المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الرابع

23

القسم الثاني: الصورة التي يخلقها الذهن البشريّ نفسه، ويُلبِسها على ما في الخارج، ويجعلها رمزاً لكلّ فرد من الأفراد، وثوباً قابلاً للإلباس على كلّ فرد من الأفراد، فليست هذه الصورة قابلة للانطباق على ما في الخارج بالمعنى الصادق في القسم الأوّل، إذ ليست هي ـ في الحقيقة ـ جزءاً مقشّراً لكلّ فرد، وموجودة في ضمن كلّ فرد من الأفراد، وإنـّما هي رمز يرمز به إلى الفرد الخارجيّ بقشوره، وهذه الصورة كثيراً مايخلقها الذهن البشريّ، خصوصاً إذا لم يستطع أن يسيطر على الأفراد، فينسج صورة بنفسه، حتى يرمز بها إلى أيّ فرد أراد، وذلك كما في صورة العدم، حيث إنـّه لا معنىً لاتيان أفراد العدم من الخارج إلى الذهن، وأيّ شيء يرد إلى الذهن من الخارج لكي يقشّره ويكوّن منه صورة العدم الكلّي؟! فلمّا لم يستطع الذهن أن يسيطر على الأفراد صاغ هذا الرمز ليرمز به إلى الواقع، ومثله صورة الوجود، حيث إنّ أفراد الوجود لم تكن تأتي إلى الذهن حسب ما يقال من أنّ الوجود هو أنـّه في الأعيان، وهذا لا يأتي في الذهن، فلمّا لم يقدر الذهن البشريّ على السيطرة على أفراده جعل في نفسه هذا الرمز كي يرمز به إلى الأفراد، ومن هذه الصور المصوغة من قبل الذهن البشريّ عنوان (أحدهما) ونحوه، فهو عنوان رمزيّ، وليس شيئاً ينطبق على ما في الخارج، وجزءاً من كلّ فرد، بل هو رمز لتمام ذاك الفرد بقشوره، وإذا أردنا أن نشبّهه بشيء في باب اللغة شبّهناه بالمشترك اللفظي الذي هو رمز لكلّ واحد من المعاني بتمامه، لا لخصوص الجزء الجامع بينها، فهذه الرموز تجعل من قبل الذهن البشريّ من قبيل جعل الألفاظ رمزاً إلى المعاني، إلاّ أنـّها ليست بصناعة اللغة، كما في رمزيّة الألفاظ، بل بقوّة خاصّة في الفهم البشريّ أودعها الله (تعالى) فيه ليدرك بها الأشياء.

وفي باب العلم الإجماليّ لمّا لم يستطع الذهن البشريّ أن يسيطر على الفرد الموجود من الفردين في الخارج ويصبّ العلم على صورته، نسج عنوان (أحدهما)، وانصبّ العلم على هذه الصورة التي هي رمز تصلح لأن يرمز بها إلى أيّ واحد من الفردين(1)، وهذا لا يرد عليه شيء من الإشكالات السابقة.


(1) إن كان المقصود: أنّ عنوان (أحدهما) رمز للواقع كرمزيّة اللفظ للمعنى فليس تحت هذا اللفظ مفهوم غير المفهوم المنطبق مباشرة على الواقع، فهذا واضح البطلان، فإنّ لدينا مفاهيم ثلاثة متباينة في عالمها، وهي مفهوم زيد مثلاً ومفهوم عمرو، ومفهوم (أحدهما) بإرجاع الضمير إلى زيد وعمرو، ولو كان لفظ (أحدهما) مفهومه عين المفهوم المنطبق على الواقع لما حلّ لنا مشكلة تصوير العلم الإجماليّ، فإنـّه في الجهالة يساوي الواقع المجهول؛ لأنـّهما متّحدان مفهوماً، فلم نصنع شيئاً لحلّ الإشكال.

وإن كان المقصود: أنّ عنوان (أحدهما) يعطينا مفهوماً خاصّاً به يباين المفهوم الحاكي مباشرة عن الواقع بخصوصه، والذي لم نعلمه بالضبط، وأنّ هذا المفهوم رمز بحت، أي: خاو عن الواقعيّة من قبيل بحر من زئبق، فهذا ـ أيضاً ـ واضح البطلان، إذ لو كان كذلك لما صحّ حمل عنوان (أحدهما) على كل من زيد وعمرو، إذن فمفهوم أحدهما ليس أمراً خيالياً بحتاً كما نبّه على ذلك اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في بحث الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

وإن كان المقصود: أنّ عنوان (أحدهما) جامع انتزاعيّ لكنّه جامع عرضي، وليس جامعاً ذاتياً كي يكون بالضرورة جزءاً من الفرد لا يحصل إلاّ بالتقشير، وإنما هو جامع انتزاعي صحّ انتزاعه من كلا الفردين بما لهما من القشور الزائدة على الجامع الذاتي، فهذا مطلب صحيح، ولكن عبارة المتن قاصرة عن أداء ذلك.

وهذا الكلام يأتي في جميع الجوامع الرمزيّة، فهي دائماً تكون في واقعها جوامع انتزاعيّة عرضيّة لا خياليّة بحتة.

وافتراض تعلّق العلم الإجماليّ بهذا الجامع الانتزاعي أو العرضي، لا يرد عليه ما مضى من أنـّنا نعلم بوجود شيء أكثر من الجامع في المسجد، لأنّ الجامع لا يوجد إلاّ ضمن خصوصيّة الفرد، وذلك؛ لأنّ هذا الجامع ليس هو ذاك الجامع الذي هو من ضمن الفرد؛ إذ ليس جزءاً من الفرد انتزع عنه بالتقشير، وإنما هو جامع منتزع من الفردين بما هما فردان، وبما لهما من قشور بالمقدار الداخل تحت العلم.