803

حكم الحاكم، كما لو استطاعت المرأة التي حكم عليها بالزوجيّة وبصحّة ما وقع من عقد الزواج إقناع الزوج بإعادة العقد الذي اختلفا في صحّته وإجرائه بالشكل الذي تعتقد هي بصحّته وجب عليها ذلك، فإنّ حكومة دليل نفوذ القضاء إنّما هي بقدر النفوذ _ أي بقدر حرمة نقض الحكم _ ولا توجب جواز التورّط فيما تعتقد حرمته بالشكل الذي كان بالإمكان التجنّب عنه بلا نقض للحكم.

فرض تبدّل المقاييس

الفرض الثاني _ فرض تبدّل المقاييس بأن يترافعا بعد حكم القاضي إلى قاضٍ آخر، أو إلى نفس القاضي الأول بعد تبدّل المقاييس بأن تفترض مثلاً أنّ المدّعي في المرّة الأُولى لم يكن يمتلك بيّنةً، فحكَمَ القاضي وفق يمين المنكر، وبعد ذلك امتلك المدّعي البيّنة، فهل من حقّه تجديد المرافعة؛ لأنّ مقياس القضاء قد تبدّل، فكان القضاء الأول باليمين بينما الآن سيكون القضاء بالبيّنة؟ أو أنّ المنكر كان قد امتنع عن اليمين، فحكم الحاكم لصالح المدّعي، والآن تبدّلت حالته النفسيّة، فهو مستعدّ للحلف، أو أنّ المنكر لم يكن يمتلك بيّنةً مسقطةً لبيّنة المدّعي بالتعارض، فصدر الحكم وفق بيّنة المدّعي، والآن امتلك البيّنة المعارضة، وما شابه ذلك من الأمثلة.

والصحيح أنّ هذه التبدّلات التي تطرأ بعد حكم القاضي لا عبرة بها، ولا يجوز نقض الحكم بذلك؛ للمقبولة وللارتكاز القائل بأنّ القضاء لفصل الخصومة وفي خصوص امتلاك المدّعي للبيّنة بعد تحليفه للمنكر، وقد عرفت ورود النص الخاص الدالّ على سقوط حقّ المدّعي.

ونستثني ممّا ذكرناه _ من عدم العبرة بتبدّل المقاييس _ موردين:

804

الأول _ ما لو أقرّ المحكوم له بعد الحكم بأنّ الحقّ كان مع خصمه، فهنا ينقض الحكم الأول، ويحكم للمقرّ له بلا إشكال؛ لأنّ الارتكاز المشار إليه غير موجود هنا ، والمقبولة لا تشمل المورد؛ لأنّ الإقرار كأنّه رفع لموضوع المرافعة، ويكون هذا سبباً في أن لا يعدّ عرفاً ردّ الحكم بعد إقرار الخصم عبارةً عن عدم القبول بحكم القاضي، والاستخفاف به الذي هو استخفاف بحكم اللّه وردّ على أهل البيت. فالمرجع إذاً في مسألة نقض حكم الحاكم بحكم آخر في المقام هو دليل حجيّة الإقرار.

الثاني _ موارد قاعدة «الغائب على حجّته»، فإضافةً إلى ما مضى في محلّه من النص الخاص على هذه القاعدة، نقول في المقام: إنّ هذه القاعدة ليست بحاجة إلى نص خاص، فإنّ الارتكاز الذي مضى غير موجود هنا، بل العقلاء هم يوافقون على هذه القاعدة، ودليل ذهاب يمين المنكر بحقّ المدّعي غير وارد في فرض الغياب، والمقبولة المانعة عن ردّ الحكم تنصرف عرفاً عن فرض إتيان الغائب بعد حضوره بحجّة أقوى من حجّة الخصم، ونكتة هذا الانصراف هي ارتكازيّة قاعدة «الغائب على حجّته». إذاً فالمرجع هو دليل حجّية الحجّة الأقوى التي جاء بها الغائب، مضافاً إلى أنّ نفس ارتكازيّة القاعدة مع عدم وجود ما يصلح للردع لعلّها كافية في ثبوت القاعدة.

بقي الكلام فيما إذا حكم القاضي وفق علمه بناءً على حجّية علم القاضي، فهل من حقّ المحكوم عليه أن يرفع النزاع إلى قاضٍ آخر ليس له القطع بكون الحقّ مع الخصم الآخر؟ وهل من حقّ القاضي الآخر أن يقضي لصالح من حكم عليه القاضي الأول بعلمه بحجّة أنّه هو لا علم له ذلك؟ والمقاييس الأُخرى تعطي الحقّ لهذا المحكوم عليه، أو لا يحقّ له ذلك؟ مقتضى ما أشرنا إليه من الارتكاز والمقبولة هو أنّه لا يحقّ له ذلك.

805

إلا أنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) ذكر(1): أنّه _ إن لم يثبت إجماع في المقام _ فبالإمكان دعوى الفرق بين علم القاضي وباقي مقاييس القضاء كالبيّنة، وذلك بأن يقال: إنّ البيّنة التي حكم بها القاضي الأول هي حجّة للقاضي الثاني أيضاً، فلا مبرّر لنقض القاضي الثاني ما حكم به القاضي الأول وفق البيّنة، ومع الشكّ في صحّة عمل القاضي الأول تجري أصالة الصحّة، وهذا بخلاف علم القاضي، فإنّ العلم إنّما يكون حجّةً للقاضي الذي حصل له ذاك العلم، وليس حجّةً لقاضٍ آخر، فبإمكان القاضي الآخر أن يحكم على خلاف حكم القاضي الأول؛ لأنّ المقياس له هو البيّنة، وليس علم القاضي الأول مقياساً له.

أقول: لو تمّ هذا الكلام لا يثبت بذلك كون حكم الثاني هو النافذ، فهذان حكمان تعارضا، وكلاهما يكونان وفق المقاييس الشرعيّة.

والواقع أنّ التفصيل بين الحكم وفق علم القاضي بعد فرض حجّيته له في القضاء، وسائر مقاييس القضاء بإمكان استئناف المرافعة واستحصال حكم جديد في الأول دون الثاني غير صحيح، وذلك لأنّه صحيح أنّ البيّنة التي حكم بها القاضي الأول حجّة حتى لدى القاضي الثاني، فلا مبرّر لمرافعة جديدة، أو لنقض الحكم مع جريان أصالة الصحّة في فعل القاضي الأول، لكن يبقى في المقام فرض استئناف عامل جديد بعد حكم القاضي الأول له دخل في مقاييس القضاء؛ كأن يحصل المنكر بعد الحكم على بيّنة معارضة لبيّنة المدّعي ومسقطة لها عن الحجّية، فهل يوجد مجال عندئذٍ في رفع النزاع مرّةً أُخرى إلى قاضٍ آخر أو نفس القاضي الأول؛ ليأتي الحكم وفق الوضع الجديد، وهو ابتلاء بيّنة المدّعي بالمعارض مثلاً، أو لا؟ فإن


(1) راجع كتاب القضاء للمحقّق العراقي (رحمه الله)، ص23 _ 24، طبعة المطبعة العلميّة في النجف.

806

قلنا بعدم جواز ذلك لأجل المقبولة، ولأجل ارتكاز أنّ مشروعية القضاء إنّما هي لفصل الخصومة، فنفس الوجهين يقتضيان _ في فرض حكم القاضي بعلمه _ أيضاً عدم جواز النقض،وإلا جاز النقض حتى فيما إذا كان ‏الحكم وفق‏البيّنة. والصحيح طبعاً هو الأول.

فرض الخطأ في المقاييس

الفرض الثالث _ فرض الخطأ في المقاييس، وهو على ثلاثة أقسام:

القسم الأول _ الخطأ في التطبيق كأن يحكم القاضي وفق البيّنة ثم يثبت بعد ذلك أنّها كانت فاسقةً:

لا ينبغي الإشكال في أنّ مجرد الشكّ في خطأ القاضي لا يوجب نقض حكمه؛ لجريان أصالة الصحّة، ولكن مع فرض علم المنكر بفسق بيّنة المدّعي هل يجب عليه الخضوع لحكم القاضي؟ ولو أثبت فسقها لدى قاضٍ آخر هل يجوز لذاك القاضي الآخر نقض حكم القاضي الأول؟ ولو ثبت فسقها لدى نفس القاضي الأول أفليس عليه أن يتراجع عن حكمه؟ لا ينبغي الإشكال في أنّ المقبولة لا تدل على حرمة نقض حكم هذا الحاكم؛ لأنّ موضوع حرمة النقض هو أن يحكم بحكمهم _ يعني حكم الأئمة (عليهم السلام) _ وهنا يعتقد المنكر أو القاضي الآخر أو نفس القاضي الأول بعد انكشاف الخلاف: أنّ ذاك الحكم لم يكن هو حكم الأئمة (عليهم السلام)؛ لأنّ حكمهم عبارة عن الحكم وفق البيّنة العادلة.

وأمّا الارتكاز فبالتقريب الذي مضى، وهو ارتكاز أنّ مشروعية القضاء إنّما هي لفصل الخصومة لا يأتي هنا؛ لأنّ العلم بفسق البيّنة يعني العلم بأنّ هذا القضاء لم يكن مشروعاً وإن كان القاضي معذوراً لاعتقاده بعدالتها.

807

ولكن بالإمكان في خصوص عدم خضوع المنكر لحكم القاضي بحجّة خطئه في التطبيق أن يقال: إنّ الارتكاز العقلائي يحكم بأنّ تشريع كبرى القضاء يقترن بتشريع وجوب الاستسلام من قبل المحكوم عليه حتى في المورد الذي يناقش المحكوم عليه في مشروعية صغرى من صغريات القضاء لفرضه للخطأ في التطبيق، وإلا لزم الهرج في باب القضاء؛ لأنّ المحكوم عليه سيدّعي في كثير من الأحيان خطأ القاضي في التطبيق، ولم يرد ردع عن هذا الارتكاز؛ إذاً فلا يجوز للمحكوم عليه عدم الاستسلام بأن يعارض المحكوم له، ولا يسلّم له الحقّ.

نعم، هذا لا يعني عدم جواز سعيه في إثبات خطأ القاضي، فهو يبقى مستسلماً للنتيجة قبل إثباته لخطأ القاضي، فإذا أثبت خطأه بحيث اقتنع نفس القاضي بالخطأ في التطبيق، فلا دليل على نفوذ هذا القضاء الخاطئ، ومقتضى القاعدة هو استئناف القضاء؛ لأنّ المقبولة والارتكاز بتقريبه السابق _ كما قلنا _ لا يأتيان هنا.

وإذا أثبت خطأه لدى قاضٍ آخر بإقامة دليل يقنع بطبعه القاضي الأول أيضاً لو عرض عليه، كما لو اعتمد القاضي الأول في عدالة البيّنة على حسن الظاهر بينما هذا أقام الشهود على فسقها، أو اعتمد القاضي الأول على تزكية البيّنة ببيّنة شهدت بعدالتها بينما هذا أثبت أنّ هذه البيّنة المزكِّية معارَضة ببيّنة جارحة، فالقاضي الثاني ينقض حكم القاضي الأول، فإنّ حاله حال القاضي الأول الذي لو كان لكان ينقض حكم نفسه.

أمّا إذا أثبت خطأه لدى قاضٍ آخر بإقناعٍ شخصي له بحيث قد لا يقتنع القاضي الأول بذلك، أو كان الخلاف بين القاضيين في مقاييس العدالة مثلاً، فهذا يُلحَق حُكماً بما سيأتي من القسم الثالث إن شاء اللّه.

القسم الثاني _ الخطأ الضروري في الكبرى، كما لو اعتقد القاضي خطأً أنّ البيّنة

808

على من أنكر واليمين على المدّعي فحكم على هذا الأساس، ولا إشكال في عدم نفوذ هذا القضاء، ولا مورد لما مضى من دعوى الارتكاز، ولا تُطبَّق المقبولة على المقام كما هو واضح.

القسم الثالث _ الاختلاف في الاجتهاد، كما لو كان من رأي القاضي أنّ نكول المنكر بلا إرجاعه لليمين على المدّعي يوجب الحكم ضدّ المنكر، بينما القاضي الثاني كان يرى أنّ هذا لا يوجب الحكم ضدّ المنكر، بل القاضي هو الذي يُرجع اليمين عندئذٍ على المدّعي، أو المنكر كان يرى اجتهاداً أو تقليداً ذلك، وهنا لا مجال للتمسّك بالمقبولة؛ لأنّ كون ما حكم به القاضي الأول من حكمهم (عليهم السلام) أول الكلام، ولا بالارتكاز بتقريبه السابق من ارتكاز أنّ مشروعية القضاء إنّما هي لفصل الخصومة، ولكن لا يبعد القول بأنّ الارتكاز العقلائي يقتضي في المقام النفوذ وعدم جواز النقض ما دام القاضي الأول كان واجداً لشرائط منصب القضاء في الشريعة، واجتهاده كان يعتبر اجتهاداً مقبولاً ومشروعاً في الإطار العامّ للشريعة، ولم يكن من قبيل الفرض الماضي في القسم الثاني من اعتقاد القاضي أنّ اليمين على المدّعي والبيّنة على من أنكر، ولم يردع عن هذا الارتكاز. فالنتيجة هي نفوذ القضاء في المقام، وعدم صحّة الاستئناف، وعدم جواز نقض حكم الحاكم فيه، والاستئناف ينحصر مورده بالقسم الأول والثاني.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

قد وقع الفراغ من كتابة هذا البحث في يوم الاثنين المصادف للخامس والعشرين من شهر شعبان المعظّم من السنة 1406 الهجريّة القمريّة في قم المقدّسة.

أسأل اللّه تعالى أن يجعله خالصاً مخلصاً لوجهه الكريم، ويجعله ذخراً ليوم فاقتي، ويثيبني عليه بفضله وكرمه، إنّه سميع مجيب.

809

وصلّى اللّه على سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

والحمد للّه أوّلاً وآخراً.