131

نحن نعلم أنّ ذلك الحساب الدقيق الذي حاسب الله به يونس(عليه السلام)سوف لا نحاسب به، فإنّ الله عزّ وجلّ يغفر لنا من الخطايا والذنوب ومن صغائر أعمالنا، فليس حالنا حال يونس(عليه السلام)، وما فعله الله به كان تأديباً لنبيٍّ من أنبيائه بلحاظ مستوى النبوّة، وهذا الفارق لا يوجب سرورنا بل يكشف عن قلّة قدرنا، وصغر خطرنا، وخسّة أمرنا، فنحن لا نستحقّ هذا التأديب وهذه الرعاية الدقيقة الكاشفة عن علوّ قدر المؤدّب بها، وشدّة الاعتزاز به، فأنت تحرص على تأديب ولدك أكثر من حرصك على تأديب صبي آخر؛ وذلك لأنّ ابنك أعزّ لديك وأحبّ إليك. إنّ يونس(عليه السلام) كان من الأجلاّء عند الله تبارك وتعالى، وعزيزاً عليه، فلا يتركه على خطأ ولو كان ترك أولى، أمّا نحن فنعصي الله ليل نهار دون أن يعاقبنا مباشرة، فهذا السكوت عنّا كاشف عن قلّة قدرنا، وهذا لطف من الله بنا ورعاية لحالنا أيضاً؛ إذ إنّنا لا نتحمّل أكثر من ذلك.

إنّ الله عزّ وجلّ لو أحبَّ مؤمناً فهو يعاقبه وينبّهه حين صدور الزلّة عنه فوراً، ويوجب له عثرة تكون في طريقه كي ينتبه ويرتدع عن خطئه ومعصيته.

إنّ هناك اُموراً أربعة تؤثّر في الارتداع عن الذنوب والمعاصي وردت في القرآن الكريم والروايات:

 

الأمر الأوّل ـ العذاب:

عذاب يوم القيامة الذي لا تقوم له السماوات والأرض، نار

132

جهنّم، أعاذنا الله منها، وقد ورد في وصفها: أنّ نار الدنيا هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنّم، وأنّها غُسلت سبعين مرّةً بماء الجنّة ثُمّ اُنزلت إلى الدنيا، ونحن نعرف أنّ عذاب النار في الدنيا هو أشدّ أنواع العذاب، أمّا ما يقوم به الطواغيت من تعذيب سجنائهم بألوان العذاب الاُخرى، فليس لأنّها أشدّ من النار؛ بل لأنّ التعذيب بالنار قد يؤدّي إلى قتل السجين بسرعة، فلا يصلون إلى مآربهم وينتهي التعذيب، أمّا عذاب الله تبارك وتعالى بالنار يوم القيامة، فقال تعالى عنه: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا﴾(1)، وهذا أشدّ العذاب، وهو يكفينا ردعاً عن الذنوب والمعاصي، أعاذنا الله تعالى من كلِّ ذلك.

 

الأمر الثاني ـ الجنّة ومراتبها:

وقد قارن الله عزّ وجلّ في قرآنه الكريم بين وضع الآخرة ووضع الدنيا، فقال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض﴾(2)، أي: كانت الفوارق في الدنيا كبيرة بين إنسان وإنسان آخر من حيث النِعم الدنيويّة، فهذا يصعب عليه تحصيل الخبز وذاك إلى جنبه يملك القصور والأموال وما لا يحصى من النِعم، ونحن هنا لا نتكلّم عن الجانب التشريعي لهذا التفاوت وهل هو مقبول أو مرفوض، وإنّما الحديث عمّا هو قائم فعلاً ولو نتيجةَ ظلم الظالمين.

 


(1) النساء، الآية: 56.
(2) سورة الإسراء، الآية: 21.
133

ثُمّ يقول الله تعالى: ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾، فالفارق بين المؤمنين وهم في الجنّة سيكون أكبر وأكبر من الفوارق المعهودة في الدنيا بين الناس، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

 

الأمر الثالث ـ الابتعاد عن رحمة الله ورضاه:

وهو أعظم عند أهله من عذاب النار، وما هي إلّا صورة من صور الغضب الإلهي، والخشية منه هي التي تردع أولياء الله من الذنوب والمعاصي، فغضب الله عزّ وجلّ أعظم من النار، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) كما في دعاء كميل: « هَبْنِي صَبَرْتُ عَلى عَذَابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِرَاقِكَ »، أي: فراق الله ورحمته، وهو أصعب وأشدّ عند أمير المؤمنين(عليه السلام) من عذاب النار.

 

الأمر الرابع ـ التنبيهات الدنيويّة:

من قبيل ما ورد بشأن يونس (عليه السلام) من تنبيهه بإلقائه في بطن الحوت، ومن قبيل ما ورد في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِنَ الْعَذَابِ الاَْدْنَى﴾(1).


(1) سورة السجدة، الآية: 21.
135

الفصل الرابع

 

 

الولاية التكوينيّة للمعصوم(عليه السلام)

 

 

 

○   إدارة العالم والعلاقة بين الخالق والمخلوق.

○   معنى الولاية التكوينيّة للمعصوم(عليه السلام).

○   بعض روايات إثبات الولاية التكوينيّة للأئمّة(عليهم السلام).

 

 

137

 

 

 

 

قد انتهينا من الحديث عن الولاية التشريعيّة، وهي الولاية المستفادة من قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(1).

فهذه الآية المباركة تدلّ ـ كما تقدّم البحث عنها ـ على ما يسمّى بالولاية التشريعيّة، فالإمام هو الذي يؤتمُّ به، فقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ يعني: إنّي جاعلك مقتدىً للاُمّة، ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه.

فالإمامة تعني الولاية، وتعني وجوب الطاعة ووجوب الالتزام بما يأمر وينهى، وهذا هو معنى الولاية التشريعيّة، وهي ثابتة للإمام.

إنّ الولاية في جانب التشريع مصطلح قرآني وارد في القرآن الكريم ووارد في السنّة أيضاً:

أمّا القرآن فكقوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾(2)، فهذه ولاية تشريعيّة، أي: يجب على المؤمنين أن يتّبعوا النبيّ(صلى الله عليه وآله)لو أمرهم بأيّ أمر، فهو أولى بهم من أنفسهم، فكما أنّ الإنسان وليّ



(1) سورة البقرة، الآية: 124.

(2) سورة الأحزاب، الآية: 6.

138

نفسه وله الحقّ في أن يتصرّف بالشكل الذي يحلو له ما لم يخرج من دائرة الشريعة، فكذلك النبيُّ(صلى الله عليه وآله) أولى به من نفسه، وعليه أن يطيعه.

وأمّا السنّه الشريفة، فكقوله(صلى الله عليه وآله): « مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ »(1)؛ إذ أعطى الولاية التشريعيّة لعليٍّ(عليه السلام)، أي: أنّ عليّاً كنفس رسول الله(صلى الله عليه وآله) يجب على المسلمين أن يتّبعوه كما كان يجب عليهم أن يتّبعوا الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله).

أمّا عنوان الولاية التكوينيّة، فإنّا لم نجده لا في القرآن الكريم ولا في الأحاديث الشريفة، وإنّما هو مصطلح متأخّر جاء على لسان بعض علمائنا الأعلام ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ في زمن متأخّر، ولهذا لا نستطيع أن نبحث عن معنى هذه الكلمة في الكتاب والسنّة.

 

إدارة العالم والعلاقة بين الخالق والمخلوق:

 

وقبل أن نبحث في الولاية التكوينيّة للأئمّة(عليهم السلام) ـ والتي تتلخّص في الحقيقة في معنى أنّ الله تبارك وتعالى كأنّما قد فوّض للأئمّة(عليهم السلام)بمستوىً من مستويات التفويض أمر إدارة العالم إليهم ـ نشير إلى العلاقة بين الخالق والمخلوق، بين الله تبارك وتعالى وإدارة العالم الذي خلقه، ثُمّ ننتقل من هذا الارتباط الموجود بين الله تبارك وتعالى وبين خلقه أو العالم المخلوق له إلى موضوع الأئمّة(عليهم السلام)


(1) ينابيع المودّة 1: 114.
139

وعلاقتهم بالعالم؛ لكي نرى هل رُبطت علاقة الإدارة ـ مثلاً ـ بالإمام المعصوم، وهل وهبها الله تعالى للإمام المعصوم أو لا؟

إنّ سَير الاُمور والأحداث دائماً ـ فلسفيّاً وعقليّاً ـ لا يخلو من أن يكون خاضعاً لأحد مبدأين:

المبدأ الأوّل: مبدأ العلّيّة، وهو الذي يُسيّر الحوادث، أي: أنّ الأحداث تتكرّر وتتغيّر وتتحرّك وتتبدّل وفق عللها، وهذا ما قال به الفلاسفة العقليّون الذين آمنوا بضرورة العلّيّة وبحجّة أنّ الشيء الممكن ـ المسمّى بممكن الوجود ـ نسبته إلى الوجود والعدم على حدٍّ سواء، فلا يمكن أن يرجّح جانب الوجود فيه إلّا بعلّة؛ إذ لو لم تكن هناك علّة، إذن كان ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ترجيحاً بلا مرجّح، وهو مستحيل على حدّ قول الفلاسفة.

وقد أنكر الفلاسفة المادّيّون الجدد مبدأ العلّيّة، ولم يؤمنوا إلّا بمبدأ التقارن، أي: تقارن شيء بشيء، كاقتران النار بالاحتراق، واقتران حركة المفتاح بانفتاح الباب، وما شابه ذلك من دون أن يؤمنوا برابطة العلّيّة بين النار والاحتراق، أو بين حركة المفتاح وانفتاح الباب، وافترضوا رابطة العلّيّة هذه شيئاً غيبيّاً لا يمكن أن يخضع للتجربة، وبما أنّ الفلاسفة المادّيين هم تجريبيّون يؤمنون بأنّ مصدر المعرفة هو التجربة، والتجربة لا تستطيع أن تكشف مبدأ العلّيّة، لذا أنكروا هذا المبدأ، وقالوا: إنّ سير الاُمور لا يكون إلّا بحفنة من التقارنات والصدف. ولا نريد أن ندخل في صميم البحث الفلسفي في ذلك؛ فإنّ ذلك لا يتناسب مع ما بنينا عليه من الاختصار

140

والبساطة في هذه الأبحاث.

ولاُستاذنا الشهيد الصدر ـ رضوان الله تعالى عليه ـ في هذه المسألة بحث مفصَّل وطريف وممتع في كتابه (الاُسس المنطقيّة للاستقراء)، يقول فيه: إنّ إيماننا بمبدأ العلّيّة لا يقوم على أساس المباني الفلسفيّة العقليّة ـ فحسب ـ التي تقول باستحالة الترجيح بلا مرجّح، وأنّ الممكن نسبته إلى الوجود وإلى العدم على حدّ سواء، فلابدّ إذن من علّة كي تترجّح كفّة الوجود على كفّة العدم، بل نضيف إلى ما قاله الفلاسفة العقليّون: أنّ التجربة لوحدها أيضاً كافية لإثبات مبدأ العلّيّة، خلافاً للفلاسفة المحدَثين الذين قالوا: إنّ العلّيّة لا تثبت بالتجربة(1). وهذا له بحث مفصَّل وعميق لا مجال لشرحه هنا، وإجمال قوله (رضوان الله عليه) هو: أنّنا حينما نكرّر إيجاد شيء ونرى نتيجةً تقترن مع ذاك الشيء ـ كما في تكرار إيجاد النار واقتران الاحتراق بها مثلاً ـ نستكشف من هذا التكرار والتعدّد بحساب الاحتمالات نقطة مشتركة ثابتة في كلّ هذه الأعداد من التجربة، هي العنصر المشترك بين هذه التجارب العديدة، وليس هذا العنصر المشترك إلّا العلّيّة؛ إذ لولا أنّ النار علّة للاحتراق لكان هذا التكرار مجرّد تجمّع صدف ومن دون وجود نقطة مشتركة فيما بينها، وهذا مستبعد جدّاً بضرب القيم الاحتماليّة بعضها في بعض.

 



(1) راجع الاُسس المنطقيّة للاستقراء: 117. والبرهان الكامل على المدّعى تجده في مبحث القسم الثالث من الكتاب.

141

وعلى أيّ حال فهذا أحد المبدأين اللذين بالإمكان افتراض سير هذا العالم والأحداث التي نراها على أساس أحدهما.

والمبدأ الثاني الذي يمكن افتراض قيام العالم على أساسه هو: مبدأ القدرة والسلطنة، وهذا ما اعتقده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) مبدأً لظهور العالم، فإيجاد الله سبحانه وتعالى للعالم ليس بالعلّيّة؛ فإنّ العلّيّة أمر يَستبطن استحالة الانفكاك بين العلّة والمعلول، وهذا بدوره يستبطن الجبر، أمّا الله تبارك وتعالى، فهو يفعل ما يشاء وفق إرادته ووفق قدرته وسلطنته، والقدرة شيء والعلّيّة شيء آخر، والفارق بين القدرة والعلّيّة أمر مبرهن في محلّه، وفي الجملة: لا شكّ أنّنا نحسّ في وجداننا بالفارق بينهما، فهناك فرق ـ كما مثّل العلماء ـ بين حركة الحجر الذي يسقطونه من الأعلى، وبين حركة الإنسان وهو ينزل من الدرج، هاتان حركتان: حركة الإنسان وهو ينزل من الأعلى إلى الأسفل، وحركة الحجر أيضاً حينما ينزل من الأعلى إلى الأسفل، لكن الوجدان يحكم بفارق جوهري بينهما، ويعتقد كثير من العلماء أنّ الفارق بينهما هو عبارة عن الإرادة، فالحجر لا يمتلك الإرادة، بينما يملكها الإنسان، فالحجر ينزل من الأعلى إلى الأسفل بلا إرادة، بلا شوق، بلا حبٍّ، بلا اختيار، أمّا الإنسان فإنّه ينزل من الأعلى إلى الأسفل بإرادة وشوق، وعلى هذا الأساس امتاز مبدأ الجبر من مبدأ الاختيار، واُستاذنا الشهيد آية الله العظمى السيّد محمّد باقر الصدر(قدس سره)يرى أنّه لا يُكتفى بهذا المقدار من الفارق؛ لأنّه لا يحقّق الاختيار، ولا يخرجنا من عالم الجبر، فأيُّ فرق بين ما

142

يصدر عن الإنسان في حالة الوجل من حركات غير اختياريّة، وبين ما يصدر عن إنسان آخر اعترتهُ حالة الشوق؟ فلو كان الأمر كما قالوا من أنّ الإرادة تعني أن تعتري الإنسان حالة الشوق والرغبة الأكيدة، فيصدر عنه العمل الذي اشتاق إليه قهراً، فلا فرق إذن بين ما يصدر عن الإنسان في حالة الشوق أو حالة الوجل أو حالة الخجل أو سائر الحالات، فمجرّد أنّ هذا شوق ومحبّة ورغبة لا يجعل هذا العمل اختياريّاً.

إنّ المائز والمقياس الحقيقي الذي يفصل بين الجبر والاختيار هو مسألة السلطنة والقدرة، وليس مسألة الشوق، ولا يعني هذا الاستغناء عن الشوق والإرادة، فهذا ممّا لابدّ منه،فإنّ الشوق يلازم الاختيار، والإنسان المختار لا يعمل شيئاً إلّا بالشوق والاختيار، إلّا أنّ الشوق ليس هو الذي جعل هذا العمل اختياريّاً لو لم يكن إلى جانبه القدرة والسلطنة التي تعني أنّه يستطيع أن يفعل ويستطيع أن لا يفعل.

ولاُستاذنا الشهيد(قدس سره) رأي آخر طرحه على مستوى الافتراض والاحتمال لا الجزم واليقين بعد أن كتب الاُسس المنطقيّة للاستقراء يقول فيه: إنّنا نفترض أنّ مبدأ العلّيّة بالمعنى الفلسفي لا وجود له في العالم، وهذا احتمال لا دليل لدينا يمنعنا عن ذلك أو يبطله، فمن المحتمل أنّ كلّ ما نراه يعود إلى مبدأ السلطنة والقدرة وإرادة الله تبارك وتعالى، وحتّى ما نراه من أنّ النار تحرق، فالتفكير الفلسفي الاعتيادي المتعارف وإن كان يقول: إنّ النار علّة للإحراق وإنّ الله

143

تعالى خلق العلّة وهي النار مثلاً، وعلّيّتها ذاتيّة لها، ولكن توجد إلى جانب ذلك فرضيّة اُخرى معقولة أيضاً، وهي: أن تكون قد اقتضت الحكمة الربّانيّة أن يخلق الله تعالى دائماً الإحراق متى ما تتحقّق الملاقاة بالنار، وكلا هذين الأمرين محتملان، فالأوّل ـ وهو الرأي الفلسفي المعروف ـ محتمل، والثاني ـ وهو الذي طرحه السيّد الشهيد الصدر(قدس سره) وهو أن لا تكون النار علّة للإحراق، وإنّما شاءت إرادة الله تبارك وتعالى أن يخلق الإحراق متى وجدت النار ـ محتمل أيضاً، ولا ينفيه القانون الفلسفي الذي يقول بأنّ الممكن نسبته إلى الوجود والعدم على حدّ سواء ولا يوجد إلّا بمرجّح، فصحيح أنّ الممكن بحاجة إلى مرجّح، ولكن من قال: إنّ مرجّحه مبدأ العلّيّة؟ فلعلّ مرجّحه مبدأ الإرادة، إرادة الله وقدرته تبارك وتعالى، فالقانون الفلسفي لا يبطل هذا الاحتمال، وكذلك القانون التجريبي الذي أشرنا إليه، فإنّ كثرة التجارب بإشعالنا النار آلاف المرّات ـ مثلاً ـ ورؤيتنا ترتّب الإحراق على ذلك، يدلّنا على وجود عنصر مشترك فيما بين هذه التجارب العديدة، ولكن من قال: إنّ هذا العنصر المشترك هو عبارة عن العلّيّة؟ فلعلّه عبارة عن إرادة الله تبارك وتعالى وقدرته وسلطنته، فهو أراد أن يخلق الاحتراق متى ما صنعنا النار.

وعلى أيّة حال فحينما ننتقل إلى لغة القرآن نرى أنّ الله تبارك وتعالى نسبَ كلّ شيء في هذا العالم إليه جلّ وعلا، ونرى هذه اللغة واردة حتّى في الأفعال الاختياريّة للإنسان كما في كثير من الآيات،

144

فهنالك لونان من الآيات المباركة: لون منها ينسب الاُمور إلى الله تعالى، ولون آخر ينسب أفعال البشر بمستوىً من مستويات النسبة إلى الله تبارك وتعالى.

أمّا اللون الأوّل، فهو من قبيل قوله تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الاَْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا﴾(4)، وغير ذلك من الآيات.

وأمّا اللون الآخر الذي يَنسب فعل البشر إلى الله تعالى، فهو من قبيل قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾(5)، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْء إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ﴾(6)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾(7)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ﴾(8)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ﴾(9)، وقوله تعالى: ﴿فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(10)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾(11)،



(1) سورة الأعراف، الآية: 54.

(2) سورة الذاريات، الآية: 58.

(3) سورة الزمر، الآية: 42.

(4) سورة التوبة، الآية: 51.

(5) سورة الأنفال، الآية: 17.

(6) سورة الكهف، الآية: 23 ـ 24.

(7) سورة البقرة، الآية: 253.

(8) سورة الأنعام، الآية: 107.

(9) سورة الأنعام، الآية: 137.

(10) سورة الأنعام، الآية: 149.

(11) سورة يونس، الآية: 99.

145

وأمثال ذلك من الآيات.

إنّ تفسير الآيات من القسم الأوّل الراجع إلى غير الأفعال الاختياريّة هو أحد تفسيرين: إمّا أنّ الله تبارك وتعالى بإرادته المباشرة وبلا وساطة مبدأ العلّيّة يفعل الاُمور، ويخلق ما يريد، ويصنع ما يشاء، ويغيّر، ويبدّل، ويحرّك، كلّ ذلك وفق إرادته مباشرةً. وإ مّا أنّ الاُمور تجري بأسبابها وعللها، « أبى الله أن يُجري الأشياء إلّا بالأسباب »(1)، فقانون العلّيّة هو الذي يحكم العالم، ويسيّر الاُمور، ولكنّ إرادة الله تكمن فوق العلل، أي: أنّ أصل العلل الأساسيّة مخلوقة من قبل الله تبارك وتعالى وبإرادته سبحانه، فإرادته عزّ وجلّ ليست هي التي تسيّر الاُمور بالمباشرة وإنّما تسيّرها من وراء قانون العلّيّة، والعلّة مخلوقة لله. فبأحَدِ التفسيرين ترجع الاُمور كلّها إلى الله كما نطقت بذلك هذه الآيات المباركات.

وأمّا القسم الثاني من الآيات ـ وهي الآيات الراجعة إلى الأفعال الاختياريّة للبشر ـ كقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾(2)، فهذا أيضاً تفسيره واضح، ولا نؤوّل هذه الآيات ولا نلتزم بالجبر، فلا نقول: إنّ هذه الآيات تفيد الجبر وتسلب القدرة والاختيار من الإنسان وتجعل أعمالنا هي أعمال الله، بل نقول: إنّ الذي نفهمه من هذه الآيات هو أنّ الفعل البشري دائماً له جانبان:



(1) بصائر الدرجات 1: 6، الحديث 2.

(2) سورة الأنفال، الآية: 17.

146

جانب نفسي وجانب مادّي، فالرمي مثلاً في الآية الكريمة: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ له جانب نفسي يرجع إلى الشخص الرامي، فلو لم يرد أن يرمي لا يرمي، وله أيضاً جانب مادّي، وهو: أنّ السهم يخرج من القوس ويتحرك وينتهي إلى الشخص الذي تمّ توجيه السهم إليه فيقتله، فبالقياس إلى الجانب النفسي تأتي إرادة البشر وسلطته وقدرته، القدرة التي خلقها الله تعالى فيه، فهذه القدرة تؤثّر أثرها وبهذا لا ننتهي إلى الجبر. وأمّا الجوانب المادّية، فكلّها تنتهي إلى الله، فهو سبحانه الذي جعل هذا السهم يخرج من القوس لدى تحرّك اليد، وجعل الهواء بالشكل الذي يخترقه هذا السهم، وهو الذي جعله يصيب ذاك الهدف، والشخص المستهدف أيضاً هو الذي جعله يُخترَق بهذا السهم، فتزهق روحه ويُميتهُ، كلّ هذا من الله تبارك وتعالى.

 

معنى الولاية التكوينيّة للمعصوم(عليه السلام):

 

لقد تقدّم أنّ تعبير الولاية التكوينيّة مصطلح متأخّر، ولذا نتساءل عن معناه والمقصود منه بالنسبة إلى الأئمّة (عليهم السلام)؟ وما هو دور الأئمّة(عليهم السلام)على أساس القول بولايتهم التكوينيّة؟ وما هو دورهم(عليهم السلام) ضمن هذه الاُسس الفلسفيّة والقرآنيّة التي أشرنا إليها وعرضناها في بداية البحث؟

فإن كان المقصود بالولاية التكوينيّة خرق نواميس الطبيعة، فإنّ الإمام يخرق أحياناً نواميس الطبيعة بإرادة الله ويأتي بما يسمّى

147

بالمعجز، فيشقّ القمر، أو يجعل الحصى تُسبّح، أو يمنع النار عن الإحراق، وما إلى ذلك من الاُمور التي هي خرق لقوانين الطبيعة، فإن سُمّي هذا بالولاية التكوينيّة، فهو معقول ومقبول وثابت في الكتاب والسنّة المتواترة، فلا شكّ ولا ريب أنّ الأئمّة(عليهم السلام) أظهروا من المعاجز ما لا يحصى، والمعجز هو خرق قانون الطبيعة، وهذا ليس شيئاً جديداً حتّى نشكّك فيه، وليس هو إلّا تطبيقاً لأحد القانونين اللذين أشرنا إليهما، فلو آمنّا بمبدأ العلّيّة، وبأنّ هذا المبدأ لا يتخلف ( استحالة انفكاك المعلول عن العلّة )، فعندئذ يكون خرق قوانين الطبيعة بمعنى أنّ الله تعالى هدى رسوله والأئمّة المعصومين(عليهم السلام) إلى علل غائبة عنّا، فهم يعرفونها ونحن لا نعرفها، فيتدخّل الإمام وفق تلك العلل الغائبة عنّا.

وعلى سبيل المثال: إنّ النار تحرق، لكن هناك علّة تمنع النار عن الإحراق، وتلك العلّة يعرفها الإمام، فيوجِد ذاك المانع فلا تحرق النار، ونسمّي هذا بحسب ظاهر الأمر خرق قانون الطبيعة، أو خرق نواميس الطبيعة، هذا تفسير الإعجاز وفق مبدأ العلّيّة، فإذن الإعجاز يثبت دون بطلان مبدأ العلّيّة، أي: أنّ مبدأ العلّيّة ـ وهو استحالة انفكاك العلّة عن المعلول ـ ثابت إلّا أنّ الإمام في نفس الوقت يأتي بالمعجز، فإتيانه بالمعجز لا يعني شلّ العلّة عن العلّيّة، وإنّما يعني أنّه أتى بعلل هي غائبة عنّا يعرفها هو ولا نعرفها، هذا هو تفسير المعجز بناءً على هذا المسلك.

أمّا على المسلك الآخر المؤمن بمبدأ الإرادة وقدرة الله تبارك

148

وتعالى وأنّنا لسنا بحاجة إلى مبدأ العلّيّة إلى صفّ مبدأ الإرادة وقدرة الله، فالأمر أوضح؛ إذ إنّ الإمام أو النبيّ عندما يريد أن يأتي بالمعجز يطلب من الله تبارك وتعالى أن يتدخّل بإرادته وبقدرته البالغة، فيتدخّل فيكون المعجز خلافاً لمقتضى الطبيعة التي نألفها، أو يفترض أنّ الله تعالى أعطى المعصوم ولو جزئيّاً إمكانيّة أن يتدخّل هو بإرادته التي لا تخالف إرادة الله. وعلى أ يّة حال فالمعجز معترَف به من أوّل الأمر، ولا نقاش في ذلك.

أمّا لو أراد القائلون بالولاية التكوينيّة أنّ المعصوم(عليه السلام) يتمكّن دائماً أن يفعل ما يريد، أي: لا يعجز عن أيّ شيء، فهذا خلاف صريح القرآن، فالقرآن الكريم يقول: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيل وَعِنَب فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُف أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إلَّا بَشَراً رَّسُولاً﴾(1)، أي: أنّ هذه الاُمور خارجة عن قدرتي، فلو أنّ الله أراد أن أفعل فعلت، وحينما لا يريد لا أفعل، بل لا أستطيع أن أفعل.

وإذا تجاوزنا هذين التفسيرين، فقد يكون المراد بالولاية التكوينيّة أنّ الله عزّ وجلّ فوّض العالم وما يجري فيه إلى الإمام(عليه السلام)،



(1) سورة الإسراء، الآية: 90 ـ 93.

149

فالإمام هو الذي يُسيّر الأحداث، فإن كان هذا هو مقصود القائل بالولاية التكوينيّة، فعندئذ نقول: إنّ هذا ينقسم إلى قسمين أو يحتمل فيه احتمالان: إمّا أن يفترض أصحاب هذا الرأي أنّ الإمام يسيّر الأحداث وفق عللها الغائبة عنّا والتي عرّفها له الله تبارك وتعالى، فالإمام وفق العلل يسيّر الأحداث، وإمّا أن يفترض ـ ما يشبه مقولة المفوّضة ـ أنّ الله تبارك وتعالى كأنّما فوّض الاُمور إليهم، وبدلاً عن إرادة الله ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ تحلّ إرادة الأئمّة(عليهم السلام) ويقع ما يريدون، فهم الذين يريدون الحياة لمن يحيى ويريدون الموت لمن يموت، وهكذا، وبالإرادة مباشرةً يفعل الإمام مايريد.

فإن فُرض الأوّل ـ وهو: أنّ الله تبارك وتعالى أرشد الأئمّة(عليهم السلام)إلى علل الحوادث والأحداث، فيتصرفون في العالم وفق تحريك العلل ـ فهذا كلام في الوقت الذي لم أجد دليلاً عليه لا في كتاب ولا في سنّة، لا يوجد دليل مخالف ومعارض له في الكتاب والسنّة، ولا توجد لدينا ضرورة دينيّة تمنع عن القول بذلك.

أمّا لو قصدوا المعنى الثاني ـ وهو: أنّ الله فوّض إليهم الاُمور، فكما أنّ الله تبارك وتعالى يفعل ما يريد وما يشاء وبإرادته يُسيّر العالم كذلك نفترض الإمام(عليه السلام)، وكأنّه يحلّ محلّ الله تبارك وتعالى، وبإذنه سبحانه ومشيئته ـ فهذا في روحه يرجع إلى التفويض، أو إلى شِقٍّ من شقوق التفويض الذي ننكره كما ننكر الجبر ونقول: لا جبر ولا تفويض.

 

150

إنّ التفويض له معنيان وشِقّان: فتارةً يُفترض أنّ الله تعالى فوّض العالم إلى عباده وهو كأنّما ترك العالم، وعبادُه يفعلون ما يريدون. واُخرى يفترض: أنّ الله تبارك وتعالى فوّض العالم إلى قسم من عباده فقط وهم المعصومون(عليهم السلام). وهذا التفويض بشقّيه يخالف ظاهر الآيات المباركة التي تسند الاُمور دائماً ومباشرة إلى الله تعالى كما في الآيات التي أشرنا إليها، منها قوله تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ﴾، وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الاَْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿لن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا﴾، وما شابه ذلك.

كما أنّ هناك آيات اُخرى تقبل الحمل على نفس المعنى الذي ندّعيه، من قبيل قوله تعالى بالنسبة إلى المسيح(عليه السلام): ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي﴾(1)، فالمقطع الأوّل: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾ هو من القسم الذي ذكرناه من أنّ فعل البشر ينسبه إلى الله بالمعنى الذي شرحناه، فقد خلق من الطين كهيئة الطير ـ وكلّ إنسان يستطيع أن يخلق من الطين كهيئة الطير ـ وهو فعل البشر ومع ذلك فإنّ الله تعالى يقول: ﴿بِإِذْنِي﴾، وكلّ ما قام به عيسى (عليه السلام) هو بإذن الله، من إبراء الأكمه والأبرص وإخراج الموتى وغير ذلك. كما أنّ الآية الاُخرى تتحدّث عن لسان



(1) سورة المائدة، الآية: 110.

151

عيسى (عليه السلام): ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾(1).

إنّ كلمة ﴿بِإِذْنِي﴾ أو كلمة ﴿بِإِذْنِ اللّهِ﴾ في هذه الآيات المباركة هي على منوال الآية الاُخرى التي تقول: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إلَّا بِإِذْنِ الله﴾(2) الذي يعني أنّ الموت من قبل الله تعالى، فهو الذي يميت النفس، وهو الذي يميت الإنسان، ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إلَّا بِإِذْنِ الله﴾.

 

بعض روايات إثبات الولاية التكوينيّة للأ ئمّة(عليهم السلام):

 

أمّا الروايات التي قد يُتمسَّك بها لإثبات الولاية التكوينيّة للأئمّة (عليهم السلام)، فهي من قبيل ما ورد في زيارة الجامعة الكبيرة، كقوله(عليه السلام): « بِكُمْ فَتَحَ اللهُ وَبِكُمْ يَخْتِمُ وَبِكُمْ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَبِكُمْ يُمْسِكُ السَمَاءَ أنْ تَقَعَ عَلَى الاْرْضِ إلّا بِإذْنِهِ وَبِكُمْ يُنَفِّسُ الْهَمَّ... ». قد يفترض أنّ هذا يعني الولاية التكوينيّة، أي: أنّ الأئمّة(عليهم السلام) هم الذين يديرون الأرض والسماء والغيث وما شابه، وكذلك الرواية المعروفة أو الحديث القدسي المعروف على الألسن: « لولاك لما


(1) سورة آل عمران، الآية: 49.
(2) سورة آل عمران، الآية: 145.
152

خلقت الأفلاك »(1)، ومنها الروايات الواردة بعنوان: لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها، فيقال: إنّ حياة العالم مرتبطة بحياة الإمام والحجّة المعصوم، ولولاه لفنى وانتهى العالم، ومنها ما روي عن أبي حمزة: « قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لا، لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت »(2)، ورواية اُخرى، وهي التوقيع الشريف المعروف عن الإمام صاحب الزمان(عليه السلام) الذي أجاب فيه عن عدّة أسئلة من جملتها قوله(عليه السلام): « وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء »(3)، وعن الإمام الباقر(عليه السلام) يقول: « لو بقيت الأرض يوماً بلا إمام منّا، لساخت بأهلها، ولعذّبهم الله بأشدّ عذابه، إنّ الله تبارك وتعالى جعلنا حجّة في أرضه، وأماناً في الأرض لأهل الأرض، لن يزالوا في أمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، وإذا أراد الله أن يهلكهم ولا يمهلهم ولا يُنظِرهم، ذهب بنا من بينهم ورفعنا الله، ثُمّ يفعل الله ما يشاء وأحبَّ »(4)، وأمثال هذه الروايات كثيرة وهي شبه متواترة كلّها تدلّ على هذا المضمون، وعلى أنّ قوام العالم بالإمام المعصوم وبدونه ينتهي العالم.

 



(1) البحار 16: 406، الحديث 1.

(2) البحار 23: 28، الحديث 40.

(3) البحار 52: 92، الحديث 7.

(4) البحار 23: 37، الحديث 64.

153

فمجموع هذه الروايات لا شكّ في أنّها تعطي معنى مسلّماً عند أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، وهو أنّ قيام العالم ووجود العالم وسبب الحياة في العالم كلّه مرتبط بالإمام المعصوم، ولولاه لما كان شيء من هذا القبيل، إلّا أنّ هذا لا يعني ما يسمّى بالولاية التكوينيّة، فافتراض أنّهم ـ سلام الله عليهم ـ هم الذين يباشرون العمل الذي يفترض مباشرته من قبل الله تبارك وتعالى شيء، وافتراض أنّ الله تعالى هو الذي يديم العالم ويدير الاُمور ببركتهم ـ سلام الله عليهم ـ شيء آخر، وهذه الروايات إنّما دلّت على المفهوم الثاني ولم تدلّ على المفهوم الأوّل، فالاستدلال بها على مبدأ الولاية التكوينيّة بالمعنى الأوّل خلط بين المفهومين.

155

الفصل الخامس

 

 

قيادة الأئمّة (عليهم السلام)للمجتمع

 

 

○   الإمام(عليه السلام)والاُمّة.

○   تنوّع الأدوار القياديّة للأ ئمّة (عليهم السلام).