198

عَلَى سَفَر﴾(1)، فمن الواضح أنّ السفر وإن كان قد يسبّب عدم تيسّر الماء، لكن المرض لا يسبّب عدم تيسّر الماء، وإنّما يسبّب عدم تيسّر الوضوء.

فتحصّل ـ من مجموع المقدّمتين ـ: أنّ عدم تيسّر الوضوء اُخذ في موضوع التيمّم، وبالتالي تيسّر الوضوء اُخذ في موضوع الحكم بالوضوء، وهذا معناه أخذ القدرة في موضوع الحكم، فتكون القدرة شرعيّة إذن، فعند مزاحمة الوضوء مع ما هو أهمّ لا يبقى ملاكٌ للوضوء، فيبطل الوضوء.

ويرد على ذلك:

أوّلا: أنّ أخذ القدرة الشرعيّة في موضوع الوضوء لم يُعلم، ومجرّد أخذ عدم القدرة في موضوع التيمّم لا يدلّ على ذلك، فإنّ غاية ما يدلّ عليه هي أخذ القدرة في موضوع خطاب الوضوء؛ لأنّ التفصيل قاطعٌ للشركة. أمّا كونها دخيلة في الملاك فهذا أمرٌ زائد لا يقتضيه كون التفصيل قاطعاً للشركة.

نعم، لو ذُكرت القدرة في لسان دليل الوضوء، لأمكن القول بأنّ هذا قرينة على دخلها في الملاك، من باب كون الأصل هو التأسيس لا التأكيد، أمّا مجرّد ذكر عدم القدرة في دليل بديل الوضوء، فلا نكتة لدلالته على أكثر ممّا يدلّ عليه العقل من اشتراط القدرة في موضوع الخطاب.


(1) لا يخفى: أنّ من المحتمل ـ أو المرجَّح ـ كون قيد عدم الوجدان راجعاً إلى الفروض الثلاثة الأخيرة المذكورة في قوله: ﴿عَلَى سَفَر أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء﴾ دون الفرض الأوّل المذكور في قوله: ﴿إِن كُنتُم مَّرْضَى﴾، فالأولى: تبديل هذه المقدّمة الثانية ببيان: أنّ عدم المرض ـ الشامل بإطلاقه للمرض الذي لم يصل إلى حدّ حرمة الوضوء الضارّ بسببه ـ بما أنّه ليس قيداً عقليّاً للحكم بالوضوء، فأصبح القاسم المشترك المأخوذ في الموضوع في كلّ الفروض الأربعة قيداً أوسع من القيد العقليّ، إذن فهمنا أنّ هذا القيد هو قيدٌ شرعيٌّ ودخيل في الملاك.

199

وثانياً: أنّه حتّى بناءً على أخذ القدرة الشرعيّة في موضوع الحكم بالوضوء، لا نسلّم كون القدرة ـ بمعنى عدم توجّه المانع الشرعيّ ـ مأخوذة في موضوعه؛ إذ غاية ما يقتضيه قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ هي اشتراط عدم تيسّر الوضوء في التيمّم، ولو بلحاظ الانشغال بالأهمّ، فيكون موضوع الحكم بالوضوء تيسّر الوضوء بمعنى يشمل عدم الانشغال بالأهمّ. أمّا مجرّد وجود حكم بالأهمّ يعصيه المكلّف، فهذا لا يوجب صدق قوله: ﴿لَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ بمعنى: لَم تتمكّنوا من الوضوء. وقد ذكرنا فيما سبق: أنّ القدرة الشرعيّة إذا كانت بمعنى عدم الاشتغال بالأهمّ أو المساوي، لا بمعنى عدم المانع الشرعيّ لم يوجب أخذها في موضوع الحكم بطلان الترتّب.

وثالثاً: لو سلّمنا أنّ وجوب الوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة، بمعنى عدم المانع الشرعيّ، بدعوى: أنّ هذا هو المستفاد من آية ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ قلنا: إنّ الوضوء كما أنّه مأمورٌ به بأمر وجوبيّ مقدّميّ، كذلك هو مأمورٌ به بأمر استحبابيّ نفسيّ، ولا دليل على أخذ القدرة الشرعيّة بذاك المعنى في استحبابه؛ إذ دليل الأمر الاستحبابيّ يكون من قبيل قوله: «الوضوء على الوضوء نور على نور» أو قوله: ﴿يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ممّا لم يؤخذ في لسانه قيد عدم الوجدان. فليتمّ في المقام الأمر الترتّبيّ الاستحبابيّ وبه يصحّ الوضوء.

هذا كلّه إذا كان عصيان الأهمّ يتمّ بنفس الوضوء. أمّا إذا كان الوضوء في طول معصية الأهمّ زماناً، كما لو صبّ الماء على العضو، فاستحال حفظ النفس المحترمة به، فأرجع الماء بيده إلى أعلى بنيّة الوضوء، فلا إشكال في صحّته، وهو خارج عن محلّ البحث كما هو واضح.

الثاني: ما لو كان الوضوء حراماً لكونه غصباً للماء مثلا، أو مضرّاً بضرر موجب للحرمة، وفي ذلك لا يصحّ الترتّب؛ لأنّ الوضوء بذاته أصبح حراماً، فلا يعقل أن

200

يكون في نفس الوقت مأموراً به، بناءً على عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي لمجرّد تعدّد العنوان. أمّا بناءً على إمكانه فيدخل في القسم الخامس من التزاحم.

وأمّا إذا لم تصل الحال إلى مرتبة الضرر المحرّم، وإنّما كان الوضوء حرجيّاً، فارتفع الوجوب بدليل نفي الحرج، فالوضوء صحيح؛ للأمر الاستحبابيّ، فإنّ الأمر الاستحبابيّ لا يرتفع بالحرج؛ إذ لا حرج في الاستحباب(1).

 


(1) لقائل أن يقول: إنّ دليل نفي الحرج وإن كان لا يحكم على الأحكام الاستحبابيّة، لكن نفس الآية الكريمة في المقام تدلّ على تعيّن التيمّم، قال الله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾ ـ س 4 النساء، الآية: 43، وس 5 المائدة، الآية: 6 ـ فالآية الشريفة في كلتا السورتين أمرت المرضى بالتيمّم، وظاهر الأمر هو الوجوب التعيينيّ.

وكذلك الحال بلحاظ الروايات من قبيل: صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن الرضا(عليه السلام) «في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يكون يخاف على نفسه البرد، فقال: لا يغتسل، يتيمّم» ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 348 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 7 ـ وصحيحة داود بن سرحان عن أبي عبدالله(عليه السلام) «في الرجل تصيبه الجنابة وبه جروح أو قروح أو يخاف على نفسه من البرد، فقال: لا يغتسل ويتيمّم». وسائل الشيعة، ج 3، ص 348 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 8.

فهذه الأوامر ـ سواء القرآنيّة أو الروائيّة ـ بالتيمّم ظاهرة ككلّ أمر آخر في التعيينيّة، فتدلّ على بطلان الوضوء، فليس السبب في الحكم ببطلان الوضوء عدم ثبوت الأمر به، حتّى تنحلّ المشكلة عن طريق التمسّك بدليل الاستحباب النفسيّ للوضوء، وإنّما السبب في ذلك ظهور آيات التيمّم والروايات في وجوبه التعيينيّ.

ويمكن حلّ هذا الإشكال بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ الأمر بالتيمّم في المقام لا يدلّ على الوجوب التعيينيّ؛ لأنّ


201


تعيينيّته وردت في مقام توهّم الحظر، فلا يدلّ على أكثر من جواز الانتقال من الطهارة المائيّة إلى التيمّم، أمّا وجوب الانتقال فلا.

إلاّ أنّه يمكن النقض على ذلك بآية الصوم، قال الله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ...﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 184 ـ ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ...﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 185 ـ وقد ذكر الفقهاء: أنّ المرض الذي يضرّ بسببه الصوم مبطلٌ للصوم، في حين أنّه بالإمكان أن يقال هنا أيضاً: إنّ الأمر بعدّة من أيّام اُخر وإن كان بحسب طبعه ظاهراً في التعيين، لكنّه واردٌ في مورد نفي توهمّ الحظر، فلا يدلّ على أكثر من رفع الوجوب التعيينيّ، فمن لم يكن ضرر الصوم بالنسبة له بالغاً مرتبة الحرمة، يكون مخيّراً بين أن يصوم شهر رمضان، أو يصوم عدّة من أيّام اُخر.

قد تقول: إنّ الفرق بين الموردين هو أنّه في باب الوضوء وجدنا دليلا يدلّ على استحباب الوضوء في نفسه، فإذا سقط الوجوب الغيريّ للوضوء ـ الذي يضرّ بسبب المرض ضرراً غير محرّم ـ تمسّكنا بدليل الاستحباب الذي لا تحكم عليه قاعدة نفي العسر والحرج؛ لكونها امتنانيّة، ولا امتنان في نفي الاستحباب. ولكن في باب صوم شهر رمضان، بعد أن ثبت سقوط وجوبه التعيينيّ ـ بصريح الآيتين ـ لم يردنا دليلٌ على أمر آخر به تخييراً مثلا، أو استحباباً.

ولكنّا نقول:

أوّلا: إنّ هذا لازمه كون المرض غير البالغ ضرره حدّ الحرمة، يكون شرطاً في صحّة صوم شهر رمضان، ولا يكون شرطاً في صحّة الصوم المستحبّ، ولا أظنّ قائلا بذلك.

وثانياً: حتّى بالنسبة لصوم شهر رمضان نستطيع أن نقول: لو لم تدلّ الآية على أكثر من نفي الوجوب التعيينيّ، كفانا ذلك في تجويز الصوم رغم عدم دليل اجتهاديّ على

202


الوجوب التخييريّ؛ وذلك لأنّ الاحتمال البدويّ للوجوب التخييريّ يكفينا في الرجوع إلى أصالة عدم تعيين عدّة من أيّام اُخر، بناءً على ما نقّحناه في علم الاُصول من جريان أصالة عدم التعيين لدى دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وبالإمكان أن يقال: إنّ فرق مسألة الصوم عن مسألة الوضوء هو أنّ موثّقة سماعة دلّتنا في مسألة الصوم على أنّ ترك الصوم لدى المرض عزيمة لا رخصة، تماماً كترك الصوم لدى السفر. فقد ورد في موثّقة سماعة قال: «سألته ما حدّ المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار كما يجب عليه في السفر: ﴿وَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر﴾؟ قال: هو مؤتمن عليه، مفوّض إليه، فإن وجد ضعفاً فليفطر، وإن وجد قوّة فليصمه، كان المرض ما كان» ـ وسائل الشيعة، ج 11، ص 220 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت،ب 20 ممّن يصحّ منه الصوم، ح 4 ـ فترى أنّ السائل كان يعتقد أنّ الإفطار لدى المرض كالإفطار لدى السفر، والإمام(عليه السلام) سكت عنه، وهذا إقرار له عليه، ولم يرد شيء من هذا القبيل في باب الوضوء.

بل نستطيع أن نقول: إنّ نفس الآية الشريفة في باب الصوم ـ بوحدة السياق بين المرض والسفر، بضميمة علمنا بأنّ ترك الصوم في السفر عزيمة لا رخصة ـ تدلّ على أنّ تركه في المرض أيضاً عزيمة لا رخصة، في حين أنّه لا توجد قرينة من هذا القبيل في باب الوضوء.

إلاّ أنّه رغم كلّ هذا نقول: إنّ حمل آية الوضوء على كونها في مقام نفي توهّم الحظر بعيد جدّاً؛ فإنّ قاعدة حمل الأمر في مورد توهّم الحظر على نفي الحظر ـ دون الوجوب ـ إنّما تكون عرفيّة لدى ورود ذات الأمر بالشيء في مورد توهّم حظره من قبيل: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ ـ س 5 المائدة، الآية: 2 ـ ﴿عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ

203


عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 187 ـ ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 187 ـ وما إلى ذلك، ولا تكون عرفيّة في حمل الأمر على الأمر التخييريّ في مورد توهّم تعيينيّة الأمر الأوّل، بعد إحراز أنّ الأمر الثاني أيضاً في ذاته لإنشاء الوجوب، لا للإباحة ونفي الحظر.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ أصل كون الأمر بالتيمّم لإيجاب التيمّم ممّا لا شكّ فيه، وإنّما الكلام في كونه واجباً تعيينيّاً أو تخييريّاً، والمرجع عندئذ إنّما هو ظهور الأمر في التعيين، فهذا الوجه الأوّل لحلّ الإشكال لا يرجع إلى محصّل، ولا زلنا نقول: إنّ ظاهر الآية كون التيمّم واجباً تعيينيّاً.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ شمول المرض في الآية الشريفة لما يضرّ معه الصوم ضرراً غير محرّم لم يثبت، وتوضيح ذلك: أنّ المرض في الآية غير باق على إطلاقه يقيناً؛ وذلك بمقيّد ارتكازيّ كالمتّصل؛ لوضوح أنّ المرض لو لم يكن يضرّ معه الوضوء، لم يُحتمل ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ إبطاله للوضوء أو إسقاطه عن الوجوب، فلابدّ من أخذ قيد في المقام، وهذا القيد كما يناسب أن يكون عبارة عن قيد مضرّيّة الوضوء، كذلك يناسب أن يكون عبارة عن قيد حرمته؛ لأنّ حرمته تسلب القدرة الشرعيّة من المكلّف على الوضوء.

ولا معيِّن في المقام للقيد الأوّل على الثاني، والإطلاق لا يثبت الأوّل في مقابل الثاني؛ لأنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة إنّما ينفي القيد الجديد المحتمل، ولا يعيّن القيد المحذوف المردّد بين مفهوم واسع ومفهوم ضيّق في المفهوم الواسع.

وعليه فالآية الشريفة لم تدلّ على أكثر من الانتقال إلى التيمّم في مورد كون الوضوء

204


موجباً لتحمّل ضرر محرّم، وهي مجملة في مورد الضرر الطفيف الذي يجوز ارتكابه، وإنّما الدليل على سقوط الوضوء في مورد الضرر الحرجيّ هي قاعدة نفي الحرج، وهي إنّما تسقط الوجوب المقدّميّ للوضوء، ولا تسقط استحبابه النفسيّ، فيبقى الوضوء مستحبّاً نفسيّاً تجوز الصلاة به، كما تجوز الصلاة بالتيمّم.

ولا يخفى: أنّ هذا الوجه أيضاً يمكن توجيه النقض عليه بآية الصوم، فيقال: إنّ لازم هذا الكلام أن يقال بنفس التقريب في آية الصوم، فيقال: لم يُعرف شمول المرض في آية الصوم ـ بعد وضوح عدم إرادة الإطلاق منه؛ لبداهة عدم منع المرض الذي لا يضرّ معه الصوم عن وجوبه أو صحّته ـ للمرض الذي يكون تحمّل الضرر معه حرجيّاً وغير محرّم، فيكون دليل نفي وجوب الصوم معه عبارة عن قاعدة نفي الحرج، وهي تنفي الوجوب ونبقى نثبت التخيير بين صوم شهر رمضان وعدّة من أيّام اُخر، ولو بأصالة التخيير لدى الدوران بينه وبين التعيين، وأيضاً نبقى نتمسّك في غير شهر رمضان بأدلّة استحباب الصوم.

والحلّ: أنّ المناسب للتقدير ـ سواءً في آية الوضوء أو آية الصوم ـ إنّما هو مطلق الإضرار، لا حرمة الوضوء أو الصوم؛ فإنّ حرمة الوضوء أو الصوم لدى شدّة الضرر لم تكن واضحة عند نزول الآية، حتّى يفترض كون فقدان القدرة الشرعيّة لدى شدّة الضرر، هو الموجب لمناسبة تقدير قيد الحرمة، وصرف الآية إلى بيان مجرّد البديل عن الوضوء وهو التيمّم، أو عن صوم شهر رمضان وهو صوم عدّة من أيّام اُخر، بل نفس الآيتين هما بصدد بيان سقوط الوضوء أو الصوم وبيان البديل، فالمناسب العرفيّ إنّما هو تقدير قيد الإضرار ولو على مستوى الحرج، دون الحرمة.

هذا مضافاً إلى أنّه لو فُرض إجمال الآية في كون المقصود الضرر الواصل إلى حرمة

205


التحمّل أو مطلق الضرر الحرجيّ، فإطلاق الروايات في المقام ـ كالصحيحتين الماضيتين ـ واضح.

الوجه الثالث: أن يقال: إنّه وإن كان مقتضى إطلاق الآية كون وجوب التيمّم تعيينيّاً، لكن ورد في الروايات ما هو ظاهرٌ في كون وجوبه وجوباً تخييريّاً، من قبيل: صحيحة محمّد بن مسلم «قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن الرجل تكون به القرح والجراحة يجنب؟ قال: لا بأس بأن لا يغتسل، يتيمّم» ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 347 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 5 ـ وفي نقل الصدوق: «لا بأس بأن يتيمّم ولا يغتسل» ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 348 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 11 ـ وذلك بدعوى أنّ كلمة «لا بأس» تدلّ على التخيير.

إلاّ أنّ الشأن في أنّ كلمة «لا بأس» هل تدلّ حقّاً على التخيير، أو غاية ما تؤثّر هي المنع عن ظهور العبارة في التعيين؟ فإن كان الثاني فهذا لا يقف أمام ظهور الآية في التعيين. ويؤيّد عدم إرادة الرواية التخيير: أنّ السؤال فيها ليس مخصوصاً بفرض كون المرض مؤدّياً إلى الضرر الحرجيّ، بل يشمل بإطلاقه فرض وصوله إلى درجة الحرمة، والتي لا تخيير معها حتماً.

الوجه الرابع: أن يقال: إنّه وقع التعارض بين إطلاق الآية الدالّ على كون وجوب التيمّم المقدّميّ وجوباً تعيينيّاً، وإطلاق دليل استحباب الوضوء الدالّ على استحبابه حتّى ولو كان حرجيّاً، وبعد فرض التساقط نبقى شاكّين في كون التيمّم واجباً تخييريّاً أو تعيينيّاً، فنرجع إلى أصالة التخيير.

وهذا الوجه أيضاً يصعب الاعتماد عليه: إمّا لأنّ التعارض بين إطلاقي الكتاب والخبر يوجب سقوط الخبر؛ لدخوله في المخالف للكتاب الذي يجب ضربه عرض الحائط، وإمّا

206


لأنّ الأمر بالتيمّم الدالّ بإطلاقه على التعيين، كما ورد في الكتاب ورد في الأخبار أيضاً كما مضى، فيدخل الباب في تعارض الخبرين، ويكون الترجيح مع ما وافق الكتاب، وهو الخبر الذي دلّ على تعيين التيمّم.

هذا كلّه بعد تسليم الاستحباب الذاتيّ للوضوء بعنوان الوضوء.

إلاّ أنّه يمكن أن يقال: إنّ الاستحباب ليس للوضوء بعنوان الوضوء، وإنّما للطهارة الحدثيّة التي قد تتجسّد في الوضوء، واُخرى في الغسل، وثالثةً في التيمّم، وتجسّد الطهارة في الوضوء فيما نحن فيه أوّل الكلام، وإثبات جواز الوضوء بدليل الاستحباب الذاتيّ للطهارة لا يكون إلاّ من قبيل إثبات الصغرى بالكبرى.

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّه قد يستدلّ على الاستحباب النفسيّ للوضوء بمرسلة الديلميّ في الإرشاد «قال: قال النبيّ(صلى الله عليه وآله): يقول الله تعالى: من أحدث ولم يتوضّأ فقد جفاني، ومن أحدث وتوضّأ ولم يصلّ ركعتين فقد جفاني، ومن أحدث وتوضّأ وصلّى ركعتين ودعاني، ولم اُجبه فيما سألني من أمر دينه ودنياه فقد جفوته، ولست بربٍّ جاف» وسائل الشيعة، ج 1، ص 382 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 11 من الوضوء، ح 2.

ومرسلة الفقيه: «الوضوء على الوضوء نور على نور» المصدر نفسه، ص 377، ب 8 من تلك الأبواب، ح 8.

ورواية محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) «قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهّروا» المصدر نفسه، ح 10، ص 378، وكذلك ورد في حديث الأربعمأة في وسائل الشيعة، ج 1، ص 247 من تلك الطبعة، ب 1 من نواقص الوضوء، ح 6.

ورواية المفضّل بن عمر عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «من جدّد وضوءه لغير حدث(وفي نسخة: لغير صلاة) جدّد الله توبته من غير استغفار» وسائل الشيعة، ج 1، ص 377،

207


ب 8 من الوضوء، ح 7 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

وهذه الروايات كلّها ضعيفة السند.

وهناك روايات اُخرى دلّت على استحباب تجديد الوضوء للصلاة ـ راجع الوسائل، ج 1 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 8 من الوضوء ـ فلا يعرف منها استحباب الوضوء مستقلاًّ عن الصلاة، إلاّ أنّ هذا أيضاً قد يكفينا؛ لأنّه لو ثبت استحباب الوضوء للصلاة زائداً على الوجوب المقدّميّ، فدليل نفي الحرج لا ينفيه؛ لعدم حكومته على الأحكام الاستحبابيّة.

وما يمكن أن يكون منها تامّاً سنداً ما عن سماعة بن مهران «قال: قال أبو الحسن موسى(عليه السلام): من توضّأ للمغرب كان وضوؤه ذلك كفّارةً لما مضى من ذنوبه في نهاره ما خلا الكبائر. ومن توضّأ لصلاة الصبح كان وضوؤه ذلك كفّارةً لما مضى من ذنوبه في ليلته ما خلا الكبائر» ـ المصدر الماضي، ص 316 ـ 317، ح 4 ـ وإنّما عبّرنا بإمكان تماميّة سنده ولم نجزم بذلك؛ لأنّه ورد في سنده ـ بحسب ما هو مذكور في الوسائل ـ جرّاح الحذّاء، ولكن ذكر المعلّق تحت الخطّ: «في المصدر: صباح». فإن اعتمدنا على ما في المصدر ـ بحسب ما ذكره هذا المعلّق ـ تمّ سنده. وإن لم نعتمد على ذلك ـ لأنّ نقل صاحب الوسائل قد يشهد لاختلاف نسخ المصدر، وهو ثواب الأعمال، فلعلّ النسخة التي وصلت إلى صاحب الوسائل كان فيها جرّاح الحذّاء ـ إذن لا تثبت تماميّة السند.

وعلى أيّة حال فهذه الطائفة من الروايات غير تامّة دلالةً على المقصود؛ وذلك لأنّها إنّما وردت في تجديد الوضوء، فالشرائط التي تكون دخيلة في صحّة أصل الوضوء تؤخذ فيها مفروضة الوجود.

نعم، لو شككنا في شرط جديد في الوضوء التجديديّ، ككون الماء حارّاً أو بارداً أو غير ذلك، رفعنا احتمال دخله بإطلاق هذه الروايات. أمّا لو شككنا في دخل شرط من

208


الشروط في أصل الوضوء، كما لو احتملنا شرطيّة عدم إضراره بالإنسان، فلا يمكن نفي احتمال دخله بإطلاق هذه الروايات؛ لأنّها إنّما تكون في مقام بيان رفع مشكلة التجديد، أو قُل: دفع احتمال أنّ التجديد باطل؛ لأنّه على وضوء فلا حاجة إلى تجديده، وليست في مقام بيان شرائط أصل الوضوء.

وهناك طائفة ثالثة قد يستدلّ بها على المقصود، وهي الروايات التي يتخيّل أنّها تدلّ على أنّ الوضوء طهور، فيقال: إنّنا نضمّ ذلك إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ـ س 2 البقرة، الآية: 222 ـ ونحوها آية: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ ـ سورة 9 التوبة، الآية: 108 ـ فنُثبت بذلك استحباب الوضوء النفسيّ.

قد تقول: إنّ الآية تنظر إلى الطهارة الخبثيّة ـ كما هي مورد نزولها على ما ورد في الروايات. راجع وسائل الشيعة، ج 1 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 34 من أحكام الخلوة ـ دون الطهارة الحدثيّة.

وقد يقال في الجواب: إنّ إطلاق الآية يشمل الطهارة الحدثيّة، والمورد لا يخصّص الوارد. راجع التنقيح، ج 4 من الطهارة، ص 514.

وقد تقول: إنّ الطهارة الحقيقيّة هي الطهارة الخبثيّة، أمّا الطهارة الحدثيّة فهي تعبّديّة بحت، وإدخالها تحت إطلاق الآية بحاجة إلى دليل خاصّ.

ويمكن الجواب عن ذلك بوجهين:

1 ـ إنّ الطهارة عن الحدث طهارة بحسب الحقيقة الشرعيّة، وليست حقيقة متشرّعيّة فحسب. فقرآن الشريعة يحمل على هذا المصطلح، ولو فُرض أنّ الناس في زمان نزول الآية لم يكونوا بعدُ فاهمين لهذه الحقيقة الشرعيّة.

209


2 ـ إنّ دليل طهارة الوضوء ـ سواءً فُرض تنزيلا أو اعتباراً ـ يُفهم منه نظره إلى آثار الطهارة، ومن آثارها: أنّ الله يحبّ المتطهّر، فيثبت هذا الأثر لهذه الطهارة.

أمّا ما هي الروايات التي دلّت على كون الوضوء طهارة؟ فمن قبيل: صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام): «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، ولا صلاة إلاّ بطهور»ـ وسائل الشيعة، ج 1، ص 372 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 4 من الوضوء، ح 1 ـ وصحيحة زرارة أيضاً عن أبي جعفر(عليه السلام): «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» ـ المصدر نفسه، ص 372، ب 3 من تلك الأبواب، ح 8 ـ ومرسلة الصدوق عن الصادق(عليه السلام): «الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلثٌ طهور، وثلثٌ ركوع، وثلثٌ سجود» ـ المصدر نفسه، ص 366، ب 1 من تلك الأبواب، ح 8 ـ ونحوها من الروايات. راجع نفس المصدر والباب.

وكأنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لدى استشهاده في التنقيح ـ ج 4 من الطهارة، ص 513 ـ 515 ـ بهذه الروايات على كون الوضوء طهوراً، وتطبيق آية: ﴿يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ عليه، أحسّ بنقطة قد تؤخذ كضعف على هذا الاستدلال؛ إذ كيف نُثبت أنّ المقصود بالطهارة نفس الوضوء والطهارة المائيّة في مقابل التيمّم؟! فذكر عبارتين كلّ منهما يصلح أن يكون وجهاً مستقلاًّ لملء هذا الفراغ ورفع هذا الضعف، فأثبت تارةً: أنّ الطهارة اسم للعمل، فتنطبق الآية على ذات الوضوء، لا للنتيجة التي يُفترض ترتّبها تارةً على الوضوء، واُخرى على التيمّم. وذكر اُخرى: أنّ قوله تعالى: ﴿يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ واردٌ في الاستنجاء بالماء، فبعد أن نتعدّى منه ـ بالإطلاق ـ إلى الطهارة الحدثيّة، نراه ناظراً إلى خصوص الطهارة المائيّة دون الترابيّة، فهو يدلّ على استحباب خصوص الوضوء ويكون أجنبيّاً عن التيمّم.

210


إلاّ أنّ كلّ هذا البحث من قِبَل السيّد الخوئيّ(رحمه الله) يبدو غريباً، فإنّه لم يضع يده على النقطة الحقيقيّة للضعف ولم يعالجها:

أمّا قوله: إنّ الطهور اسم للعمل لا للنتيجة، فجوابه: أنّه ليست نقطة الضعف في هذا الاستدلال مرتبطة بكون الطهارة هل هي اسم للعمل أو للنتيجة، وإنّما نقطة الضعف: أنّ الطهارة ـ سواءً كانت اسماً للعمل أو للنتيجة ـ ليست في الطهارة الحدثيّة إلاّ أمراً تعبّديّاً بحتاً، ومشروطاً بشروط لو فُقد أحدها لم تحصل الطهارة ولو توضّأ ألف مرّة. فلو احتملنا كون عدم الضرر شرطاً من شروط الوضوء، كان معنى ذلك احتمال أنّ الوضوء مع الضرر لا يكون طهارة، أو لا يحقّق الطهارة، فكيف نستطيع أن نُثبت استحبابه بقوله: ﴿يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، وهل هذا إلاّ تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ؟!

وأمّا قوله: إنّ الآية نزلت في الطهارة المائيّة، فأيضاً يكون بعيداً عن نقطة الضعف الموجودة في الاستدلال، فالآية وإن كانت ناظرةً إلى الطهارة المائيّة ولا علاقة لها بالطهارة الترابيّة، ولكن نقطة الإشكال هي أنّ كون الوضوء طهارة ليس أمراً تكوينيّاً حقيقيّاً ـ كالطهارة الخبثيّة ـ بل أمرٌ تعبّديٌّ اعتباريٌّ مشروط بشروط، لو فُقد أيّ واحد من تلك الشروط سقط الوضوء عن كونه طهارة مائيّة. فإذا احتملنا أن يكون من تلك الشروط عدم الضرر، فكيف نستطيع أن نرفع الشكّ بالآية الشريفة، وهل هذا إلاّ تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ؟!

والمهمّ عندنا من كلّ ما مضى هو دلالة آية التيمّم على تعيّن التيمّم؛ لأنّ الأمر به ظاهر في التعيين. أمّا الإشكال بعدم ثبوت الاستحباب الذاتيّ للوضوء فليس مهمّاً؛ لأنّه لولا دلالة الآية على تعيّن التيمّم لم نكن بحاجة إلى الاستحباب الذاتيّ للوضوء؛ لما مضى من أنّه مع فرض عدم دلالة الآية على تعينّ التيمّم، نبقى مردّدين بين تعيين التيمّم والتخيير

211

الثالث: ما لو توقّف الوضوء على مقدّمة محرّمة، كما لو كان الماء في إناء مغصوب، فكان الوضوء متوقّفاً على التصرّف في الإناء بالاغتراف منه. والكلام في الوضوء بالاغتراف من الإناء، لا بالارتماس في الإناء، وإلاّ لكان نفس الوضوء تصرّفاً في مال الغير وحراماً ودخل في المورد الثاني.

كما أنّ الكلام إنّما هو فيما لو اغترف من الإناء بالتدريج لوضوئه، أمّا لو أخذ من الإناء ما يكفي لتمام الوضوء، ثمّ توضّأ به فلا إشكال في أنّ هذا الوضوء واجب وصحيح وواجدٌ للقدرة بكلّ معانيها، فالكلام إنّما هو في الاغتراف التدريجيّ بأن يغترف غرفةً ويغسل به وجهه، وغرفةً اُخرى ويغسل به يده اليمنى، وهكذا.

والمشهور فصّلوا بينما لو وُجد عنده ماء آخر، أو انحصر الماء بهذا الفرد:

فعلى الثاني يبطل الوضوء؛ لأنّه مشروط بالقدرة الشرعيّة المنتفية في المقام؛ لتوقّفه على المقدّمة المحرّمة، وهي التصرّف الغصبيّ في الإناء بالاغتراف.

وعلى الأوّل يصحّ الوضوء؛ لأنّ القدرة الشرعيّة على الجامع موجودة، غاية


بين التيمّم والوضوء، ومعه نجري أصالة التخيير، ولا يهمّنا أن لا يثبت استحباب الوضوء الذاتيّ.

وأيضاً لو ثبت أنّ كلمة «لا بأس» فيما مضى من صحيحة محمّد بن مسلم ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 347 و348 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 5 من التيمّم، ح 5 و 11 ـ تدلّ على التخيير لم نحتج إلى إثبات استحباب الوضوء.

وعلى أيّ حال فقد تلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّ إثبات صحّة الوضوء ـ حينما يكون مضرّاً ضرراً حرجيّاً ولم يكن محرّماً ـ في غاية الإشكال. ولا أقلّ معها من الاحتياط الوجوبيّ بالتيمّم وعدم كفاية الوضوء.

212

الأمر أنّه هو يختار بسوء اختياره الفرد المتوقّف على الحرام.

وذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في المقام: أنّ هذا الكلام غير صحيح قائلا: إنّ الوجدان الشرعيّ ليس في دخله بأشدّ من الوجدان التكوينيّ، وكما أنّه في القدرة التكوينيّة لا يلزم ثبوت القدرة التامّة من أوّل الأمر، بل تكفي القدرة التدريجيّة، كما لو كان عنده ثلج لا يمكنه تذويبه دفعة واحدة، فينتظر إلى أن يذوب منه مقدار، فيغسل به وجهه، ثمّ يغترف مقداراً آخر يذوب منه، فيغسل به يده اليمنى، وهكذا.

كذلك في المقام، يكفي حصول القدرة الشرعيّة بالتدريج، فإنّه حينما يغترف غرفة من الماء يصبح قادراً شرعاً على التصرّف في هذا الماء بغسل وجهه، وإن فعل حراماً بالاغتراف. ثمّ باغترافه الغرفة الثانية يصبح قادراً شرعاً على غسل يده اليمنى... وهكذا، وهذا كاف في كون الوضوء مأموراً به وصحيحاً(1).

أقول: إنّ حقيقة المطلب ما قلناه: من التفصيل بينما لو كانت القدرة الشرعيّة ـ المفروض دخلها في الحكم ـ بمعنى عدم الانشغال بالمزاحم، أو بمعنى عدم المانع شرعاً، فإذا كان بالمعنى الأوّل صحّ الوضوء، أمّا إذا كان بالمعنى الثاني لم يصحّ الوضوء، ولا يمكن قياس هذه القدرة الشرعيّة بالقدرة التكوينيّة.

وتوضيح ذلك: أنّ القدرة التكوينيّة حينما تكون دخيلة في الحكم بمجرّد حكم العقل، فالعقل لا يحكم بأكثر من اشتراط القدرة على كلّ جزء من العمل حينه؛ فإنّ مدرك ذلك هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز مثلا، ومن الواضح عدم القبح حينما تحصل القدرة التدريجيّة على الأجزاء وفق ترتيب الأجزاء.

وحينما يُفرض أخذها في لسان الدليل لم يُفهم من ذلك أيضاً اشتراط أكثر من


(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 3، ص 189 ـ 194.

213

ذلك؛ لوضوح أنّ أكثر من ذلك ـ وهو ثبوت القدرة على كلّ الأجزاء دفعة واحدة ـ أمر مستحيل؛ فإنّ(1) الوضوء فعل تدريجيٌّ يستحيل الإتيان بكلّ أجزائه دفعة واحدة، والفعل الذي يكون كذلك لا محالة تكون القدرة عليه أيضاً تدريجيّة، فوضوح ذلك وارتكازيّته يجعل ظاهر دليل التقييد بالقدرة هو التقييد بهذه القدرة التكوينيّة.

وعليه ففي مثال الثلج الذي يذوب بالتدريج لا إشكال في وجوب الوضوء وصحّته، حتّى لو فُرض عدم إمكان جمع الماء ثمّ الوضوء مع درك الصلاة في الوقت، بأن كان الوقت ضيّقاً، أو لم يكن يمكن جمع الماء، أي: لو لم يكن يستهلك بالتدريج في الوضوء كان يتلف، فيجب الوضوء بالتدريج به لو أمكن بلا إشكال.

وأمّا القدرة الشرعيّة بمعنى عدم وجود مانع شرعيّ وحكم مزاحم، فلو اُخذت في لسان الدليل فظاهر الدليل اشتراط ثبوت هذه القدرة دفعة واحدة؛ فإنّ الأصل في القيد المأخوذ في لسان الدليل هو كونه قيداً مقارناً، فلو قيّد الأمر بالوضوء ـ أو بأيّ شيء آخر ـ بعدم المانع الشرعيّ، كان معنى ذلك أنّ عدم المانع الشرعيّ شرط مقارن لذلك الأمر.

وعليه فنقول: لو اغترف غرفة من هذا الإناء، المفروض عدم إمكان التوضّئ الكامل بها، فبماذا يؤمر؟ هل بغسل الوجه أو بتمام الوضوء؟ فإن فُرض الأوّل، أي: أنّه يؤمر بغسل الوجه فهو غير صحيح؛ بداهة أنّ الأمر بغسل الوجه أمر ضمنيّ لا يكون إلاّ في ضمن الأمر بتمام الوضوء. وإن فُرض الثاني، أي: أنّه يؤمر بتمام الوضوء فهو أيضاً غير صحيح؛ لأنّه مشروط بعدم المانع الشرعيّ، بينما المانع


(1) ولو اُخذ مثل الوجدان التكوينيّ للماء في الموضوع فالمتبادر عرفاً أنّه إنّما اُخذ ذلك كمقدّمة لفرض تحقّق القدرة.

214

الشرعيّ لا زال موجوداً؛ إذ هذا المقدار من الماء الذي اغترفه لا يمكن الوضوء الكامل به بحسب الفرض، فإذا أراد أن يتوضّأ احتاج إلى اغتراف آخر من الإناء، والمفروض أنّه ممنوع شرعاً، فالشرط غير موجود، فيبطل الوضوء.

هذا تمام الكلام في المورد الأوّل، وهو نسبته إلى كلّ ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من الأقسام الخمسة للتزاحم على حدّ سواء.

المورد الثاني ـ من الموارد التي يقول المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فيها بعدم صحّة الترتّب ـ: هو ما لو كان الواجب الأهمّ متأخّراً زماناً عن مزاحمه المهمّ، وكانا مشروطين بالقدرة العقليّة، أمّا لو كانا مشروطين بالقدرة الشرعيّة فالمقدّم زماناً هو الذي يتقدّم عند المحقّق النائينيّ(رحمه الله). ولو كان أحدهما مشروطاً بالقدرة العقليّة والآخر مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، فالمشروط بالقدرة العقليّة هو الذي يتقدّم في نظر المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، ولا يصحّ الأمر الترتّبيّ حينئذ بالمشروط بالقدرة الشرعيّة عنده؛ لدخوله في المورد الأوّل من موارد عدم صحّة الأمر الترتّبيّ. إذن، فتصوير هذا المورد ـ بنحو يكون مورداً مستقلاًّ ـ عبارة عمّا لو كان كلا الواجبين مشروطاً بالقدرة العقليّة، فيرى(رحمه الله) في هذا الفرض أنّ المهمّ المقدّم زماناً لا يكون مأموراً به بالأمر الترتّبيّ، في فرض تركه للأهمّ المتأخّر.

والوجه في ذلك: أنّ تصوير الأمر الترتّبيّ في المقام لا يخلو من إحدى صور أربع:

الصورة الاُولى: أن يُفرض أنّ الأمر بالمقدّم المهمّ مشروط بترك الأهمّ المتأخّر، وهو(رحمه الله) أورد على ذلك بأمرين: أحدهما: أنّ هذا يؤدّي إلى الالتزام بالشرط المتأخّر، وهو مستحيل. والثاني: أنّ المزاحم للأمر بالمهمّ ليس فقط الأمر بالأهمّ المتأخّر، بل هناك مزاحم آخر مقارن له، وهو وجوب حفظ القدرة للواجب الأهمّ، ومجرّد التقييد بترك الأهمّ في وقته لا يحلّ هذا التزاحم.

215

الصورة الثانية: أن يفرض أنّ الأمر بالمقدّم المهمّ مشروط بتعقّب ترك الأهمّ، وعنوان اشتراط التعقّب هو الذي يتشبّث المحقّق النائينيّ(رحمه الله) به أحياناً لدفع مشكلة الشرط المتأخّر.

وأورد على ذلك بأمرين:

أحدهما: الأمر الثاني الذي أورده على الصورة الاُولى، وهو أنّ هذا لا يحلّ مشكلة التزاحم مع وجوب حفظ القدرة للأهمّ.

والثاني: أنّ فرض شرط التعقّب يحتاج إلى دليل خاصّ، كما يقال مثلا في بيع الفضوليّ ـ لو ورد دليل خاصّ على الكشف ـ: بأنّ الشرط هو تعقّب الإجازة، ولا دليل خاصّ في المقام.

الصورة الثالثة: أن يُفرض أنّ الأمر بالمقدّم المهمّ مشروطٌ بترك حفظ القدرة للأهمّ.

وأورد على ذلك بأنّ ترك حفظ القدرة للأهمّ: إمّا يكون بالانشغال بهذا المزاحم له المهمّ، أو بالانشغال بضدٍّ ثالث.

أمّا الأوّل فلا يُعقل أن يكون محقّقاً لشرط الأمر بالمهمّ؛ إذ معنى ذلك هو الأمر بالمهمّ بشرط تحقّقه، والأمر بشيء بشرط تحقّقه غير صحيح؛ فإنّه طلبٌ للحاصل.

وأمّا الثاني فأيضاً غير معقول؛ لأنّ ذلك الشيء الثالث يمنعه عن هذا المهمّ أيضاً، كما يمنعه عن الأهمّ، فكيف يُعقل تعليق الأمر بالمهمّ عليه؟! وليس هذا إلاّ طلب المحال(1).


(1) وأضاف الشيخ النائينيّ(رحمه الله) على ما في التقريرين: أنّه ولو فُرض تعليق الأمر بالمهمّ على الجامع بين الضدّين، أعني: نفس المهمّ والضدّ الثالث، لزم كلا المحذورين، أي: طلب الحاصل وطلب المحال.

216

الصورة الرابعة: أن يُفرض أنّ الأمر بالمهمّ مشروطٌ بالعزم على الترك.

وهذا قد فرغ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من بطلانه؛ لبنائه على أنّ الأمر الترتّبيّ يجب أن يكون مشروطاً بترك الأهمّ، لا بالعزم على الترك.

فإذا بطلت كلّ الصور الأربع بطل الترتّب في المقام(1).

أقول: الصحيح أنّ كلّ هذه الصُوَر الأربعة معقولة.

أمّا الصورة الاُولى، وهي الخطاب بالمهمّ المتقدّم، مقيّداً بترك الأهمّ المتأخّر، فقد عرفت أنّه أورد عليها إشكالين:

الأوّل: استحالة الشرط المتأخّر.

والجواب هو: عدم استحالة الشرط المتأخّر على ما نقّحناه في محلّه، على الخصوص إذا كان الشرط من قبيل ما نحن فيه، ووجه الخصوصيّة أنّه لو كان الشرط من الشروط الدخيلة في الملاك فقد يقال: إنّ المتأخّر إذا كان مؤثّراً في ملاك المتقدّم، كان معنى ذلك تأثير المتأخّر في أمر تكوينيّ متقدّم، وهو مستحيل.

ولكنّ الشرط في المقام وهو ترك الواجب المتأخّر في وقته ليس دخيلا في الملاك ومؤثّراً في هذا الأمر التكوينيّ، وإنّما هو دخيل في صحّة الأمر؛ حيث إنّ العقل لا يحكم بقبح توجيه هذه الحصّة من الأمر، أي: الأمر المقيّد بترك الأهمّ في وقته.

والثاني: وجود مزاحم آخر للأمر وهو وجوب حفظ القدرة للأهمّ.

والجواب: أنّ وجوب حفظ القدرة إن قلنا بكونه وجوباً عقليّاً ـ من باب وجوب الامتثال ـ فمن الواضح جدّاً أنّه ليس فيه ملاك وراء ملاك امتثال الأمر


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 380 ـ 382، وأجود التقريرات، ج 1، ص 318 ـ 320.

217

بالأهمّ، والمفروض أنّه قد قُيّد الأمر بالمهمّ بترك الأهمّ، ففرض أنّ هذا الأمر بالمهمّ يوجب فوت حفظ القدرة لا يضرّ؛ إذ ضمّ فوت القدرة إلى فوت الأهمّ لا يوجب زيادة في الخسارة.

ولكنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ على ما أذكر ـ يقول: بأنّ وجوب حفظ القدرة يكون على طبقه خطابٌ شرعيّ، إلاّ أنّه مع ذلك لا إشكال في أنّ هذا الخطاب ليس لأجل ملاك مستقلّ في حفظ القدرة، بل هو خطابٌ طريقيّ، فأيضاً نقول: إنّ الأمر بالمهمّ لا يوجب ترك الأهمّ؛ لأنّ المفروض تقيّده بفرض ترك الأهمّ، ولا يوجب إلاّ انضمام تفويت القدرة إلى ترك الأهمّ، وهذا لا توجد فيه خسارة(1).

وأمّا الصورة الثانية، وهي فرض الأمر بالمهمّ مشروطاً بتعقّب ترك الأهمّ، تمشّياً مع ما يراه المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّ تبديل الاشتراط بالشيء المتأخّر إلى الاشتراط بتعقّبه، يدفع إشكال الشرط المتأخّر، فقد عرفت: أنّه أورد عليها إشكالين:

أحدهما: الإشكال الثاني على الصورة الاُولى، وقد عرفت جوابه.

والثاني: أنّ شرط التعقّب بحاجة إلى دليل خاصّ. ويرد عليه: أنّه لا حاجة في مثل المقام إلى دليل خاصّ؛ إذ يكفيه إطلاق دليل الأمر بالمهمّ، الذي لا مخصّص له عدا حكم العقل بالقبح ـ مثلا ـ المخصوص بغير فرض التعقّب بترك الأهمّ.

وأمّا الصورة الثالثة، وهي فرض الأمر بالمهمّ مشروطاً بمخالفة وجوب حفظ


(1) وبكلمة اُخرى: إنّ وجوب حفظ القدرة ليست له محرّكيّة، وإنّما المحرّكيّة لوجوب ذاك الواجب الذي تُحفظ القدرة له، فالترتّب على ترك ذاك الواجب يكفي لرفع المحذور.

218

القدرة، فقد عرفت أنّه أورد عليها: أنّ مخالفة حفظ القدرة إن كانت بالإتيان بالمهمّ، فالأمر به طلبٌ للحاصل. وإن كانت بعمل آخر يضادّه فالأمر به طلب للمحال.

ويرد عليه ـ بغضّ النظر عن أنّه قد يكون العمل الآخر مزاحماً للأهمّ وغير مضادّ للمهمّ ـ: أنّ معصية الأمر بحفظ القدرة أمرٌ سلبيّ، أعني: عدم حفظ القدرة، وهو أمرٌ ملازم للجامع بين الإتيان بالمهمّ، والإتيان بذلك الضدّ الثالث، ولا ضير في أن يأمر المولى بأحد الملزومين على تقدير الإتيان بلازم الأعمّ. وبكلمة اُخرى: لا بأس بأن يقول المولى: لو أتيت بما يلازم هذا الجامع فأت بالفرد الفلانيّ من أفراد هذا الجامع؛ فإنّ هذا ليس طلباً للحاصل ولا طلباً للمحال.

بل لو افترضنا أنّ مخالفة الأمر بحفظ القدرة، ليست أمراً ملازماً للجامع بين فعل المهمّ وفعل الضدّ الثالث، بل هي عين ذلك الجامع، قلنا أيضاً: إنّه لا يلزم من الأمر بأحد الفردين مشروطاً بالجامع طلب الحاصل ولا طلب المحال؛ لأنّ القيد إنّما هو الجامع بحدّه الجامعيّ، ولا تسري القيديّة من الجامع إلى أفراده.

نعم، لو قلنا بأنّ مخالفة الأمر بحفظ القدرة تكون عبارة عن الإتيان بهذا الجامع، وقد افترضنا وجوب حفظ القدرة شرعاً ـ إمّا غيريّاً أو نفسيّاً طريقيّاً ـ إذن، فهذا الجامع يكون حراماً، والحرمة تسري إلى كلا فرديه، فيصبح فعل المهمّ حراماً، فلا يعقل الترتّب.

إلاّ أنّ هذا مجرّد فرض غير مطابق للواقع؛ فإنّ مخالفة الأمر بحفظ القدرة(1)


(1) لا يخفى أنّ حفظ القدرة أمر انتزاعيّ، يُنتزع من عدم التعجيز، سنخ انتزاع التفويت من عدم الفعل. إذن، فالتعجيز يكون حراماً. فيقع الكلام في أنّه هل يكون صرف

219


القدرة في المهمّ المتقدّم تعجيزاً عن الأهمّ المتأخّر؟

والجواب: نعم. وتوضيح ذلك: أنّ الأهمّ والمهمّ لو كانا متعاصرين لما كان صرف القدرة في أحدهما تعجيزاً عن الآخر؛ لأنّ زمن التعجيز ـ أي: زمن صرف القدرة في الضدّ الآخر ـ هو زمن القدرة، والعجز يأتي بعده مباشرة، أي: يأتي في زمان قد فات وقت كلا الضدّين، فلا يبقى معنى للتعجيز أصلا.

على أنّه لو فُرض استناد ترك أحد الضدّين إلى فعل الضدّ الآخر؛ لكونه مفوّتاً للقدرة على الضدّ المتروك، وتوقّف فعل أحد الضدّين على ترك الآخر؛ لأنّه تركٌ للمفوّت، لزم الدور.

أمّا لو لم يكونا متعاصرين، فمن الواضح أنّ القدرة حينما تضيق عن الجمع بين عملين طوليّين زماناً، يكون صرفها في الأوّل مفوّتاً للقدرة على الثاني ومعجّزاً عنه، ولا يلزم من ذلك شيء من المحذورين، لا محذور عدم تصوّر معنى للتعجيز، ولا محذور الدور:

أمّا الأوّل، فلأنّ العجز يتحقّق في الزمان الثاني، وهو زمان العمل الثاني.

وأمّا الثاني، فلأنّ إشكال الدور تارة: يُقصد تطبيقه على الضدّين الطوليّين بأن يقال: لو كان فعل الأوّل مفوّتاً للثاني، وكان في نفس الوقت متوقّفاً على الثاني لزم الدور.

وجوابه: أنّ التوقّف هنا من طرف واحد؛ فإنّ صرف القدرة في المتقدّم تعجيزٌ عن المتأخّر، ولا يعقل العكس، بأن يكون صرف القدرة في المتأخّر تعجيزاً عن المتقدّم، فلا دور.

واُخرى: يُقصد تطبيقه على الضدّ الأوّل مع حفظ القدرة للضدّ الثاني، فيقال: إنّ الضدّ الأوّل مع حفظ القدرة ضدّان عرضيّان، ولو كان كلّ واحد منهما متوقّفاً على ترك الآخر لزم الدور.

220

ـ كما قلنا ـ أمرٌ عدميّ ملازم لهذا الجامع، وليس عين هذا الجامع، والملازمة تكون بنكتة كونهما معلولين لشيء واحد، لا بنكتة كون فعل المهمّ ـ مثلا ـ علّة لفوات القدرة، حتّى يقال أيضاً بحرمة فعل المهمّ بناءً على حرمة علّة الحرام.

وأمّا الصورة الرابعة، وهي فرض الأمر بالمهمّ مشروطاً بالعزم على ترك الأهمّ، فقد عرفت أنّه أشكل عليه بعدم صحّة الترتّب بالتقيّد بالعزم على ترك الأهمّ، بل يجب أن يكون متقيّداً بالترك، لا بالعزم عليه.

إلاّ أنّنا قد بنينا على أنّه لا بأس بتقييد الأمر بالمهمّ بالعزم على ترك الأهمّ، فهنا بالإمكان: الأمر بالمهمّ مشروطاً بالعزم على ترك حفظ القدرة مثلا.

المورد الثالث: هو ما إذا توقّف فعل الواجب على الحرام، وتقدّم على الحرام بالأهمّيّة، كما لو توقّف إنقاذ الغريق على المشي في الأرض المغصوبة. وقد اختار


والجواب: أنّ الدور إنّما يلزم لو قلنا بأنّ نفس التضادّ نكتة لتوقّف أحدهما على الآخر، فيقال: إنّ هذه النكتة مشتركة بينهما، فيلزم التوقّف من كلا الطرفين، وهذا يوجب الدور. لكنّ التوقّف في المقام ليس بنكتة التضادّ بين الضدّ الأوّل وحفظ القدرة، وإنّما هو بنكتة ضيق القدرة عن الجمع بين الضدّ الأوّل والضدّ الثاني الطوليّ، فيكون صرف القدرة في الأوّل تعجيزاً عن الثاني لا محالة، ونفياً لحفظ القدرة. وهذه النكتة إنّما تقتضي توقّف حفظ القدرة على ترك الضدّ الأوّل، ولا تقتضي توقّف الضدّ الأوّل على ترك حفظ القدرة حتّى يلزم الدور.

فالمهمّ في حلّ المشكل في المقام إنّما هو: أنّ الواجب الأوّل يعلّق وجوبه على ترك الواجب الثاني، ولا محرّكيّة ذاتيّة لوجوب حفظ القدرة بقطع النظر عن وجوب الثاني، حتّى تمنع عن الواجب الأوّل رغم فرض ترك الثاني، وإنّما المهمّ محرّكيّة وجوب الواجب الثاني، وقد فرض حلّ إشكالها بالترتّب بينهما.

221

المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في هذا المورد إمكان الترتّب(1).

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّنا إمّا أن نقول بعدم وجوب مقدّمة الواجب أصلا، أو نقول بوجوبها مع اختصاص وجوبها أو إمكان اختصاصه بالموصلة، أو نقول بوجوبها مع عدم إمكان اختصاص وجوبها بالموصلة:

فإن قلنا بعدم وجوب مقدّمة الواجب، إذن لا يوجد في المقام إلاّ حكمان: أحدهما وجوب ذي المقدّمة الأهمّ، والثاني حرمة المقدّمة المهمّ. وحرمة المقدّمة لا تشمل المقدّمة الموصلة حتماً؛ لأنّ هذه الحرمة تزاحم بالأهمّ، وهو وجوب ذي المقدّمة، فيكون الانشغال بالأهمّ رافعاً لحرمتها لا محالة. ولا ينبغي الإشكال في حرمة المقدّمة غير الموصلة في الجملة؛ لعدم أداء حرمتها إلى فوت مزاحم أهمّ.

يبقى الكلام في أنّه هل يؤخذ قيد عدم الإيصال قيداً في الحرمة، فيتمّ الحكم الترتّبيّ، فكأنّ المولى يقول: لو تركت ذا المقدّمة الأهمّ فالمقدّمة محرّمة عليك، أو يؤخذ قيداً في الحرام، أي: أنّ المقدّمة غير الموصلة حرام بالفعل حرمةً في عرض وجوب ذي المقدّمة، لا مترتّبةً على ترك ذي المقدّمة، فهذه ليست حرمة ترتّبيّة؟

الصحيح هو الثاني، لا لاستحالة الترتّب هنا(2) في نفسه، بل لأنّه لا داعي إلى


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 383 ـ 391 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 320 ـ 326.

(2) الترتّب في روح الحكم وواقعه غير معقول في باب المحرّمات؛ فإنّ الحرمة ـ ولو فُرضت في صياغتها الإنشائيّة مشروطة ـ هي في روحها حرمة منجّزة للحصّة.

توضيح ذلك: أنّه مضى في الأبحاث السابقة أنّ الأمر المشروط في روحه أمرٌ بالجامع بين المأمور به وعدم الشرط، فكذلك نقول هنا: إنّ النهي المشروط يكون في روحه نهياً

222

أخذ قيد الترتّب في المقام؛ فإنّ مجرّد أخذ عدم الإيصال قيداً في الحرام يرفع محذور التزاحم، ولو اُخذ ذلك قيداً في الحرمة، فبالتالي يُقيَّد الحرام به أيضاً؛ لأنّ قيد الحكم يقيّد المتعلّق أيضاً لا محالة. إذن، فالمتيقّن هو تقيّد الحرام بعدم الإيصال، أمّا احتمال تقيّد الحرمة به فينفى بإطلاق الهيئة. هذا.

وفرض حرمة المقدّمة غير الموصلة ـ بنحو إرجاع القيد إلى المتعلّق ـ يمتاز عن فرض الحكم الترتّبيّ بأنّه يمكن امتثالها في عرض امتثال ذي المقدّمة، وذلك


عن الجمع بين المنهيّ عنه والشرط، وهذا عبارة اُخرى عن نهي تنجيزيٍّ عن المجموع. أو قل: عن الحصّة المقيّدة بالشرط.

وكان في باب الأمر يختلف الأمر بالجامع بين المأمور به وعدم الشرط في روحه، عن الأمر بالحصّة المقيّدة بالشرط، من ناحية أنّ الأمر بالجامع لا يتطلّب منه أن يوجِد الشرط ثمّ المأمور به، بل بإمكانه أن يترك الشرط فيترك الجزاء.

وهذا بخلاف ما لو اُمر بالحصّة المقيّدة بالشرط، فإنّ هذا يتطلّب منه أن يوجد الشرط ويوجد الجزاء.

وأمّا في جانب النهي، فحيث إنّه رجع في روحه إلى النهي عن الجمع بين المنهيّ عنه والجزاء، والحصّة المقيّدة تسبّب هذا الجمع، فلا محالة تكون الحصّة المقيّدة مبغوضة بالفعل، من دون أن يبقى أيّ فرق واقعيّ في روح الأمر بين جعل الشرط قيداً للمادّة أو للهيئة. نعم، في عالم الإنشاء يمكن فرض تقييد الهيئة وفرض إطلاقها، إلاّ أنّه لا قيمة لذلك في واقع الأمر، ولا تجري أيضاً مقدّمات الحكمة لإثبات إطلاق من هذا القبيل.

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّه في باب المحرّمات يرجع دائماً شرط الاتّصاف بالملاك، إلى فعليّة اتّصاف الحصّة بالملاك. أو قل: فعليّة اتّصاف مجموع الحرام والشرط بالملاك، كما أنّ شرط اتّصاف الواجب بالملاك يرجع دائماً إلى فعليّة اتّصاف الجامع بين الجزاء وعدم الشرط بالملاك.