المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الأوّل

444

ولكن التحقيق: أنّ هذا يستلزم المحال بعد الالتفات إلى وضوح عدم صحّة المدح والذمّ لمن فعل الحسن أو القبيح مع جهله بحسنه أو قبحه.

فمثلاً: من ارتكب القتل والغارة مع جهله بقبحه؛ لكونه قد عاش في مجتمع يفتخرون بذلك، ويرونه شجاعة، ويمارسونه باعتقاد كونه فضيلة وامتيازاً للإنسان، فتغطّى عقله العملىّ بعيشه في بيئة من هذا القبيل، فلم ير هذا الفعل قبيحاً، فارتكب القتل والغارة، لم يصحّ ذمّه ذمّاً عقابيّاً، وإن صحّ تنقيصه من سنخ تنقيص الشخص الغبىّ الذي لا يدرك ما هو من واضحات العقل النظرىّ. فلو كان الحسن والقبح يعني صحّة المدح والذمّ ـ في حين نرى أنّ صحّتهما تتوقّف على علم الفاعل بهما ـ لزم كون حسن فعله وقبحه متوقّفاً على علمه بذلك، وتوقّف الشيء على العلم به مستحيل.

والجواب بأخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول أو ما يشابه ذلك لا يأتي هنا؛ لاختصاصه بباب الجعل والتشريع، ومفروض الكلام هو كون الحسن والقبح أمرين واقعيّين وثابتين بغضّ النظر عن جعل أىّ جاعل واعتبار أىّ معتبر.

والتفكيك بين الجعل والمجعول ـ بمعنى من المعاني ـ إنّما يمكن في الاعتباريّات، دون ما هو من الموجودات الخارجيّة، ولا ما هو من موجودات لوح الواقع ـ بحسب مصطلحنا ـ الذي هو أوسع من لوح الخارج.

والتحقيق: أنّ صحّة المدح والذمّ أو عدم صحّتهما ليسا إلّا عبارة عن حسن المدح والذمّ أو قبحهما. وليس المدح والذمّ إلّا فعلاً من أفعال الإنسان، يتّصف ـ كسائر أفعاله ـ بالحسن والقبح، فالقتل والغارة ـ مثلاً ـ محكومان بالقبح، وذمّ صدورهما عن الشخص محكوم بالحسن، والحكم الثاني اُخذ في موضوعه علم الفاعل بالحكم الأوّل، ولا إشكال في ذلك(1).

 


(1) لا يخفى أنّ تعريف الحسن والقبح بالمدح والذمّ إن كان بمعنى التعريف المنطقىّ، فهذا غير معقول؛ فإنّهما مفهومان أوّليّان واضحان لا يعرّفان بشيء آخر. على أنّ صحّة المدح أو الذمّ لا تعني إلّا حسنهما أو عدم قبحهما، فهذا تفسير للشيء بنفسه، ولكنّ الواقع: أنّ المدح والذمّ هما عين قولنا: إنّ هذا حسن وهذا قبيح، فقولنا: (هذا حسن) هو مدح، وقولنا: (هذا قبيح) هو ذمّ. فصحّ أن يقال كإلفات للنظر ـ لا كتعريف ـ: إنّ الحسن والقبيح عبارة عمّا يستحقّ عليه المدح والذمّ، بمعنى: أنّ الحكم بالحسن والقبح هو عين المدح والذّم. وأمّا لزوم أخذ العلم بالشيء في موضوع نفسه؛ لأنّ صحّة المدح والذمّ تتوقّف على علم الفاعل بالحسن والقبح،