7

كلمة المكتب

يُعتبر مبحث القضاء في الفقه الإسلامي من أهم المسائل حيويّة وضروريّة في الظرف الراهن؛ وذلك نظراً للحاجة الماسة إليه علی صعيدي النظرية والتطبيق. وقد وفّق الله سبحانه سماحة السيد المؤلف (آية الله العظمی السيد كاظم الحسيني الحائري) أن قام بأعباء هذا البحث، وقدّم دراسة علمية استدلالية قلّ نظيرها في هذا المجال، تمتاز بالدقة والتأني، واستقصاء وجوه المسائل والاستدلال والمناقشة.

هذا. مضافاً إلی مراجعته للفقه الوضعي في مقاطع عديدة من البحث وعرض آرائه ومناقشته الرصينة لجملة منها. وهذه الميزة لم نجدها في البحوث العلمية الدارجة في الحوزات العلمية.

وقد طُبع الكتاب أكثر من مرّة في «مجمع الفكر الإسلامي» بقم المقدسة، وأجری سماحة السيد المؤلف عليه بعض التعدیلات الطفيفة، وقد أخذناها بعين الإعتبار في هذه الطبعة وأعدنا قراءة الكتاب مرّات عديدة تلافياً لبعض الأخطاء غير المقصودة.

8

وإذ نقدّم الكتاب لقرّائه الأفاضل _ بعد التصحيح والتدقيق الشاملين _ ندعو الله تعالی أن يتقبل ذلك من سماحة سيدنا المؤلف ويمنّ عليه بطول العمر وتمام العافية، إنّه سميع مجيب.

10 ذي الحجة الحرام 1440هـ/ ذكری عيد الأضحی المبارك

9

كلمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، وأفضل الصلوات على أفضل النبيّين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد فهذه مجموعة ما بحثناه في باب القضاء _ وأقصد به فصل الخصومة بإصدار الحكم _ أُقدّمها لأهل العلم والفضيلة مشتملةً على خمسة فصول:

الفصل الأول: في وجوب القضاء.

الفصل الثاني: في شخصية القاضي.

الفصل الثالث: في طرق الإثبات لدى القاضي.

الفصل الرابع: في الحكم على الغائب.

الفصل الخامس: في مدى نفوذ حكم القاضي.

راجياً من اللّه تبارك وتعالى أن يجعل ذلك ذخراً لي ليوم فقري وفاقتي إنّه سميع مجيب.

كاظم الحسيني الحائري

11

 

 

 

 

   1- وجوب القضاء

   2- شخصيّة القاضي

   3- طرق الإثبات لدى القاضي

   4- الحكم على الغائب

   5- مدى نفوذ حكم القاضي

 

13

الفصل الأوّل

 

 

وجوب القضاء

 

   1- أدلّة الوجوب

   2- بحث المسألة على صعيدين

 

 

 

 

15

وجوب القضاء

ذكروا: أنّ القضاء واجب كفاية، وادعي عليه الإجماع.

قال في الجواهر: «في التحرير وغيره أنّ القضاء واجب على الكفاية، بل في الرياض نفي الخلاف فيه بيننا...»(1).

أدلّة الوجوب

ولعلّ خير ما يستدلّ به على ذلك توقّف ما نقطع بعدم رضا الشارع بفوته عليه من حفظ النظام، وسدّ أبواب الظلم والمعاصي.

وأورد المحقّق العراقي (رحمه الله) على الاستدلال بتوقّف حفظ النظام عليه بمنع ذلك لإمكان إحقاق الحقوق بطور آخر، وما يضيع من بعض الحقوق في الطور الآخر يضيع أيضاً بقدره في فرض القضاء.

وأورد على الاستدلال عليه بمقدّميته للنهي عن المنكر: بمنع صدق المنكر قبل الحكم على عمل من اعتقد صحّة رأيه من الطرفين، ومع الشكّ فيه لا يتحقّق موضوع المنكر بالنسبة إليه قبل قيام الحجّة عليه، ومع قيامها يكفي هذا في تحقّق


(1) الجواهر، ج 40، ص 10.

16

موضوعه بلا حاجة إلى القضاء(1).

أقول: من يستدلّ على وجوب القضاء بتوقّف النهي عن المنكر عليه يقصد بذلك أنّ كثيراً من الظالمين المتعمّدين في الظلم لا يمكن دفعهم عن ظلمهم قبل إقامة الحجّة عليهم أمام خصومهم وأمام الناس وقبل قيام الحجّة لنفس الدافع، وهذا كلّه لا يكون إلا بالقضاء. ولا يقصد بذلك إقامة الحجّة أمام نفس الخصم الذي لولاها لم يعرف أنّ عمله منكر، وبالتالي لم يكن منكراً كي يورد عليه بما ذكره (رحمه الله).

أمّا دعوى عدم توقّف حفظ النظام على القضاء فأكثر غرابةً، اللّهم إلا أن يقصد بذلك أنّ هذا لا يثبت وجوب القضاء كفايةً من قبل العدول مع الإمكان عند وجود قضاة الحاكم الغاصب؛ لأنّ وجود القضاة من قبل الحاكم الغاصب يمنع _ على أيّ حال _ من اختلال النظام.

بحث المسألة على صعيدين

أقول: إنّنا تارةً نبحث المسألة على مستوى معرفة جزء من خطّة الإسلام الشاملة في إدارة المجتمع، وأُخرى نبحث المسألة على مستوى وجوب إقامة القضاء الحقّ لو أمكن ولو في ظلّ حكومة غاصبة.

أمّا إذا بحثنا المسألة على المستوى الأول، فمن الواضح أنّ المعروف من الإسلام أنّه يملأ الفراغات اللازمة المل‏ء لحفظ النظام ونفي الهرج والمرج، أي: أنّ كلّ ما يكون عدم ملئه موجباً لاختلال النظام يملؤه الإسلام بطريقته الخاصّة، أمّا فرض ملئه من قبل الأعداء بطريقتهم الخاصّة فهو رغم علاجه لمشكلة اختلال النظام بطريقتهم لا يمنع الإسلام عن علاجه بطريقه الخاص؛ إذاً فالإسلام كنظام شامل


(1) كتاب القضاء للمحقّق العراقي، ص 4 _ 5.

17

للحياة مشتمل على وجوب القضاء الحقّ حتماً. نعم، هذا لا يكفي لإثبات وجوب القضاء الحقّ في ظلّ دولة غاصبة عند الإمكان.

وأمّا إذا بحثنا المسألة على المستوى الثاني فقد يقال: إنّه لا يمكن الاستدلال على وجوب القضاء الحقّ عند الإمكان في ظلّ دولة غاصبة بلزوم الاختلال بتركه؛ لوضوح أنّ نفس الدولة الغاصبة تقوم بطريقتها الخاصّة بالمنع عن الاختلال، ولكن مع ذلك لا ينبغي الإشكال في وجوب إقامة القضاء الحقّ حتى في ظلّ دولة غاصبة إن أمكن، وذلك:

أوّلاً _ لأجل ما سيأتي _ إن شاء اللّه _ في محلّه من تحريم الشريعة الإسلامية للتحاكم لدى الطاغوت _ على الأقلّ عند إمكان التحاكم إلى من يقضي بالحقّ _، والمفهوم عرفاً من هذا التحريم بمناسبة الحكم والموضوع أنّ التحاكم عند الطاغوت مفسدة اجتماعية مبغوضة لدى الشارع لا يرخّص فيها إلا لأجل نفي الحرج مثلاً، وعلى المجتمع سدّ هذه المفسدة بشكل لا يوجب اختلال النظام؛ فكما يجب على المترافعين أن لا يترافعا عنده كذلك يجب على من يستطيع التصدّي للقضاء الحقّ أن يتقبّل منهما رفع التنازع إليه.

وثانياً _ لأنّ قضاة الجور كثيراً ما يقضون بالظلم والجور، بينما دفع الظلم ورفع المنكر واجبان كفاية، فيجب كفاية على القادرين على علاج ذلك _ بتصدّيهم للقضاء الحقّ _ التصدّي لذلك.

هذا. وذكر في الجواهر ما مضمونه: أنّ القضاء بما هو منصب من المناصب إنّما يعطى للشخص من قبل الإمام، فلا معنى لوجوبه كفايةً على المسلمين. نعم، يجب القضاء كفايةً على المنصوبين له من قبل الإمام، أو يجب تولّي القضاء من الإمام سنخ غسل الميّت الواجب كفايةً على المسلمين، المتوقّف صحّته على إذن الولي،

18

فيجب كفايةً تحصيل الإذن من الولي كي يُصلّى على الميّت، ولعلّ ذلك ونحوه مرادهم من الوجوب على الكفاية(1).

أقول: من الواضح أنّه حينما يضاف الوجوب إلى القضاء يقصد به وجوب فعل القضاء، ولا نظر لذلك إلى الجانب الوضعي للقضيّة من مدى صحّة القضاء وثبوت هذا المنصب. نعم، إذا وجب فعل القضاء كفايةً، وشروط صحّة القضاء لم تكن موجودة، وجب _ طبعاً _ بالكفاية تحصيل الشروط، وتحصيل المنصب ممّن له حقّ إعطاء هذا المنصب. إذاً فباب وجوب الفعل باب، وباب ثبوت المنصب باب آخر، ولم تكن حاجة إلى الخلط والتطويل.


(1) راجع الجواهر، ج 40، ص 10 _ 11.

19

الفصل الثاني

 

 

شخصيّة القاضي

 

   1- المقدّمة

   2- النصب العامّ للقضاء

   3- شرائط القاضي

   4- قاضي التحكيم

   5 - الخاتمة في من بيده تعيين القاضي.

 

 

21

المقدّمة

قد قسّموا القاضي إلى القاضي المنصوب، وقاضي التحكيم.

ولعلّه ليس المقصود من جعل قاضي التحكيم في مقابل القاضي المنصوب أنّ قاضي التحكيم ليس بحاجة إلى النصب من قبل الإمام، فإنّ نفوذ القضاء هو خلاف الأصل حتى مع فرض التحكيم، وليس الحكم إلا للّه تعالى، ثم لمن أعطاه اللّه إيّاه، ثم لمن نصبه المعيّن من قبل اللّه؛ فكأنّ المقصود من تقسيم القاضي إلى هذين القسمين هو أنّ القاضي: تارةً يكون منصوباً ابتداءً وبالذات من قبل الإمام، فلو رفع أحد المتخاصمين الشكوى إليه فطلب القاضي من الآخر الحضور والخضوع للحكم وجب عليه ذلك؛ لأنّ هذا المنصب ثابت له من قبل الإمام، وأُخرى لا يكون منصوباً من قبل الإمام إلا في طول المحاكمة، فلو تحاكم المتخاصمان عند شخص كان ذلك الشخص مخوَّلاً من قبل الإمام في الحكم، وإن لم يكن منصوباً ابتداءً وبالذات من قبل الإمام للحكم.

وبما أنّنا نعيش اليوم عصر الغيبة الكبرى فلا يكون النصب من قبل الإمام نصباً لشخص معيّن بالخصوص، وإنّما النصب يكون بشكل عام لكلّ من هو متّصف بمواصفات معيّنة. نعم، بناءً على مبنى ولاية الفقيه قد يقال بأنّ للفقيه حقّ تعيين شخصٍ مّا للقضاء، ولو لم توجد فيه المواصفات المذكورة في من ورد من الإمام المعصوم

22

نصبهم بشكل عام للقضاء، وهذا أيضاً يدخل في القاضي المنصوب.

ثم قد يقال: إنّ من حقّ المتخاصمين أن يتراضيا على المحاكمة عند شخص غير واجد لمواصفات القاضي المنصوب من قبل الإمام المعصوم، ولا المنصوب من قبل الفقيه؛ إذاً فيقع البحث حول شخصية القاضي:

أوّلاً _ في أنّه هل وصلنا نصب عام من قبل الإمام المعصوم للقضاء وفق مواصفات معيّنة أو لا؟

وثانياً _ في أنّه على تقدير الإجابة بالإيجاب على هذا السؤال، فما هي المواصفات المشترطة في من نصبه المعصوم بشكل عام؟ وهل يجوز للفقيه أن ينصب من هو فاقد لتلك المواصفات أو لا؟ وهل يجوز له أن يوكّل في القضاء الفاقد لتلك المواصفات أو لا؟

وثالثاً _ هل يحق للمترافعين تحكيم غير المنصوب من قبل الإمام ولا من قبل الفقيه _ وهو المسمى بقاضي التحكيم _ أو لا؟

23

النصب العام للقضاء

أمّا الأمر الأول، وهو أنّه هل هناك نصب عام من قبل المعصوم للقضاء أو لا؟

فعمدة الدليل على النصب أحاديث ثلاثة:

أحدها: التوقيع الشريف الذي رواه إسحاق بن يعقوب: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اللّه»(1). أو «وأنا حجّة اللّه عليهم» كما في كمال الدين(2)، أو «وأنا حجّة اللّه عليكم» كما في غيبة الطوسي(3)؛ بناءً على دلالة هذا الحديث على ولاية الفقيه بشكل عام، ومن أغصان الولاية العامة هي ولاية القضاء.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص101، الباب 11 من صفات القاضي، ح 9.

(2) كمال الدين وتمام النعمة، ج1، ص484.

(3) كتاب الغيبة، ج1، ص291.

24

والثاني: مقبولة عمر بن حنظلة، قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له؛ لأنّه أخذ بحكم الطاغوت وما أمر اللّه أن يكفر به... . قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً؛ فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه»(1).

وقد ردّ السيد الخوئي (رحمه الله) كلا هذين الحديثين بضعف السند، ويقصد بذلك عدم ثبوت وثاقة إسحاق بن يعقوب في الحديث الأول، وعمر بن حنظلة _ كما صرّح به _ في الحديث الثاني، ورغم هذا آمن بأصل فكرة القاضي المنصوب على أساس توقّف حفظ النظام المادّي والمعنوي على القضاء الموجب لوجوبه كفاية.

وقد يقال: إنّ الوجوب الكفائي حكم تكليفي لا يثبت النصب الذي هو حكم وضعي، والحكم لا يحقّق موضوعه وشروطه، فلو كان الشرط في نفوذ القضاء هو النصب فكيف يمكن إثبات ذلك بوجوبه؟!

إلا أنّه بالإمكان الإجابة على ذلك: بأنّه لو كان الوجوب الكفائي للقضاء ثابتاً بنصّ خاص مثلاً مشروطاً بنصب الإمام صحّ القول بأنّ هذا الوجوب لا يثبت النصب، فإذا لم يكن دليل على النصب لم يمكن إثباته بالوجوب الكفائي، ولكنّ الوجوب الكفائي هنا ثبت بعلمنا بعدم رضا الشارع باختلال النظام، وهذا العلم كما


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص99، الباب 11 من صفات القاضي، ح 1.

25

يثبت وجوب القضاء كذلك يثبت نفوذه؛ لأنّنا نعلم إنّ مجرّد الوجوب بلا نفوذ لا يرفع الاختلال، ونفوذه يعني إمضاء الشارع لقضائه. وحينئذٍ لو كان إمضاء الشارع لقضائه بعد فرض ترافع المتنازعين لديه كافياً في رفع الاختلال ثبت بذلك قضاء التحكيم، أمّا لو فرض أنّ مجرّد ذلك لا يرفع الاختلال؛ لأنّه كثيراً مّا يتّفق أنّ أحد المتخاصمين لا يرضى بالتحاكم، فلابدّ من قاضٍ منصوب يحقّ له جلب المتخاصم عند طلب المتخاصم الآخر.

فثبت بذلك على الإجمال أنّ الشريعة الإسلامية نصبت بعض الناس قضاة، فأمّا من هم هؤلاء البعض؟ _ وقد افترضنا عدم نصّ خاصّ يرشدنا إليهم _ فلابدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن لو كان، وهذا ما سنبحثه إن شاء اللّه عند بحث الشروط.

وعلى أيّ حال فالصحيح تماميّة سند الخبرين الماضيين:

أمّا توقيع إسحاق بن يعقوب فلما ذكرناه في كتاب «أساس الحكومة الإسلامية»(1) في تصحيح سنده ولا نُعيده هنا. وأمّا مقبولة عمر بن حنظلة فلثبوت


(1) وحاصله: أنّ الرواية رويت بسندين:

الأول: الصدوق في إكمال الدين، عن محمد بن محمد بن عصام، عن محمد بن يعقوب، عن إسحاق ابن يعقوب ....

الثاني: الشيخ في الغيبة، عن جماعة، عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الزراري وغيرهما كلهم، عن محمد بن يعقوب.

والسند الثاني إلى إسحاق بن يعقوب صحيح مطمأن إليه؛ حيث يرويها جماعة _ منهم المفيد فإنّ الشيخ يروي جميع كتب وروايات ابن قولويه عن جماعة أحدهم المفيد _ عن جماعة _ منهم ابن قولويه والزراري المقطوع بوثاقتهما _ عن الكليني، فلا يبقى في السند غير إسحاق بن يعقوب، ولا اسم له في الرجال فيكون مجهولاً، لكن مجهوليته لا تضر هنا، لأنّها إنما تضرلوجود احتمال الكذب أو التساهل، وهو هنا منتفٍ، لأنّ احتمال الكذب أو التساهل إن فرض في أصل دعوى صدور التوقيع، يردّه: أنّ احتمال ←

26

وثاقته على مبنانا برواية بعض الثلاثة الذين لا يروون إلا عن ثقة، عنه.

وثاقة من روى عنه بعض الثلاثة

والأصل في توثيق كلّ من روى عنه أحد الثلاثة هو ما عن الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتاب العدّة في أواخر بحثه عن خبر الواحد؛ حيث قال:

«وإذا كان أحد الراويين مسنداً والآخر مرسلاً نظر في حال المرسل، فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد ابن أبي نصير، وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمّن يوثق به وبين ما أسنده غيرهم»(1).

فهذا إخبار من قبل الشيخ الطوسي (رحمه الله) يحمل على الحس أو ما هو قريب من الحسّ بأنّه كان من المعروف عند الأصحاب بشأن هؤلاء الثلاثة أنّهم لا يروون إلا عن ثقة، وبتصديق هذا الخبر من الشيخ على أساس حجّية خبر الثقة تثبت شهادة جملة من الأصحاب بأنّ هؤلاء الثلاثة لا يروون إلا عن ثقة. إذاً فنقل واحد من هؤلاء الثلاثة عن شخص توثيق له.


أن يخف على مثل الكليني افتراء التوقيع في زمانه بعيد جداً لا يعتنى به، خاصةً وأنّ التوقيعات لم تكن تصدر إلا إلى الخواص لشدّة التقيّة.

وإن فرض التساهل في نقل الخصوصيات _ بعد انتفاء احتمال الكذب في أصل النقل _ فهو إمّا لمصلحة شخصية تدعو إلى التغيير، وهي غير متصورة في المقام، وإمّا لعدم الضبط والتساهل في النقل وهذا إنّما يكون في النقل الشفهى عادة لا في الكتاب. راجع: ص 155 من كتاب «أساس الحكومة الإسلامية».

(1) العدّة للشيخ الطوسي، ص 386.

27

هذا إضافة إلى أنّ هؤلاء الثلاثة هم من أصحاب الإجماع، فلو قلنا بأنّ أصحاب الإجماع لا يروون إلا عن ثقة ثبت ذلك بشأن هؤلاء الثلاثة.

والأصل في دعوى الإجماع هذه هو الكشّي في رجاله؛ حيث قال في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي عبداللّه (عليهماالسلام):

«أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر، وأصحاب أبي عبداللّه (عليهماالسلام)، وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة، ومعروف بن خرّبوذ، وبريد، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي. قالوا: وأفقه الستة زرارة، وقال بعضهم مكان أبي بصير الأسدي: أبو بصير المرادي، وهو ليث بن البختري»(1).

وقال في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبداللّه (عليه السلام):

«أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم لما يقولون، وأقرّوا لهم بالفقه _ من دون أولئك الستة الذين عدّدناهم وسمّيناهم _ ستة نفر: جميل بن دراج، وعبداللّه بن مسكان، وعبداللّه بن بكير، وحماد بن عثمان، وحماد بن عيسى، وأبان بن عثمان. قالوا: وزعم أبوإسحاق الفقيه _ وهو ثعلبة بن ميمون _ أنّ أفقه هؤلاء جميل بن دراج، وهم أحداث أصحاب أبي عبداللّه (عليه السلام)»(2).

وقال في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم، وأبي الحسن الرضا (عليهماالسلام):

«أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم، وأقرّوا لهم بالفقه والعلم، وهم ستة نفر أُخر، دون الستة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبداللّه (عليه السلام) منهم:


(1) اختيار معرفة الرجال، ص 238، الرقم 431.

(2) نفس المصدر، ص 375، الرقم 705.

28

يونس بن عبدالرحمن، وصفوان بن يحيى بيّاع السابري، ومحمد بن أبي عمير، وعبداللّه بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد ابن محمد بن أبي نصر. وقال بعضهم مكان الحسن ابن محبوب: الحسن بن علي ابن فضال، وفضالة بن أيوب. وقال بعضهم مكان فضالة بن أيوب: عثمان بن عيسى. وأفقه هؤلاء يونس بن عبدالرحمن، وصفوان بن يحيى»(1).

ومن الواضح في الستة الأُولى أنّ قوله: «أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء...» لا يدل إلا على توثيقهم دون توثيق من يروون عنه.

نعم، قد يتوهّم بالنسبة لتعبيره في الستة الثانية والثالثة بتصحيح ما يصحّ عن هؤلاء أنّ معنى ذلك هو أنّ ما صحّ إلى هؤلاء فهو صحيح إلى الإمام، وهذا يعني وثاقة الرواة الذين وقعوا بينهم وبين الإمام، أو أنّهم كانوا متأكّدين من صدق الرواة الذين بينهم وبين الإمام في تلك الروايات؛ ولكنّك ترى أنّ هذه العبارة أيضاً لا دلالة فيها على أكثر من تصحيح ما يصحّ عنهم، بمعنى أنّ ما صحّ سنده إليهم فسنده صحيح بلحاظهم، أي أنّهم ثقاة في النقل، أمّا أنّهم لا ينقلون إلا عن ثقة مثلاً فلم يعلم من ذلك، ويؤيّد هذا المعنى عطف قوله: «وتصديقهم» على قوله: «تصحيح ما يصحّ عنهم»؛ فإنّ الظاهر أنّه من باب عطف المرادف.

أمّا كونه من باب عطف شيء أقلّ وأخفّ _ وهو مجرّد التوثيق _ على شيء أكبر وأوسع _ وهو صحّة روايته إلى الإمام _ فخلاف الظاهر، وكذلك يؤيّده عطف الكشّي _ للستة الثانية على الستة الأولى بقوله: «من دون أولئك الستة الذين عدّدناهم». وكذلك الستة الثالثة على الثانية ممّا يفهم منه أنّ المقصود من العبائر


(1) اختيار معرفة الرجال، ص 556، الرقم 1050.

29

الثلاث كان على نسق واحد، ومن الواضح أنّ العبارة الأُولى إنّما دلّت على وثاقة نفس الستة دون وثاقة من ينقلون عنه.

وعلى أيّ حال فالمهمّ في المقام هي العبارة التي نقلناها عن الشيخ الطوسي (رحمه الله)؛ حيث يبدو أنّها تدل على أنّ هؤلاء الثلاثة لا ينقلون إلا عن ثقة.

إلا أنّ السيد الخوئي قد ناقش في ذلك في مدخل كتابه «معجم رجال الحديث»(1) بعدّة مناقشات:

الأُولى: حمل نقل الشيخ: تسوية الطائفة بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم، على الحدس والاجتهاد، إذ لو كانت هذه التسوية صحيحة وأمراً معروفاً متسالماً عليه بين الأصحاب لذكرت في كلام أحد من القدماء، وليس منها في كلماتهم عين ولا أثر عدا ما جاء عن النجاشي بخصوص مراسيل محمد بن أبي عمير من سكون الأصحاب إليها معلّلاً بضياع كتبه وهلاكها، فمن المطمأنّ به أنّ منشأ هذه الدعوى هي دعوى الكشّي الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء، ويشهد لذلك أنّ الشيخ لم يخصّ ما ذكره بالثلاثة بل عمّمه لغيرهم من الثقاة الذين عرفوا بأنّهم لا يروون إلا عن ثقة، بينما لم يعرف أحد بذلك من غير جهة دعوى الكشّي الإجماع على التصحيح، وممّا يكشف عن كون هذه النسبة اجتهادية وغير ثابتة في نفسها نقض الشيخ نفسه لذلك في كتابيه التهذيب والاستبصار، حيث يناقش فيهما سند بعض الروايات بالإرسال رغم كون المرسل أحد الثلاثة، أو أحد أصحاب الإجماع.

أقول: لا إشكال في أنّ الأصل في الخبر هو الحسّ، فحمل كلام الشيخ على الحدس والاجتهاد، أو التحميل عليه بأنّه استفاد ذلك من كلام الكشّي في تصحيح


(1) معجم رجال الحديث، الجزء الأول، ص 75.

30

ما يصحّ عن جماعة بحاجة إلى مبرّر، وتبرير ذلك بأنّه :«لو كانت هذه التسوية صحيحة وأمراً معروفاً متسالماً عليه بين الأصحاب لذكرت في كلام أحد من القدماء، بينما لا يوجد عين ولا أثر من ذلك» قد أورد عليه الشيخ عرفانيان في كتابه «مشايخ الثقات» بأنّه ما أكثر كتب الأصحاب التي تلفت، ولم تصل بأيدينا؛ فلعلّ هذا كان مذكوراً في الكتب التالفة(1).

أقول: لئن فرضت صحّة استبعاد وجود تسوية من هذا القبيل من قبل الأصحاب بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم من دون أن نجد عيناً ولا أثراً فيما وصل بأيدينا من كتبهم رغم ترقّب ذكر ذلك في كتب الفقه والأصول والرجال، وقد وصلنا من مجموع الأصناف الثلاثة من الكتب عدد معتدٌّ به، لئن فرضت صحّة استبعاد ذلك بالنسبة لنقل التسوية، فمن الواضح عدم صحّته بالنسبة لإخبار الشيخ (رحمه الله) عن أنّهم عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمّن يوثق به.

والحاصل أنّه قد جاء في كلمات الشيخ التي نقلناها تعبيران: أحدهما التعبير بالتسوية بين مراسيل هؤلاء والمسانيد، والآخر التعبير بأنّهم عرفوا بعدم النقل عن غير الثقات، فلئن شككنا في الأول فالتشكيك في الثاني أوضح بطلاناً؛ لأنّ معروفيّة عدم نقلهم عن غير الثقات إنّما يترقّب ذكرها في كتب الرجال فحسب سنخ التوثيق والتضعيف، أي لا استغراب في عدم ذكر ذلك في كتب الفقه والأصول، وكتب الرجال الواصلة بأيدينا ليست في الكثرة بمثابة نستبعد معها عدم وصول ذلك إلينا عن غير كتاب العدّة، فلعلّ هذا من سنخ الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن جماعة الذي انحصر مدركه الأصلي لدينا في نقل الكشّي، أو سنخ ما جاء في عدّة


(1) مشايخ الثقات، ص 13.

31

الشيخ الطوسي من معروفيّة السكوني بالوثاقة، بينما لم نَر من ذلك عيناً ولا أثراً في كتب الرجال، والتفكيك بين الأمرين _ أعني معروفية هؤلاء بأنّهم لا يروون، ولا يرسلون إلا عن ثقة، والتسوية بين مراسيلهم ومسانيد الآخرين _ أمر معقول؛ إذ قد يسلّم شخص بالأول، ولكنّه لا يسلم بالتسوية على أساس دعوى أنّه عند الإرسال نبقى نحتمل أنّ واقع من أرسل عنه لعلّه مجروح من قبل آخرين، ولعلّ واقع من أرسل عنه نعلم بعدم وثاقته، والعامّ المفهوم من قاعدة: «لا يروون، ولا يرسلون إلا عن ثقة» ساقط عن الحجّية بهذا المقدار؛ فالتمسّك به تمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية، ولا أقصد الآن البحث عن مدى صحّة هذا الإشكال، وإنّما مقصودي أنّ التفكيك بين الأمرين أمر معقول.

وبما ذكرنا ظهر الجواب على استشهاد السيّد الخوئي لكون مدّعى الشيخ بشأن الثلاثة مأخوذاً من نقل الكشّي: الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن جماعة، بأنّه عمّم الأمر إلى غير هؤلاء الثلاثة، بينما لم يعرف أحد بذلك من غير جهة دعوى الكشي الإجماع؛ فالجواب: أنّه من أين عرفنا أنّه لم يعرف أحد بذلك من غير جهة الكشي مع أنّه لم يصلنا من كتب الرجال إلا القليل؟! وماذا يقول السيد الخوئي في نفس إجماع الكشي الذي لم يصلنا عن غير طريق الكشّي؟!

وأمّا استشهاده بنقض الشيخ نفسه في كتابيه لقاعدة التسوية فقد أجاب عليه الشيخ عرفانيان:

تارةً بأنّ كتاب العدّة متأخّر تأليفاً عن التهذيب والاستبصار، فلعلّه في الزمن الثاني التفت إلى تسوية الأصحاب.

وأُخرى بأنّ مبنى الشيخ في التهذيب والاستبصار الاعتذار عن تعارض الأخبار تارةً بالجمع، وأُخرى بإسقاط أحد السندين، وذلك أمام من طعن علينا بكثرة