172

يوم في طريقه على باب بشر فسمع من البيت صوت الملاهي والأغاني والرقص، وخرجت من البيت جارية تحمل الوساخات التي تجمع من البيت بالمكنسة، فصبّتها في خارج البيت، فقال لها الإمام(عليه السلام) يا جارية هل صاحب هذا البيت حرّ أو عبد؟ فقالت: بل حرّ، فقال(عليه السلام): صدقتِ لو كان عبداً لكان يخشى مولاه. فلمّا رجعت الجارية إلى البيت كان سيّدها بشر جالساً على مائدة الخمر، فسألها عن سبب تأخيرها، فقصّت الجارية له ما جرى بينها وبين الإمام من الحديث لدى الباب، فأثّر ذلك في نفس بشر، وخرج حافياً إلى الإمام(عليه السلام)، وبكى واعتذر وتاب على يده(عليه السلام)(1).

وعلى أيّة حال، فلو ثبت أنّ بعض هؤلاء كانوا من الصوفيّة ومع ذلك كانوا يحبّون الإمام المعصوم(عليه السلام) أو يستفيدون من معينه بعض الفوائد، فهذا لا يبرّر صحّة طريقهم، فإنّ الإمام(عليه السلام) لا يبخل حتّى بهداية المنحرفين الذين لا يقبلون رفض انحرافهم من الأساس، ولكنّهم يقبلون ببعض الإرشادات الصحيحة.

 

النتيجة:

والذي نستنتجه من مجموع ما ذكرناه في النقطتين الرابعة والخامسة ما يلي:

إنّنا لا نقبل بما يسمّى بالعرفان ويكون مليئاً بالخُرافات، والذي يرادف التصوّف، أو يُفتَرض مرتبة أعلى من التصوّف، ولكنّنا في نفس الوقت لا نقبل بأنّ أمر الشريعة مقتصر على القشر الذي يكتفي به جَمْع ممن يُسمّون بالمقدّسين: من صلاة ظاهريّة، وصوم جافّ وما إلى ذلك « وَكم مِنْ صَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلاَّ الجُوعُ والظّمأ، وَكَم مِنْ قَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلاَّ السَّهَرُ والعَنَاءُ، حَبَّذا نَوْمُ الأكْيَاسِ


(1) راجع منتهى الآمال 2/190.

173

وإِفطارُهُمْ »(1).

وطبعاً نحن نسلّم أنّ الصلاة والصيام وسائر العبادات والأعمال لو اشتملت على الشرائط الفقهيّة صحّت وأجزأت، ولكنّنا نقول: إنّ روح الشريعة وأهدافها المقدّسة لا تقتصر على هذا القشر، وتلك الروح نسبتها إلى هذا القشر نسبة اللُّحمة إلى السُّدى، أو البطانة إلى الوجه، وكلاهما يشكّلان ثوباً واحداً، وهو: ثوب التقوى. قال الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾(2) ودليلنا على وجود لبّ لهذا القشر، أو بطانة لهذا الوجه، أو لُحمة لهذا السُّدى أمران:

الأمر الأوّل: أحوال المعصومين(عليهم السلام) من بكائهم وتضرّعهم ومناجاتهم وخشيتهم وتوبتهم وما إلى ذلك، فياتُرى هل يُحتَمل بشأن المعصوم أن يتورّط في ترك هذه الصلاة الظاهريّة أو الصوم أو الحج أو في شرب الخمر أو الزنا نعوذ بالله أو الكذب أو النميمة أو ما إلى ذلك من المعاصي؟!

أفهل يعقل أن يكون سفير الله إلى عباده غير عارف بعظمة الله، أو غير مكتشف لحقيقة المعصية، وما تشتمل عليه من رجاسة ونجاسة؟! أم هل يعقل صدور المعصية ممّن وصل إلى عظمة الله، أو عَرف حقيقة المعصية وقبحها ودناءتها؟!

أتَرى أنّ إثبات عصمة المعصومين يتوقّف على براهين من قبيل: لولا عصمتهم لما أمكن الاعتماد على ما أبلغوه من الرسالة. أو إنّ عصمتهم أوضح من ذلك بداهة عدم تعقّل صدور المعصية ممّن ذاق حلاوة الاتّصال بالله، أو عرف حقائق المعاصي، فلا يُعقَل أن يفكّر أحدهم في معصية، كما لا يُعقَل أن يفكر أحدنا في أكل القاذورات مثلاً.


(1) نهج البلاغة: 684، رقم الحكمة: 145.

(2) السورة 7، الأعراف، الآية: 26.

174

وبعد أن كان الأمر كذلك بلاشك، قلْ لي بالله: ما معنى توبة المعصومين واستغفارهم؟! وما معنى قوله سبحانه وتعالى مخاطباً لأشرف المخلوقين(صلى الله عليه وآله): ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ...﴾(1)، وكذلك قوله عزّوجلّ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ...﴾؟!(2).

ثمّ قلْ لي: ما معنى ما قد يتراءى في بادئ الأمر من القسوة على نبيّ من الأنبياء في قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(3). فالله الذي هو أرحم الراحمين، ويغفر الكبائر لأصحاب الكبائر والجرائم لأصحاب الجرائم لمن يشاء ما لم يكن شركاً، بل وحتّى الشرك للتائب ما معنى قسوته على نبيّ صدر منه الغضب لله على الأُمّة الكافرة، فدعا عليهم، فيؤدّبه على هذا العمل الذي يكون أشدّ تعبير عنه هو أن نفترضه تركاً للأولى، ويكون التعبير اللطيف عنه هو أن ندخله تحت عنوان حسنات الأبرار سيّئات المقربين، ويكون تأديبه بسجنه في بطن الحوت، ثُمّ يقسو عليه لولا كونه من المسبّحين بفرض اللبث في هذا السجن إلى يوم يبعثون؟!

ثُمّ قلْ لي: ما معنى بكاء إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) على ذنوبه، وبثّه وشكواه وقوله: «إلهي اُفكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثُمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي...» إلى أن أنعم في البكاء، فلم يسمع أبو الدرداء له حساً ولا حركةً، قال: «... فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزو، فقلت: إنّا لله وإنا إليه راجعون، مات والله عليّ بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة(عليها السلام): يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قِصّته؟


(1) السورة 40، غافر، الآية: 55.

(2) السورة 47، محمّد(صلى الله عليه وآله)، الآية: 19.

(3) السورة 37، الصافات، الآيتان: 143 ـ 144.

175

فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله ... »(1). أفهل كان عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه يُحتَمل بشأنه التورّط في الذنوب بالمعنى الذي نحن نفهمه للذنب: من كذب أو نميمة أو سرقة أو ما إلى ذلك؟!!

ثُمّ قل لي بالله عليك: ماهي خطايا إمامنا زين العابدين وسيّد الساجدين(عليه السلام)التي كان يقول عنها: «ويلي كلّما طال عُمُرِي كثرت خطاياي ولم أتب أما آن لي أن أستحي من ربّي ... » إلى أن قال طاووس: «ثُمّ خرّ إلى الأرض ساجداً، فدنوت منه، وشلت برأسه، ووضعته على ركبتي، وبكيت حتّى جرت دموعي على خدّه، فاستوى جالساً وقال: من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟! فقلت: أنا طاووس يا بن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع؟! ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا، ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ، وأُمّك فاطمة الزهراء، وجدّك رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟! قال: فالتفت إليَّ وقال: هيهات هيهات يا طاووس دَع عنّي حديث أبي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً، أما سمعت قوله تعالى:﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ﴾(2)، والله لاينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدّمها من عمل صالح»(3).

وكذلك هلمَّ معي لنقف وقفةً قصيرة تجاه أحوال إمامنا موسى بن جعفر(عليه السلام)، فمن أيّ شيء كان يخاف على نفسه؟! وقد رُوِيَ عن حفص أنّه قال: ما رأيت أحداً أشدّ خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر(عليه السلام)، ولا أرجى للناس منه، وكانت


(1) البحار 41/12.

(2) السورة 23، المؤمنون، الآية: 101.

(3) البحار 46/81 ـ 82 .

176

قراءته حزناً، فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنساناً(1) وما ذنبه بأبي هو وأُمي حينما كان يقول: «عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك» وكان يقول: «اللّهمَّ إنّي أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب» ويكرّر ذلك، وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضّل لحيته بالدموع(2) وفي نقل آخر كان يقول في سجوده: «قَبُحَ الذنب من عبدك، فليحسن العفو والتجاوز من عندك»(3).

آباؤنا وأُمهاتنا وأنفسنا فداءٌ لذنوبك يا أبا الحسن يا موسى بن جعفر(عليه السلام)، وليتنا كنّا نعقل ماهي ذنوبك كي نزيّن أنفسنا بها، ويكون ذلك لنا فخراً واعتزازاً، وبأمل أن نصبح بذلك من الأبرار؛ لأنّ حسنات الأبرار سيّئات المقربين(4).


(1) البحار 48/111.

(2) البحار 48/101.

(3) البحار 48/108.

(4) البحار 25 / 205. أمّا تفسير هذه العبارة: فنحن مشينا في هذا الكتاب على تفسير (حسنات الأبرار سيّئات المقربين) بمعنى: الصالح والأصلح، أو الحسن والأحسن، ولكن مقصود أهل العرفان هو: أنّ شيئاً ما حسن من اُناس واصلين إلى مستوى من العرفان، ولكنّه سيء من أناس واصلين إلى مستوى أعلى، فمثلاً يُدَّعى أنّ الفناء في بعض أسماء الله يكون حسناً لأُناس يرقّيهم هذا الفناء من مرتبتهم الفعليّة النازلة إلى أن يصلوا إلى مستوى يجب أن يرتقوا اِلى الفناء في ذات الله، ويصبح الاسم عندئذ ـ حجاباً ـ وكذلك التأسّف على الذنوب، والبكاء عليها، وجعلها نصب العين، وتأنيب النفس عليها، حسن في مقام تطهير النفس، وتخليصها من مفاسد تلك الذنوب، ثمّ بعد ذلك يصل العارف إلى مستوىً يصبح جعل الذنوب نصب العين والاستمرار على تأنيب النفس معكّراً لجو الحبِّ والأُلفة مع الله الذي يكون المفروض بالعارف الفناء فيه، فيصبح حجابا مانعاً عن الرقّي، فلا بدَّ من تركه.

ونحن بما أنّنا نرى أنّ هذه في أغلب الموارد تلفيقات من قبلَ الصوفيّة ومن تبعهم في ذلك غفلةً، ولم تُؤثَر عن أئمّتنا(عليهم السلام) الذين هم أعرف بطرق تهذيب النفس وترقيتها في سلم العرفان، ولا دلّ عليها في أغلب مواردها العقلُ، عدلنا عن استعمال هذه الجملة بذاك المعنى إلى المعنى الذي عرفت.

177

ثُمّ يا ليتنا كنّا نفهم ماهو مدى التذاذكَ بمناجاة الربِّ وعبادته حيث قلت في سجن فضل بن الربيع: «اللَّهمَّ إنّك تعلم انّني كنتُ أسألك أن تفرغني لعبادتكَ، اللَّهمَّ وقد فعلتَ، فلكَ الحمد»(1).

فنحن نعلم أنّك أنت وآباءكَ الطيبين وأبناءك الطاهرين كنتم تتعشّقون العمل الاجتماعي في سبيل الإسلام وإن أدّى ذلك إلى التضحية بالنفس حتّى أصبح القتل لكم عادةً وكرامتكم من الله الشهادة، فما هي لذّة المناجاة عندكَ التي ضاهت لذّة العمل الاجتماعي في سبيل المبدأ والعقيدة، فطلبت من الله أن يفرّغكَ لها؟!

ثُمّ يا ليتنا نعرف ماذا كنت تعاني في السجن حينما تبدّلت موجة دُعائك هذه المرّة من طلب الفراغ للعبادة إلى طلب الخلاص من السجن، فكنت تقول: «يا مُخلِّص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مُخلِّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مُخلِّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مُخلِّص النار من بين الحديد والحجر، ويا مُخلِّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلّصني من يدي هارون»(2).

وأيضاً ممّا ورد في توصيف مناجاته وتضرّعه وبكائه ما جاء في زيارة له(عليه السلام)حليفِ السجدة الطويلة، والدموع الغزيرة، والمناجاة الكثيرة، والضراعات المتصلة ...(3).

ولا غرو أنّ تُؤثّر حالة عرفانه سلام الله عليه في تلك الجارية التي أرسلها هارون الرشيد إلى السجن بعنوان أن تخدم الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) فيتقلب حالها إلى حالة الانمحاء في عبادة الله. وفي أغلب الظنّ أنّ هارون كان قد بعثها إلى الإمام(عليه السلام) بتخيّل أن يفتنه بها، فانقلب السحر على الساحر.


(1) البحار: 48/107 ـ 108.

(2) البحار 48/219.

(3) منتهى الآمال 2/223.

178

والقِصّة على ما ورد في التأريخ ما يلي: قال العامري: «إنّ هارون الرشيد أنفذ إلى موسى بن جعفر جارية خصيفةً لها جمال وضّاءة؛ لتخدمه في السجن، فقال(عليه السلام): قل له: ﴿ ... بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾(1) لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها. قال: فاستطار هارون غضباً وقال: ارجع إليه، وقل له: ليس برضاك حبسناك، ولا برضاك أخذناك، واترك الجارية عنده وانصرف، قال: فمضى ورجع، ثُمّ قام هارون عن مجلسه، وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها، فرآها ساجدةً لربّها، لا ترفع رأسها، تقول: قُدّوس سبحانَك سبحانَك. فقال هارون: سحرها والله موسى بن جعفر بسحره، عليّ بها، فأُتي بها وهي ترعد شاخصةً نحو السماء بصرها، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني الشأن البديع، إنّي كنت عنده واقفةً وهو قائم يصلّي ليله ونهاره، فلمّا انصرف عن صلاته بوجهه وهو يسبّح الله ويقدّسه، قلت: يا سيّدي هل لك حاجةٌ أُعطيكها؟ قال: وما حاجتي إليك؟ قلت: إنّي أُدخلت عليك لحوائجك، قال: فما بال هؤلاء؟ قالت: فالتفتُّ فإذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أوّلها بنظري ولا أوّلها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصفاء ووصائِف لم أرَ مثل وجوههم حُسْناً، ولا مثل لباسهم لباساً، عليهم الحرير الأخضر والأكاليل والدرّ والياقوت، وفي أيديهم الأباريق والمناديل، ومن كلِّ الطعام، فخررت ساجدةً حتى أقامني هذا الخادم، فرأيت نفسي حيث كنت. قال: فقال هارون: يا خبيثة لعلّك سجدت فنمت، فرأيت هذا في منامك؟ قالت: لا والله يا سيّدي إلاّ قبل سجودي رأيت فسجدت من أجل ذلك، فقال الرشيد: اقبض هذه الخبيثة إليك، فلا يسمع هذا منها أحد، فأقبلت في الصلاة، فإذا قيل لها في ذلك؟ قالت: هكذا رأيت العبد الصالح(عليه السلام)، فسئلت عن قولها؟ قالت: إنّي لمّا عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة ابعدي عن العبد


(1) السورة 27، النمل، الآية: 36.

179

الصالح حتى ندخل عليه، فنحن له دونكِ. فما زالت كذلكَ حتّى ماتت، وذلك قبل موت موسى(عليه السلام) بأيّام يسيرة»(1).

وأقول أيضاً: بماذا تُفسّر وقفة الإمام المعصوم الحسين(عليه السلام) عشيّة عرفة حينما خرج من خيمته في عرفات بغاية التذلّل والخشوع، ووقف في مسيرة الجبل، وتوجّه إلى جهة الكعبة، ورفع يده حذاء وجهه كالسائل المسكين، وقال في جملة ما قال: «أنا الذي أسأت، أنا الذي أخطأت، أنا الذي هممت، أنا الذي جهلت، أنا الذي غفلت، أنا الذي سهوت، أنا الذي اعتمدت، أنا الذي تعمّدت، أنا الذي وعدت، وأنا الذي أخلفت، أنا الذي نكثت، أنا الذي أقررت، أنا الذي اعترفت بنعمتك عليّ وعندي وأبوء بذنوبي فاغفرها لي...» وفي أواخر الحديث يقول الراوي: «ثُمّ رفع رأسه (يعني الحسين(عليه السلام)) ونظر إلى السماء وعيناه تقطران دموعاً كأنّهما سقاءان يجري منهما الماء، ونادى بأعلى صوته: يا أسمع السامعين، يا أبصر الناظرين...» إلى آخر الدعاء. قال: «وقد صغى كلّ من كان في محضره(عليه السلام) لدعائه، واكتفوا بقولهم آمين، ثُمّ ارتفعت أصواتهم بالبكاء معه(عليه السلام)حتّى غربت الشمس...»(2).

وبودّي أن أقف وقفةً قصيرةً على قوله(عليه السلام): «أنا الذي وعدت، وأنا الذي أخلفت، أنا الذي نكثت» فقل لي بالله عليك: من الذي يكون أوفى بالوعد والعهد من الإمام الحسين(عليه السلام)؟!

وهنا يناسب ذكر هذه القِصّة الطريفة:

ينقل(3) عن المرحوم السيّد ضياء الدين الدرّي أحد خطباء طهران البارعين:


(1) البحار 48/238 ـ 239.

(2) راجع المنتخب الحسني: 910 ـ 922.

(3) راجع كتاب روح مجرّد: 455 ـ 457.

180

أنّه خطب في آخر سنة من سني عمره في عشرة العاشور في طهران، وفي ليلة من الليالي (الثامنة أو التاسعة) سأله شابّ قبل الخطاب: ماهو المراد من هذا البيت (وهو موجود في ديوان الشاعر الفارسي المعروف حافظ):

مريد پير مغانم زمن مرنج اى شيخ
چرا كه وعده تو كردى واو بجا آورد

يعني: يا شيخ لا تنزعج منّي على أثر تخصّص إخلاصي بشيخ آخر غيرك؛ لأنّك أنت الذي وعدت، وهو الذي وفى.

فقال السيّد الدرّي سأجيب عن هذا السؤال على منبر الخطاب؛ كي يكون نفعه عامّاً. ثمّ ذكر على المنبر في خطابه: أنّ المقصود بالشيخ الأوّل هو: آدم(عليه السلام)الذي وعد بترك شجرة الحنطة وأخلف. والمراد بالشيخ الثاني هو: أمير المؤمنين(عليه السلام)الذي ترك الحنطة ولم يكن يشبع من الشعير.

ومات السيّد الدرّي في تلك السنة، ورأى ذلك الشاب السائل في عالم الرؤيا في السنة الثانية في نفس ليلة السؤال السيّد الدرّي، فقال له السيّد: أنت سألتني في السنة السابقة في مثل هذه الليلة عن تفسير البيت الفلاني، فأجبتك بهذا الجواب، ولكنّني الآن في هذا العالم لديّ جواب آخر، وهو: أنّ المقصود بالشيخ الأوّل إبراهيم(عليه السلام)الذي وعد بذبح ابنه. والمراد بالشيخ الثاني الحسين(عليه السلام)الذي وفى بتقديم ابنه عليّ الأكبر(عليه السلام) قرباناً في سبيل الله.

أقول: إن كان لابدّ أن يُحمَل البيت الفارسي الذي أشرنا إليه على معنىً حقّانيّ ومعقول، فهو منحصر في التفسير الأوّل الذي ذكره السيّد الدرّي في حال حياته. وأمّا التفسير الذي نقله ذاك الشاب عن عالم رؤياه فلا قيمة له؛ وذلك لأنّ سيّدنا إبراهيم على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام لا يستحقّ اللوم المفهوم من هذا البيت؛ فإنّه وإن كان لم يفعل ما أُمِر به من ذبح ولده، ولكن لم يكن في ذلك لا الخُلف ولا أقلّ توان في الامتثال، ولم يكن نسخ الله ـ عزّ وجلّ ـ لأمره تماشياً

181

لضعف نفسي في إبراهيم(عليه السلام) ونقص عرفاني فيه، بل قال الله تعالى بشأنه: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ...﴾(1) وقال ـ أيضاً ـ سبحانه عزّ وجلّ بشأن إبراهيم: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾(2) وقال جلّ وعلا ـ أيضاً ـ بشأنه: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ ...﴾(3).

نعم، مقام إمامنا الحسين(عليه السلام) ومستوى عرفانه سلام الله عليه مقام لا يضاهى، ومستوىً لا يدانى، وهل تعلمون أحداً أوفى بعهده ووعده من الحسين(عليه السلام) الذي جعل فاتحة شهداء الهاشميين ـ على أحد النقلين(4) ـ ابنه علياً الأكبر(عليه السلام)، وخاتمتهم في حدود فترة ما قبل وقوعه(عليه السلام) على الأرض ابنه عليّاً الأصغر(عليه السلام)وعندئذ قال: «هوّن عليّ مانزل بي أنّه بعين الله»(5). فمن أوفى بعهده مع الله من الحسين(عليه السلام)؟!

إذن فما معنى قوله(عليه السلام): «أنا الذي وعدت، وأنا الذي أخلفت، أنا الذي نكثت» ؟!

أفلا تستكشف معي ـ بعد هذا التطواف السريع في حالات المعصومين(عليهم السلام)من كلِّ ما أشرنا إليها من الأُمور ومن أشباهها الكثيرة الكثيرة التي تركنا ذكرها ـ أنّ للإسلام ظاهراً أُمِرَ به الجميع، وأنّ له روحاً شفّافاً لم يكن بالإمكان أن يؤمر به الجميع؛ إذ لو أُمِروا جميعاً بذلك لما نجى أحد إلاّ المعصومون وأولياء الله المخلَصون. فبقي ذلك المستوى من الروح والحقيقة مطمحاً للأنظار ومضماراً للسباق يصل بعض إلى بعض درجاته، والآخر إلى درجة أقوى أو أخفّ. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وكانت ذنوبهم صلَّى الله عليهم وعلى آلهم راجعة إلى تلك الدرجات.


(1) السورة 37، الصافات، الآية: 105.

(2) السورة 53، النجم، الآية: 37.

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 124.

(4) راجع البحار 45/45.

(5) البحار 45/46 و 65.

182

وقد اقتفى كثير من علمائنا الأبرار بأئمّتنا الأطهار فيما أشرنا إليه من التضرّع والبكاء والوجد والشوق والخوف، وأذكر هنا لذلك نموذجين:

أوّلا: ما جاء في تكملة أمل الآمل(1) عن السيّد صدر الدين محمّد بن صالح بن محمّد بن إبراهيم أحد أجداد اُستاذنا الشهيد الصدر(رحمه الله) ـ وكان عالماً عظيماً ـ نقلاً عن العالم الجليل الشيخ عبدالعالي الإصفهاني النجفي قال: كنت ليلة من ليالي شهر رمضان في حرم أمير المؤمنين(عليه السلام)، فجاء السيّد صدرالدين إلى الحرم، ولمّا فرغ من الزيارة جلس خلف الضريح المقدّس، فكنت قريباً منه، فشرع في دُعاء السحر الذي رواه أبو حمزة، فوالله مازاد على قوله: «إلهي لا تؤدّبني بعقوبتك» وكرّرها وهو يبكي حتّى أُغمي عليه، وحملوه من الحرم وهو مغمىً عليه.

ثمّ قال صاحب تكملة أمل الآمل: كان(قدس سره) غزير الدمعة كثير المناجاة، ورأيت له أبياتاً في المناجاة يقول فيها:

رضاك رضاك لا جنّات عدن
وهل عدن تطيبُ بلا رضاكا

ثانياً: جاء في كتاب قصص العلماء(2) في ترجمة المرحوم الحاج السيّد محمّد باقر الشفتي المعروف بحجّة الإسلام، وكان هذا ـ أيضاً ـ من العلماء الكبار: أنّه كان يبدأ من نصف الليل بالبكاء والتضرّع والمناجاة إلى الصباح، وكان يدور في صحن مكتبته شبه المجنون محيياً ساعاته بالدعاء والمناجاة، لاطماً على رأسه وصدره، وكان حنينه وأنينه مستمراً بلا اختيار إلى الصباح.

وذكر ـ أيضاً ـ في ذاك الكتاب(3) نقلاً عن الحاج سليمان خان قاجار حاكم سبزوار: أنّ أحد أولاد السلاطين كان ساكناً في إصفهان، وقد حكى له ـ أي للحاج


(1) تكملة أمل الآمل: 239.

(2) قصص العلماء: 137.

(3) المصدر السابق: 138.

183

سليمان خان ـ أنّه كانت لي جارية هربت منّي، والتجأت إلى بيت المرحوم حجّة الإسلام، وبعد برهة من الزمن أرجعها حجّة الإسلام إلى بيتنا، وكتب لي رسالة مفادها: أنّه إن كانت هذه الجارية مقصّرة فاعفُ عنها لأجلي، واوص ملازمي البيت والخدمة بحسن المداراة معها. قال: فسألناها ذات يوم عن حالات السيّد حجّة الإسلام، فقالت الجارية: إنّ السيّد كان ينجنّ بالليل، ويعقل بالنهار، فسألناها: وكيف ذلك؟ قالت: حينما كانت تمضي قطعة من الليل كان ينشغل في مكتبته وصحنها باللطم على الرأس والبكاء كالمجانين، وكان يناجي ويدعو إلى الصباح، وعند الصباح كان يلبس عمامته ورداءه ويجلس كالعقّال.

نعم، هذا هو مفاد كلام إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث يقول في صفة المتّقين: «ينظُرُ إلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُم مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض.. ويقول: لَقَدْ خُولِطُوا! ولقد خَالَطَهُمْ أمرٌ عَظِيمٌ...»(1).

وقد ذكّرتني قِصّة هذه الجارية مع حجّة الإسلام ـ حيث قالت عنه: إنّه كان ينجنّ بالليل، ويعقل بالنهار ـ بقِصّة رُويت في ترجمة سلمان(رحمه الله)، وهي: أنّه مرّ سلمان على الحدّادين بالكوفة، وإذا بشاب قد صُرِعَ والناس قد اجتمعوا حوله، فقالوا يا أبا عبدالله هذا الشاب قد صُرِعَ، فلو جئت فقرأت في أُذنه، قال: فجاء سلمان، فلمّا دنا منه رفع الشاب رأسه فنظر إليه فقال: يا أبا عبدالله لست في شيء ممّا يقول هؤلاء، لكنّي مررت بهؤلاء الحدّادين وهم يضربون بالمرازب(2)فذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيد﴾(3).

الأمر الثاني: المضامين الراقية الشامخة العرفانيّة المنتشرة ضمن الكتاب والسنّة


(1) نهج البلاغة: 411، رقم الخطبة: 193.

(2) جمع مِرزَ بَة ومِرزَ بّة بمعنى عُصيّة من حديدة على ما ورد في المنجد.

(3) معجم رجال الحديث 8/195، والآية: 21 في السورة 22، الحديد.

184

والأدعية، وقد مرّت الإشارة إلى قطرات من هذا البحر في آخر حديثنا عن النقطة الرابعة.

فقل لي بالله: لو كانت الصلاة وروحها عبارة عن هذه الصلاة المألوفة لدينا، والتي تشتمل ـ إنْ شاء الله ـ على الإجزاء الفقهي، ولا تستغرق من الوقت أكثر من خمس دقائق، فما معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾(1)؟! فأيّ ثقل ـ يا تُرى ـ يكون في صلاة كصلواتنا كي تكون كبيرة على غير الخاشعين منّا؟! وأيّ تحمّل واصطبار نحتاجه في صلاة كهذه الصلوات حتّى يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ...﴾(2)؟!

ولو كانت غاية الآمال عبارة عن جنّة عرضها السماوات والأرض فما معنى قوله تعالى: ﴿... وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ...﴾(3)؟! وما معنى قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾(4).

ولو كان أشدّ العذاب عذاب نار جهنّم فما معنى قول إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام)في دعاء كميل: «... صَبَرتُ على عذابك، فَكيفَ أصبر على فِراقِك»؟! ألا تحدس معي أنّ الفراق في كلام عليّ ـ تلميذ القرآن ـ قصد به نفس ما قصد بالحجب في القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَّمَحْجُوبُونَ﴾(5)؟!

ولو كانت النار في الآخرة منحصرة في النار المادّيّة التي تتبادر إلى أذهاننا من قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى﴾(6) وهي المفهومة ـ أيضاً ـ من قول


(1) سورة 2 البقرة: الآية: 45.

(2) السورة 20، طه، الآية: 132.

(3) السورة 9، التوبة، الآية: 72.

(4) السورة 75، القيامة، الآية: 22 و 23.

(5) السورة 83، المطفّفين، الآية: 15.

(6) السورة 70، المعارج، الآية: 15 ـ 16.

185

أمير المؤمنين(عليه السلام): «آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى»(1).

فما معنى قوله تعالى: ﴿كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الاَْفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَد مُّمَدَّدَة﴾(2)؟! فأيّ نار هذه التي تطّلع على الأفئدة؟ وأي فؤاد هذا؟ هل هو القلب المادّي الصنوبري؟ فلئن كان ذاك فأيّ فرق مهمّ بين أن تبدأ النار بحرق الجلد وتنتهي إلى الفؤاد أو العكس؟! أو ليس هذا يعني: أنّ الفؤاد هنا بمعنى القلب المعنوي المقصود بقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاَْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(3). وبقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ...﴾(4). أو ليس هذا يعني: أنّ هذه النار نار أُخرى تطّلع على القلب المعنوي؟! أولا تفكّر في معنى ﴿مؤْصَدَة﴾ أي: مطبقة ومغلقة، فالنار التي تطّلع على الفؤاد أليس معنى إطباقها وإغلاقها كونها مطبقة ومسدودة في داخل الإنسان، فهل يناسب هذا النار المادّية؟! ثُمّ ما معنى كون هذه النار في ﴿عَمَد مُّمَدَّدَة﴾ أوليست العمد الممدّة لذلك القلب المعنوي، وإلاّ فأعمدة البدن تنشوي بالنار المادّية، وتتجاوز النار منها؟! ثُمّ ما معنى ﴿الْحُطَمَة﴾ هل المقصود بها التحطيم المادّي للجسم المادّي؟ ونحن نعلم أنّ الجسم المادّي يبقى قائماً؛ كي يشتدّ عليه ألم النار، بدليل أنّه بمجرد أن تنضج الجلود يقول الله تعالى: ﴿... بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ...﴾(5) أفلا يعني ذلك: أنّ


(1) البحار 41/12.

(2) السورة 104، الهمزة، الآية: 4 ـ 9.

(3) السورة 22، الحج، الآية: 46.

(4) السورة 7، الأعراف، الآية: 179.

(5) السورة 4، النساء، الآية: 56.

186

التحطيم تحطيم معنوي أعاذنا الله تعالى من ذلك كلِّه.

وعلى أيّة حال، فالإسلام كالقرآن يكون له ظهر وبطن، أو جسم وروح، أو قشر ولبّ، أو وجه وبطانة، أو سدى ولُحمة، وقشره يتلألأ نوراً، ويُري باطنه الذي يفوق القشر صفاءً وجلاءً وعظمةً وجمالاً، ولقد أُمرتْ عامّة الناس بأقلّ المقدار الممكن، والذي يكون هو الحدّ الذي حُكِم عليه في الفقه بالإجزاء، ولم يُؤمَروا أمراً وجوبيّاً بأكثر من ذلك؛ لأنّه كان يؤدّي إلى عدم تحمّل العامّة الكاثرة لما وجب عليهم وإلى ضلالهم وسوء عاقبتهم، وبقي الباقي لأهله، وهم مختلفون في المراتب والدرجات.

وبهذا النمط من الفهم للإسلام تنحلّ عدّة ألغاز ومشكلات من قبيل:

1 ـ ما معنى ما ورد في الكافي بسند تامّ عن الصادق(عليه السلام) من أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)كان يتوب إلى الله في كلّ يوم سبعين مرّة(1)؟! وبسند آخر تامّ عنه أيضاً: « ... أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يتوب إلى الله ويستغفره في كلّ يوم وليلة مئة مرّة من غير ذنب ... »(2).

وقد اتَّضح الجواب عن ذلك: بأنّ توبة المعصومين واستغفارهم يكونان ممّا يسمّى بحسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، فحينما يرتقون في صفاء النفس من مرتبة إلى مرتبة أعلى يستغفرون ربّهم عن المرتبة السابقة الدنيا، أو حينما يحصل لديهم أقلّ غبار على القلب عن بعض مراتب الصفاء ولو لحظة يتوبون إلى الله من ذلك. وقد ورد في طرق السُنّة عن الرسول(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «إنّه ليغان على قلبي حتّى


(1) أُصول الكافي 2/450، الحديث 1.

(2) المصدر السابق 2/450، الحديث 2.

187

استغفر الله تعالى في اليوم والليلة سبعين مرّة»(1) وقد يصدر منهم ما لو صدر منّا لكان حسنة عظيمة، ولكنّهم سلام الله عليهم يستغفرون الله منه؛ لأنّ المفروض المناسب لمقامهم الشامخ أن يصدر منهم ما هو أفضل من ذلك، وقد قال الله تعالى مخاطباً لرسوله(صلى الله عليه وآله): ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾(2)، فلو كان قد صدر منّا الإذن عن الحرب لبعض المسلمين الضعفاء الإيمان لجلبهم وعدم تنفيرهم من الإسلام، فلعلّنا كنّا نمدح بذلك، ولكنّه كان المفروض بالرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) أن يتّخذ ماهو أوفق بالمصلحة من الإذن على رغم أنّ الإذن ـ أيضاً ـ كان من الخُلُق العظيم.

2 ـ ما معنى بكاء المعصومين، ومناجاتهم الطويلة، ودموعهم الغزيرة، وغشيتهم أمام عظمة الربّ، هل كانوا يحتملون بأنفسهم التورّط في المعاصي الإلهيّة، أم هل تورّطوا بالفعل فيها وهم معصومون؟! وهل يمكن فرض كلّ القضايا التي نقلت عنهم بهذا الصدد تصنّعاً منهم وتظاهراً كاذباً بهدف تعليمنا، وكان بكاؤهم أمراً صوريّاً لا عن حرقة قلب وما إلى ذلك؟! كلاّ هذا لا يحتمل.

والجواب أحد أمرين أو كلاهما:

إمّا أنّ كلَّ هذا كان ندماً وتوبةً إلى الله عمّا عبّرنا عنه بحسنات الأبرار سيّئات


(1) المحجة 7/17. وقد قيل في تفسير الحديث: لمّا كان قلب النبيّ(صلى الله عليه وآله) أتمّ القلوب صفاءً وأكثرها ضياءً وأعرفها عرفاً، وكان(صلى الله عليه وآله)مبيّناً مع ذلك لشرائع الملّة وتأسيس السُنّة ميسّراً غير معسر لم يكن له بدّ من النزول إلى الرخص والالتفات إلى حظوظ النفس مع ما كان متمتّعاً به من أحكام البشريّة، فكأنّه إذا تعاطى شيئاً من ذلك أسرعت كدورة ما إلى القلب لكمال رقّته وفرط نورانيّته، فإنّ الشيء كلمّا كان أصفى كانت الكدورة عليه أبين وأهدى. وكان(صلى الله عليه وآله) إذا أحسّ بشيء من ذلك عدّه على النفس ذنباً فاستغفر منه. راجع البحار 25/204 ـ 205 تحت الخط.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 43.

188

المقربين(1). وإمّا أنّ عظمة الرب وجلاله وجماله كانت تؤدّي إلى هكذا إنهيار وهكذا إظهار وهكذا تذلّل، مَثله الدنيوي ما يُرى من قبل العشّاق التافهين الذين يعشقون بعض المخلوقين أو المخلوقات من التذلّل وإبراز التقصير أمام معشوقهم أو معشوقتهم والتذاذهم بذلك وانهيارهم أمامه أو أمامها، فما ظنّك بالعشق الحقيقي من قبل العبد الذائب في ذات الله أمام من لا يستحقّ الحبّ الحقيقي والتفاني الكامل فيه إلاّ هو، ألا وهو الله سبحانه وتعالى؟! ولقد ورد بشأن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه كان يبكي حتّى يغشى عليه، فقيل له: «... يا رسول الله أليس الله ـ عزّ وجلّ ـ قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! قال: بلى، أفلا أكون عبداً شكوراً»(2).

3 ـ ما معنى ما يترأى في بادئ الأمر من القسوة على بعض الرسل من قبيل ما مضت الإشارة إليه من قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ


(1) قال بعض: إنّ الأنبياء والأئمّة تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى، وقلوبهم مملوءة به، وخواطرهم متعلقة بالملأ الأعلى، وهم أبداً في المراقبة كما قال(عليه السلام): «اعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» فهم أبداً متوجهون إليه، ومقبلون بكلّهم عليه، فمتى انحطوا عن تلك المرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتفرغ إلى النكاح وغيره من المباحات عدوه ذنباً، واعتقدوه خطيئة، واستغفروا منه، ألا ترى أنّ بعض عبيد أبناء الدنيا لو قعد وأكل وشرب ونكح وهو يعلم أنّه بمرأى من سيّده ومسمع منه لكان ملوماً عند الناس ومقصّراً فيما يجب عليه من خدمة سيّده ومالكه؟ فما ظنك بسيد السادات وملك الأملاك، وعلى هذا يحمل مثل ما ورد عن أبي الحسن موسى(عليه السلام) في الدعاء في سجدة الشكر: «ربّ عصيتك بلساني ولو شئت وعزّتك لأخرستني، وعصيتك ببصري ولو شئت وعزّتك لأكمهتني، وعصيتك بسمعي ولو شئت وعزّتك لأصممتني، وعصيتك بيدي ولو شئت وعزّتك لكنعتني، وعصيتك بفرجي ولو شئت وعزّتك لأعقمتني، وعصيتك برجلي ولو شئت وعزّتك لجذمتني، وعصيتك بجميع جوارحي التي أنعمت بها عليّ ولم يكن هذا جزاءك منّي» راجع البحار 25 / 203 ـ 204.

(2) تفسير البرهان 3/29.

189

فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(1) فلئن كان الله ـ تعالى ـ يغفر لأصحاب الكبائر كبائرهم ولأصحاب الجرائم جرائمهم ما معنى فرض السجن في بطن الحوت على نبيّ من أنبيائه لما صدر منه من ترك أولى، أو من حسنة كانت بلحاظ مقامه الكريم من سيّئات المقربين؟! وما معنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لاََّذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾(2) فهل يُحتَمل بشأن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه كاد أن يركن إلى المشركين شيئاً قليلاً فيما كانوا يريدونه من الافتراء على الله؟! كلاّ.

ولا أقصد بنفي هذا الاحتمال نفيه على أساس العصمة؛ كي يدّعى في مقابل ذلك أنّ فرض الآية فرض غضّ النظر عن العصمة بناءً على تفسير التثبيت في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ ...﴾ بالعصمة أي: لولا العصمة الربّانية لك لكنت تركن إليهم شيئاً قليلاً، بل أقصد بذلك: أنّه حتّى مع غضّ النظر عن الإيمان بعصمة الأنبياء لا يُحتمَل ركون النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى المشركين فيما يريدونه من الافتراء على الله؛ لأنّ هذا من أكبر الكبائر،ولو فُرِضَ عدم العصمة للنبيّ(صلى الله عليه وآله) لكان يعني ذلك: ارتكابه لصغيرة ما مثلاً، لا ارتكابه لما هو من أكبر الكبائر، وهو الافتراء على الله.

وإذن، فليس ركونه(صلى الله عليه وآله) إليهم الذي كاد أن يتورّط فيه لولا تثبيت الله إيّاه إلاّ مجرّد إبداء نوع من المداهنة أو التعاطف معهم بنيّة استمالتهم بالتدريج عن هذا الطريق إلى الإسلام. وهذا لو صدر منّا نحن الاعتياديين لعلّه كان يعدّ من الحسنات والفضائل، ولكن المقام الشامخ للنبي(صلى الله عليه وآله) لا يناسب التورط في شيء من هذا القبيل، بل المفروض به أن يتّخذ ماهو أصلح من ذلك.


(1) السورة 37، الصافات، الآية: 143 ـ 144.

(2) السورة 17، الإسراء، الآيات: 73 ـ 75.

190

وبعد هذا تبدو في بادئ الأمر قسوة عظيمة على النبيّ(صلى الله عليه وآله) في قوله تعالى: ﴿إِذاً لاََّذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾ فلماذا هكذا قسوة على ترك ماهو أولى، أو على فعل ماهو من حسنات الأبرار، ولكنّه من سيّئات المقربين؟!

وأيضاً ورد في التأريخ(1) عن نبي الله يعقوب على نبيّنا وآله وعليه آلاف التحيّة والثناء: أنّ سبب مانزل به من البلاء أنّه(عليه السلام) كان يذبح كلَّ يوم كبشاً، فيتصدّق منه، ويأكل هو وعياله منه، وإن سائلاً مؤمناً صوّاماً مستحقّاً له عند الله منزلة، وكان مجتازاً غريباً اعترّ(2) على باب يعقوب عشية جمعة عند أوانَ إفطاره، فطلب منهم الطعام مراراً، فلم يعتنوا به، وليسوا متعمدين، بل جهلاً منهم بحقّه، ولعدم تصديقهم إيّاه، فلمّا يأس منهم، وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه إلى الله عزّوجلّ، وبات طاوياً، وأصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً لله تعالى، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً، وأصبحوا وعندهم فضلة من طعامهم، فأوحى الله عزّوجلّ إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذُلّة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي ونزول عقوبتي وبلواي عليك وعلى ولدك...

فما هذه القسوة على نبيّ الله يعقوب على خطأ لم يكن ارتكاباً لمحرم، في حين أنّه يصدر من سائر الناس الاعتياديين ما لا يُحصَى من الأخطاء، بل والمحرمات، ولكنّ الله يعفو عن كثير؟!

وجواب كلّ هذا هو: أنّ تعامل المولى مع من يحبّ يكون أشدّ من تعامله مع الإنسان الاعتيادي، فأنت قد تعفو عمّن ظلمك، وجحد حقّك وآذاك، في حين أنّك تؤدّب ابنك مثلاً على ما أتى به لك من وردة من بستان كان يملكه؛ لأنّك كنت


(1) راجع البحار 12/271 ـ 272.

(2) اعترّه: أتاه للمعروف، وقيل: إنّ في نسخة علل الشرائع عَبَر على باب يعقوب.

191

تتوقّع منه أن يأتيك بباقة من الورد لا بوردة واحدة.

وقد ورد في ذيل نفس الحديث الذي أشرنا إليه في قِصّة تأديب يعقوب على نبيّنا وآله وعليه السلام ما يشير إلى هذه النكتة حيث قال فيما أوحى الله عزّ وجلّ إلى يعقوب عقيب خطأه: أوما علمت يا يعقوب أنّ العقوبة والبلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟!؛ وذلك حسن النظر منّي لأوليائي واستدارج منّي لأعدائي(1).

وهذا المعنى يصلح أن يكون أحد التفاسير للروايات الواردة في أنّ البلاء يشتدّ بقدر اشتداد الإيمان من قبيل:

1 ـ ما ورد بسند صحيح عن هشام بن سالم، عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثُمّ الذين يلونهم، ثُمّ الأمثل فالأمثل»(2).

2 ـ وما ورد ـ أيضاً ـ بسند صحيح(3) عن عبدالرحمن بن الحجاج، قال: «ذُكِرَ عند أبي عبدالله(عليه السلام) البلاءُ وما يخصّ الله ـ عزّ وجلّ ـ به المؤمن، فقال: سُئِلَ رسول الله(صلى الله عليه وآله) مَنْ أشدّ الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال: النبيّون، ثُمّ الأمثل فالأمثل، ويبتلي المؤمن بعدُ على قدر إيمانه وحسنِ أعمالهِ، فَمَنْ صحّ إيمانه وحَسُنَ عمله اشتدّ بلاؤه، وَمَنْ سخف إيمانه وضَعُفَ عملهُ قلّ بلاؤهُ».

3 ـ وورد ـ أيضاً ـ بسند تامّ عن سماعة، عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنّ في كتاب عليّ(عليه السلام) أنّ أشدّ الناس بلاءً النبيّون، ثُمّ الوصيّون، ثُمّ الأمثل فالأمثل...»(4).

وورد ـ أيضاً ـ في حديث آخر عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنّما المؤمن بمنزلة كفّة


(1) البحار 12/272.

(2) أُصول الكافي 2/252، باب شدّة ابتلاء المؤمن من كتاب الإيمان والكفر، الحديث 1.

(3) المصدر السابق الحديث 2.

(4) المصدر السابق: 259، الحديث 29.

192

الميزان كُلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه»(1).

ولعلَّه يدعم هذا التفسير ما ورد ـ أيضاً ـ بسند صحيح عن محمّد بن مسلم قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: المؤمن لا يمضي عليه أربعون ليلة إلاّ عرض له أمرٌ يحزنه ويُذكَّر به»(2).

فهذا التذكير يشمل كلَّ درجات التنبيه حتى على مستوى نفض الغبار الذي يصيب قلب العبد المؤمن وحتّى ذاك الغبار الطفيف الذي عبّر عنه رسول الله(صلى الله عليه وآله)ـ لو صحّت الرواية الماضية ـ بقوله: «إنّه ليغان على قلبي...»(3).

وهناك تفسير ثان لتلك الروايات، وهو: أن تكون ناظرة إلى ما في البلايا والمحن مِن رفع الدرجات وعظيم الثواب، كما تؤيّد هذا التفسير عدّة روايات من قبيل: ما رُوِيَ عن أبي يحيى الحنّاط، عن عبدالله بن يعفور قال: «شكوت إلى أبي عبدالله(عليه السلام) ما ألقى من الأوجاع ـ وكان مسقاماً ـ فقال لي: يا عبدالله لو يعلم المؤمن ماله من الأجر في المصائب لتمنّى أنّه قُرِّض بالمقاريض»(4).

وهناك روايات أُخرى تدلّ على أنّ بلاء المؤمن كفّارة لذنوبه(5).

ومن الروايات الطريفة التي تنسجم مع كلا التفسيرين الماضيين ما رواه الكليني(رحمه الله)في أُصول الكافي(6) عن الصادق(عليه السلام) قال: «دُعي النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى طعام، فلمّا دخل منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت، فتقع البيضة على وتد في حائط، فثبتت عليه، ولم تسقط، ولم تنكسر، فتعجّب النبيّ(صلى الله عليه وآله) منها، فقال


(1) المصدر السابق: 254، الحديث 10.

(2) المصدر السابق: 254، الحديث 11.

(3) المحجة 7/17.

(4) أُصول الكافي 2/255، باب شدة ابتلاء المؤمن من كتاب الإيمان والكفر، الحديث 15.

(5) من قبيل ما في البحار 67/230، 232، باب شدّة ابتلاء المؤمن، الحديثان 43 و 48.

(6) أُصول الكافي 2/256، باب شدة ابتلاء المؤمن، الحديث 20.

193

له الرجل: أعجبت من هذه البيضة؟ فوالذي بعثك بالحقِّ ما رُزئت شيئاً قطّ، فنهض رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولم يأكل من طعامه شيئاً، وقال: من لم يُرزَء فما لله فيه من حاجة».

وهناك تفسير ثالث لتلك الروايات التي تثبت البلاء للأنبياء، ثُمّ للأولياء، ثُمّ للأمثل فالأمثل، وهو: أن يكون المقصود بالبلاء: الامتحان لا المصائب والمحن، والامتحان كما قد يكون بالمصائب والمحن كذلك قد يكون بالنعم والخيرات، كما قال الله تعالى: ﴿... وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾(1) وكما قال الله تعالى عن لسان سليمان: ﴿... فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ...﴾(2).

وقد اتَّضح بكلّ ما سردناه أنّ الفقه والعرفان يشكّلان سدى ولُحمة لثوب التقوى. وَمَن يفصل بينهما، ويفترضهما مدرستين منفصلة إحداهما عن الأُخرى لا يعرف شيئاً من الفقه ولا العرفان.

وأُؤكّد أ نّني لا أقصد بفرض الظاهر والباطن للإسلام تصحيح طريقة الباطنيّين الذين يُظهِرون للناس شيئاً ويُبطنون شيئاً آخر، بل أقصد أنّ للإسلام باطناً يشعّ من ظاهره، وظاهراً شفّافاً يُري باطنه، وظاهره يتلألأ نوراً، وباطنه أصفى وأنقى، وظاهره هو الذي تكفّل به الفقه الذي يحدّد الإجزاء وسقوط القضاء والإعادة لعامّة الناس، وباطنه ـ أيضاً ـ يفهم من نفس الأدلّة الفقهيّة، ويستفيد منه علماً وعملاً الخلّصون من عباد الله كلّ بدرجته، ولم يكن بالإمكان تكليف عامة الناس بتحصيل كلِّ درجات الكمال للنفس، فاكتفى الإسلام بأقلِّ الدرجات لعموم الناس مع فتح باب الترقّي والنمو والاقتراب إلى الله سبحانه وتعالى لمن أحبّ ذلك وبقدر ما يهتمّ به.


(1) السورة 21، الأنبياء، الآية: 35.

(2) السورة 27، النمل، الآية: 40.

194

ولتوضيح اكتفاء الإسلام باقلِّ الدرجات لعامّة الناس مع إرشاده إلى مراتب أرقى من ذلك نشير إلى عدد من المسائل الفقهية:

الأوّل: لا إشكال فقهياً في حرمة:

1 ـ لبس الخاتم من الذهب للرجال.

2 ـ واستعمال أواني الذهب والفضّة.

بالتفصيل المذكور في علم الفقه، ولكنّ الفقه لم يحرّم على الإنسان مطلق الاستفادة من الأموال التي تكون فوائدها وهمية، فصحيح أنّ آنية الذهب والفضة لا تختلف في الفائدة عن أواني أُخرى إلاّ بالاعتزاز بكونه ذهباً أو فضّة والتبختر به، وليس هذا إلاّ فائدة وهمية، أمّا الفائدة الاستعماليّة الحقيقية فالأواني الأُخرى مشتركة فيها مع أواني الذهب والفضّة، وكذلك الخاتم من الذهب لا يختلف بشأن الرجال عن غير الذهب إلاّ بالتبختر والفخفخة به، وهو إنّما يناسب حالة النساء؛ لأنّهنّ بحاجة حقيقيّة إلى الزينة والحلية، وقد عبّر الله ـ تعالى ـ عنهن بقوله: ﴿أَوَ مَن يُنَشَّؤُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِين﴾(1).

وقال الشاعر:

وما تصنع بالسيفِ إذا لم تكُ قتّالا
فكسّرْ حليةَ السيفِ وصغه لكَ خلخالا

ولكن مع ذلك لم يُحرّم فقهياً على الرجال لبس خاتم مصوغ من مجوهرات قد تكون أغلى من الذهب، ولم يُحرّم على الناس استعمال أواني مصوغة ممّا هو أغلى من الذهب والفضّة.

إلاّ أنّه وردت في نصوص الشريعة ما قد تشير إلى قبح صرف المال في موارد المنافع الوهمية من قبل المؤمنين، وهذا ما يستفيد منه الخلّص من عباد الله،


(1) السورة 43، الزخرف، الآية: 18.

195

ولا تعتني به عامّة الناس. ومن جملة تلك النصوص ما يلي:

1 ـ رُوِيَ بسند تامّ عن موسى بن بكر، عن أبي الحسن موسى(عليه السلام) قال: «آنية الذهب والفضّة متاع الذين لا يوقنون»(1).

أفلا تستشمّ معي من هذا الحديث أنّه بيان لحكمة تحريم آنية الذهب والفضّة لا لنتيجة التحريم، أي أنّه ليس معنى هذا الحديث: أنّه بعدما حرّمت الشريعة آنية الذهب والفضّة أصبحت تلك الأواني متاعاً للذين لا يوقنون، بل معناه: أنّ الذي يُوقِن بعالم الآخرة ماذا يفعل بالتلذّذات الوهميّة البحت في هذه الدنيا؟! وأنّ كونها متاعاً للذين لا يوقنون كان حكمة لتحريمها، وهذه الحكمة موجودة في جميع الملاذّ الوهميّة.

2 ـ قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ...﴾(2) أفلا تستظهر معي من هذه الآية: أنّ الترف وصف يناسب الفاسقين لا المؤمنين، ولئن كان الترف عبارة عن التنعّم بأنعم الله فما معنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ...﴾(3) أفلا تستظهر من ذلك ما أستظهره بفهمي القاصر ـ والله أعلم بمراده ـ: من أنّ التنعّم الحقيقي بالنعم المحلّلة هو الشيء المقصود بالآية الثانية، والتنعُّم الوهمي بالمتع الوهميّة أو بنفس النعم الحقيقية ـ ولكن إلى حدّ التخمة التي تخرج التنعّم من كونه حقيقيّاً إلى كونه وهميّاً ـ هو الذي يسمّى بالترف، ويكون داخلاً في مفاد الآية الاُولى.

والثاني: لا إشكال فقهيّاً في حرمة الغناء والموسيقى، وقد أُدرج في بعض


(1) الوسائل 3/507، الباب 65 من النجاسات، الحديث 4.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 16.

(3) السورة 7، الأعراف، الآية: 32.

196

الروايات(1) في اللغو الوارد في قوله تعالى:﴿... وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾(2)ولكن ألا تصدّقني في فهمي القاصر عن القرآن الكريم على أنّ اللغو في هذه الآية الكريمة وفي الكريمة الاُخرى، وهي قوله تعالى:﴿بِسْمِ الله الرَّحْمن الرَّحِيم قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِمُعْرِضُونَ﴾(3) عبارة عن مطلق اللغو؟ فقد جُعل التحرز عن اللغو من صفات عبادالرحمن ومن صفات المتقين، إلاّ أنّ الحدّ الأدنى لهذا التحرز الذي أوجبه الفقه على عامّة الناس هو التحّرز عن الغناء.

والثالث: قد فسّر الفقهاء الآية الشريفة: ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(4) بأنّ المقصود هو: الاستماع والانصات لقراءة القرآن من قبل إمام الجماعة، وقد دلّ على ذلك صحيح زرارة(5).

وهذا ـ أيضاً ـ ممّا يحدس أنّه من باب الاكتفاء بالأقلّ لعامة الناس، وأنّ الاستماع والانصات لقراءة القرآن مطلوب على كلّ حال، ويلتزم به العارفون بالله كما ورد التزام سيّد العارفين أمير المؤمنين(عليه السلام) بذلك حينما قرأ ابن الكوّا وهو خلف أمير المؤمنين(عليه السلام) في صلاة الصبح: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(6) « ... فأنصت عليّ(عليه السلام)تعظيماً للقرآن حتّى فرغ من الآية، ثُمّ عاد في قراءته، ثُمّ أعاد ابن الكوّا الآية،


(1) الوسائل 17/308، الباب 99 ممّا يكتسب به، الحديث 19، وص316، باب 101 من تلك الأبواب، الحديث 2.

(2) السورة 25، الفرقان، الآية: 72.

(3) السورة 23، المؤمنون، الآيات: 1 ـ 3.

(4) السورة 7، الأعراف، الآية: 204.

(5) الوسائل 8/355، الباب 31 من صلاة الجماعة، الحديث 3.

(6) السورة 39، الزمر، الآية: 65.