210

ما حصل؛ إذ تحركت الاُمّة على خطى الإمام الشهيد(عليه السلام)، وحصلت الثورات المعروفة في التأريخ.

 

تقييم الرأيين:

اختلف الرأيان في أغلب النقاط المثارة حول الثورة الحسينيّة إلى الدرجة التي جعلت لكلٍّ من اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) والكاتب (صالحي نجف آبادي) أرضيّته التي يقف عليها وينطلق منها، ولم يكن بينهما من قدر مشترك فيما أورداه من آراء سوى مسألة واحدة، وهي اتفاقهما على القول بأنّ الإمام الحسين(عليه السلام) قد عنون معارضته لحكم يزيد وخروجه بالثورة عليه بعنوان طلب الحكم الإسلاميّ: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً... وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي(صلى الله عليه وآله)»، بيد أنّ الاختلاف متضمّن أيضاً في توجيه هذا الادّعاء لكلٍّ من الطرفين، فاُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) يؤكّد أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) إنّما خرج لطلب الشهادة وهو يعلم بأنّه يستشهد، وأنّ إطلاقه عنوان طلب الحكم الإسلاميّ كان مجرّد شعار تعبوي وتغييري، بينما الكاتب (صالحي نجف آبادي) يؤكّد أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لم يكن يقصد في خروجه طلب الشهادة ولكنّه كان يقصد طلب الحكم الإسلاميّ، بل ولم يكن يعلم ظاهريّاً بأنّه سوف يُستشهد، وإلّا فلماذا أرسل ابن عمّه مسلم بن عقيل(عليه السلام) إلى الكوفة لكي يطلعه على أوضاع الناس ومقدار ولائهم واستعدادهم لمناصرته؟ ولماذا طلب من الحرّ بن يزيد الرياحي حينما كان آمراً

211

على جيش عبيد الله بن زياد أن يفكّ الحصار عنه ويسمح له بالرجوع من حيث أتى؟ ولماذا كرّر الإمام الحسين(عليه السلام) الطلب يوم عاشوراء؟

ألا يعني ذلك أنّ الإمام لم يكن قاصداً الشهادة وإنّما كان قاصداً الثورة على يزيد وقلب نظام الحكم وتأسيس حكومة إسلاميّة صحيحة برئاسته؟

وفي الحقيقة أنّ هذا الاستدلال الذي أورده هذا الكاتب سرعان ما يبطل وينهار؛ للسبب الذي ذكره اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره)، وهو: أنّ طرح عنوان الشهادة بمفرده لا يهزّ الضمائر، ولا يؤثّر في النفوس، ولا يؤدّي الأغراض التي استهدف الإمام(عليه السلام) تحقيقها، وعندئذ يكون من الطبيعيّ أن يرسل رسوله إلى الكوفة مسلم بن عقيل(عليه السلام)لكي يستطلع الاُمور له، ومن الطبيعيّ أيضاً أن يطالب الحرّ بن يزيد الرياحي حينما كان آمراً لجيش ابن سعد بفكّ الحصار عنه، أو يطالب أهل الكوفة المعسكرين حوله بالسماح له بالعودة؛ لأنّ غرض الإمام المعلن إنّما هو إقامة الحكومة العادلة وكان هذا شعار ثورته.

إنّ رأي صالحي نجف آبادي السالف الذكر وإن كان خيراً من الفكرة اللاواعية المتعارفة لدى بعض الناس والتي مفادها أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) ما خرج إلّا لكي يقتل، ولكي يكون مقتله مصاباً يستثير شيعته ويُبكيهم، وبالتالي يكون بكاؤهم عليه شفيعهم يوم القيامة وماحياً ذنوبهم ومُدخلهم الجنّة، ولكنّه لا يصلح رأيه أبداً للمقاومة

212

في مقابل رأي اُستاذنا الشهيد(قدس سره) على ما يتّضح من تقييم المفردات التي اختلفا عليها، فما ذكرناه الآن إنّما كان في دائرة الرأي الذي اتفقا عليه جزئيّاً.

أمّا الآراء التي اختلفا فيها بشكل كامل، فهي:

أوّلاً: أنّ الكاتب ( صالحي نجف آبادي ) يرى أنّ شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) ألحقت خسارة كبيرة بالإسلام ولم تكن في صالحه أبداً؛ إذ إنّ مصلحة الإسلام تقتضي أن يبقى الإمام الحسين(عليه السلام) حيّاً وأن يمارس عمله في قيادة الاُمّة وهدايتها لا أن يموت ويُقتل.

وفي المقابل يرى اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) أنّ شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) قد أحيت الإسلام، وكانت شجرة الإسلام بحاجة إلى أن تروى بدم كدم الحسين(عليه السلام) وقد اُرويت بهذا الدم المبارك.

ثانياً: أنّ الكاتب ( صالحي نجف آبادي ) يؤكّد أنّ الإمام لم يكن يعلم بأنّه سوف يستشهد، بل كان يتراءى له أنّه سوف ينتصر ويُقيم الدولة الإسلاميّة، وفي مقابل ذلك يؤكّد اُستاذنا الشهيد أنّ الإمام(عليه السلام)كان يعلم بأنّه سوف يستشهد وقد أقام عمله على أساس ذلك.

ثالثاً: أنّ الكاتب ( صالحي نجف آبادي ) يعتقد أنّ خسارة الإمام الحسين(عليه السلام) للمعركة ظاهريّاً لم تكن قابلةً للرصد والتخمين للإنسان الاعتيادي منذ البدء، وإنّما حصلت نتيجة توارد اُمور وعقبات صادفت حركة الثورة، فأعاقتها وأخلّت بميزان القوّة لصالح جيش ابن سعد، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد الإمام وأهل بيته وأصحابه.

وفي مقابل ذلك يرى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أنّ الاُمور منذ بدء حركة

213

الإمام(عليه السلام) لم تكن في صالح الانتصار الظاهريّ، ولم تكن تجري بالشكل الذي يكون في صالح إقامة الحكم الإسلاميّ. وبعبارة اُخرى: إ نّ الإمام(عليه السلام) كان يعلم حتّى بالحساب الظاهريّ لدى كلّ إنسان خبير بأنّه سيكون مغلوباً ومقتولاً، واُستاذنا الشهيد(قدس سره) يؤكّد أنّ هذه النتيجة هي في صالح الإسلام بحدّ ذاتها.

هذه هي النقاط الثلاث الخلافيّة بين وجهتَي نظر السيّد الشهيد(قدس سره)والكاتب (صالحي نجف آبادي). ولدى مناقشتنا لهذه الآراء نكتشف أنّ آراء الكاتب المذكور لا تصمد أمام الدليل ويبطل تأثيرها، فيما تكون آراء اُستاذنا(قدس سره) حائزة على أكبر قدر من المصداقيّة؛ لتماسّها مع الواقع وكشفها عنه.

فأمّا ما يتعلّق بالنقطة الاُولى، فقد استدلّ الكاتب المذكور على الرأي الذي طرحه في خصوص مسألة شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) من أنّها كانت خسارة كبيرة للإسلام، بدليلين:

الدليل الأوّل: ما هو مدى انتفاع الإسلام من شهادة الإمام الحسين(عليه السلام)؟ وماذا تقتضي المقارنة بين أن يكون الإمام(عليه السلام) حيّاً بين الناس يهديهم إلى الإسلام ويعلّمهم أحكام الدين ويقودهم، وبين أن يكون ميّتاً لا يفعل شيئاً من ذلك؟ واستنتج أنّ مصلحة الاُمّة والرسالة ليست في موت الإمام وإنّما هي في بقاء الإمام حيّاً لكي ينتفع الإسلام به.

الدليل الثاني: ما هو مدى تأثير استشهاد الإمام(عليه السلام) على الحكم الاُموي وعلى الفتوحات التي حصلت بعد استشهاده، كفتح بخارى

214

وسمرقند وأندونيسيا؟ لاشكّ في أنّ الحكم الاُموي كان قويّاً قبل شهادة الإمام الحسين(عليه السلام)، وظلّ قويّاً بعده، والدليل على ذلك هو قيامهم بالفتوحات المذكورة مباشرة بعد استشهاد الإمام، كما أنّ شهادة الإمام(عليه السلام) لم تزد في فضيحة بني اُميّة؛ إذ كانوا مفضوحين لدى الاُمّة من قبل، وقد سبق القول من معاوية لأهل العراق: «ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا... ولكنّي قاتلتكم لأتأمَّرَ عليكم»(1)!

بل على العكس، فبنو اُميّة تمكّنوا من توطيد حكمهم بقتلهم الإمام الحسين(عليه السلام) لتخلّصهم من قوّة معارضة كبيرة.

إنّ الكاتب ( صالحي نجف آبادي ) لم يقرّ بنتيجة إيجابيّة أسفرت عن شهادة الإمام سوى قوله بحصول فوائد جانبيّة، منها: تحوّل شهادة الإمام الحسين إلى مدرسة سيّارة عمّقت حبّ الحسين(عليه السلام) في قلوب محبّيه، وألهمتهم دروس التضحية والفداء، وعلّمتهم أحكام وأخلاق دينهم نتيجة مظلوميّته وتضحيته العظيمة في سبيل الإسلام.

إنّ الجواب عن هذه الاستدلالات يكمن في الرأي الذي طرحه اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) والذي سبق ذكره من أنّ ثمّة فائدة عظيمة ترتّبت على شهادة الإمام الحسين، ألا وهي علاجه للمرض الذي كانت الاُمّة مبتلاةً به، وهو مرض فقدان الإرادة أو فقدان الضمير؛ إذ كانت الاُمّة بحاجة إلى علاج جذري لإعادة إرادتها وثقتها بنفسها إليها، ولكي لا تستسلم أكثر لمؤامرات حكّام بني اُميّة، فجاءت شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) كعلاج للاُمّة من هذا المرض الوبيل، وفعلاً بعد شهادة الإمام استعادت الاُمّة ثقتها بنفسها، ونهضت معلنة صرخة



(1) البحار 44: 49.

215

الرفض لكلّ أشكال الحكم المنحرف، وحدثت ثورة التوّابين، وثورة المختار الثقفي، وثورة زيد بن عليّ وغيرها من الثورات، وكانت تعبّر هذه الثورات برغم انتكاستها عن مدى التأثير الذي أحدثته شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) في نفوس أبناء الاُمّة، وكانت تدلّل في الوقت نفسه على دخول الاُمّة في عهد جديد من أبرز ملامحه: المعارضة والثورة والعصيان، وهذا ما لم يحدث من قبل شهادة الإمام، كما أنّ ثمّة تأثيرات واستجابات حصلت لدى حكّام بني اُميّة نتيجة تصاعد هذه الروح، منها: استجابة الحاكم الاُموي عمر بن عبد العزيز وإصداره الأوامر برفع سبّ أمير المؤمنين من على منابر المسلمين، وكذلك الضعف الذي دبّ في أوصال حكم بني اُمّية، والذي أدّى تدريجيّاً إلى تقويضهم نهائيّاً.

أمّا ما ورد في ثنايا رأي الكاتب المذكور من أنّ علامة قوّة بني اُميّة بعد استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) قد تمثّلت بالفتوحات الإسلاميّة في بخارى وسمرقند وأندونيسيا، فإنّ هذا الادّعاء غير صالح البتة؛ وذلك لأنّ فتح هذه البلدان وإن كان صحيحاً قد حصل في زمن حكم بني اُميّة، لكنّه لا يدلّ بحال على قوّة بني اُميّة، وإنّما يدلّ على قوّة الإسلام في نفوس المسلمين، وأنّ مسألة فتح البلدان تعدّ من الاُمور التي يتّفق عليها جميع المسلمين حتّى المعارضين لحكم بني اُميّة؛ لأنّه يدخل في إطار محاربة الكفّار ونصرة الإسلام وتوسيع رقعة الحقّ، حتّى أنّ بعض حكّام بني اُميّة كان ينال الدعم من قبل بعض أئمّتنا(عليهم السلام) في مقابل الحكومات الكافرة بالتخطيط لصالح

216

الإسلام وضدّ الحكم الكافر، فهل يعدّ هذا قوّةً لبني اُميّة، أو دليلاً على قوّتهم، أو لا بل يدلّ على قوّة الإسلام في نفوسهم.

وأمّا ما يتعلّق بالنقطة الثانية، فإنّ الجواب عمّا ذكره الكاتب المذكور ـ من أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لم يكن يعلم بأنّه سوف يقتل، بل كان يعمل لتحقيق الانتصار وإقامة الحكم الإسلاميّ، وكانت الأمارات دالّة على إمكانيّة تحقّق ذلك ـ يكمن في الجواب عن السؤال التالي: لماذا لم يتجنّب الإمام الحسين(عليه السلام) الشهادة ـ لما يترتّب عليها من مضرّة كما زعم هذا الكاتب ـ بعد أن تغيّرت أمارات الانتصار واختلّ ميزان القوّة لصالح عدوّه؟ ألم يكن مقتضى العمل بعلم الظاهر المكلّف به الأئمّة(عليهم السلام) هو أن يغيّر الإمام قناعاته بإمكانيّة الانتصار ويتجنّب القتل، وكان ظاهر الاُمور أنّ اُناساً طلبوا منه أن يأتي إلى العراق بعد أن بايعوه على النصرة ومجاهدة الظالمين، وبذلك تمّت الحجّة عليه بالمجيء إلى العراق، وقد جاء فعلاً، ولكن تبيّن له فيما بعد أنّ الاُمور قد تغيّرت، وأنّ الناس قد تبدّل موقفهم منه تحت تأثير سياسة ابن زياد القائمة على الترهيب والترغيب، فلماذا لم يتجنّب المواجهة التي فيها قتله وقتل أهل بيته وأصحابه وسبي نسائه بعد أن تغيّر ظاهر الأمر؟

إنّ الحقيقة قاطعة على أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان يعلم بأنّه سوف يقتل وتُسبى نساؤه، وغير مرّة كان قد صارح أصحابه بعاقبة القتل والشهادة، وقد خيّرهم بالانصراف عنه أو البقاء معه واستقبال هذه النتيجة، وعلى هذا الأساس استمرّ بالمسير إلى العراق برغم علمه

217

بمقتل رسوله إلى الكوفة ابن عمّه مسلم بن عقيل(عليه السلام)، وتغيّر الأوضاع في الكوفة، ألا يدلّ هذا على أنّ الإمام كان يعلم بمصيره وكان يطلبه وقد سعى إليه حثيثاً، إلى أن نال مرتبة الشهادة العظيمة، فكان دمه الطاهر ثورةً للأجيال منذ استشهاده وإلى ظهور ولده الحجّة عجّل الله فرجه.

وأمّا ما يتعلّق بنقطة الخلاف الثالثة، فقد استدلّ الكاتب المذكور ـ على اعتقاده بأ نّ ثمّة اُموراً استجدّت ولم يكن للإمام علم سابق بها، أعاقت حركة الثورة وأخلّت بميزان القوّة لصالح ابن زياد، فسبّبت خسارة المعركة ظاهريّاً للإمام ـ بذكر سببين:

الأوّل: ادّعاؤه بأنّ عبيد الله بن زياد أجبر مسلم بن عقيل(عليه السلام) على تزعّم الثورة عندما جابهه بالسيف في الوقت الذي لم يكن مسلم بن عقيل(عليه السلام) مكلّفاً بتزعّم الثورة والتخطيط لها، وإنّما كانت مهمّته ـ حصراً ـ هي استطلاع الأوضاع في الكوفة وإبلاغ الإمام بالنتائج التي يصل إليها ويشاهدها، لكن هذا التزعّم المفاجئ للثورة من قبل مسلم بن عقيل أدّى إلى تفجير الثورة قبل أوانها، وكان ذلك سبباً لفشلها وتحمّل الإمام الحسين(عليه السلام) عبء هذا الفشل!

الثاني: قيام جيش الحرّ بن يزيد الرياحي بمنع الإمام الحسين من الدخول إلى الكوفة والحيلولة دون تزعّمه الثورة، الأمر الذي أدّى إلى حصول انفصال بين القائد والقاعدة الجماهيريّة، فتبدّلت عندئذ مقاييس القوّة والنصر لصالح عبيد الله بن زياد.

وهذا الأمر أيضاً لم يكن في حسبان الإمام الحسين(عليه السلام).

والجواب عن هذين السببين هو: أنّنا وإن كنّا نعتبر الواقعتين

218

اللتين ذكرهما الكاتب آنفاً صحيحتين، إلّا أنّنا نخالفه بادّعاء أنّهما حدثتا على حين غرّة وقد فوجئ الإمام بهما؛ إذ إنّ من أوّليّات قيادة الثورات توقّع القائد إمكانيّة اندلاع الثورة قبل أوانها أو قبل ساعة الصفر التي تقرّرت لها، وهذا احتمال وارد بنسبة كبيرة؛ لأنّ السلطات غالباً ما تحرص على مواجهة الثورات مبكّراً لجرّها للمواجهة قبل اكتمال شروطها، وهذا ما يدعونا للاعتقاد بأنّ ما حدث لمسلم بن عقيل(عليه السلام) في الكوفة لم يكن صدفة وأمراً غير متوقّع، فالكوفة كانت تحت سلطان بني اُميّة، والإمام يعلم بذلك، وكان يتوقّع حدوث المواجهة بين السلطات وبين رسوله، ولهذا ما انفكّ الإمام يتابع أخبار ابن عمّه ويستبين اُموره إلى أن بلغه خبر قتله ـ في منطقة الثعلبيّة في طريقه إلى العراق ـ وانفضاض الناس من حوله، فحزن لذلك حزناً كبيراً، وواصل مسيره معتبراً أنّ ما حدث لم يكن صدفة وإنّما هو أمر متوقّع. وقد سأله بعض أصحابه عن موقفه بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وفيما إذا كان ينوي الرجوع إلى مكّة أو الاستمرار بالمسير إلى العراق، فأجابهم الإمام بالاستمرار بالمسير إلى نهاية المطاف. وحتّى عندما بلغه خبر مقتل رسوله الثاني إلى الكوفة بعد مسلم بن عقيل (قيس بن مسهّر الصيداوي) أو (عبد الله بن يقطر) على اختلاف في التأريخ، لم يثنه هذا الحادث أو يضعف في عزيمته، وواصل مسيره إلى العراق بالبقيّة المخلصة من أصحابه بعد انفضاض نفر قليل عنه وإجازته ذلك لهم.

إنّ هاتين الحادثتين، بالإضافة إلى حادثة منعه من دخول الكوفة

219

بعد أن أحال جيش الحرّ بن يزيد الرياحي بينه وبينها ـ وقد شبّه الكاتب المذكور هذه الأخيرة بحادث رفع المصاحف في معركة صفّين الذي وقع صدفة ـ إنّما تدلّ على عزيمة الإمام وإصراره على بلوغ هدفه النهائي وهو الشهادة، وكذلك تدلّ على وضوح رؤية الإمام للمواجهة والتحدّيات والمصاعب. وقد أمكنه من تجاوزها جميعاً وعدم الاكتراث بها إلّا بمقدار ما أبداه من عواطف تجاه المحن التي لاقته.

وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة خطأ آخر وقع فيه هذا الكاتب عندما صوّر حادثة منع الإمام من الدخول إلى الكوفة بأنّها مصادفة بحت وتشبه إلى حدٍّ بعيد حادثة رفع المصاحف التي صادفت الإمام عليّ(عليه السلام) في معركة صفّين؛ إذ إنّ حادثة منع الإمام من الورود إلى الكوفة لا تشبه بأيّ حال من الأحوال حادثة رفع المصاحف؛ لأنّ الحادثة الاُولى هي من سنخ الحوادث المتوقّعة الواردة في احتمالات المواجهة بين قوّة معارضة وبين سلطة تخشى من امتدادات التأثير في أوساط المجتمع والقواعد الشعبيّة، فيما تعتبر حادثة رفع المصاحف من الحوادث غير المتوقّعة في تأريخ الثورات والأحداث السياسيّة، وبالخصوص في التأريخ الإسلاميّ؛ لعدم وجود سابق لها في الإسلام، ولهذا فلا تشابه بين الحادثتين وبين حكميهما.

وفي النتيجة النهائيّة يتبيّن أنّ الكاتب المذكور كان مخطئاً في جميع آرائه التي سبقت الإشارة إليها والمتعلّقة بالثورة الحسينيّة.

220

فيما تعتبر آراء اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) هي الصحيحة في تحليل الثورة الحسينيّة، والهدف الذي كانت تتوخّاه، والغاية التي ضحّى الإمام السبط من أجلها. وكانت هذه الغاية هي الدالّة الكبيرة على حكمة القائد وهدفيّته في سبيل إعادة الاُمّة إلى سابق عهدها وشجاعتها وأصالتها بعد أن غزا عقلها وروحها المرض نتيجة المؤامرات الكبيرة التي تعرّضت لها من قبل السلطات المنحرفة التي تسلّمت زمام التجربة الإسلاميّة بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فكانت شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) علاجاً ناجعاً في تخليص الاُمّة من مرض فقدان الإرادة وموت الضمير؛ إذ هبّت الاُمّة بعد حين تقارع الظالمين، وتنادي بتحكيم الإسلام المحمّدي، وظلّت هذه الروح سارية إلى يومنا هذا، وستبقى إلى أن يظهر المصلح من آل البيت(عليهم السلام)الإمام الحجّة عجّل الله فرجه.

 

الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

 

على الرغم من أنّ الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام) كان في زمن تصدّيه للإمامة غير مبسوط اليد إلّا أنّه نال منزلة رفيعة في نفوس أبناء الاُمّة لم ينلها أحد سواه في زمانه، وقصّة هشام بن عبد الملك معروفة عندما أقدم إلى مكّة ليحجّ وأراد أن يطوف بالكعبة ومن ثَمّ يستلم الحجر الأسود فلم يتمكّن من ذلك بسبب شدّة الزحام، ولكن عندما أقدم الإمام زين العابدين(عليه السلام) انشقّ الناس له سماطين،

221

وتمكّن من الوصول إلى الحجر الأسود بسهولة ومن غير حرج، الأمر الذي جعل هشام بن عبد الملك يتعجّب ويسأل عن هذا الذي انفرج الناس له محاولاً تجاهل الإمام، فعُرّف به وسكت.

إنّ هذه الواقعة وعشرات أمثالها تشير وتؤكّد مدى احترام الناس للإمام في الوقت الذي تزدري السلطان وتحتقره.

إنّ احترام الناس للإمام زين العابدين(عليه السلام) إنّما جاء نتيجة المعرفة الحقيقيّة بمنزلة الإمام ودوره الديني والاجتماعي، وبعبارة اُخرى: إنّ نمط قيادة الإمام للمجتمع هو الذي أدّى إلى حصول هذا التأثير الكبير في نفوس أبناء الاُمّة على الرغم من أنّه لم يكن مبسوط اليد وكان معزولاً من قبل السلطة الظالمة ومحارباً منها، وعلى الرغم من أنّ الاُمّة كانت تعاني من قسوة وتهوّر حكّام بني اُميّة من أمثال يزيد بن معاوية ـ الذي هدم الكعبة واستباح المدينة ثلاثة أيّام وعمل المنكرات ـ لكن ذلك لم يثنِ الإمام عن ممارسة دوره القيادي والاجتماعي، كما لم يثنِ الاُمّة من الانشداد للإمام(عليه السلام) والانقياد له.

لقد تميّز الدور القيادي للإمام(عليه السلام) بالعمل على تحقيق ثلاث مهمّات في آن واحد:

الاُولى: الاستمرار في سياسة فضح سلطة بني اُميّة والتعريف بحقيقتها.

الثانية: إعداد الاُمّة فكريّاً ونفسيّاً لتحمّل المسؤوليّات.

الثالثة: دعم ومساندة الحركات الثوريّة الشيعيّة.

أمّا الأساليب التي اتّبعها الإمام في تنفيذه لهذه المهمّات الثلاث، فهي:

222

 

أ ـ الاُسلوب العاطفي غير المباشر لفضح سلطة بني اُميّة:

ذلك من خلال إظهارالإمام(عليه السلام) الحزن العميق والبكاء على مصيبة أبيه الإمام الحسين(عليه السلام)، واستغلال الفرص والمناسبات لاستنفار عواطف الناس وأحاسيسها باتجاه الانشداد والولاء لآل البيت(عليهم السلام)، وكان هذا العمل يعني بشكل غير مباشر فضح الظالمين، ظالمي أئمّة آل البيت(عليهم السلام)، وبالخصوص حكّام بني اُميّة، وللمثال نذكر هذه الواقعة المشهورة: عندما رأى الإمام ذات يوم قصّاباً يهمّ بذبح كبش له، فاقترب الإمام من القصّاب وسأله: يا هذا هل سقيت الكبش ماءً قبل أن تذبحه؟ فأجابه القصّاب: نعم، نحن معاشر القصّابين لا نذبح الحيوان حتّى نسقيه ماءً. وهنا بكى الإمام وأخذ ينتحب ويندب أباه الإمام الحسين(عليه السلام)، وأخذ يعرّف بمصيبته؛ إذ قتل عطشاناً.

إنّ حادثةً مثل هذه تكشف عن دقّة الاُسلوب الذي اتّبعه الإمام(عليه السلام) للتأثير في نفوس الناس وعواطفهم ولشحذ هممهم ضدّ السلطات الكافرة.

 

ب ـ اُسلوب العبادات والأدعية للتأثير في الاُمّة نفسيّاً وفكريّاً:

لقد تميّز الإمام بكثرة الدعاء والصلاة وطول القنوت، واشتهر بالصحيفة السجاديّة، وهي مجموعة الأدعية التي كان يدعو بها والتي تحتوي على تراث غنيٍّ من المفاهيم التربويّة والأخلاقيّة ذات البعد التغييري.

 

223

أمّا أساليبه العباديّة الاُخرى ذات التأثير التغييري الكبير، فنذكر هذه الحادثة على سبيل المثال والشاهد لها، وهي موقف الإمام وأخلاقه الخاصّة مع عبيده وإمائه. فقد ورد: «كان عليّ بن الحسين(عليهما السلام) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة. وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا ولم يعاقبه، فيجتمع عليهم الأدب (يعني استحقاق التأديب)، حتّى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله، ثمّ أظهر الكتاب، ثمّ قال: يا فلان، فعلت كذا وكذا ولم اُؤدّبك أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا بن رسول الله. حتّى يأتي على آخرهم ويقرّرهم جمعياً. ثمّ يقوم وسطهم ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا عليّ بن الحسين، إنّ ربّك قد أحصى عليك كلّما عملت كما أحصيت علينا كلّ ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحقّ ﴿لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً﴾ ممّا أتيت ﴿إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾، وتجد كلّ ما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كلّ ما عملنا لديك حاضراً، فاعفُ واصفح كما ترجو من المليك العفو وكما تحبّ أن يعفو عنك، فاعفُ عنّا تجده عفوّاً وبك رحيماً ولك غفوراً ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾، كما لديك كتاب ينطق بالحقّ علينا لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً ممّا أتيناها إلَّا أحصاها، فاذكر يا عليّ بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربّك الحَكَم العَدل الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل ويأتي بها يوم القيامة وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعفُ واصفح يعفو عنك المليك ويصفح، فإنّه يقول: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾. وهو ينادي بذلك

224

على نفسه ويلقِّنهم، وهم ينادون معه وهو واقف بينهم يبكي وينوح، ويقول: ربّ إنّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، فقد ظلمنا أنفسنا، فنحن قد عفونا عمّن ظلمنا كما أمرت، فاعف عنّا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين، وقد أنخنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءَك، فامنن بذلك علينا ولا تخيّبنا، فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمني إذ كُنت من سُؤّالك وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم. ثمّ يُقبِل عليهم (أي على العبيد والإماء) فيقول: قد عفوت عنكم فهل عفوتم عنّي وممّا كان منّي إليكم من سوء ملكة، فإنّي مليك سوء لئيم ظالم مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضّل؟ فيقولون: قد عفونا عنك يا سيّدنا وما أسأت. فيقول لهم: قولوا اللهمّ اعف عن عليّ بن الحسين كما عفا عنّا، فأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرقّ. فيقولون ذلك. فيقول: اللّهم آمين ربّ العالمين. اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي. فيعتقهم، فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس. وما من سنة إلّا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رأساً إلى أقلّ أو أكثر، وكان يقول: إنّ لله تعالى في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف ألف عتيق من النار كلاًّ قد استوجب النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه، وإنّي لاُحبّ أن يراني الله وقد أعتقتُ رقاباً في ملكي في دار

225

الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار»(1).

هذه قصّة واحدة من عشرات القصص التي تروى من عبادات الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام) والتي تستبطن توجيهاً أخلاقيّاً فريداً للمجتمع.

 

ج ـ دعم ومساندة الحركات الثوريّة الشيعيّة:

لقد حفل تأريخ الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام) بمواقف مؤيّدة ومناصرة للحركات الثوريّة الشيعيّة التي ظهرت في أعقاب شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) ترفع لواء الثأر من قتلة الإمام الشهيد، وكان الإمام زين العابدين(عليه السلام) يستهدف من وراء دعمه لهذه الثورات والحركات استثمار الحالة التي خلقتها واقعة كربلاء في نفوس الاُمّة، وتوجيهها نحو الأهداف التي استشهد من أجلها الإمام الحسين(عليه السلام)، والشواهد على دعم الإمام لهذه الثورات كثيرة نختار منها قصّة دعمه لثورة المختار الثقفي:

فقد ورد: إنّ اُناساً من أنصار المختار اجتمعوا عند عبد الرحمن بن شريح، فقالوا له: «إنّ المختار يريد الخروج بنا للأخذ بالثأر، وقد بايعناه ولا نعلم أرسله إلينا محمّد بن الحنفية أم لا (يظهر أنّ الأمر كان ملتبساً على الشيعة آنذاك، ولم يكن واضحاً لديهم مَن هو الإمام بعد الحسين(عليه السلام)، أهو محمّد بن الحنفية أم عليّ بن الحسين(عليه السلام))،


(1) البحار 95: 186 ـ 188.
226

فانهضوا بنا إليه نخبره بما قَدِمَ به علينا، فإن رخّص لنا اتّبعناه، وإن نهانا تركناه»، فخرجوا وجاؤوا إلى ابن الحنفية، فسألهم عن الناس، فخبّروه وقالوا: «لنا إليك حاجة»، قال: «سرّ أم علانية؟»، قلنا: «بل سرّ»، قال: «رويداً إذن»، ثمّ مكث قليلاً وتنحّى ودعانا، فبدأ عبد الرحمن بن شريح بحمد الله والثناء، وقال: «أمّا بعد، فإنّكم أهل بيت خصّكم الله بالفضيلة وشرّفكم بالنبوّة وعظّم حقّكم على هذه الاُمّة، وقد اُصبتم بحسين مصيبة عمّت المسلمين، وقد قدم المختار يزعم أنّه جاء من قبلكم، وقد دعانا إلى كتاب الله وسنّة نبيّه والطلب بدماء أهل البيت، فبايعناه على ذلك، فإن أمرتنا باتّباعه اتّبعناه، وإن نهيتنا اجتنبناه».

فلمّا سمع كلامه وكلام غيره حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ وقال: «أمّا ما ذكرتم ممّا خصّنا الله، فإنّ الفضل لله ﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، وأمّا مصيبتنا بالحسين، فذلك في الذكر الحكيم، وأمّا الطلب بدمائنا قوموا بنا إلى إمامي وإمامكم عليّ بن الحسين». فلمّا دخل ودخلوا عليه أخبر خبرهم الذي جاؤوا لأجله، قال: «يا عمّ، لو أنّ عبداً زنجيّاً تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته، وقد ولّيتك هذا الأمر فاصنع ما شئت»، فخرجوا وقد سمعوا كلامه وهم يقولون: «أذن لنا زين العابدين(عليه السلام)ومحمّد بن الحنفية»(1). وخرجوا مع المختار إلى آخر القصّة.

 



(1) البحار 45: 364 ـ 365.

227

ويظهر من هذه القصّة كيف أنّ الإمام يدعم الحركات المناوئة لبني اُميّة والمطالبة بالحقّ لأهل البيت(عليهم السلام)؟

 

تقييم الثورات الشيعيّة:

إنّ الحديث عن الثورات الشيعيّة وموقف الأئمّة منها لابدّ وأن يجرّ إلى الحديث عن اتجاهات هذه الثورات وولائها للأئمّة؛ إذ إنّ الروايات تتضارب بشأن الأهداف التي تبنّتها هذه الثورات الشيعيّة المعارضة للحكّام، وهل حقّاً تنطبق هي مع الشعار الذي رفعته بعض هذه الثورات وهو تسليم الأمر إلى الرضا من آل محمّد(صلى الله عليه وآله)، أو أنّ هذا مجرّد ادعاء استفادت منه القيادات في تحريض الناس وتعبئتهم لغرض استلام السلطة، كما في بعض الثورات التي قادها بعض أحفاد الإمام الحسن(عليه السلام) وكانوا في حقيقة الأمر يطلبون الأمر لأنفسهم؟

وعلى أيّة حال فإنّ تفسير ظاهرة الثورات في ذلك العصر يقبل ثلاثة احتمالات:

أحدها: ـ وقد مال إليه اُستاذنا الشهيد(قدس سره)، ويستشفّ من بعض محاضراته ـ أنّ هذه الثورات كانت مرضيّة من قبل أئمّتنا(عليهم السلام)، وأنّ الأئمّة كانوا يشجّعون على أعمال من هذا القبيل، كما يستفاد من قول الإمام الصادق(عليه السلام): « لا أزال وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمّد، ولوددت أنّ الخارجي من آل محمّد خرج وعليّ نفقة عياله»(1).

 


(1) البحار 46: 172، الحديث 21.
228

وهذا الاحتمال وارد جدّاً، فسياسة الأئمّة(عليهم السلام) كانت تناسب تبنّي هذه الثورات سرّاً وتوجيهها بشكل غير مباشر، لتفادي المواجهة المباشرة مع السلطات، وبهذا الاُسلوب أمكن للأئمّة(عليهم السلام) المحافظة على روح الثورة في الاُمّة، وفي نفس الوقت أمكن لهم الاحتفاظ بمكانتهم الشخصيّة في المجتمع من أجل المحافظة على مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) كمدرسة حيّة ومعطاءة.

ثانيها: أنّ قيادات هذه الثورات كانوا يخرجون ـ باستثناء زيد بن عليّ، وحسين بن عليّ صاحب الفخّ ـ بغير رضا أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) إمّا لأنّهم لم يكونوا يؤمنون بإمامتهم(عليهم السلام)، وإمّا لأنّ الأئمّة(عليهم السلام) لم يكونوا يرون أنّ الأوضاع تناسب الثورة آنذاك.

ثالثها: أنّ الأئمّة(عليهم السلام) كانوا يؤيّدون أصل حدوث هذه الثورات، أي: يؤيّدونها مبدئيّاً، لكنّهم في الوقت ذاته كانوا يعارضون قياداتها التي تدّعي الإمامة لأنفسها.

أمّا بالنسبة إلى الروايات الواردة بشأن الثورات الشيعيّة وهي تمدح بعض هذه الثورات وتذمّ وتقدح ببعضها الاُخرى، فتوجد عدّة روايات ذامّة بشأن عبد الله وابنه محمّد، وإبراهيم ويحيى، وتوجد روايات مادحة بشأن الحسين بن عليّ صاحب الفخّ، إلّا أنّ هذه الروايات وردت في مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الإصفهاني، وأبو الفرج الإصفهاني متّهم بالزيديّة، فتكون رواياته كذلك متّهمة.

أمّا بالنسبة إلى زيد بن عليٍّ(رحمه الله)، فتوجد روايات مادحة له كثيرة، بيدَ أنّ ثمّة روايات اُخرى تشير إلى عدم رضا أئمّتنا(عليهم السلام) بثورته

229

وبالثورات الاُخرى التي هي مثل ثورة زيد بن عليّ. ولهذا سوف نقتصر على ذكر روايتين من الروايات المادحة لثورة زيد بن عليّ(رحمه الله)، ثمّ نشير إلى الروايات التي تذمّها، لنستنتج أخيراً الموقف الصحيح من مجموع هذه الروايات المتضاربة:

الرواية الاُولى: ما وردت في قصّة ولادة زيد(رحمه الله) وهي: «عن الثمالي قال: كنت أزور عليّ بن الحسين في كلّ سنة مرّة في وقت الحجّ، فأتيته سنةً من ذاك وإذا على فخذيه صبيٌّ، فقعدت إليه، وجاء الصبيّ فوقع على عتبة الباب فانشجّ، فوثب إليه عليّ بن الحسين(عليهما السلام)مهرولاً، فجعل ينشّف دمه بثوبه ويقول له: يا بني، اُعيذك بالله أن تكون المصلوب في الكُناسة. قُلت: بأبي أنت واُمّي أيّ كُناسة؟ قال: كناسة الكوفة. قلت: جُعلت فداك، ويكون ذلك؟ قال: إي والذي بعث محمّداً بالحقّ إن عشتَ بعدي لترينّ هذا الغلام في ناحية من نواحي الكوفة مقتولاً مدفوناً، منبوشاً مسلوباً، مسحوباً مصلوباً في الكُناسة، ثمّ يُنزّل فيحرق ويُدقّ ويُذرّى في البرّ. قلت: جُعلت فداك، وما اسم هذا الغلام؟ قال: هذا ابني زيد، ثمّ دمعت عيناه، ثمّ قال: ألا اُحدّثك بحدث ابني هذا؟ بينا أنا ليلة ساجد وراكع إذ ذهب بيَ النوم من بعض حالاتي، فرأيت كأنّي في الجنّة، وكأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين قد زوّجوني جاريةً من حور العين فواقعتها، فاغتسلت عند سدرة المنتهى وولّيت وهاتف بي يهتف ليهنئك زيد، ليهنئك زيد، ليهنئك زيد، فاستيقظت فأصبت جنابة، فقمت فتطهّرت للصلاة وصلّيت صلاة الفجر، فُدقّ الباب وقيل لي: على الباب رجل يطلبك. فخرجت فإذا أنا برجل معه

230

جارية ملفوف كمّها على يده، مخمّرة بخمار، فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أردت عليّ بن الحسين(عليه السلام). قلت: أنا عليّ بن الحسين. فقال: أنا رسول المختار بن أبي عبيد الثقفي يُقرئك السلام ويقول: وقعت هذه الجارية في ناحيتنا فاشتريتها بستّ مئة دينار، وهذه ستّ مئة دينار فاستعِن بها على دهرك. ودفع إليّ كتاباً، فأدخلت الرجل والجارية وكتبت له جواب كتابه، وتثبّت الرجل، ثمّ قلت للجارية: ما اسمك؟ قالت: حوراء. فهيّؤوها لي وبِتّ بها عروساً، فعلقت بهذا الغلام فسميّته زيداً، وهو هذا، سترى ما قلت لك.

قال أبو حمزة: فوالله ما لبثت إلّا برهةً حتّى رأيت زيداً بالكوفة في دار معاوية بن إسحاق، فأتيته فسلّمت عليه ثمّ قلت: جُعلت فداك، ما أقدمك هذا البلد؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكنت أختلف إليه، فجئت إليه ليلة النصف من شعبان، فسلّمت عليه ـ وكان ينتقل في دور بارق وبني هلال ـ فلمّا جلست عنده قال: يا أبا حمزة، تقوم حتّى نزور قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). قلت: نعم جُعلت فداك. ثمّ ساق أبو حمزة الحديث حتّى قال: أتينا الذكوات البيض فقال: هذا قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). ثمّ رجعنا فكان من أمره ما كان، فوالله لقد رأيته مقتولاً مدفوناً، منبوشاً مسلوباً، مسحوباً مصلوباً قد اُحرق ودقّ في الهواوين وذُرّي في العريض من أسفل العاقول»(1).

الرواية الثانية: قصّة وقعت بين المأمون وبين الإمام الرضا(عليه السلام)


(1) البحار 46: 183 ـ 184، الحديث 48.
231

حول زيد بن موسى بن جعفر الذي خرج على المأمون واعتقل من قبله. وتقول الرواية: «لمّا حُمل زيد بن موسى بن جعفر إلى المأمون ـ وقد كان خرج بالبصرة وأحرق دور ولد العباس ـ وهب المأمون جرمه لأخيه عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) وقال له: يا أبا الحسن،لئن خرج أخوك وفعل ما فعل لقد خرج قبله زيد بن عليّ فقتل، ولولا مكانك منّي لقتلته، فليس ما أتاه بصغير. فقال الرضا(عليه السلام): يا أمير المؤمنين، لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن عليّ(عليه السلام)؛ فإنّه كان (يعني زيد بن عليّ) من علماء آل محمّد، غضب لله عزّ وجلّ، فجاهد أعداءه حتّى قُتل في سبيله، ولقد حدّثني أبي موسى بن جعفر(عليه السلام): أنّه سمع أباه جعفر بن محمّد يقول: رحم الله عمّي زيداً، إنّه دعا إلى الرضا من آل محمّد، ولو ظفر لَوفى بما دعا إليه، وقد استشارني في خروجه، فقلت له: يا عمّ، إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكُناسة فشأنك. فلمّا ولّى قال جعفر بن محمّد: ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه. فقال المأمون: يا أبا الحسن، أليس قد جاء في من ادّعى الإمامة بغير حقّها ما جاء؟! فقال الرضا (عليه السلام): إنّ زيد بن عليّ(عليه السلام) لم يدّعِ ما ليس له بحقّ، وإنّه كان أتقى لله من ذاك، إنّه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد، وإنّما جاء ما جاء فيمن يدّعي أنّ الله نصّ عليه ثمّ يدعو إلى غير دين الله، ويضلّ عن سبيله بغير علم، وكان زيد والله ممّن خوطب بهذه الآية: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾»(1).

 



(1) المصدر السابق: 174 ـ 175، الحديث 27.

232

وتوجد في قبال هاتين الروايتين اللتين وردتا بشأن زيد بن عليّ(رحمه الله) تمدحانه، روايات تذمّ زيد بن عليّ، وتذمّ ثورات اُخرى حصلت بعد زيد بن عليّ. وحينما نستقرئ الروايات الذامّة نجدها على قسمين، ويمكن تفسير كلّ قسم بتفسير معيّن:

أمّا القسم الأوّل من الروايات الذامّة، فقد وردت تذمّ أصل الثورات بغضّ النظر عن قياداتها والأشخاص القائمين بها. نذكر منها رواية واحدة، وهي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «اتقوا الله (خطاب موجّه لاُناس عزموا الخروج على السلطة وقتئذ) وانظروا لأنفسكم، فإنّ أحقّ من نظر لها أنتم (أي: لا يصلح خروجكم قبل التثبّت من شرعيّة الخروج)، لو كان لأحدكم نفسان فقدّم إحداهما وجرّب بها استقبل التوبة بالاُخرى كان، ولكنّها نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة. إن أتاكم منّا آت يدعوكم إلى الرضا منّا، فنحن نستشهدكم أ نّا لا نرضى، إنّه لا يطيعنا اليوم وهو وحده، فكيف يطيعنا إذا ارتفعت الرايات والأعلام؟!»(1).

إنّ تفسير هذا النوع من الروايات يمكن من خلال الجمع بينها وبين الروايات المادحة للثورات، فمن المستبعد أ ن تكون الروايات الواردة في تأييد الثورات الشيعيّة كاذبة، سواء افترضنا صدورها عن محبّ لأهل البيت(عليهم السلام) ومن ثقاتهم، أم افترضنا أنّها صدرت عن أعداء أهل البيت(عليهم السلام) وهي من مفترياتهم؛ لأنّ شيعة أهل البيت(عليهم السلام)


(1) المصدر السابق: 178، الحديث 35.
233

لا يُحتمل منهم الافتراء والكذب على الأئمّة(عليهم السلام) بما يورّطهم في الهلاك، وذلك بأن ينسبوا إليهم كذباً تأييد الثورات؛ ولأنّ أعداء أهل البيت لا يؤمنون بالثورة عادة، بل ويتعاونون مع السلطة الظالمة، وحينما يريدون الكذب والافتراء على الأئمّة(عليهم السلام) فلا بُدّ أن يكون كذبهم في صالح السلطة وليس ضدّها، فمدح هذه الثورات المناهضة للسلطات الظالمة لا يحتمل صدورها عن أعداء أهل البيت(عليهم السلام)، كما أنّ هذه الروايات غير مرويّة عن طريق الزيديّة كروايات مقاتل الطالبيين حتّى نقول: إنّ الزيديّة كذبوا واخترعوها.

وإذن ففي أغلب الظنّ أنّ الروايات المادحة هي صادقة، أمّا الروايات الذامّة ـ كالرواية السابقة ـ فعلى كلا التقديرين ـ أي: سواء افترضنا وصولها عن طريق اُناس غير ثقات، أو عن طريق اُناس ثقات ـ فإنّ تفسيرها واضح، فلو كانت صادرة عن غير الثقات، فهي من مفترياتهم على الأئمّة(عليهم السلام)، وتصبّ في صالح السلطة، وهذا أمر مألوف وقتئذ؛ إذ كانت السلطات الظالمة تجنّد الكاذبين لخدمة مصالحها.

وأمّا إذا كانت هذه الروايات صادرةً عن الأئمّة(عليهم السلام) حقّاً، فإنّه من الطبيعي أن يمارس الإمام المعصوم معها اُسلوب التقيّة لكي لا تُنسب إليه ولا يكون مسؤولاً عنها، ولو تصوّرنا أ نّ الإمام المعصوم يرضى بنسبة الثورات الشيعيّة إلى شخصه، لكان من الأولى عليه أن يثور هو كما ثار الإمام الحسين (عليه السلام)، لكن حينما لا يريد المعصوم أن تنسب هذه الثورات إليه فمن الطبيعي أن يقول: أنا غير راض عن

234

الذين يدعون إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله). فالإمام الذي يريد أن يفصل بينه وبين هذه الثورات ـ كي يجمع بين شيئين في آن واحد، بين سلامة نفسه وإيفاء دوره في قيادة الاُمّة وهدايتها، وبين الثورات ضدّ الظلم ـ يكون من المتوقّع صدور مثل هذه الروايات عنه، على العكس من الروايات المادحة لهذه الثورات، فمن المتوقّع عدم وصولها إلينا بسبب ظروف التقيّة حيث يمتنع الإمام من التصريح أمام الناس، وقد يكتفي بالتصريح أمام الخواصّ من أصحابه لكي يمنحها الشرعيّة على خلاف الروايات الذامّة، فظرف التقيّة يجعل الإمام يصرّح بذمّها أمام عموم الناس، وهذا هو الذي أفهمه واُقدّره من مجمل هذه الروايات المتعارضة.

وأمّا القسم الثاني من الروايات الذامّة ـ بحسب تقسيمنا الثنائي لها ـ فهي التي تحكي خلافاً فكريّاً بين أئمّتنا(عليهم السلام) وبين الثائرين حول مبدأ الإمامة ومصداقها، فأئمّتنا كانوا يعتقدون أنّهم الأئمّة المنصوص عليهم والمنصَّبون من قبل الله تعالى، فيما كان قادة الثورات الشيعيّة يرون أنّهم هم الأئمّة؛ لاعتقادهم أنّ الإمام إنّما هو القائم الثائر، والجالس في بيته لا يمكن أن يكون إماماً للناس!

وفي هذا الاتجاه نذكر بعض الروايات التي تحكي وجود الخلاف الفكري حول مسألة الإمامة بين الأئمّة(عليهم السلام) وبين الثائرين:

منها: رواية نأخذ منها محلّ الشاهد، وهو نقاش دار بين زيد بن عليّ وبين أخيه الإمام الباقر(عليه السلام)، يقول زيد ـ بعدما رفض الإمام الباقر تأييد ثورته والالتحاق بها وقد غضب زيد بحسب ما تقول