387

 

تطبيق البحث على الصلاة في اللباس أو المكان المغصوبين:

بقي الكلام في تطبيق الأفكار على خصوص مثال (الصلاة في المغصوب) وهذا المثال ينحلّ إلى فرعين: (الصلاة في لباس مغصوب) و(الصلاة في مكان مغصوب):

أمّا الصلاة في لباس مغصوب: فيوجد تقريبان لدعوى تحقّق محذور الاجتماع فيها:

الأوّل: مخصوص بالساتر، وهو ما بنى عليه الأصحاب، وحاصله: أنّ التستّر فعل واحد لا يُعقل أن يقع مصداقاً للواجب والحرام.

ونحن قبل أن نحتاج إلى التحقيق عن أنّ هذا فعل واحد أو لا، أو أنّ العنوان متعدّد أو لا نرى أنّ المورد ليس من موارد الاجتماع؛ وذلك لأنّ التستّر قيد في الصلاة كالاستقبال، وليس جزءاً؛ إذ لا دليل على جزئيّته. على أنّه لو كان جزءاً للصلاة لوجبت فيه القربة كسائر أجزاء الصلاة، بينما من المسلّم فقهيّاً كفاية التستّر بلا قربة بل مع الغفلة الكاملة، والأمر بالمقيّد لا ينبسط على القيد، خلافاً لما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في بحث الطهارات الثلاث من انبساط الأمر بالمقيّد على القيد. ومن هنا نقول في الفقه بأنّ مقتضى الصناعة ـ إذا لم يقم إجماع تعبّديّ على اشتراط إباحة الساتر ـ هو صحّة الصلاة في الساتر المغصوب.

الثاني: يأتي في مطلق اللباس، وهو أنّ ما هو الفعل الصلاتيّ يكون مصبّاً للأمر والنهي، فإنّ الركوع والسجود يكون علّة لتحريك الثوب، والتحريك تصرّف في المغصوب فهو حرام، وعلّة الحرام حرام، فلزم اجتماع الأمر والنهي؛ وذلك إمّا بأن يُبنى على أنّ الهُويّ جزء للصلاة، وهو علّة لتحريك الثوب فيحرم. أو يقال: إنّ الهُويّ وإن لم يكن جزءاً وإنّما الجزء هو نتيجة الهُويّ، وهو الركوع، لكن الركوع

388

علّة لطيّ الثوب بنحو مخصوص، وهو أيضاً تصرّف في الغصب.

وهذا التقريب أيضاً غير تامّ؛ فإنّ هذا الجزء لو سلّم فيه ما قيل فلا نسلّم كونه علّة للحرام، فإنّ حصول الطيّ في الثوب يحتاج إلى اُمور اُخرى ككون الثوب على بدنه، فلو كان ينزع الثوب لما أوجب هويّه طيّ الثوب، إذن فاحتفاظ الثوب بموقعه المخصوص جزء العلّة(1).

وأمّا الصلاة في مكان مغصوب: فنتكلّم في ذلك من زاوية مسألة اجتماع الأمر والنهي، لا من زاوية الأدلّة الخاصّة التي قد يستدلّ بها على عدم الجواز، كما استدلّ به الحرّ العامليّ حيث ادّعى وجود روايات على ذلك.

وتفصيل الكلام في ذلك هو: أنّه يوجد عندنا عنوانان: عنوان (الصلاة)، وعنوان (الغصب)، فلابدّ وأن يُرى أنّ تعدّد العنوان هل يكفي لرفع غائلة الاجتماع بأحد الملاكات الثلاثة المتقدّمة أو لا؟ وطرح هذه المسألة بهذا الشكل يكون انطلاقاً من دعوى أنّ (الصلاة) هي المأمور بها و(الغصب) هو المنهيّ عنه، ولكنّ الواقع أنّ الحرام ليس هو عنوان (الغصب) بل هو من مصاديق الغصب، فأكل مال الغير ليس مصداقاً للحرام بل هو بما هو أكل مال الغير حرام وهكذا؛ وذلك بدليل أنّه ورد في الكتاب والسنّة النهي عن جملة من هذه العناوين التفصيليّة كقوله تعالى:


(1) قد يقال: كون الركوع جزء العلّة كاف في بطلان الصلاة بعد فرضها عبادة. بيانه: إنّه إذا كان مجموع أجزاء العلّة حراماً ومبغوضاً فهو يستلزم بطبعه مبغوضيّة كلّ جزء على تقدير تحقّق باقي الأجزاء. على أنّه لو سُلّم أنّ طيّ الثوب تصرّف في المغصوب فيصبح نفس الركوع أيضاً الذي هو جزء العلّة لهذا التصرّف ـ بعد الفراغ عن حصول باقي الأجزاء ـ تصرّفاً عرفاً، فيدخل في الرواية المرويّة عن الإمام صاحب الزمان(عليه السلام) الدالّة على حرمة التصرّف في مال الغير.

389

﴿لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾(1)، فنفس عنوان الدخول بلا إذن حرام، ولا فرق بينه وبين تمزيق ثوب الغير، فلابدّ أن يكون هو أيضاً حراماً بما هو كذلك، إذن فيجب أن نرجع إلى العناوين التفصيليّة لمصاديق (الغصب) لنرى أنّ أحد العناوين التفصيليّة هل يكون مصبّاً للأمر أو لا.

والتصرّف في مال الغير يكون بأحد اُمور: إمّا بالكون في ملك الغير، وإمّا بتغيير في ملك الغير بنقله مكاناً أو صبغه أو نحو ذلك، وإمّا بإلقاء الثقل على مال الغير، فمجرّد المماسّة لا يصدق عليها أنّها تصرّف في مال الغير ولكن الثقل عليه يعتبر تصرّفاً.

فلنرَ أنّه هل أنّ واحداً من أجزاء الصلاة أصبح واحداً من هذه المصاديق حتّى يجتمع الأمر والنهي أو لا؟ فنقول: أمّا النيّة فليست شيئاً منها، وأمّا القراءة فأيضاً ليست شيئاً منها، إلاّ أنّ هناك شبهة تقول بأنّ القراءة مرجعها إلى الصوت، والصوت يموّج الهواء، وهذا تغيير في ملك الغير.

وهذه الشبهة غير صحيحة؛ إذ:

أوّلا: الصوت يحصل بتمويج الهواء، لا أنّه عينه.

وثانياً: لا دليل على كون هذا الهواء المتموّج مملوكاً لصاحب البيت، فصاحب البيت إنّما يملك الفضاء، أمّا الهواء فلا دليل على مالكيّته له.

وثالثاً: لو سلّمنا أنّه مالك للهواء فلا نسلّم أنّ الصوت تصرّف عرفيّ، فالعرف لا يفهم كون الصوت موجاً في الهواء وكون التمويج تصرّفاً.

ورابعاً: لو سُلّم أنّه تصرّف فلا إطلاق لدليل حرمة التصرّف في ملك الغير.


(1) وكقوله: ﴿لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِل﴾ وكرواية: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه».

390

وأمّا بالنسبة للأفعال كالركوع والسجود والقيام فقد يقال بأنّ أحد الواجبات هو الاستقرار، والاستقرار هو الكون في المكان فاجتمع الأمر والنهي. إلاّ أنّ الاستقرار المعتبر في الصلاة بمعنى عدم الاضطراب يمنةً ويسرةً من دون أن يستبطن معنى المكان، فهذا الاستقرار غير الكون في المكان.

وقد يقال بأنّ الاجتماع يكون بلحاظ نفس الركوع والسجود، فإنّه ركوع في مكان الغير.

والجواب: إنّ الركوع تصرّف في الراكع لا في المكان، فإنّه بعد أصل الكون في المكان المغصوب لا أثر لهذه الهيئات في المقام.

وقد يقال بأنّه يحصل الاجتماع بلحاظ الهُويّ، فإنّ الهُويّ إلى الركوع حركة في الكون في المكان، والحركة في الكون في المكان مصداقٌ للكون فهو كون. إلاّ أنّ الهُويّ من مقدّمات الأجزاء لا أنّه جزءٌ للصلاة.

نعم، يبقى شيء واحد في المقام مربوط بتحقيق في معنى السجود، وهو أنّ السجود هل هو مماسّة الأرض أو إلقاء الثقل على الأرض؟ فبناءً على الأوّل لا يكون تصرّفاً في ملك الغير، وعلى الثاني يكون تصرّفاً في ملك الغير. وحينئذ فمن يقول بجواز الاجتماع بملاك تعدّد العنوان أو المعنون لابدّ وأن يقول بالامتناع؛ فإنّ إلقاء الثقل بنفسه متعلّق للنهي وهو بنفسه معنى السجود. نعم، لو قيل بالجواز بالملاك الأوّل لأمكن الاجتماع(1).

 


(1) ولكن في مثل الصلاة يبطل العمل؛ لاستحالة التقرّر بالحرام.

391

 

تنبيهات

 

هل المسألة فقهيّة أو اُصوليّة أو كلاميّة أو غيرها؟

التنبيه الأوّل: هل المسألة فقهيّة أو اُصوليّة أو كلاميّة أو غيرها؟ وجوه مذكورة في الكتب. وقد اختار المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أنّها اُصوليّة، فإنّ ضابط الاُصوليّة عنده أن تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعيّ، ومسألة اجتماع الأمر والنهي يترتّب عليها استنباط الحكم بصحّة العبادة وعدم صحّتها.

واعترض على ذلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّها ليست اُصوليّة؛ لأنّ ضابطها ليس هو مجرّد وقوع النتيجة في طريق الاستنباط، وإلاّ دخلت مسائل اُصول الدين ـ مثلا ـ في علم الاُصول، وإنّما الضابط أن تقع نتيجتها في طريق الاستنباط بحيث لا تحتاج مع ضمّ صغرياتها إلى كبرى اُخرى. فمثلا حجّيّة خبر الواحد مع ضمّ الخبر ـ الذي هو صغرى ـ يستنبط منها وجوب السورة، وكذلك كبرى الاستصحاب مع ضمّ اليقين السابق والشكّ اللاحق يستنبط منها حكم، بينما مسألة الاجتماع وإن كانت في طريق الاستنباط إلاّ أنّها تحتاج إلى كبرى اُخرى اُصوليّة، فإنّ القول بالامتناع يحقّق التعارض بين (صلّ) و(لا تغصب)، فلابدّ من أن نطبّق قوانين باب التعارض، فمثلا يقال بأنّ إطلاق النهي مقدّم على الأمر، وهذا أيضاً لا يكفي بل نحتاج إلى قاعدة اُخرى، وهي أنّ النهي عن العبادة موجبٌ لفسادها.

واعترض على ذلك السيّد الاُستاذ ـ بعد تسليم ما ذكره ضابطاً للمسألة الاُصوليّة ـ بأنّه منطبق على المقام، فإنّه يكفي أن تقع النتيجة على أحد الأقوال في طريق الاستنباط بلا ضمّ إلى كبرى اُخرى، وفي المقام الأمر كذلك، فإنّه على تقدير جواز الاجتماع يحكم بصحّة العبادة بلا حاجة إلى ضمّ كبرى اُخرى.

392

وهذا الكلام يمكن للمحقّق النائينيّ(رحمه الله) أن يدفعه بأن يقول: إنّ الجواز أيضاً لا يستفاد منه الصحّة إلاّ بضمّ كبرى اُخرى؛ وذلك لأنّ الجواز: تارةً يكون بملاك أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، واُخرى يكون بملاك آخر مع التسليم بوحدة المعنون:

فعلى الثاني لا يكفي الجواز وحده لتصحيح العبادة؛ فإنّ هذه العبادة منهيّ عنها، فنحتاج إلى استيناف بحث عن أنّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد أو لا.

وأمّا على الأوّل ـ أعني: فرض تعدّد المعنون ـ فمع عدم المندوحة، بأن دار أمره بين أن يكون في مكان مباح من دون أن يصلّي وبين أن يصلّي في المكان المغصوب، يقع التزاحم بين الواجب والحرام، فلابدّ من تطبيق قواعد باب التزاحم.

وحينئذ فتصحيح العبادة يتوقّف على أحد اُمور ثلاثة: إمّا القول بترجيح الواجب على الحرام، أو القول بإمكان الترتّب، أو القول بتصحيح العبادة بالتقرّب بالملاك. ومع المندوحة يكون هناك فردان من الصلاة، أحدهما غير مقدور شرعاً وهو الصلاة في المكان المغصوب، فإن قلنا بما يقوله المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّ الأمر لا يمكن أن يتعلّق بالجامع بين المقدور وغير المقدور، دخل مورد الاجتماع في باب التزاحم، فقد يثبت الأمر في طول عصيان النهي وتصحّ الصلاة بالأمر الترتّبي. وإن قلنا بإمكان تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور، ثبتت صحّة الصلاة، ولكن احتاج ذلك إلى مسألة اُصوليّة اُخرى(1) وهي نفس إمكان


(1) قد يقال: إنّ جواز اجتماع الأمر والنهي يستبطن إمّا إمكان الترتّب، أو إمكان تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور؛ إذ لو لم يكن شيء منهما يجب: إمّا أن

393

تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور.

ولو بدّل المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1) الحكم المستنبط إلى نفس الوجوب والحرمة، فكان يقول بأنّه على الجواز يثبت الوجوب والحرمة بخلاف فرض الامتناع، لكان أبعد من الإشكال.

وعلى أيّ حال فالصحيح أنّ المسألة اُصوليّة، وضابط الاُصوليّة عندنا عبارة


يختصّ الأمر بسائر الحصص، أو ينسحب النهي عن المجمع، وهذا يعني عدم جواز اجتماع الأمر والنهي.

إلاّ أن يكون المقصود هنا المشي على تصوّرات المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، فإنّ المحقّق النائينيّ يبدو أنّه يقصد بجواز الاجتماع معنى يجتمع حتّى مع القول بعدم إمكان تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور، والقول بعدم إمكان الترتّب في المجمع، ولهذا ذهب هو(رحمه الله) إلى إمكان اجتماع الأمر والنهي رغم أنّه قال بعدم إمكان تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور، وبعدم إمكان الترتّب في المجمع، وكأنّ مقصوده من جواز اجتماع الأمر والنهي مجرّد أنّ التركيب انضماميّ مثلا لا اتّحاديّ، أو خروج ذلك عن باب التعارض، بأن يُفرض غفلته عن أنّ التزاحم مع عدم إمكان الترتّب يرجع إلى التعارض.

وكأنّ الأثر العمليّ للجواز بهذا المعنى عنده عبارة عن أنّه يصحّ العمل في المجمع في التوصّليّات حتّى مع تقديم النهي؛ لأنّ انسحاب الأمر من الجامع إلى الحصص الاُخرى لم يكن بنكتة لزوم اجتماع الضدّين بل كانت بنكتة التزاحم وعدم القدرة، والقدرة ليست عنده دخيلة في الملاك فيصحّ العمل بالملاك، بل وكذا الحال في العباديّات لولا القبح الفاعليّ عنده.

(1) لا يخفى أنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في الكفاية لم يصرّح بما هو مقصوده من الحكم المستنبط هل هو الصحّة والفساد أو الوجوب والحرمة، وأنّ المظنون كون نظره إلى الصحّة والفساد؛ إذ هما الأثران العمليّان.

394

عن اشتمال المسألة على ثلاث خصائص كلّها متوفّرة في المقام:

1 ـ أن يكون استخراج الحكم منها بنحو الاستنباط، من قبيل استخراج وجوب المقدّمة من قانون الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، لا بنحو تطبيق الكلّيّ على مصاديقه من قبيل القواعد الفقهيّة كـ «لا ضرر ولا ضرار»، وفي المقام الحكم ـ سواء كان هو الوجوب والحرمة أو الصحّة والفساد ـ يكون استخراجه من الإمكان والامتناع بنحو الاستنباط لا التطبيق.

2 ـ أن تكون المسألة بحسب مادّتها مشتركة وأوسع من باب واحد من أبواب الفقه لا كقاعدة الطهارة، وفي المقام الأمر كذلك.

3 ـ أن يكون ما يبحث عنه أمراً راجعاً إلى الشارع لا أمراً أجنبيّاً عنه، فمثلا البحث عن حجّيّة الاستصحاب يكون مرتبطاً بالشارع، وكذا البحث عن دلالة صيغة (افعل) على الوجوب، فإنّ الصيغة ترد في كلام الشارع، وهذا بخلاف البحث عن وثاقة الراوي، فليست الوثاقة صفة قائمة بفعل من أفعال الشارع وإنّما هي حالة شخصيّة للراوي. وهذه الخصيصة أيضاً متوفّرة في المقام، فتكون المسألة اُصوليّة.

 

هل الإمكان والامتناع في المقام يراد بهما خصوص العقليّين أو ما يشمل العرفيّ؟

التنبيه الثاني: في أنّ الإمكان والامتناع المبحوث عنهما في المقام هل يراد بهما خصوص العقليّين أو ما يشمل العرفيّ، حيث قد يقال بأنّ اجتماع الأمر والنهي غير ممتنع عقلا ولكنّه ممتنع عرفاً؟

وقد استشكل في التعميم للنظر العرفيّ بأنّ العرف ليس له شأن في إدراك الاُمور الواقعيّة.

395

وقد قيل في توجيه دخل العرف بأنّ العقل هو الذي يحكم بأنّه لا يجوز اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد، وأمّا أنّ هذا هل هو شيء واحد أو لا، فالنظر العرفيّ فيه قد يختلف عن النظر الدقّيّ.

وأشكل عليه الأصحاب ـ كالسيّد الاُستاذ وغيره ـ بأنّ هذا مرجعه إلى تشخيص المصداق، وفي باب تشخيص المصداق النظر العرفيّ ليس حجّةً، وإنّما النظر العرفيّ حجّة في تشخيص مدلول اللفظ، فمثلا لو عرفنا بحكم العرف أنّ الصعيد اسم لخصوص التراب أخذنا به، ولا نأخذ بتشخيصه أنّ هذا ترابٌ أو لا.

وهذا الذي قالوه صحيح في نفسه، فإنّ العرف غير حجّة في المصاديق ولكنّ العرف بمعنى العقل المسامحيّ والممزوج بالاستحسانات والأذواق الاجتماعيّة قد يدرك الملازمات والاُمور الواقعيّة بنحو يخالف المُدرَك بالدقّة العقليّة، فقد يدرك تلازماً بين شيئين لا يرى العقل الدقّيّ تلازماً بينهما، وهذا الدرك العرفيّ قد يكوِّن دلالةً التزاميّةً عرفيّة للألفاظ وتكون حجّة.

فمثلا العرف يرى أنّ مطهّريّة الشيء تستلزم طهارته، بينما لا يرى العقل تلازماً من هذا القبيل، وهذا يثبت دلالةً التزاميّة عرفيّة لدليل مطهّريّة الماء على طهارته وتكون حجّة. والعرف يرى تنافراً بين أن يكون الماء الواحد نصفه نجساً وأن يكون نصفه طاهراً، بينما العقل المحض لا يرى تنافراً بين الأمرين، وهذا يجعلنا نستدلّ بدليل نجاسة بعض الماء على نجاسة البعض الآخر بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة.

ففي المقام أيضاً من المعقول أن يقال بوجود التنافر بين الأمر والنهي على شيء واحد عرفاً ولو لم يثبت التنافر عقلا، وهذا يوجب دلالةً التزاميّة عرفيّة لدليل كلّ من الأمر والنهي على نفي الآخر فيتعارضان، إذن فهناك معنى معقول للبحث عن الإمكان والامتناع العرفيّ. نعم، أثر ذلك إنّما يظهر فيما لو كان الدليل على

396

الوجوب والحرمة لفظيّاً، بينما الامتناع العقليّ يؤثّر حتّى فيما لو كان الدليل غير لفظيّ. هذا.

والصحيح: أنّه في كلّ مورد يحكم العقل بجواز اجتماع الأمر والنهي يحكم العرف أيضاً بذلك، وهذا مطلب مطابق للوجدان، وتوجد نكتة منبّهة للوجدان ومساعدة للتصديق بذلك وحاصلها: أنّ فرض عدم الامتناع عقلا وجواز الاجتماع ثبوتاً هو فرض إمكان اجتماع مبادئ الأمر والنهي من المحبوبيّة والمبغوضيّة، وكلّ إنسان عرفيّ سوف يصادفه في عالم حبّه وبغضه مورد من موارد الاجتماع يوجد فيه ملاك للحبّ وملاك للبغض، وبما أنّه لا تنافي بينهما واقعاً فسوف يؤثّر كلّ من الملاكين أثره قهراً وتكويناً في نفس هذا الإنسان العرفيّ، أي: سوف يجتمع في نفسه حقيقة الحبّ والبغض، وبعد ثبوت الحبّ والبغض وإحساس العرف بهما لا يبقى مسوّغ لأن يرفض العرف إمكان اجتماع الأمر والنهي.

 

الفرق بين مسألة الاجتماع ومسألة اقتضاء النهي في العبادة للبطلان:

التنبيه الثالث: وقع بحث في الفرق بين مبحث اجتماع الأمر والنهي ومسألة أنّ النهي في العبادة يقتضي البطلان حيث يتخيّل أنّهما مسألة واحدة، فإنّ مسألة استحالة الاجتماع ترجع إلى أنّ النهي عن شيء يتطلّب انسحاب الأمر عنه ـ مثلا ـ واختصاصه بباقي الحصص، ومسألة النهي عن العبادة ترجع أيضاً إلى أنّ النهي عن العبادة هل يقتضي عدم مطابقة العبادة للأمر، أي: انسحاب الأمر عنها، أي: إنّ الأمر والنهي لا يجتمعان؟

نقل عن صاحب القوانين(رحمه الله) أنّه فرّق بين المسألتين بالتغاير في موضوعيهما، فإنّ موضوع بحث النهي عن العبادة هو أن تكون طبيعة واحدة مطلقها متعلّقاً للأمر

397

ومقيّدها متعلّقاً للنهي، وموضوع بحث الاجتماع هو أن يكون لدينا عموم من وجه يتعلّق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر.

وأشكل صاحب الفصول على ذلك بأنّ مسألة الاجتماع لا تختصّ بالعامّين من وجه بل تجري في العموم والخصوص المطلق أيضاً، فإنّ الضابط لها إنّما هو ثبوت عنوانين أحدهما مأمور به والآخر منهيّ عنه، ومن هنا فرّق(رحمه الله) بين المسألتين بلحاظ الموضوعين بأنّ مسألة النهي عن العبادة تكون فيما إذا وجد عنوان واحد تعلّق الأمر بمطلقه والنهي بمقيّده، ومسألة الاجتماع تكون فيما إذا اختلف العنوانان سواء كانت النسبة بينهما عموماً من وجه أو مطلقاً.

أقول ـ مضافاً إلى ما سيظهر من أنّ كون تغاير الموضوع موجباً لتغاير المسألتين يحتاج إلى تنقيح، وأنّه يمكن في مسألة الاجتماع فرض عنوان واحد مطلق ومقيّد وذلك بملاك عدم سريان الأمر إلى الحصّة ـ: إنّ أوضح ما يرد عليه: أنّه في بحث النهي عن العبادة يمكن افتراض عنوانين، وذلك كما إذا قلنا بعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي لسرايتهما إلى وجود واحد، فيقع البحث في أنّ هذا النهي هل يقتضي الفساد أو لا؟

ومن هنا قد يؤخذ هذا المطلب بنفسه ليكون هو الفارق فيقال بأنّ الفارق ليس في الموضوع وإنّما الفارق من حيث الرتبة، فإنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي هي التي تنقّح أنّ النهي عن الغصب هل يسري إلى الصلاة أو لا، فإذا سرى إلى الصلاة دخل في بحث النهي عن العبادة.

وهذا الكلام على بساطته وظاهره لا يمكن أن يقبل، فإنّ أسهل ما يمكن أن يُشكل عليه هو: أنّ البحث في مسألة الاجتماع ليس مباشرةً في السريان وعدمه، وإنّما البحث عن إمكان الاجتماع وعدمه، بل قد عرفت أنّه على بعض المباني يمكن افتراض السراية ومع هذا يجوز اجتماع الأمر والنهي باعتبار أنّ النهي نهي

398

عن الحصّة والأمر أمر بالطبيعة، ففي هذا الفرض سواءً قلنا بالجواز أو بعدم الجواز ندخل في بحث أنّ النهي عن العبادة هل يوجب الفساد أو لا.

وذهب المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في الكفاية إلى أنّ الميزان في اختلاف بحثين ليس هو اختلاف الموضوع وإنّما الميزان هو اختلاف جهة البحث وإن اتّحد الموضوع، فمثلا لا يمكن القول بأنّ البحث عن أنّ وجوب الصوم هل يقتضي وجوب مقدّمته أو لا مسألة، والبحث عن أنّ وجوب الصلاة هل يقتضي وجوب مقدّمتها أو لا مسألة اُخرى وجهة البحث في المقام مختلفة، فإنّ جهة البحث في مسألة الاجتماع هي السراية وعدمها أو أنّ التركيب تركيب اتّحاديّ أو انضماميّ، وجهة البحث في مسألة النهي عن العبادة هي فساد العبادة وعدمه.

وهذا الكلام من صاحب الكفاية أيضاً لا يخلو من تشويش، فانّه ان أراد بجهة البحث المحمول في القضيّة فهذا لا ينطبق على ما ذكره في مسألة الاجتماع، فإنّه ذكر أنّ الجهة هي السراية وعدمها أو أنّ التركيب اتّحاديّ أو انضماميّ، بينما المحمول ليس هو هذا وإنّما المحمول هو إمكان الاجتماع أو استحالته، وبرهانه هو السراية أو التركيب الانضماميّ.

وإن أراد بجهة البحث الحيثيّة التي تبرهن على ثبوت المحمول للموضوع فمن الواضح أنّ هذا لا ينطبق على ما ذكره في مسألة النهي عن العبادة، حيث ذكر فيها نفس المحمول وهو اقتضاء الفساد لا برهانه، هذا.

مضافاً إلى أنّه من الواضح أنّ تعدّد الحيثيّة التي تكون واسطة لإثبات المحمول للموضوع لا يعدّد المسألة؛ إذ ما أكثر وجود مسألة واحدة لها براهين عديدة. وإن أراد بجهة البحث الغرض المتوخّى فقهيّاً من المسألة فمن الواضح أنّ الغرض الفقهيّ ليس هو السراية، بل يقال: إنّ الغرض هو صحّة العبادة وبطلانها، والغرض من مسألة النهي في العبادات أيضاً هو صحّة العبادة وبطلانها.

399

والصحيح في المقام أن يقال: إنّ تعدّد البحث يتوقّف على مجموع أمرين:

الأوّل: أن تتعدّد القضيّة، وتعدّدها يكون بمغايرة الموضوع أو المحمول.

والثاني: أن تكون حيثيّة ثبوت المحمول للموضوع في إحداهما غير متضمّنة لنكتة مفروغ عن وجودها في القضيّة الثانية، ولهذا لا تتعدّد المسألة بتعدّد قضايا من قبيل: هل وجوب الصوم يقتضي وجوب مقدّمته، وهل وجوب الصلاة يقتضي وجوب مقدّمتها.

وهذان الأمران موجودان في المقام، فأوّلا مسألة أنّ الأمر هل يجتمع مع النهي قضيّة، ومسألة أنّ الصحّة هل تجتمع مع النهي قضيّة اُخرى. وثانياً ليست القضيّتان بنكتة مشتركة تقتضي تسوية الحكم فيهما، بل يمكن القول بأنّ النهي ينافي الأمر ومع هذا يلتزم بأنّ الصحّة لا تنافي النهي، وذلك بدعوى التقرّب بالملاك، كما أنّه يمكن القول بأنّ النهي لا ينافي الأمر؛ لأنّ الأمر على صرف الوجود والنهي نهي عن الحصّة، ولكن مع هذا يقال بأنّ النهي يمنع عن التقرّب وتبطل العبادة، إلى غير ذلك من تشقيقات(1) لا حاجة إلى بيانها. إذن فالبحث عن إحدى المسألتين لا يُغني عن الاُخرى.

 

هل يرتبط البحث ببحث تعلّق الأوامر بالطبائع؟

التنبيه الرابع:قد يقال: إنّ مسألة الاجتماع مبنيّة على مسألة تعلّق الأوامر بالطبائع؛ إذ لو كانت متعلّقة بالأفراد فقطعاً لا يمكن الاجتماع؛ لوحدة المتعلّق. أمّا لو كانت متعلّقة بالطبائع فقد يقال بأنّه لا إشكال في جواز الاجتماع؛ إذ هناك طبيعتان.


(1) من قبيل القول بجواز الاجتماع بنكتة تعدّد العنوان، والقول بالبطلان بنكتة منافاة النهي مع التقرّب.

400

وقد يقال بأنّه بناءً على تعلّق الأمر بالطبيعة يقع النزاع، حيث إنّه لو كان الأمر متعلّقاً بالطبيعة بما هي هي فيجوز الاجتماع، ولو كان متعلّقاً بها بما هي فانية فلا يجوز.

وقد علّق المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في المقام بأنّ نكتة الجواز والامتناع في هذه المسألة هي أنّ تعدّد العنوان مع وحدة الوجود والمعنون هل يكفي لرفع الغائلة أو لا؟ فإن قيل بأنّه يكفي فهو يكفي حتّى لو قيل بتعلّق الأوامر بالأفراد، فإنّه يوجد هنا فردان من العنوان بوجود واحد، أي: إنّ هذا الوجود الواحد فرد لهذا العنوان وفرد لذاك العنوان. وإن قيل بأنّه لا يكفي فلابدّ من القول بالامتناع حتّى لو قيل بتعلّق الأمر بالطبيعة، فإنّه على كلّ حال الوجود واحد وإن تعدّد العنوان(1).

كما قد يقال: إنّ نكتة الجواز والامتناع عبارة عن كون التركيب انضماميّاً أو اتّحاديّاً، فإن كان التركيب انضماميّاً جاز الاجتماع على كلا الفرضين، وإن كان اتّحاديّاً لم يجز على كلا الفرضين.

وتحقيق المطلب: أنّ ارتباط بحث جواز الاجتماع وامتناعه ببحث تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد وعدمه يختلف باختلاف المسالك في تفسير البحث الثاني، وباختلاف ملاكات الجواز في البحث الأوّل.

وتوضيحه: أنّه كان يوجد في المقام ثلاثة ملاكات للجواز:

1 ـ إنّ الأمر تعلّق بالطبيعة والنهي تعلّق بالحصّة فلا تنافي بينهما.

2 ـ إنّ تعدّد العنوان بنفسه كاف في جواز الاجتماع.

3 ـ إنّ تعدّد العنوان يستلزم تعدّد المعنون.

كما يمكن تفسير تعلّق الأمر بالطبيعة أو الأفراد بعدّة مسالك:

المسلك الأوّل: أن يقصد بتعلّق الأمر بالطبيعة عدم السراية إلى الأفراد


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 240 ـ 241.

401

لا عرضاً ولا بدلا، فالتخيير عقليّ محض. ويقصد بتعلّقه بالأفراد السراية بدلا وتخييراً، فيكون التخيير شرعيّاً، وعليه فتعلّق الأمر بالأفراد يبطل الملاك الأوّل للجواز؛ لأنّ الأمر سرى تخييراً إلى الحصّة، ولا يبطل الملاك الثاني والثالث.

المسلك الثاني: أن يُقصد بتعلّق الأمر بالطبيعة عدم سريانه إلى طبائع الضمائم التي هي مشخّصات ـ ولو بالمسامحة ـ للطبيعة المأمور بها، ويُقصد بتعلّقه بالأفراد سرايته إلى طبائع تلك الضمائم والمشخّصات، وهذا يُبطل الملاك الثالث دون الأوّل والثاني، أمّا الأوّل فلأنّه إنّما سرى إلى طبيعيّ المشخّص لا إلى الحصّة المنهيّ عنها. وأمّا الثاني فلأنّه حتّى مع سراية الأمر إلى المشخّصات يكون العنوان متعدّداً، فإنّ السراية إلى المشخّصات لا يعني سراية الأمر إلى عنوان الغصب، فإنّ عنوان الغصب عنوان انتزاعيّ ينتزع من عدم رضا المالك، وليس هو طبيعة المشخّص الذي هو الأين مثلا ونحوه(1).

المسلك الثالث: أن يقصد بتعلّق الأمر بالطبيعة تعلّقه بها بما هي هي، وبتعلّقه بالفرد تعلّقه بالطبيعة بما هي فانية في الأفراد، فإن قلنا بالثاني كان هناك مجال للبحث عن كلّ الملاكات الثلاثة، وإن قلنا بالأوّل كان الملاك الثاني في غاية الوضوح، فإنّ الذي كان يقف شبهةً في قبال الملاك الثاني كان عبارة عن الفناء في الأفراد والمفروض عدمه.


(1) وبهذا يتّضح أنّه لو كان العنوان المنهيّ عنه عنواناً حقيقيّاً للضميمة المشخّصة لا انتزاعيّاً ـ كما لو وجبت الصلاة وحرُم الكون في مجلس الشرب فصلّى في مجلس الشرب ـ فهذا المسلك يبطل الملاك الثاني والثالث أيضاً؛ لأنّ الأمر سرى إلى العنوان المحرّم، فاجتمع مع النهي من دون تغاير بين المأمور به والمنهيّ عنه، لا بلحاظ العنوان ولا بلحاظ المعنون.

402

المسلك الرابع: أن يقال: إنّ تعلّق الأمر بالطبيعة أو الأفراد مرجعه إلى أصالة الماهيّة أو الوجود، فعلى أصالة الماهيّة يتعلّق الأمر بالماهيّة، وعلى أصالة الوجود يتعلّق الأمر بالوجود، وبناءً على هذا قد يتوهّم ابتناء مسألتنا على تلك المسألة، فيقال: لو كان متعلّقاً بالفرد ـ أي: الوجود ـ لم يجز الاجتماع؛ لوحدة الوجود، ولو كان متعلّقاً بالطبيعة ـ أي: الماهيّة ـ جاز الاجتماع؛ لتعدّد الماهيّة.

وهذا غير صحيح، فإنّه إذا تكثّرت الماهيّة تكثّر الوجود لا محالة فيستحيل وجود واحد له ماهيّتان، فليس الخلاف في أصالة الماهيّة أو الوجود خلافاً في تعدّد هذا الكائن أو وحدته، وإنّما الخلاف في أنّه ما هو الأصل بعد الفراغ عن أنّه لا يمكن أن تتعدّد الماهيّة ويتّحد الوجود.

 

هل يشترط في موضوع المسألة فرض ثبوت الملاكين في المجمع؟

التنبيه الخامس: هل يشترط في موضوع هذه المسألة فرض ثبوت الملاكين في المجمع أو لا؟

يقع الكلام في هذا التنبيه في عدّة مقامات:

 

الكلام في أصل الاشتراط:

المقام الأوّل: في أصل هذا الاشتراط. ذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في الكفاية: أنّ هذه المسألة مشروطة بذاك، ففي فرض وجدان المجمع لكلا الملاكين ينفتح الكلام في أنّه هل يمكن أن يؤثّرا معاً أو لا، فعلى القول بالجواز يلتزم بكلا الحكمين، وعلى الامتناع يدخل في باب التزاحم؛ لوجود كلا المقتضيين دون التعارض. أمّا مع عدم اجتماع الملاكين فلا موضوع للبحث عن اجتماع الأمر والنهي، وسواء قلنا بالجواز أو الامتناع يقع التعارض بين دليل (صلّ)

403

و(لا تغصب)، فإنّ أحد الحكمين بلا ملاك، فلا يعقل ثبوتهما معاً، ولا يعقل التزاحم، فإنّه فرع تماميّة المقتضيين(1).

وقد اعترض على ذلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(2) والسيّد الاُستاذ دام ظلّه(3) بأنّ المسألة لا تكون مرتبطة بمسألة تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، فكيف يكون شرط هذه المسألة ثبوت الملاكين في المجمع، فبناءً على ما ذهب إليه الأشعريّ من إنكار الحسن والقبح الذاتيّين يجوز الحكم بلا مصلحة ـ لعدم قبح في ذلك ـ ومع هذا يأتي النزاع في أنّ الأمر والنهي هل يجتمعان أو لا؛ فإنّ مسألة جواز الاجتماع ترجع إلى أنّ اجتماع الأمر والنهي هل يلزم منه اجتماع ضدّين في مورد واحد أو لا؟ وهذا يتأتّى حتّى مع فرض عدم المصلحة، والأشعريّ لا ينكر العقل النظريّ ولو أنكر العقل العمليّ.

وفي الحقيقة: إنّ مراد صاحب الكفاية لو كان هو ما فهمه المحقّق النائينيّ والسيّد الاُستاذ فهو من غرائب الكفاية، فإنّ عدم ارتباط المسألة بالقول بتبعيّة الأحكام للمصالح في غاية الوضوح، ولكن مراد صاحب الكفاية في المقام من الملاك إنّما هو الغرض من الحكم، سواء كان الغرض هو المصالح أو هو التشهّي والجزاف، فهو يقول: إنّ شرط مسألة الاجتماع وجود غرضين أمّا أنّهما هل هما عبارة عن المصالح والمفاسد أو عبارة عن التشهّي والتحكّم فهذا مطلبٌ آخر لا يرتبط بالمقام.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 245 ـ 246 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعاليق المشكينيّ(رحمه الله).

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 346 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(3) راجع المحاضرات، ج 4، ص 203 ـ 205 بحسب طبعة دار الهادي للمطبوعات بقم.

404

ولعلّ الدافع النفسيّ لصاحب الكفاية إلى الجنوح إلى شرط من هذا القبيل هو دفع أحد الإشكالين على المشهور:

الأوّل: أنّه قد يقال: عجباً، وقع النزاع في هذه المسألة في عنوانين بينهما عموم من وجه، فمنهم من قال بجواز اجتماع الأمر والنهي، ومنهم من قال بالامتناع، بينما اتّفقوا في مسألة التعارض على وقوع التعارض بين دليلين يكون بين موضوعهما عموم من وجه؟! فكأنّما أراد صاحب الكفاية أن يجمع بين الكلامين، فذكر أنّه مع اجتماع الملاكين يدخل الأمر في مسألة الاجتماع، ومع عدمه يدخل في موضوع التعارض.

مع أنّ هذا الإشكال لا يتوقّف دفعه على مثل هذا التجشّم، بل يمكن دفعه بوجوه اُخرى، فمثلا يمكن أن يقال بأنّ العموم من وجه قد يكون من ناحية المتعلّق مثل (صلّ) و(لا تغصب)، فيدخل في بحث الاجتماع، وقد يكون من ناحية الموضوع مثل (أكرم العالم) و(لا تكرم الفاسق)، فيكون خارجاً عن بحث الاجتماع؛ لأنّ الحمل حمل ذو هو لا حمل هو هو.

الثاني: أنّ الأصحاب ـ حتّى القائلين بالامتناع ـ أفتوا بصحّة الصلاة عند الجهل بالغصب، مع أنّه على الجواز ينبغي القول بالصحّة مطلقاً، وعلى الامتناع ووقوع التعارض وتقديم جانب النهي ينبغي القول بالبطلان مطلقاً، فكأنّ صاحب الكفاية يقول: إنّه مع ثبوت الملاكين لا يقع التعارض وإنّما يقع التزاحم، وبعد تقدّم ملاك النهي لو صلّى مع العلم بالغصب كان معصية ولا يمكن التقرّب بالمعصية، ولو صلّى مع الجهل أمكن التقرّب والمقتضي وهو الملاك موجود فتصحّ الصلاة. نعم، لو كان الباب باب التعارض فلا نحرز الملاك ولا يمكن القول بالصحّة.

إلاّ أنّ هذا المقدار لا يكفي في مقام دفع الإشكال بناءً على مبنى نفس المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّه إنّما نحرز الملاكين بنفس دليل الأمر والنهي، وحينئذ إذا قيل

405

بالامتناع فلا يبقى أمر حتّى نحرز به الملاك فكيف نحكم بالصحّة؟!

وعلى أيّ حال فيمكن أن يستدلّ على شرطيّة ثبوت الملاكين في المجموع في موضوع بحث الاجتماع بأحد تقريبين وكلاهما واضح البطلان:

التقريب الأوّل: أن يقال بأنّ البحث في هذه المسألة بحث عن امتناع اجتماع الأمر والنهي وإمكانه، ومن الواضح أنّه مع عدم الملاكين لا غبار على الامتناع ولا معنى للبحث عن الاجتماع والإمكان؛ إذ كيف يحتمل ثبوت الحكم بلا ملاك؟!

والجواب: أنّ هذا خلط بين الامتناع بالذات والامتناع بالغير، فإنّ ما هو محلّ البحث في هذه المسألة إنّما هو الامتناع بالذات وأنّه هل يكون اجتماع الأمر والنهي من اجتماع الضدّين أولا، وأمّا الامتناع الواضح عند عدم الملاكين فهو امتناع بالغير، والمنبّه لهذا أنّه قد يكون ما هو المختار في هذه المسألة وهو الجواز من مبادئ إثبات كلا الملاكين على ما يعترف به نفس صاحب الكفاية، وهذا يعني أنّه في المرتبة السابقة على إحراز الملاكين يوجد معنى للقول بالجواز لكي نستفيد منه برهاناً على إثبات الملاكين.

التقريب الثاني: أن يقال بأنّ البحث في المقام وإن كان من حيثيّة الامتناع بالذات، إلاّ أنّ الثمرة المرجوّة لهذا البحث ـ وهي ثبوت كلا الحكمين على فرض الجواز ـ لا يترقّب وجودها إلاّ مع ثبوت الملاكين، إذن فالمسألة بلحاظ ترتّب الأثر مشروطة بهذا الشرط.

والجواب: أنّ الثمرة غير مربوطة بهذا الشرط، بل مجرّد احتمال وجود كلا الملاكين يكفي لترتّب الثمرة، وذلك بالتمسّك بدليل الأمر والنهي(1)، هذا.


(1) كأنّ المقصود أنّ من ثمار جواز الاجتماع نفس اكتشاف وجود الملاكين، فلا معنى لاشتراط ثبوت الملاكين في صيرورة البحث ذا ثمرة.

406

مع أنّه ليس كلّ ما يكون دخيلا في ترتّب الثمرة يجب أن يؤخذ قيداً في موضوع المسألة؛ إذ يكفي أن تكون المسألة في نفسها دخيلة في الثمرة، فمثلا مسألة ظهور صيغة (افعل) في الوجوب ثمرتها إثبات الوجوب، مع أنّ من شرائط ترتّب الثمرة عدم المعارض، فهل يكون عدم المعارض قيداً في موضوع المسألة؟!

فالصحيح: أنّ هذه المسألة غير منوطة بافتراض الملاكين في المجمع بل نفس القول بالجواز من مبادئ إثبات كلا الملاكين.

 

طُرق إحراز الملاكين في المجمع:

المقام الثاني: في أنّه هل يمكن إحراز الملاكين في المجمع أو لا؟

لا إشكال في إحرازهما لو دلّ على ذلك دليل خاصّ، أو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي فدلّ نفس الأمر والنهي بالالتزام على الملاكين، أو كان الدليلان دالّين على الحكم الاقتضائيّ لا الفعليّ. أمّا في غير هذه الحالات الثلاث فقد ذكر صاحب الكفاية أنّه لا يمكن إحراز الملاكين؛ إذ بعد القول بالامتناع يقع التكاذب بين (صلّ) و(لا تغصب)، ولا يبقى دليل على ثبوت المناطين، وهذا بخلاف الحالات الثلاث التي يثبت فيها الملاكان ويتزاحمان على الامتناع ولا يتزاحمان على الجواز.

إلاّ أنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) ذكر في غير هذه الحالات الثلاث لإثبات كلا الملاكين في المجمع طريقين:

الطريق الأوّل: هو التمسّك بالدلالة الالتزاميّة لدليلي الأمر والنهي عند سقوط المطابقيّة(1).


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 302 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

407

وهذا مبنيّ على مبنى لا نقبله، ولو قبلناه إذن فلماذا يختصّ بالمقام، ولماذا لا يجري في مثل (صلّ) و(لا تصلّ)؟ فهنا أيضاً يجب أن يقال بإحراز المناطين وثبوت المحبوبيّة والمبغوضيّة الشأنيّتين، مع أنّه لا يلتزم به أحد.

وكأنّ المحقّق العراقيّ الذي حاول سلوك نفس هذا الطريق(1) أراد أن يدفع النقض بمثل (صلّ) و(لا تصلّ)، فذكر أنّه في مثل (صلّ) و(لا تصلّ) يكون كلّ من الطلبين ـ أي: طلب الفعل وطلب الترك ـ دالاًّ على النهي عن الضدّ العامّ لمتعلّقه، وهذا النهي دالٌّ على نفي الملاك في ذلك الضدّ العامّ، فيقع التعارض حتّى بلحاظ الدلالة على الملاك، فهذا بابه باب التعارض البحت.

هذا في عنوان واحد، وأمّا في عنوانين بينهما عموم من وجه كـ (صلّ) و(لا تغصب) فإمّا أن يفرض أنّهما متغايران بتمامها، أو أنّهما مشتركان في جزء ومتغايران في جزء آخر، كأن تكون الصلاة عبارة عن الحركة العباديّة والغصب عبارة عن الحركة الغصبيّة، فاشتركتا في الحركة، أمّا مع التغاير فمن الواضح أنّ أحد الطلبين لا ينفي الملاك في العنوان الآخر، وأمّا مع الاشتراك فالأمر بالصلاة ـ مثلا ـ يدلّ على نفي مبادئ الطلب في نقيض المجموع من الحركة والعباديّة، وهذا لا ينافي أن يكون في ترك المجموع من الحركة والغصبيّة مبادئ الطلب، فالأصل في موارد العموم من وجه هو التزاحم الملاكيّ، ولهذا ميّز الفقهاء بين مورد الاجتماع ومورد التعارض وذكروا أنّ الأوّل من باب التزاحم دون الثاني(2).


(1) راجع المقالات، ج 1، ص 370 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، ونهاية الأفكار، ج 1 و 2، ص 439 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع المقالات، ج 1، ص 372 ـ 373 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، ونهاية الأفكار، ج 1 و 2، ص 440 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

408

ويرد عليه:

أوّلا: الإشكال المبنائيّ بمنع حجّيّة الدلالة الالتزاميّة بعد سقوط المطابقيّة.

وثانياً: أنّ النهي عن الضدّ العامّ المستفاد من الطلب لا يدلّ على نفي الملاك في الضدّ كي يعارض الدلالة الالتزاميّة للأمر بالضدّ على الملاك؛ إذ يكفي لهذا النهي مغلوبيّة ملاك الضدّ العامّ ـ أي: النقيض ـ في مقابل ملاك نقيضه(1).

وثالثاً: لو سلّمنا عدم تبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة وسلّمنا أنّ النهي عن النقيض يدلّ على نفي الملاك في النقيض، قلنا: إنّ اللازم لكلامه(رحمه الله) إدخال المطلق والمقيّد حينما يكون المطلق أمراً والمقيّد نهياً، من قبيل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) في باب التزاحم؛ لأنّ (صلّ) إنّما دلّ على نفي الملاك في ترك الصلاة،


(1) وقع في نهاية الأفكار الالتفات إلى هذا الإشكال، فرفض أصل هذا الوجه للتفريق بين مثل (صلّ) و(لا تغصب) وبين مثل (صلّ) و(لا تصلّ) وأبدله بوجه أغرب من هذا الوجه لا يناسب الشيخ العراقيّ(رحمه الله)، ولعلّه من خطأ المقرّر، وهو: أنّه مع تعدّد العنوان كـ(الصلاة) و(الغصب) ليس منع العقل من الجمع بين الأمر والنهي واضحاً بدواً كي يكسر ذلك ظهور (صلّ) في الإطلاق، وإنّما هذا أمر يتّضح بعد التدقيق في مادّة الاجتماع، فإذا بقي ظهور الإطلاق في (صلّ) محفوظاً رغم سقوط حجّيّته نتمسّك بدلالته الالتزاميّة لإثبات الملاك؛ لأنّها لا تتّبع المطابقيّة في الحجّيّة وإنّما تتّبعها في الوجود فحسب، وهذا بخلاف ما لو اتّحد العنوان كما في مثل (أكرم العالم) و(لا تكرم الهاشميّ)، فإنّ العنوان في كليهما هو الإكرام، والمنع من الجمع بين الأمر والنهي مع وحدة العنوان واضح بدواً لدى العقل، وهذا يكسر أصل الظهور في الفعليّة فتنتفي أصل الدلالة المطابقيّة، وبانتفائها تنتفي الالتزاميّة.

وهذا كما ترى غريب؛ فإنّ الكلام ليس فيما إذا اتّصل النهي بالأمر، وإنّما الكلام في الأمر والنهي المنفصل أحدهما عن الآخر، ومعه يتمّ الظهور في ذاته.

409

وهذا لا ينافي ما يدلّ عليه (لا تصلّ في الحمّام) من أنّ ترك الصلاة في الحمّام مورد للمبادئ؛ فإنّ كون ترك المجموع فيه الملاك لا ينافي كون ترك هذا الجزء ليس فيه الملاك، فإنّ ترك هذا الجزء ليس جزءاً لترك المجموع حتّى يكون فيه الملاك ضمناً وإنّما هو فرد له، ولا يوجد تناف بين ثبوت الملاك في الكلّيّ بنحو صرف الوجود وبين عدم الملاك في فرده(1). نعم، لو كان النهي هو المطلق كما لو قال: (لا تصلّ)، وقال: (صلّ في المسجد) وقع التعارض؛ لأنّ (لا تصلّ) دلّ على نفي المبادئ في الصلاة، بينما دلّ (صلّ في المسجد) على ثبوت المبادئ في الصلاة ولو ضمناً.

الطريق الثاني: التمسّك بإطلاق المادّة لا بالمعنى الميرزائيّ من أنّ المادّة لها محمولان: الحكم والملاك، وقد قيّدت بلحاظ المحمول الأوّل فنتمسّك بإطلاقها بلحاظ المحمول الثاني، بل بمعنى أنّه إذا لم يمكن إطلاق الهيئة لحالة من الحالات عقلا كحالة العجز أو النسيان أو وجود حكم متضادّ قلنا: إنّ الوجوب الذي هو مفاد الهيئة خاصّ بغير هذه الحالة، ولكن هل هذا الوجوب الخاصّ بغير هذه الحالة تعلّق بذات الصلاة أو تعلّق بالصلاة مع عدم هذه الحالة؟ طبعاً مقتضى الإطلاق هو


(1) لعلّ نظره(رحمه الله) إلى الفرد الذي يكون وجوده مستبطناً لفرض وجود فرد آخر كما هو الحال في المقام، فإنّ ترك الصلاة يستبطن فرض ترك قيد كونها في الحمّام، أمّا في غير هذه الصورة فمن الواضح أنّه لو كان صِرف الوجود ذا مصلحة فالفرد مشتمل على تلك المصلحة؛ لأنّه ينطبق عليه صرف الوجود، هذا إن قصد بالملاك المصلحة، وإن قصد به المحبوبيّة فقد تقدّم منه أنّ محبوبيّة صرف الوجود تلازم محبوبيّة كلّ حصّة على تقدير عدم الحصص الاُخرى، فتوجيه كلامه(رحمه الله) هنا هو ما قلناه: من أنّ النظر إنّما هو إلى فرد يكون تحقّقه مستبطناً لفرض تحقّق فرد آخر، فلا يلزم ثبوت الملاك فيه، لا بمعنى المصلحة ولا بمعنى الحبّ.

410

تعلّقه بذات الصلاة، لا بمعنى أنّ الصلاة واجبة حتّى عند تحقّق هذه الحالة، بل بمعنى أنّه عند عدم هذه الحالة يكون الواجب ذات الصلاة بلا أيّ قيد آخر، وهذا يعني أنّ ذات الصلاة هي ذات ملاك بلا قيد تلك الحالة، إذن فهي ذات ملاك حتّى في غير تلك الحالة وإن لم تكن واجبة في تلك الحالة(1).

ويرد عليه:

أوّلا: أنّ هذا لو تمّ فإنّما يتمّ في الموانع العقليّة التي توجب تقييد الوجوب مثل مانع العجز، ولا يتمّ في محلّ الكلام، فإنّه إذا افترضنا وجود المندوحة فلا موجب لتقييد الوجوب حتّى على الامتناع وإنّما يتقيّد الواجب بالحصّة المباحة.

وثانياً: لو سلّمنا أنّ المقام كالموانع العقليّة الموجبة لتقييد الوجوب قلنا: قد مضى منّا أنّ القيود الدخيلة في المصلحة على قسمين: أحدهما ما هو دخيل في اتّصاف الفعل بالملاك، وهذا ينفيه إطلاق الهيئة. والثاني ما هو دخيل في ترتّب الملاك خارجاً على الفعل، وهذا ينفيه إطلاق المادّة. ففي المقام لو كان المقصود من نفي دخل عدم تلك الحالة في الملاك نفي دخله في ترتّب المصلحة فهذا لا كلام فيه، فإنّه ليس المدّعى في الموانع العقليّة أنّ عدم العجز ـ مثلا ـ دخيل في ترتّب المصلحة على الفعل، وإنّما المدّعى أنّه دخيل في الاتّصاف، ولو كان المقصود نفي دخله في الاتّصاف فهذا إنّما ينفى بإطلاق الهيئة المفروض عدمه دون إطلاق المادّة.

وعلى أيّ حال فالصحيح أنّه لا يمكن إثبات وجدان المجمع لكلا الملاكين بناءً على الامتناع، فالتزاحم الملاكيّ ليس هو مقتضى القاعدة لا في باب التعارض ولا في باب الاجتماع.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 302 ـ 303.

411

 

هل تجري أحكام التزاحم في التزاحم الملاكيّ أو تطبّق عليه قوانين التعارض؟

المقام الثالث: لو افترضنا أنّنا استطعنا في موارد اجتماع الأمر والنهي أن نثبت وجود الملاكين في المجمع فقد صار هناك تزاحم بين الملاكين، فيقع الكلام في المقام الثالث، وهو: أنّ التزاحم الملاكيّ هل تجري فيه أحكام باب التزاحم الحقيقيّ الذي تقدّم وكان قسيماً لباب التعارض، أو أنّه تطبّق عليه قوانين باب التعارض؟

وهناك فروق حقيقيّة بين هذا التزاحم الملاكيّ وبين التزاحم الحقيقيّ، وهذه الفروق سبّبت أن نتساءل أنّ هذه الفروق مفرّقة بحسب الأحكام أو لا؟ وهذه الفروق يمكن تلخيصها فيما يلي:

أوّلا: أنّ المنافات في التزاحم الحقيقيّ ـ الذي فرغنا عنه في باب الضدّ ـ لم يكن بين الجعلين وكان بين الفعليّتين، بينما في التزاحم الملاكيّ يكون التنافي بحسب عالم الجعل لا الفعليّة فحسب، فلا يمكن ثبوت كلا الجعلين على موضوع واحد.

ثانياً: مادام التنافي في التزاحم الحقيقيّ بين الجعلين غير موجود فلا تكاذب بين الدليلين؛ لأنّ مفاد الدليل هو الجعل لا الفعليّة، بينما هنا يحصل التكاذب بين الدليلين للتنافي بين الجعلين.

ثالثاً: أنّه مادام الجعلان ثابتين في التزاحم الحقيقيّ بدليلهما فلا حاجة إلى أن يُعمل المولى عنايته لحلّ التنافي، وإنّما على العقل أن يشخّص ما هي الوظيفة العمليّة في المقام. وهذا بخلاف التزاحم الملاكيّ؛ إذ ليست المشكلة مشكلة أنّ المكلّف ماذا يصنع، بل هي مشكلة أنّ المولى على طبق أيّ الملاكين يجعل، فالمولى هو الذي يجب أن يعالج الموقف.