648

ذاك؟ فزيد ادّعى أحدَهما، والآخر عيّن مالاً آخر غير ما ادّعاه زيد، فالظاهر أنّ هذا منحلّ إلى خلافين: أحدهما الخلاف في المال الذي يدّعي كلّ واحد منهما أنّه له، والثاني الخلاف في المال الذي يدّعي كلّ واحد منهما أنّه لصاحبه.

والخلاف الأول هو الذي يفصله القاضي بينهما وفق قوانين المدّعي والمنكر إن كان أحدهما مدّعياً والآخر منكراً، ووفق قوانين التداعي إن كانا متداعيين كما لو كان المال خارجاً من أيديهما.

أمّا الخلاف الثاني فلا يفصله القاضي بينهما؛ إذ ليس نزاعاً ومرافعةً بالمعنى المألوف في باب القضاء، وإنما هو من قبيل أيّ مال يختلف عليه اثنان، كل منهما يقول للآخر: إن المال لك. وهذا كما ترى ليس دعوى بين شخصين ترفع إلى القاضي، بل هما إمّا أن يتصالحا فيما بينهما، أو أنّ أحدهما يرفع يده عن حقّه على تقدير كون الحقّ له كما يزعم صاحبه؛ كي يجوز لصاحبه التصرّف في المال، أو أن يترك كلٌّ منهما المال للآخر، وبالتالي لا يجوز لأحدهما التصرّف في المال.

وبالنسبة للخلاف الأول لو أنّهما لم يترافعا إلى القاضي، ولم يفصل القاضي بينهما، واستولى أحدهما على المال المتنازع فيه على أساس علمه بأنّه له، جاز للآخر أن يأخذ من المال الثاني بمقدار التقاصّ.

موقف الفقه الوضعي من تعارض البيّنتين

وفي ختام الكلام عن تعارض البيّنتين لا بأس بالإشارة إلى موقف الفقه الوضعي من ذلك:

ويتحدّد موقف الفقه الوضعي من تعارض البيّنتين في ثلاث نقاط:

الأُولى: أنّ بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر في عرض واحد، ولا يوجد لديهم فرق بين

649

بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر في درجة الحجّية، وإنّما الفرق في الحكم بين المدّعي والمنكر هو أنّ البيّنة على الأول واليمين على الثاني، أمّا لو أقام المنكر بيّنةً مُقنعةً أخذ القاضي بها، كما أنّ المدّعي لو أقام بيّنةً مُقنعةً أخذ القاضي بها، فالفرق بينهما إنّما هو أنّ عب‏ء الإثبات على الأول دون الثاني، وبإمكان الثاني عند عجز الأول عن الإثبات أن يكتفي باليمين، وهذا غير عدم الاجتزاء بالبيّنة من المنكر لو أتى بها، وهم يقصدون بالبيّنة التي هي على المدّعي مطلق الدليل، لا البيّنة بمعناها الفقهي لدينا من شهادة شاهدين، وعلى أي حال فلا يبقى _ بناءً على مبناهم _ أساس لترجيح بيّنة الخارج أو بيّنة الداخل عند التعارض.

الثانية _ أنّه لا مجال عندهم لوصول النوبة إلى القرعة بعد تعارض البيّنتين لتعيين الواقع، أو لتعيين من عليه اليمين، وذلك ناتج عن أصل عدم إيمانهم بالقرعة في باب القضاء إطلاقاً. وأمّا كون أكثريّة العدد في إحدى البيّنتين مؤثّرة في توجيه الحلف إلى صاحب البيّنة الأُخرى فأيضاً لا مجال له عندهم، وإنّما تدخل الأكثريّة ضمن ما سنذكره من النقطة الثالثة.

الثالثة _ أنّ أمر تقدير البيّنة وتقييمها ومدى قبولها وعدم قبولها في الموارد التي تسمح قوانينهم بقبول البيّنة متروك أساساً إلى القاضي، وبهذا تنحلّ مشكلة تعارض البيّنتين، فإنّ القاضي هو الذي يقدّر مدى إمكانيّة الاعتماد على البيّنة، فإن رأى أنّهما تعارضتا في الكشف وتساوتا _ وبالتالي زال الكشف وانتفت القرينيّة _ فقد تساقطت البيّنتان، وإن رأى أرجحيّة إحداهما _ سواء بالأكثريّة العدديّة أو بأيّ نكتة أُخرى؛ بحيث بقيت لتلك البيّنة رغم التعارض درجة من الكشف قابلة للاعتماد _ اعتمد عليها وأسقط الأُخرى.

أقول: إنّ النقطة الأُولى من هذه النقاط وهي قبول البيّنة من المنكر كقبولها من

650

المدّعي هو أحد الاتّجاهات الموجودة في فقهنا أيضاً بالنسبة للبيّنة بمعناها الفقهي عندنا من شهادة شاهدين، وإن كان مختارنا _ كما مضى _ غير ذلك.

والنقطة الثانية _ وهي عدم قبول القرعة، كأنّها ناتجة عن عدم وجود أيّ درجة من درجات الكشف والأماريّة في القرعة.

أمّا قبول الإسلام بالقرعة في باب القضاء فلعلّه ناتج عن مجموع نكتتين:

إحداهما _ أنّ القرعة جعلت بعد فرض العجز عن الحلول الأُخرى، وعند ذلك لا يضرّ عدم كاشفيّتها، فهي جعلت لخصم الدعوى لا لكشف الحقيقة.

والثانية _ أنّ إنكار الكاشفيّة على الإطلاق محلّ منع، فإنّ هذا وإن كان متّجهاً في فقه وضعي مبتن على غضّ النظر إطلاقاً عن افتراض وجود إله للعالمين، لكنّه غير متّجه في فقه يؤمن بربّ العالمين. ويعتقد أنّ تفويض الأمر إلى اللّه في القرعة يوجب تأثير القرعة من ترجيح أحد الطرفين ولو بمستوىً من مستويات الترجيح.

وأمّا النقطة الثالثة _ فقد عرفت أنّ نظر الإسلام يختلف فيها عن نظرهم، فالإسلام وضع ضوابط موضوعيّة كاملة لتقسيم البينة، ولم يترك الأمر إلى القاضي وذوقة. وبهذا المقدار نكتفي في الكلام عن البينة، وكان هذا هو الطريق الثاني من طرق الإثبات في باب القضاء.

651

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

3

 

 

اليمين

 

 

  1- اليمين بين المدّعي والمنكر

  2- اليمين بين المتداعيَين

  3- كيفيّة الإحلاف

  4- الشاهد الواحد مع اليمين

  5- ضمّ اليمين إلى البيّنة

  6- اليمين في الفقه الوضعي

 

 

653

الطريق الثالث _ هو اليمين.

ونعقد تحت هذا العنوان عدة أبحاث:

الأول _ كيف يدار اليمين بين المدّعي والمنكر؟

الثاني _ كيفيّة الإحلاف؟

الرابع _ متى يكفي شاهد واحد مع اليمين؟

الخامس _ متى تحتاج البيّنة إلى ضمّ اليمين إليها؟

اليمين بين المدّعي والمنكر

البحث الأول _ كيف يدار اليمين بين المدّعي والمنكر؟ نذكر بدواً هنا: أنّ اليمين يوجّه أوّلاً إلى المنكر عندما لا يمتلك المدّعي البيّنة، فإن رَدّ على المدّعي وُجّه اليمين إلى المدّعي، فإن نكل سقطت الدعوى.

أمّا تفصيل الكلام في ذلك:

فلا إشكال _ بضرورة من الفقه _ أنّ اليمين يأتي بعد فرض عدم إقامة المدّعي البيّنة، وكذلك لا إشكال في أنّه يوجّه اليمين ابتداءً إلى المنكر كما هو واضح، وهو مفاد ما ورد من أنّ البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر.

654

لمن حقّ التحليف؟

ولكن يقع الكلام في أنّ اليمين هل يوجّهها الحاكم إلى المنكر من تلقاء نفسه، أو بطلب من المدّعي؟ أُدّعي الإجماع على الثاني، ويمكن أن يقال بالأوّل.

وقد يذكر للأوّل _ وهو أن يكون التحليف من حقّ الحاكم _ وجوه ثلاثة:

الأول(1)_ أنّ الحاكم مأمور بقطع الخصومة بين المتخاصمين، فثبوت حقّ إبقاء الخصومة للمدّعي بتمكينه من عدم تحليف المنكر أمر لا معنى له، وعلى الحاكم أن يحلّفه لأجل إنهاء الخصومة، شاء المدّعي أم أبى.

والثاني(2)_ التمسّك بإطلاق: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»، فكون اليمين عليه غير مشروط بطلب المدّعي؛ لأنّ هذا قيد زائد لم يذكر في الحديث.

والثالث _ ما عن سليمان بن خالد _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «في كتاب علي (عليه السلام): أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: فأوحى اللّهُ إليه: أُحكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به. وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(3) ونحوه روايتان أُخريان غير تامتين سنداً(4). فقد يقال: إنّ قوله: «حلّفهم به» يدل على أنّ التحليف وظيفة القاضي، ولا علاقة له بالمدّعي.

وكلّ هذه الوجوه تقبل المناقشة:

أمّا الأول _ فقد يناقش بأنّ وجوب قطع المخاصمة على الحاكم حتى في مورد


(1) راجع الجواهر، ج40، ص170.

(2) نفس المصدر.

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1.

(4) نفس المصدر، ص167 _ 168، ح2 و3.

655

استعدّ المدّعي لغضّ النظر عن حقّه الذي استولى عليه المنكر لفترة من الزمن، ثم استئناف المخاصمة بعد ذلك أمرٌ لا دليل عليه، فقد يتعلق غرض المدّعي بتأجيل المخاصمة بأمل حصوله على البيّنة، أو على إقرار المنكر، أو على ارتداعه من اليمين الفاجرة، أو غير ذلك، ولا دليل على أن يكون للحاكم حقّ إجبار المدّعي على عدم تأجيل المخاصمة بعد رفعِها إليه.

وأمّا الثاني _ فلوضوح أنّ قوله: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» بصدد بيان من يقع على عاتقه عب‏ء البيّنة، ومن يقع على عاتقه عب‏ء اليمين، أمّا بعد أن اتّضح أنّ من عليه اليمين هو المنكر، هل الذي يطالب باليمين هو الحاكم ابتداءً، أو المدّعي، ويكون الحاكم منفّذاً لطلب المدّعي، فهذا مطلب آخر لا علاقة له بمفاد الحديث.

وأمّا الثالث _ فلأنّ قوله: «حلّفهم به» تعليم للقاضي بطريق القضاء الثابت له بعد فقد البيّنة، وبيان لعدم انسداد طريق القضاء بمجرّد فقدان البيّنة، أمّا أنّه كيف يُعمِل القاضي هذا الطريق، هل من تلقاء نفسه أو بطلب من المدّعي، فهذا لا علاقة له بالحديث.

وقد يذكر للثاني وهو ضرورة كون التحليف بطلب المدّعي وجهان:(1)

الأول _ مقتضى القاعدة؛ لأنّ التحليف _ على حدّ تعبير صاحب الشرائع (رحمه الله) _ حقّ للمدّعي، فيتوقّف استيفاؤه على المطالبة.

وأورد عليه صاحب الجواهر (رحمه الله): بأنّ كون الحقّ للمدّعي لا يقتضي أكثر من ضرورة كون تحليف المنكر برضا المدّعي الذي قد يستكشف بشاهد الحال. أمّا ضرورة


(1) راجع الجواهر، ج 40، ص 170.

656

كون ذلك بمطالبة المدّعي فلا يدل عليها هذا الوجه.

أقول: إنّ هذا الإشكال إنّما يرد على كلام صاحب الشرائع (رحمه الله) لو كان مقصوده من قوله: «فيتوقّف استيفاؤه على المطالبة» أنّ استيفاء حقّ المدّعي من دون مطالبته ظلم له؛ إذ قد تتعلّق مصلحته بترك المطالبة _ كما لو أراد تأجيل تحليف المنكر لاحتمال حصوله في المستقبل على البيّنة، أو لأيّ سبب آخر، فلا مبرِّر لإجباره على الرضوخ ليمين المنكر _ فهذا يرد عليه ما قاله صاحب الجواهر (رحمه الله) من أنّه يكفي دفعاً لهذا الاعتراض استكشاف رضا ذي الحقّ ولو بشاهد الحال، أمّا اشتراط مطالبته فهذا لا يدل عليه.

ولكن أكبر الظنّ أنّ مقصود صاحب الشرائع (رحمه الله) ليس هذا، وإنّما مقصوده أنّ إجبار الحاكم للمنكر على اليمين، أو الرضوخ للحكم بصالح المدّعي إنّما يكون بملاك مطالبة ذي الحقّ وهو المدّعي، فلو كان ذو الحقّ غير مطالب بذلك فإرغام الحاكم للمنكر على ذلك بحاجة إلى دليل، وهذا _ كما ترى _ لا يرد عليه إشكال صاحب الجواهر (رحمه الله).

نعم، هناك نقاش آخر يمكن أن يناقش به هذا الوجه وهو أنّه ما المقصود بكون الحلف حقّاً للمدّعي؟

هل المقصود بذلك أنّ أمر التحليف وجوداً وعدماً بيد المدّعي؟ فهذه مصادرة على المطلوب، فإنّ كلامنا الآن في أنّ التحليف هل هو من حقّ الحاكم مباشرةً، أو المدّعي هو الذي يجب أن يطالب به كي يتمّ التحليف؟

أو المقصود بذلك أنّ الحلف أمر وضع على المنكر تضييقاً عليه لصالح المدّعي في عالم القضاء، كما أن البيّنة أمر وضع على المدّعي تضييقاً عليه لصالح المنكر في عالم القضاء؟ فهذا الكلام صحيح، ولكن لا دلالة له على المدّعى، فإنّ مجرّد كون شيء

657

وضع لصالح طرف في عالم مقاييس القضاء لا يدل على أنّه يجب أن يكون أمر ذاك الشيء بيده وبمطالبته.

أو المقصود بذلك أنّ تحليف المنكر يكون لأجل حقّ يريد المدّعي استنقاذه، وهو حقّه في العين التي استولى عليها المنكر مثلاً، فلو استعدّ المدّعي _ ولو موقّتاً _ لعدم استنقاذ حقّه وعدم إحراج المنكر بمطالبته باليمين برجاء تحصيل البيّنة، أو بأيّ سبب آخر فلا مبرّر لتدخّل الحاكم بالتحليف؛ لأنّ دليل القضاء لا إطلاق له لفرض استعداد المدّعي لرفع اليد عن حقّه الذي يدّعيه ولو موقّتاً.

ويرد عليه: أنّه كما قد يتّفق أنّ المنكر هو المستولي على الحقّ، فيراد إحراج المنكر باليمين كي يحلف أو يسلّم الحقّ إلى أهله، كذلك قد ينعكس الأمر فيكون المدّعي هو المستولي على الحقّ ويريد المنكر أن يحلف كي يستنقذ بذلك حقّه، كما لو اعترف من بيده المال بأنّه أخذه من صاحبه قهراً عليه اعتقاداً منه أنّه هو المالك لا صاحبه، فهنا قد أصبح ذو اليد مدّعياً وصاحبه منكراً، فقد يصرّ المدّعي هنا على تأجيل التحليف وإيقاف المرافعة؛ كي يستمرّ هو في الاستيلاء على المال، ويكون المنكر هو المطالب بالحقّ؛ كي يحلف ويأخذ حقّه، وكما لو كان المدّعي يدّعي أداء الدين والمنكر ينكر ذلك.

الثاني _ الروايات وهي على قسمين:

القسم الأول _ ما دلّ على أنّ المدّعي لو استحلف المنكر سقط حقّه من قبيل:

1_ ما عن أبي يعفور عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه، فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي، فلا دعوى له. قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم، وإن أقام بعد ما استحلفه باللّه خمسين قَسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله

658

ممّا قد استحلفه عليه»(1). وسند الحديث تام.

2_ ما عن خضر النخعي _ ولم تثبت وثاقته _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال: «إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه»(2).

3_ ما عن عبداللّه بن وضّاح _ بسند ضعيف على الأقلّ بأبي عبداللّه الجاموراني _ قال: كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة، فخانني بألف درهم، فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، وقد علمت أنّه حلف يميناً فاجرةً، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرةً، فأردت أن أقتصّ الألف درهم التي كانت لي عنده وأحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف، وقد وقع له عندي مال، فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت، فكتب: «لا تأخذ منه شيئاً، إن كان ظلمك فلا تظلمْه، ولولا أنّك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، ولكنّك رضيت بيمينه، وقد ذهبت اليمين بما فيها. فلم آخذْ منه شيئاً، وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن (عليه السلام)»(3).

ووجه الاستدلال بهذه الروايات أنّها علّقت سقوط حقّ المدّعي باستحلافه للمنكر، أي طلبه لليمين، فهذا دليل على أنّه لابدّ أن يكون تحليف المنكر بطلب من المدّعي.

ويمكن الإيراد على ذلك بإشكالين:


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص179، الباب 9 من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) نفس المصدر، الباب 10 من كيفيّة الحكم، ح1. وأيضاً ج16، ص179، الباب 48 من الأيمان، ح1.

(3) نفس المصدر، ص180، الباب 10 من كيفيّة الحكم، ح2.

659

الإشكال الأول _ أنّ الرواية الأُولى وهي التامّة سنداً إنّما دلّت على أنّ استحلاف المدّعي للمنكر يسقط حقّه، ولا دلالة لها بالمفهوم على أنّ استحلاف الحاكم له من تلقاء نفسه لا يسقط حق المدّعي حتى مع الإيمان بمفهوم الشرط؛ بناءً على أنّ مفهوم الشرط يختصّ بحرف الشرط، ولا يأتي في أسماء الشرط من قبيل (إذا).

نعم، الحديث الثاني لا يرد عليه هذا الإشكال بعد فرض الإيمان بمفهوم الشرط في حرف الشرط؛ إذ جاء فيه حرف (إن) لا كلمة (إذا)، بل قد يقال: لا حاجة فيه إلى مفهوم الشرط أصلاً؛ لأنّه صرّح بالمفهوم بقوله: «وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه»، فهذا يعني حصر ما يسقط الحقّ في استحلاف المدّعي، ولكن هذا الحديث ساقط سنداً.

وأمّا الحديث الثالث فإضافةً إلى سقوطه سنداً إنّما دلّ على حكم في فرضٍ فرضه السائل، وهو فرض استحلاف المدّعي، ولم يرد في كلام الإمام ربط الحكم بفرض استحلاف المدّعي حتى تفرض دلالته بالمفهوم _ مثلاً _ على انتفاء الحكم عند ما يكون الاستحلاف من قبل الحاكم.

وبالإمكان دفع الإشكال عن الاستدلال بالحديث الأول بأحد وجهين:

الأول _ ضمّ هذا الحديث إلى ما ورد _ بسند تام _ عن أبي بكر، قال: «قلت له: رجل لي عليه دراهم، فجحدني وحلف عليها، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال: نعم، ولكن لهذا كلام. قلت: وما هو؟ قال: تقول: اللّهم إنّي لا آخذه ظلماً ولا خيانةً، وإنّما أخذته مكان مالي الذي أُخِذَ منّي لم أزدد عليه شيئاً»(1). فإذا قيّد إطلاق هذا الحديث بمنطوق حديث ابن أبي يعفور الوارد


(1) نفس المصدر، ج12، ص203، الباب83 ممّا يكتسب به، ح4.

660

في استحلاف المدّعي، كانت النتيجة أنّ الذي يسقط حقّ المدّعي إنّما هو استحلافه للمنكر دون حلف المنكر عن غير طريق استحلاف المدّعي إيّاه، ولو كان بتحليف الحاكم إيّاه. ولكن الظاهر أنّه بعد فرض إخراج استحلاف المدّعي للمنكر في مورد القضاء من إطلاق هذا الحديث لا يبقى له بحسب الفهم العرفي إطلاق لفرض تحليف الحاكم إيّاه، وإنّما ينصرف إلى حلف المنكر من تلقاء نفسه.

والثاني _ مبني على أن يستظهر من مثل هذه الأحاديث الواردة في يمين المنكر، أو بيّنة المدّعي، أو ما شابه ذلك أنّها تنظر إلى باب القضاء وإلى محضر الحاكم، وعندئذٍ يقال _ بناءً على أنّ الحاكم هو الذي يحلّف المنكر _: إنّ كون التحليف من قبل الحاكم لا إشكال فيه، إنّما الكلام في شرط طلب المدّعي، وقد جاء في منطوق الحديث قيد استحلاف المدّعي، فلو فرض نفوذ تحليف الحاكم بلا طلب من المدّعي لغا العنوان المأخوذ في المنطوق؛ إذاً فلا نحتاج في مقام استفادة المقصود إلى التمسُّك بمفهوم الشرط، بل تكفينا دلالة المنطوق على أنّ عنوان تحليف المدّعي _ الذي هو شيء زائد على أصل تحليف الحاكم ويقصد به طلب المدّعي للحلف _ دخيل في الحكم، نقيّد بذلك إطلاق ما دلّ على كفاية مطلق حلف المنكر _ ولو لم يكن بطلب المدّعي _ في سقوط حقّ المدّعي، وهو ما عن عبدالحميد عن بعض أصحابنا في الرجل يكون له على الرجل المال، فيجحده إيّاه، فيحلف يمين صبر أن ليس له عليه شيء، قال: «ليس له أن يطلب منه، وكذلك إن احتسبه عنداللّه فليس له أن يطلب منه»(1). على أنّ هذا الحديث ساقط سنداً.

ومعنى احتسابه عنداللّه _ بناءً على استظهار كون ذلك في مورد القضاء _ هو


(1) وسائل الشيعة، ج16، ص179، الباب 48 من الأيمان، ح2.

661

إسقاطه لدعواه، وبناءً على استظهار عدم إرادة خصوص فرض القضاء هو إسقاطه لحقّه المالي، والثاني _ أيضاً _ محتمل لو قصد خصوص فرض القضاء. وعلى أيّ حال فهذا الوجه إنّما يتمّ لو فرضنا أنّ الأمر دائر بين أن يكون التحليف بيد الحاكم أو بطلب من المدّعي، فيقال: إنّ أصل كون التحليف من الحاكم لا إشكال فيه، فلو أُلغي قيد طلب المدّعي لزمت لغويّة القيد المأخوذ في المنطوق. ولكن سيأتي _ إن شاء اللّه _ أنّه يمكن المصير إلى رأي آخر، وهو أنّ تحليف الحاكم يجب أن يكون على أساس طلب أحد المتنازعين _ إمّا المدّعي وإمّا المنكر _ والمذكور في هذا الحديث هو طلب المدّعي، ونفي طلب المنكر لا يكون إلا بالمفهوم.

الإشكال الثاني _ أنّ غاية ما دلّت عليه هذه الروايات أو بعضها هي أنّ سقوط حقّ المدّعي بالحلف إنّما يكون إذا كان الحلف بطلب من المدّعي، ولكن كلامنا الآن ليس في ذلك، وإنما كلامنا في أنّ حكم الحاكم هل يتوقف على كون حلف المنكر بطلب من المدّعي، أو ينفذ حكمه عندما يطالبه هو من تلقاء نفسه بالحلف من دون طلب المدّعي؟ وهذا مطلب آخر لا علاقه لهذه الروايات به. أمّا حمل هذه الروايات على معنى سقوط حقّ المدّعي بعد حكم الحاكم المترتب على تحليف المدّعي، فهذا أخْذٌ لقيد زائد وهو صدور الحكم بلا مبرّر، وإنّما المنظور لهذه الروايات هو سقوط حقّه بمجرد تحليفه إيّاه، أي: لا يحقّ له بعد ذلك أن يقيم البيّنة كي يجعل الحاكم يحكم وفق البيّنة؛ لأنّ اليمين ذهبت بحقّه.

ويمكن الجواب على هذا الإشكال بأنّ المفهوم عرفاً من هذه الروايات أنّها تشير إلى الحلف الذي يصحّ للحاكم الاعتماد عليه في الحكم، فإذا دلّت هذه الروايات على أنّ الحلف الذي يُسقط حقّ المدّعي هو الحلف الذي يكون بطلب من المدّعي؛ إذاً فقد دلّت على أنّ ما يصحّ للحاكم الاعتماد عليه من الحلف إنّما هو الحلف الذي

662

يكون بطلب من المدّعي.

القسم الثاني _ ما ورد في الوظيفة بعد عدم امتلاك المدّعي للبيّنة، وجعل الوظيفة هي استحلاف المدّعي، وهو ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أحدهما (عليهماالسلام) في الرجل يدّعي ولا بيّنة له، قال: «يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له»(1). فيقال: إنّ هذا الحديث شخّص الوظيفة في استحلاف المدّعي، وهذا يعني أنّ استحلاف الحاكم من تلقاء نفسه لا أثر له، وبه يقيّد ما قد يستفاد منه الإطلاق من قبيل:

1_ ما عن عبيد بن زرارة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يُدَّعى عليه الحقّ ولا بيّنة للمدّعي قال: «يُستحلف، أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له»(2).

2_ ما عن يونس عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه...»(3).

3_ ما عن أبان عن رجل عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يُدّعى عليه الحقّ وليس لصاحب الحقّ بيّنة، قال: يُستحلف المدّعى عليه...»(4).

فقد يدّعى أنّ هذه الروايات تدل بسكوتها عن قيد طلب المدّعي ليمين المنكر على عدم اشتراط هذا القيد، فلو تمّت هذه الدعوى قيّدت هذه الإطلاقات بالحديث


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص176، الباب 7 من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) نفس المصدر، ح2.

(3) نفس المصدر، ح4.

(4) نفس المصدر، ص177، الباب 7 من كيفيّة الحكم، ح5.

663

الأول على أنّ تماميّة هذه الإطلاقات محلّ نظر؛ لإمكان القول بأنّ هذه الروايات إنّما بيّنت ما يأتي بعد عجز المدّعي عن البيّنة، وهو يمين المنكر، أمّا أنّ هذا اليمين هل يوجّه إليه من قبل الحاكم ابتداءً، أو بطلب المدعي، فهذا مطلب آخر لا علاقة له بهذه الروايات، فهذه الروايات وِزانها وِزان أصل الروايات التي تبيِّن أنّ مقياس القضاء هو البيّنة واليمين، أو هو بيّنة المدّعي ويمين المنكر، لا علاقة لها بنفي شرط طلب المدّعي أو إثباته، على أنّ هذه الروايات كلّها ضعيفة سنداً. وأيضاً لو تمّت دلالة ما ورد في أمر نبي من الأنبياء بالتحليف فإنّما ذلك بالإطلاق، ويقيّد برواية محمد بن مسلم، ويكون المفاد بعد التقييد أنّ القاضي يحلّف بعد طلب المدعي.

إلا أنّ الصحيح: أنّ دلالة رواية محمد بن مسلم _ على شرط كون طلب الحلف من المدّعي _ أيضاً قابلة للنقاش، فإنّ السؤال فيه عن الرجل يدّعي ولا بيّنة ‏له قال: «يستحلفه»، فلا يبعد أن يكون هذا بصدد تعليم المدّعي كيفيّة تصدّيه لعلاج مشكلته، وهو أن يطلب حلف المنكر، أمّا لو لم يتصدَّ هو للعلاج فهل يجوز للحاكم أن يستقلّ بالعلاج، أو لا، فهذا مطلب آخر.

وتحقيق الحال في المقام أن يقال: إنّه تارةً يفترض أنّ الحقّ المتنازع عليه يكون تحت سلطة المنكر، وأُخرى يفترض أنّه تحت سلطة المدّعي.

فإن كان تحت سلطة المنكر لا يحلّف المنكر إلا بطلب المدّعي، فلو رضي المدّعي بإيقاف النزاع _ ولو موقّتاً _ وعدم مطالبته بحقّه، فلا دليل على نفوذ تحليف الحاكم للمنكر، ودليل كون وظيفةِ الحاكم حسم النزاع لا إطلاق له لفرض استعداد المدّعي لإيقاف النزاع ولو موقّتاً.

وإن كان تحت سلطة المدّعي _ كما لو كانت العين بيده معترفاً بأنّه أخذها من صاحبه قهراً عليه؛ لعلمه بأنّها له _ فهنا لا يحلّف المنكر إلا بطلب المنكر؛ بمعنى أنّه لو

664

رضي المنكر برفع اليد عن المطالبة بحقّه ولو موقّتاً، فلا دليل على نفوذ تحليف الحاكم إيّاه ولو بطلب من المدعي؛ لأنّ دليل كون وظيفة الحاكم حسم النزاع لا إطلاق له لفرض استعداد صاحب النزاع لرفع اليد عن النزاع ولو موقّتاً، وهنا صاحب النزاع هو المنكر؛ أي: إنّه المحروم عن الحقّ المتنازع فيه، ولو طلب المنكر الحلف حلّفه الحاكم ولو رغماً على المدّعي؛ لأنّ وظيفة الحاكم فصل النزاع.

فالمقياس في باب التحليف هو طلب من كان محروماً عن الحقّ المتنازع فيه سواء كان مدّعياً أو منكراً، ويكفي في ثبوت الطلب دلالة شاهد الحال على ذلك بلا حاجة إلى التصريح.

ولو أراد من بيده الحقّ المتنازع فيه تأجيل النزاع وعدم وقوع التحليف، فعليه أن يسلّم الحقّ بيد الآخر كي ينتقل حقّ طلب الحلف إليه.

فمثلاً لو كان المدّعي هو المسيطر على الحقّ المتنازع فيه، ولكنّه يطلب تأجيل الحلف؛ لأنّه يمتلك بيّنةً ستأتي بعد فترة ملحوظة من الزمن، فعليه أن يسلّم الحقّ إلى المنكر، ثم ينتظر البيّنة، وإلا فوظيفة الحاكم هي إنهاء النزاع بتحليف المنكر.

وما قلنا من أنّ من ليس بيده الحقّ المتنازع فيه يجوز له تأجيل الحلف نقصد بذلك تأجيله بتأجيل المطالبة بالحقّ، لا أن يؤجّل الحلف، ثم يؤذي صاحبه باستمرار المطالبة، وإلا خيّره الحاكم بين عدم تأجيل الحلف وترك المطالبة.

ولعلّ المُجمعين على اشتراط الحلف بطلب المدّعي كانوا ينظرون إلى ما هو الغالب من أنّ المسيطر على الحقّ المتنازع فيه هو المنكر، ولو فرض الإطلاق فيما قصدوه فالإجماع مدركي لا أثر له، ولم يثبت في المقام إجماع تعبّدي.

يبقى الكلام هنا في فرعين:

665

سقوط حق المدّعي بيمين المنكر

الفرع الأول _ متى يُسقط الحلفُ حقَّ المدّعي في الدعوى وإقامة البيّنة والتقاصّ؟ فيه ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول _ أنّ سقوط حقّ المدّعي إنّما يكون بحكم الحاكم لصالح المنكر بعد يمينه، أمّا مجّرد اليمين من المنكر _ ولو بطلب الحاكم وبمطالبة المدّعي _ فلا يسقط حقّه في الدعوى، وإلا فأيّ حاجة إلى القضاء والحكم بعد ذلك؟! ولماذا يقول الرسول (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»؟!

والجواب: أنّ الحاجة إلى القضاء واضحة؛ إذ المدّعي قد لا يعترف _ اجتهاداً، أو تقليداً، أو عناداً، أو جهلاً _ بسقوط حقّه، فالحاكم هو الذي يحكم بسقوط الحقّ وإنهاء المرافعة.

الاحتمال الثاني _ أنّ سقوط حقّ المدّعي يكون قبل حكم الحاكم تمسكاً بإطلاق الروايات، فبعد يمين المنكر لا يحقّ للمدّعي أن يقيم البيّنة _ مثلاً _ على مدّعاه قبل تماميّة الحكم، ولكن سقوط حقّ المدّعي مشروط بكون اليمين بلحاظ قانون المحكمة، وذلك لانصراف الأخبار الواردة في مثل اليمين والبيّنة إلى باب القضاء، فلو أنّ المدّعي حلّف المنكر بتوافق فيما بينهما على التحليف لا عن طريق القضاء، فلا قيمة لهذا التحليف.

الاحتمال الثالث _ أنّ تحليف المدّعي للمنكر _ ولو بتوافق بينهما لا عن طريق القضاء _ يسقط حقّه فضلاً عمّا إذا كان في المحكمة وبطريق القضاء، وذلك لأننّا لو لم نؤمن بإطلاق روايات الباب، وقلنا بانصرافها إلى مسألة القضاء، فهناك رواية واحدة تدل على سقوط حقّ المدّعي بالتحليف ولو عن غير طريق القضاء، وهي ما تقدّم من

666

رواية عبداللّه بن وضّاح(1) الواردة في الحلف عند الوالي، ويقصد به والي الجور، ونحن نعلم أنّ المرافعة إلى والي الجور ليست إلا أمراً صورياً بهدف استنقاذ الحقّ عند العجز عن المرافعة لدى حاكم الشرع، أمّا حكم الوالي فلا قيمة له شرعاً؛ إذاً فحلف المنكر كأنّما لم يكن بطريق القضاء؛ لأنّ القضاء لم يكن شرعيّاً، فكأنّه تحليف من قبل المدّعي مباشرةً للمنكر، ومع ذلك حكم الإمام (عليه السلام) بسقوط حقّ المدّعي، فهذا يعني أنّ مجرّد تحليف المدّعي للمنكر يسقط حقّه ولو لم يكن عن طريق القضاء.

نعم مجرّد تبرّع المنكر بالحلف من تلقاء نفسه لا قيمة له. ولكن قد مضى فيما سبق ضعف سند الرواية.

وقد يقال: إنّ تحليف المدّعي للمنكر _ ولو عن غير طريق القضاء _ يسقط حقّ المدّعي بمقتضى القاعدة بلا حاجة إلى نص خاص؛ لأنّ معنى تحليفه تعهّده بالاكتفاء بالحلف عن إدامة المرافعة والنزاع، ويجب الوفاء بالعهد.

وفيه: أنّه لو رجع هذا إلى التعهّد فهذا تعهّدٌ في طول ظلم الظالم إيّاه حسب ما يعتقد، ودفعٌ لظلمه، وهذا النحو من التعهّد لا قيمه له لا عقلائيّاً ولا شرعاً.

وقد تحصّل بهذا العرض أنّ أقوى الوجوه هو الاحتمال الثاني.

والتحليف _ حتى لو اشترطنا فيه أن يكون بمطالبة المدّعي _ يجب أن يكون من قبل الحاكم، فلو حلّفه المدعي أمام الحاكم فلا قيمة لهذا الحلف، فإنّ الثابت بالنصّ إنّما هو تحليف الحاكم، كما ورد في حديث سليمان بن خالد: «وأضفهم إلى اسمي، وحلّفهم به»، أمّا التحليف عن طريق المدّعي مباشرةً أمام الحاكم فلا دليل على نفوذه.

والتحليف من قبل الحاكم في مورد لم نشترط في مشروعيّته طلب المدّعي أو رضاه


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص180، الباب 10 من كيفيّة الحكم، ح2.

667

يكفي في سقوط حقّ المدّعي وإن لم يكن بطلب المدّعي أو رضاه، وذلك لأنّ روايات إسقاط الحلف لحقّ المدّعي وإن كانت كلّها بلسان استحلاف المدّعى ولكن بعد ما عرفت من أنهّا ليست بنكتة التعهّد من قبل المدّعي عقلائياً يكون المفهوم منها عرفاً الإشارة إلى الحلف المشروع في باب القضاء الذي يكفي لحكم الحاكم، فلو كان ذلك أوسع من الحلف الذي يكون بطلب من المدّعي فسقوط حقّ المدّعي أيضاً يتّسع لتمام موارد مشروعيّة حلف المنكر.

حكم اليمين إذا أعقبه الإقرار

الفرع الثاني _ هل يُسقِط تحليفُ المنكر حقَّ المدّعي حتى بعد إقرار المنكر؟

فلو تاب المنكر بعد أن حلف، وأقرّ بالحقّ للمدّعي وقدّم المال إليه _ مثلاً _ لم يجز للمدّعي أن يأخذ حقّه؛ لأنّه قد سقط حقّه بيمين المنكر، أو لا؟

الظاهر: أنّ الإقرار يُعطي للمدّعي حقَّ أَخْذِ مالِهِ ولو كان قد حلف المنكر، وحكم الحاكم لصالحه بسبب الحلف، فحلفه لا يمنع المدّعي عن أخذ حقّه بعد الإقرار، وليس الإقرار كالبيّنة التي لو أتت بعد الحلف لم تكن لها قيمة للمدّعي، والوجه في ذلك أمور:

الأول _ أنّ روايات سقوط حقّ المدّعي بيمين المنكر تنصرف _ بمناسبات الحكم والموضوع _ إلى سقوط حقّه بوصفه مخاصماً في قاموس القضاء، وفي مقابل خصمه الآخر، أمّا إذا سلّم المنكر بالحقّ فقد انتهى التخاصم والتكاذب في قاموس القضاء، ويكون المرجع عندئذٍ مقتضى دليل سلطنة الناس على أموالهم مثلاً، فمن حقّه أخذ ماله.

الثاني _ أنّه لو لم يجز للمدّعي أخذ ماله مثلاً، فلا يخلو الأمر من أحد فرضين:

1_ أن يفترض أنّ الملكيّة الواقعيّة انتقلت إلى المنكر، وهذا يعني أن الظالم انتقل

668

المال إليه واقعاً بسبب إصراره على ظلمه إلى حدّ الحلف، وهذا غير محتمل ارتكازاً، فيكون فهم هذا المعنى من دليل سقوط حقّ المدّعي خلاف الظاهر، بل قد ورد النص على خلافه، وهو ما عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) من قوله: «فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(1).

2_ أن يفترض أنّ المنكر وظيفته تقديم المال إلى المالك خروجاً من الغصب لأنّه ما زال في ملكه، والمالك وظيفته رفض المال، فهذا يسلّم مال المالك إليه، وذاك لا يستلم، وهذا أيضاً خلاف المرتكز، فيكون حمل دليل سقوط حقّ المدّعي على ذلك خلاف الظاهر، فيتعيّن ما قلناه من أنّ له أخذ حقّه.

الثالث _ النص الدالّ على جواز أخذ المدّعي حقّه بعد اعتراف المنكر له رغم يمينه، وهو ما عن مسمع أبي سيّار _ بسند تام _ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): إنّي كنت استودعت رجلاً مالاً، فجحدنيه وحلف لي عليه، ثم إنّه جائني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي أودعته إيّاه، فقال: هذا مالك فخذه، وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها، فهي لك مع مالك واجعلني في حلّ، فأخذت منه المال وأبيت أن آخذ الربح منه، ورفعت المال الذي كنت استودعته وأبيت أخذه حتى أستطلع رأيك، فما ترى؟ فقال: خذ نصف الربح وأعطه النصف وحلّله، فإنّ هذا رجل تائب، واللّه يُحبّ التوّابين»(2) بناءً على حمل الحديث على الحلف لدى القضاء.

وقد يناقش في دلالة الحديث بعد تسليم حمله على فرض المرافعة عند الحاكم أنّ القضيّة الخارجية المذكورة في هذا الحديث تنصرف إلى ما كان متعارفاً وقتئذٍ من


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) نفس المصدر، ج16، ص179، الباب 48 من الأيمان، ح3.

669

المرافعة لدى والي الجور، وقضاء الجائر ليس شرعيّاً، فلعلّ هذا هو السرّ في جواز أخذ ماله لا الإقرار.

وذكر في الجواهر(1): أنّ دليل نفوذ الإقرار يعارض دليل سقوط حقّ المدّعي بيمين المنكر بالعموم من وجه في مورد الإقرار بعد اليمين، ويرجّح عليه بالإجماع على جواز أخذ الحقّ للمدّعي بعد إقرار المنكر، وبحديث مسمع أبي سيّار.

أقول: لو تمّ حديث مسمع أبي سيّار أو الإجماع دليلاً على جواز أخذ الحقّ عند الإقرار رغم اليمين، فهو دليل مستقلّ، وليس مرجّحاً لدليل حجّية الإقرار، وإلا فلا قيمة له ولا يرجّح أيضاً دليل حجّية الإقرار، على أنّ إطلاقاً لفظيّاً تام السند في باب الإقرار نرجع إليه في مثل المقام غير موجود، ولو سلّمنا وجوده وتعارض بالعموم من وجه مع دليل سقوط حقّ المدّعي بيمين المنكر، فهذا الدليل يقدّم على دليل الإقرار بالحكومة؛ لأنّه ناظر إلى كلّ ما يفرض _ بغضّ النظر عن اليمين _ من حقّ للمدّعي بما فيه حق نفوذ إقرار المنكر.

والعمدة في إثبات جواز أخذ المدّعي لحقّه بعد إقرار المنكر رغم اليمين ما عرفته من الوجهين الأوّلين من الوجوه الثلاثة التي ذكرناها.

هذا إذا أقرّ المنكر، واستعدّ لتقديم المال إلى المدّعي، أمّا لو أقرّ المنكر من دون استعداده لتقديم العين التي أقرّ بها، كما لو كان إقراره بعنوان التحدّي؛ كأن يقول له: إنّ المال مالك، ولكنّي استطعت أن أغصبه منك وأتغلّب عليك في المحكمة باليمين، فهل يجوز للمدّعي أن يأخذ منه المال قهراً، أو لا؟

الظاهر التفصيل بين ما إذا وقع ذلك في غياب القاضي، وما إذا وقع بمسمع من القاضي


(1) ج40، ص174.

670

صدفةً، ففي الأول لا يجوز للمدّعي أخذ ماله قهراً على المنكر، إذ لا يأتي فيه شيء من الوجوه الثلاثة التي ذكرناها، أمّا حديث أبي سيّار فواضح؛ إذ مورده فرض التوبة، وأمّا الثاني فلأنّه لم ينته الأمر إلى أن هذا يسلّم المال والآخر يجب عليه الرفض الذي قلنا: إنّه خلاف الارتكاز، وأمّا الأول فلأنّ التخاصم والتكاذب في قاموس القضاء لم ينته.

وفي الثاني وهو ما إذا وقع الإقرار بمسمع من القاضي صدفةً، فالتخاصم والتكاذب في قاموس القضاء قد انتهى بذلك؛ لأنّ القاضي بنفسه سمع نفي التكذيب من المنكر، فينتقض حكمه، ويُلزِمُه بردّ المال عملاً بقاعدة نفوذ الإقرار، ويتمّ في المقام الوجه الأول من الوجوه الثلاثة دون الوجهين الآخرين.

هذا تمام الكلام في يمين المنكر الذي به يحكم الحاكم لصالحه.

أما لو رفض المنكر اليمين، فإمّا أن يردّها على المدّعي، أو ينكل عن اليمين من دون ردّها عليه:

ردّ اليمين على المدّعي

أمّا لو ردّ اليمين على المدّعي فلا إشكال في أنّ المدّعي يحلف ويأخذ الحقّ، أو ينكل فيكون الحقّ للمنكر. وتدلّ على ذلك الروايات من قبيل:

1_ ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أحدهما (عليهماالسلام) في الرجل يدّعي ولا بيّنة له قال: «يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له»(1).

2_ وما عن جميل _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا أقام المدّعي البيّنة فليس عليه يمين، وإن لم يقم البيّنة فردّ عليه الذي ادّعى عليه اليمين فأبى فلا حقّ له»(2).


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص176، الباب 7 من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) نفس المصدر، ص177، ح6.

671

نكول المنكر لليمين

وأمّا لو نكل فلم يحلف، ولم يردّ اليمين إلى المدّعي، ففيه قولان:

القول الأول _ إنّ الحاكم يحكم لصالح المدّعي بمجرّد نكول المنكر بلا حاجة إلى تحليف المدّعي، ويشهد لذلك بعض الروايات وهي:

1_ ما عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه قال: «قلت للشيخ: خبّرني عن الرجل يدّعي قِبلَ الرجل الحقَّ فلم تكن له بيّنة بماله، قال: فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له، وإن لم يحلف فعليه _ إلى أن قال _: فإن ادّعى بلا بيّنة (يعني على الميّت) فلا حقّ له؛ لأنّ المدّعى عليه ليس بحي، ولو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه...»(1).

ومحلّ الشاهد من الحديث فقرتان:

الأُولى _ قوله: «وإن لم يحلف فعليه»، إلا أنّ هذا إنّما ورد في نسخة الكافي(2) والتهذيب(3)، ولكن في الفقيه(4) بدلاً عن قوله «وإن لم يحلف فعليه» جاء: «وإن ردّ اليمين على المدّعي، فلم يحلف، فلا حقّ له». واختلاف النسخ يسقط الاستدلال.

والثانية _ قوله: «ولو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه»، فقد يقال: إنّ هذا قد جعل القسيم ليمين المنكر وردّه لليمين على المدّعي ثبوت الحقّ على المنكر، وهذا يعني أنّه لو لم يحلف ولم يردّ الحلف على المدّعي ثبت الحقّ عليه.


(1) نفس المصدر، ج18، ص173، الباب 4 من كيفيّة الحكم، الحديث الوحيد في الباب.

(2) ج7، ص416، كتاب القضاء، باب من ادّعى على الميّت، الحديث الوحيد في الباب.

(3) ج6، ص229، ح555.

(4) ج3، ص38، ح128.

672

إلا أنّ هذا فرع قراءة قوله: «يردّ اليمين» بصيغة المعلوم، وهذا غير ثابت، فلو قرئ بصيغة المجهول لم يعرف أنّ الرادّ هو المنكر، فلعلّه الحاكم، ولعلّ قوله: «أو الحقّ» يقصد به فرض اعترافه بالحقّ للمدّعي. وعلى أيّ حال فسند الحديث ضعيف بياسين الضرير.

2_ ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الأخرس كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين وأنكر، ولم يكن للمدّعي البيّنة؟ فقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أُتي بأخرس فادُّعي عليه دين، ولم يكن للمدّعي بيّنة...» إلى أن قال: «ثم كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) واللّه الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضارّ النافع المهلك المدرك الذي يعلم السرّ والعلانية أنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان _ أعني الأخرس _ حقّ ولا طلبة بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الأسباب، ثم غسله، وأمر الأخرس أن يشربه، فامتنع، فألزمه الدين»(1).

ووجه الاستدلال بالحديث دعوى أنّ سكوت الحديث عن تحليف المدّعي يدل على أنّ الإمام (عليه السلام) حكم على المنكر من دون تحليف المدّعي، وذلك بالنكول.

ويرد عليه أوّلاً: أنّ المنكر لئن كان نكوله من دون ردّ كافياً في الحكم عليه فلا أقلّ من أنّ من حقّه ردّ اليمين على المدّعي، كما هو صريح ما مضى من بعض الروايات، وليس المفروض بالقاضي _ وخاصّة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) _ أن يُغفِله، ويحكم عليه من دون إلفاته إلى ماله من حقّ الردّ، ولم يكن هذا الاخرس _ على الأكثر _ إنساناً مطّلعاً على دقائق باب القضاء، فكان المفروض تنبيهه على حقّه؛ إذاً توجد


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص222، الباب 33 من كيفيّة الحكم، ح1.