المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الأوّل

436

إسناد الحسن والقبح إلّا بالنسبة إلى من له هذا الميل الطبيعىّ والغريزة النفسانيّة، وعدم تطبيق الحسن على أفعال الله تعالى. فلا يصحّ أن يقال ـ مثلاً ـ: إنّ العدل منه حسن والظلم منه قبيح(1). وكذلك من عوّد نفسه على ارتكاب القبائح وترك المحسّنات إلى أن زال منه الميل الطبيعىّ إلى فعل الحسن وترك القبيح، وماتت غريزته، لزم أن لا يميّز بين الحسن والقبيح، مع أنّه ليس كذلك(2).

كما ظهر ـ أيضاً ـ ممّا ذكرناه ما في كلام الفلاسفة، حيث ربطوا إدراك الحسن والقبح بباب المصلحة والمفسدة، لكن ليس كلّ مصلحة ومفسدة، بل خصوص ما لا يحتاج منهما في مقام الإدراك إلى تأمّل عقلىّ، فيدركهما جميع العقلاء، ونتيجة لذلك يتطابقون ـ لأجل الحفاظ على المصالح والتجنّب عن المفاسد ـ على مدح فاعل ما فيه المصلحة، وذمّ فاعل ما فيه المفسدة. ومن هنا سمّوا القضايا التحسينيّة والتقبيحيّة بالمشهورات.

أقول: أمّا ربطهم لدرك الحسن والقبح بالمصلحة والمفسدة، فغير صحيح سواء اُريد المصلحة والمفسدة الشخصيّتان أو النوعيّتان، أي: ما يرجع إلى حفظ نظام المجتمع وبقاء النوع؛ فإنّه يلزم من ذلك على أىّ حال دوران الحكم لديهم بالحسن والقبح مدار نتيجة التزاحم بين المصالح والمفاسد، في حين ليس الأمر كذلك.

وأمّا ما ذكروه نتيجة لذلك: من أنّ هذه قضايا مشهورة، فلم يتّضح لنا ـ ممّا رأيناه من كلماتهم ـ ما هو مرادهم من ذلك؛ فإنّه يحتمل في كلامهم أمران:

الأوّل: أن يكون مرادهم من ذلك إنكار ضمان حقّانيّة هذه القضايا؛ لعدم ضامن لحقانيّتها عدا الشهرة التي لا تصلح لذلك؛ ولذا ترى الشيخ الرئيس يقول: إنّه لو خلق إنسان في مكان منفرداً، ولم يتعلّم المحسّنات والقبائح بالمعاشرة، لم يدرك بعقله ولا بوهمه ولا بحسّه حسن العدل وقبح الظلم. وذكر ـ أيضاً ـ هو وشارح إشاراته المحقّق الطوسىّ(رحمه الله): أنّ القضايا المشهورة ليست بيّنة الصحّة وإن كانت قد تصحّ.


(1) إن كان مقصود من يرجع الحسن والقبح إلى الغريزة هو غريزة الفاعل، ورد عليه هذا النقض، أمّا لو كان المقصود هو غريزة المدرك، فهذا النقض غير وارد عليه.

(2) معرفتنا بأنّه ليس الأمر كذلك إمّا أن تنشأ من علمنا السابق بأنّ باب الحسن والقبح يختلف عن باب الغريزة، وهذا لا يصلح بيانه كنقض، أو من التجربة والاستقراء، وهذا صعب. ولعلّ الأولى النقض بما هو سهل التجربة والاستقراء: من أنّ كثيراً من الناس الاعتياديّين يدركون أحياناً الحسن والقبح على خلاف ما هي نتيجة تزاحم غرائزهم، فمن يدافع ـ مثلاً ـ عن ابنه لغلبة غريزة حبّ الابن على غريزة حبّ العدل عنده، يحكم مع ذلك بأنّه قد خان في سبيل حبّه لابنه.