرم» ما مفاده: وفي محكي المبسوط: تعارضت البيّنتان وتساقطتا، وعندنا: تستعمل القرعة، وفي كشف اللثام: أنّه لا فائدة للقرعة هنا. قلت: إنّ كلام كشف اللثام إنّما يتّجه لو قلنا بأنّه يجوز للحاكم الحكم بالغرم استناداً إلى كلتا البيّنتين فيما اتّفقتا عليه من سرقة الثوب وإن اختلفتا في وقت السرقة، فعندئذٍ لا تبقى فائدة في القرعة، ولكن لعلّ مبنى كلام الشيخ على وجوب استناد الحكم إلى إحدى البيّنتين؛ لعدم صلاحيّتها بعد التعارض لأن تكونا معاً مستنداً للحكم، ولا يمكن تعيين البيّنة التي يستند إليها إلا بالقرعة، والفائدة تظهر في الأحكام التي تلحق الشاهد من قبيل ما لو رجع الشاهد عن شهادته، فلو رجعت إحدى البيّنتين عن شهادتها وكانت هي التي استند الحاكم في حكمه إليها دخلت المسألة في رجوع الشاهد عن شهادته، ولو لم تكن هي التي استند الحاكم في حكمه إليها لم يكن

644

للرجوع أيّ أثر(1).

انتهى كلام صاحب الجواهر في المقام، وقد نقلناه بالمعنى لا باللّفظ، ثم أمر بالتأمّل جيداً.

أقول: أمّا ما في الشرائع من التفصيل بين الحدّ والتغريم من سقوط الأول بالشبهة وثبوت الثاني، فيرد عليه: أنّه لو سرى التعارض إلى أصل الشهادة بالسرقة لم يثبت الغرم، وإلا ثبت الحدّ؛ لأنّ أصل الشهادة بالسرقة لا شبهة فيها، فلا مبرّر لدرء الحدّ.

وأمّا فرض تعيين البيّنة التي يستند الحكم إليها بالقرعة فهذا أمر لا دليل عليه، وإنّما القرعة _ كما عرفت من رواياتها _ تستعمل في باب القضاء: تارةً لتعيين من له الحقّ، وأُخرى لتعيين من عليه الحلف، أمّا القرعة لتعيين من تنفذ بيّنته فلم يرِد ما يدل عليها.

وتحقيق الحال في أمثال هذه المسألة هو: أنّه لو كان الأثر مترتّباً على جهة الاختلاف، كما لو شهدت إحدى البيّنتين بالصلح والأُخرى بالبيع، والملكيّة تترتّب على واقع الصلح وعلى واقع البيع، لا على الجامع بينهما، لم يثبت الأثر؛ لتعارض البيّنتين وتساقطهما.

ولو كان الأثر مترتّباً على جهة الاتّفاق، كما لو شهدت إحداهما بالإقراض في ساعة كذا، والأخرى بالإقراض في ساعة كذا، والمدعي معترف بعدم وجود إقراضين، فهل يقال: إنّ جهة الاتّفاق تثبت ويترتب الأثر وتلغو جهة الاختلاف، أو يقال: إنّ كلّ فرد من فردي الجامع قد اختلفت البيّنتان فيه، فتتساقطان ولا يثبت شيء؟ لا يبعد القول بالتفصيل بين فروض:


(1) راجع الجواهر، ج41، ص213 _ 214.

645

الفرض الأول _ أن تكون جهة الخلاف بنحو يقطع أو يطمئنّ العرف بأنّ البيّنتين لو كانتا صادقتين فهما ناظرتان إلى واقعة واحدة؛ لعدم إمكان التكرار، كما في الشهادة بإقراضين لعين واحدة في ساعة واحدة في مكانين، أو لاستبعاده في مدّة قصيرة _ مثلاً _ إلى حدّ الاطمئنان بالعدم، كفاصل خمس دقائق مثلاً، فهنا لا يبعد القول عرفاً بأنّ أصل الإقراض _ مثلاً _ قد ثبت بالبيّنتين وإن اختلفتا في الزمان أو المكان، فإنّ الفارق الموجود في كلام البيّنتين وإن كان مفرّداً للجامع فلسفياً، لكن العرف في مثل هذه الحالة يفترض أنّ هناك واقعة واحدة ثبتت بالبيّنتين، وأنّ الخلاف في الخصوصيّة لم يسرِ إلى أصل الواقعة.

هذا على شرط أن لا يكون الخلاف بنحو يشكلّ قرينة عقلائيّة على كذب إحدى البينتين أو خطائها بحيث يوجب سقوط البيّنة بالاتّهام.

الفرض الثاني _ أن تصرّح إحدى البيّنتين بأنّها تنظر إلى نفس الواقعة التي شهدتها البيّنة الأُخرى، لأنّهما كانتا حاضرتين أمام واقعة واحدة وإن اشتبهت إحداهما في خصوصيّة الزمان أو المكان، فالكلام في هذا الفرض أيضاً هو عين الكلام في الفرض الأول.

الفرض الثالث _ أن لا يكون قطع أو اطمئنان عرفي على وحدة الواقعة المشهود بها على تقدير الصدق، ولا تدّعي البيّنة ذلك أيضاً، غاية ما هناك أنّ المدّعي معترف بعدم تكرر الواقعة. فهنا لا يبعد القول بأنّ كلّ فرد من فردي الجامع قد تعارضت فيه البيّنتان وتساقطت، وبالتالي لم يثبت شيء بالبيّنة.

وقد يقال في المقام بترجيح إحدى البيّنتين بالأكثريّة أو بالقرعة تعدّياً من مورد الروايات الماضية.

والجواب: أنّه قد عرفت فيما سبق أنّ ترجيح إحدى البيّنتين بالأكثريّة أو القرعة

646

إنّما كان بمعنى تعيين من عليه الحلف، وفي المقام ليس الكلام فيمن عليه الحلف فإنّه معيّن وهو المنكر.

كما أنّ الترجيح بالأعدليّة الوارد في تعارض بيّنة الأصل وبيّنة الفرع لا يمكن إجراؤه في المقام؛ لعدم الجزم بنفي الخصوصيّة، فالتعدّي يكون قياساً.

وبالإمكان أن يدّعى الترجيح بالقرعة مع تحليف البيّنة التي خرجت القرعة باسمها، وذلك تمسّكاً بما ورد عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهماً، وجاء آخران فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم كلّهم شهدوا في موقف قال: «أَقرِعْ بينهم، ثم استحلِفِ الذين أصابَهمُ القَرَعُ باللّه أنّهم يشهدون بالحقّ»(1).

والظاهر _ بقرينة القرعة وتحليف البيّنة _ أنّ المقصود بشهادة البيّنة الأُولى على الخمسين هو الخمسون مع نفي الزائد، وإلا لم يكن تعارض بين البيّنتين.

ولا يخفى أنّ الأمر إذا دار بين الزائد والناقص فالشهادة منحلّة في الحقيقة إلى شهادتين، فالبينتان متّفقتان على الشهادة على الخمسين ومختلفتان بالنفي والإثبات فى الزائد، فلو فرض أن الرجلين أحدهما يدّعي الزائد والآخر ينكره فهذا بابه باب المدّعي والمنكر مع اختلاف البيّنتين في النفي والإثبات فقط، لا في إثبات كلّ منهما غير ما تثبت الأُخرى، ولعلّ هناك وضوحاً فقهياً في عدم تحليف البيّنة في هذا الفرض، وإنّما الوجوه المطروحة فقهياً في ذلك ثلاثة: إما ترجيح بينة المدعي؛ لأنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، أو ترجيح بيّنة المنكر لدعمها بالأصل، أو تساقطهما ويمين المنكر.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص184، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح7.

647

وعليه فقد تحمل الرواية على فرض ما إذا كان الرجلان جاهلين بالواقع، ولا يدّعي أحدهما الزائد، ولا ينكر الآخر. وعليه فتخرج الرواية عمّا نحن فيه.

وعلى أيّ حال فقد تقدّم أنّ الحديث ساقط سنداً بالإرسال.

بقي الكلام فيما يمكن أن يدّعى فيما نحن فيه من أنّه إذا دار أمر الحقّ بين شيئين عيّن أحدهما بالقرعة، فالقرعة هنا ليست لتعيين من عليه الحلف؛ كي يقال: إنّ دليل ذلك وارد في غير المقام، وإنّ من عليه الحلف هنا متعيّن، وإنّما القرعة لتعيين الواقع.

والجواب: أنّ أصل الحقّ غير معترف به من قبل كلا الطرفين؛ كي يقع الكلام في تعيينه بالقرعة.

فلم يبق في المقام عدا تساقط البيّنتين وتحليف المنكر.

نعم، لو نكل المنكر، وكان المدّعي مردّداً بين الحقّين، فحلف على الجامع بينهما، لا يبعد القول بانتهاء الأمر إلى القرعة لتعيين أحد الحقّين.

وقد يخطر بالبال أن يحلّل الأمر إلى قضيتين، فيقال بالنسبة لكلّ واحد من الحقين: إنّ هذا مردّد بين شخصين، فتطبّق عليه قاعدة العدل والإنصاف في تقسيم الماليّة إن أمكن.

ولكن الصحيح: أنّ قاعدة العدل والإنصاف ليس لها دليل مطلق يتمسّك بإطلاقه، والروايات التي مضت _ سواء ما تمّ منها دلالةً وسنداً وما لم يتمّ _ كانت في مورد مال مردّد بين شخصين من دون ثبوت جامع بين المالين لأحدهما بالخصوص، واحتمال الفرق وارد؛ إذاً فالصحيح هو الرجوع إلى القرعة.

ومن هنا اتّضح أيضاً حكم ما لو اعترفا معاً بأنّ الحقّ لزيد، وتردّد الحقّ لديهما بين مالين، فالمرجع عندئذٍ هو القرعة التي هي لكلّ أمر مشكل.

أمّا لو اعترفا معاً بأنّ الحقّ لزيد، واختلفا في أنّه هل هو عبارة عن هذا المال أو

648

ذاك؟ فزيد ادّعى أحدَهما، والآخر عيّن مالاً آخر غير ما ادّعاه زيد، فالظاهر أنّ هذا منحلّ إلى خلافين: أحدهما الخلاف في المال الذي يدّعي كلّ واحد منهما أنّه له، والثاني الخلاف في المال الذي يدّعي كلّ واحد منهما أنّه لصاحبه.

والخلاف الأول هو الذي يفصله القاضي بينهما وفق قوانين المدّعي والمنكر إن كان أحدهما مدّعياً والآخر منكراً، ووفق قوانين التداعي إن كانا متداعيين كما لو كان المال خارجاً من أيديهما.

أمّا الخلاف الثاني فلا يفصله القاضي بينهما؛ إذ ليس نزاعاً ومرافعةً بالمعنى المألوف في باب القضاء، وإنما هو من قبيل أيّ مال يختلف عليه اثنان، كل منهما يقول للآخر: إن المال لك. وهذا كما ترى ليس دعوى بين شخصين ترفع إلى القاضي، بل هما إمّا أن يتصالحا فيما بينهما، أو أنّ أحدهما يرفع يده عن حقّه على تقدير كون الحقّ له كما يزعم صاحبه؛ كي يجوز لصاحبه التصرّف في المال، أو أن يترك كلٌّ منهما المال للآخر، وبالتالي لا يجوز لأحدهما التصرّف في المال.

وبالنسبة للخلاف الأول لو أنّهما لم يترافعا إلى القاضي، ولم يفصل القاضي بينهما، واستولى أحدهما على المال المتنازع فيه على أساس علمه بأنّه له، جاز للآخر أن يأخذ من المال الثاني بمقدار التقاصّ.

موقف الفقه الوضعي من تعارض البيّنتين

وفي ختام الكلام عن تعارض البيّنتين لا بأس بالإشارة إلى موقف الفقه الوضعي من ذلك:

ويتحدّد موقف الفقه الوضعي من تعارض البيّنتين في ثلاث نقاط:

الأُولى: أنّ بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر في عرض واحد، ولا يوجد لديهم فرق بين

649

بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر في درجة الحجّية، وإنّما الفرق في الحكم بين المدّعي والمنكر هو أنّ البيّنة على الأول واليمين على الثاني، أمّا لو أقام المنكر بيّنةً مُقنعةً أخذ القاضي بها، كما أنّ المدّعي لو أقام بيّنةً مُقنعةً أخذ القاضي بها، فالفرق بينهما إنّما هو أنّ عب‏ء الإثبات على الأول دون الثاني، وبإمكان الثاني عند عجز الأول عن الإثبات أن يكتفي باليمين، وهذا غير عدم الاجتزاء بالبيّنة من المنكر لو أتى بها، وهم يقصدون بالبيّنة التي هي على المدّعي مطلق الدليل، لا البيّنة بمعناها الفقهي لدينا من شهادة شاهدين، وعلى أي حال فلا يبقى _ بناءً على مبناهم _ أساس لترجيح بيّنة الخارج أو بيّنة الداخل عند التعارض.

الثانية _ أنّه لا مجال عندهم لوصول النوبة إلى القرعة بعد تعارض البيّنتين لتعيين الواقع، أو لتعيين من عليه اليمين، وذلك ناتج عن أصل عدم إيمانهم بالقرعة في باب القضاء إطلاقاً. وأمّا كون أكثريّة العدد في إحدى البيّنتين مؤثّرة في توجيه الحلف إلى صاحب البيّنة الأُخرى فأيضاً لا مجال له عندهم، وإنّما تدخل الأكثريّة ضمن ما سنذكره من النقطة الثالثة.

الثالثة _ أنّ أمر تقدير البيّنة وتقييمها ومدى قبولها وعدم قبولها في الموارد التي تسمح قوانينهم بقبول البيّنة متروك أساساً إلى القاضي، وبهذا تنحلّ مشكلة تعارض البيّنتين، فإنّ القاضي هو الذي يقدّر مدى إمكانيّة الاعتماد على البيّنة، فإن رأى أنّهما تعارضتا في الكشف وتساوتا _ وبالتالي زال الكشف وانتفت القرينيّة _ فقد تساقطت البيّنتان، وإن رأى أرجحيّة إحداهما _ سواء بالأكثريّة العدديّة أو بأيّ نكتة أُخرى؛ بحيث بقيت لتلك البيّنة رغم التعارض درجة من الكشف قابلة للاعتماد _ اعتمد عليها وأسقط الأُخرى.

أقول: إنّ النقطة الأُولى من هذه النقاط وهي قبول البيّنة من المنكر كقبولها من

650

المدّعي هو أحد الاتّجاهات الموجودة في فقهنا أيضاً بالنسبة للبيّنة بمعناها الفقهي عندنا من شهادة شاهدين، وإن كان مختارنا _ كما مضى _ غير ذلك.

والنقطة الثانية _ وهي عدم قبول القرعة، كأنّها ناتجة عن عدم وجود أيّ درجة من درجات الكشف والأماريّة في القرعة.

أمّا قبول الإسلام بالقرعة في باب القضاء فلعلّه ناتج عن مجموع نكتتين:

إحداهما _ أنّ القرعة جعلت بعد فرض العجز عن الحلول الأُخرى، وعند ذلك لا يضرّ عدم كاشفيّتها، فهي جعلت لخصم الدعوى لا لكشف الحقيقة.

والثانية _ أنّ إنكار الكاشفيّة على الإطلاق محلّ منع، فإنّ هذا وإن كان متّجهاً في فقه وضعي مبتن على غضّ النظر إطلاقاً عن افتراض وجود إله للعالمين، لكنّه غير متّجه في فقه يؤمن بربّ العالمين. ويعتقد أنّ تفويض الأمر إلى اللّه في القرعة يوجب تأثير القرعة من ترجيح أحد الطرفين ولو بمستوىً من مستويات الترجيح.

وأمّا النقطة الثالثة _ فقد عرفت أنّ نظر الإسلام يختلف فيها عن نظرهم، فالإسلام وضع ضوابط موضوعيّة كاملة لتقسيم البينة، ولم يترك الأمر إلى القاضي وذوقة. وبهذا المقدار نكتفي في الكلام عن البينة، وكان هذا هو الطريق الثاني من طرق الإثبات في باب القضاء.

651

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

3

 

 

اليمين

 

 

  1- اليمين بين المدّعي والمنكر

  2- اليمين بين المتداعيَين

  3- كيفيّة الإحلاف

  4- الشاهد الواحد مع اليمين

  5- ضمّ اليمين إلى البيّنة

  6- اليمين في الفقه الوضعي

 

 

653

الطريق الثالث _ هو اليمين.

ونعقد تحت هذا العنوان عدة أبحاث:

الأول _ كيف يدار اليمين بين المدّعي والمنكر؟

الثاني _ كيفيّة الإحلاف؟

الرابع _ متى يكفي شاهد واحد مع اليمين؟

الخامس _ متى تحتاج البيّنة إلى ضمّ اليمين إليها؟

اليمين بين المدّعي والمنكر

البحث الأول _ كيف يدار اليمين بين المدّعي والمنكر؟ نذكر بدواً هنا: أنّ اليمين يوجّه أوّلاً إلى المنكر عندما لا يمتلك المدّعي البيّنة، فإن رَدّ على المدّعي وُجّه اليمين إلى المدّعي، فإن نكل سقطت الدعوى.

أمّا تفصيل الكلام في ذلك:

فلا إشكال _ بضرورة من الفقه _ أنّ اليمين يأتي بعد فرض عدم إقامة المدّعي البيّنة، وكذلك لا إشكال في أنّه يوجّه اليمين ابتداءً إلى المنكر كما هو واضح، وهو مفاد ما ورد من أنّ البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر.

654

لمن حقّ التحليف؟

ولكن يقع الكلام في أنّ اليمين هل يوجّهها الحاكم إلى المنكر من تلقاء نفسه، أو بطلب من المدّعي؟ أُدّعي الإجماع على الثاني، ويمكن أن يقال بالأوّل.

وقد يذكر للأوّل _ وهو أن يكون التحليف من حقّ الحاكم _ وجوه ثلاثة:

الأول(1)_ أنّ الحاكم مأمور بقطع الخصومة بين المتخاصمين، فثبوت حقّ إبقاء الخصومة للمدّعي بتمكينه من عدم تحليف المنكر أمر لا معنى له، وعلى الحاكم أن يحلّفه لأجل إنهاء الخصومة، شاء المدّعي أم أبى.

والثاني(2)_ التمسّك بإطلاق: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»، فكون اليمين عليه غير مشروط بطلب المدّعي؛ لأنّ هذا قيد زائد لم يذكر في الحديث.

والثالث _ ما عن سليمان بن خالد _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «في كتاب علي (عليه السلام): أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: فأوحى اللّهُ إليه: أُحكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به. وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(3) ونحوه روايتان أُخريان غير تامتين سنداً(4). فقد يقال: إنّ قوله: «حلّفهم به» يدل على أنّ التحليف وظيفة القاضي، ولا علاقة له بالمدّعي.

وكلّ هذه الوجوه تقبل المناقشة:

أمّا الأول _ فقد يناقش بأنّ وجوب قطع المخاصمة على الحاكم حتى في مورد


(1) راجع الجواهر، ج40، ص170.

(2) نفس المصدر.

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1.

(4) نفس المصدر، ص167 _ 168، ح2 و3.

655

استعدّ المدّعي لغضّ النظر عن حقّه الذي استولى عليه المنكر لفترة من الزمن، ثم استئناف المخاصمة بعد ذلك أمرٌ لا دليل عليه، فقد يتعلق غرض المدّعي بتأجيل المخاصمة بأمل حصوله على البيّنة، أو على إقرار المنكر، أو على ارتداعه من اليمين الفاجرة، أو غير ذلك، ولا دليل على أن يكون للحاكم حقّ إجبار المدّعي على عدم تأجيل المخاصمة بعد رفعِها إليه.

وأمّا الثاني _ فلوضوح أنّ قوله: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» بصدد بيان من يقع على عاتقه عب‏ء البيّنة، ومن يقع على عاتقه عب‏ء اليمين، أمّا بعد أن اتّضح أنّ من عليه اليمين هو المنكر، هل الذي يطالب باليمين هو الحاكم ابتداءً، أو المدّعي، ويكون الحاكم منفّذاً لطلب المدّعي، فهذا مطلب آخر لا علاقة له بمفاد الحديث.

وأمّا الثالث _ فلأنّ قوله: «حلّفهم به» تعليم للقاضي بطريق القضاء الثابت له بعد فقد البيّنة، وبيان لعدم انسداد طريق القضاء بمجرّد فقدان البيّنة، أمّا أنّه كيف يُعمِل القاضي هذا الطريق، هل من تلقاء نفسه أو بطلب من المدّعي، فهذا لا علاقة له بالحديث.

وقد يذكر للثاني وهو ضرورة كون التحليف بطلب المدّعي وجهان:(1)

الأول _ مقتضى القاعدة؛ لأنّ التحليف _ على حدّ تعبير صاحب الشرائع (رحمه الله) _ حقّ للمدّعي، فيتوقّف استيفاؤه على المطالبة.

وأورد عليه صاحب الجواهر (رحمه الله): بأنّ كون الحقّ للمدّعي لا يقتضي أكثر من ضرورة كون تحليف المنكر برضا المدّعي الذي قد يستكشف بشاهد الحال. أمّا ضرورة


(1) راجع الجواهر، ج 40، ص 170.

656

كون ذلك بمطالبة المدّعي فلا يدل عليها هذا الوجه.

أقول: إنّ هذا الإشكال إنّما يرد على كلام صاحب الشرائع (رحمه الله) لو كان مقصوده من قوله: «فيتوقّف استيفاؤه على المطالبة» أنّ استيفاء حقّ المدّعي من دون مطالبته ظلم له؛ إذ قد تتعلّق مصلحته بترك المطالبة _ كما لو أراد تأجيل تحليف المنكر لاحتمال حصوله في المستقبل على البيّنة، أو لأيّ سبب آخر، فلا مبرِّر لإجباره على الرضوخ ليمين المنكر _ فهذا يرد عليه ما قاله صاحب الجواهر (رحمه الله) من أنّه يكفي دفعاً لهذا الاعتراض استكشاف رضا ذي الحقّ ولو بشاهد الحال، أمّا اشتراط مطالبته فهذا لا يدل عليه.

ولكن أكبر الظنّ أنّ مقصود صاحب الشرائع (رحمه الله) ليس هذا، وإنّما مقصوده أنّ إجبار الحاكم للمنكر على اليمين، أو الرضوخ للحكم بصالح المدّعي إنّما يكون بملاك مطالبة ذي الحقّ وهو المدّعي، فلو كان ذو الحقّ غير مطالب بذلك فإرغام الحاكم للمنكر على ذلك بحاجة إلى دليل، وهذا _ كما ترى _ لا يرد عليه إشكال صاحب الجواهر (رحمه الله).

نعم، هناك نقاش آخر يمكن أن يناقش به هذا الوجه وهو أنّه ما المقصود بكون الحلف حقّاً للمدّعي؟

هل المقصود بذلك أنّ أمر التحليف وجوداً وعدماً بيد المدّعي؟ فهذه مصادرة على المطلوب، فإنّ كلامنا الآن في أنّ التحليف هل هو من حقّ الحاكم مباشرةً، أو المدّعي هو الذي يجب أن يطالب به كي يتمّ التحليف؟

أو المقصود بذلك أنّ الحلف أمر وضع على المنكر تضييقاً عليه لصالح المدّعي في عالم القضاء، كما أن البيّنة أمر وضع على المدّعي تضييقاً عليه لصالح المنكر في عالم القضاء؟ فهذا الكلام صحيح، ولكن لا دلالة له على المدّعى، فإنّ مجرّد كون شيء