المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الرابع

419

فنقول: من المعقول افتراض جملة من الأحكام واجدة للملاك اللزومي في الواقع، مع فرض وجود محذور عن إبداء ذاك الحكم ومصلحة في إخفائه فيقع التزاحم بين ملاك الحكم ومصلحة الإخفاء، وقد تغلّبت مصلحة الإخفاء على ملاك الحكم، والإخفاء له مراتب، فقد تكون المصلحة في بعض مراتبه بالخصوص، ولا توجد في بعضها الآخر مصلحة، فمثلاً يكون شخص عطشاناً لكنّه يخفي عطشه عن أصدقائه لكي لا يكلّفهم بإتيان الماء، ولكن هذه مصلحة في بعض مراتب الإخفاء: وهي أن لا يتصدّى ابتداءً للبيان، أمـّا لو سُئل عن عطشه أو ألحّ عليه لبيّنه، هذا مثال للتقريب إلى الذهن، والمقصود أنـّه يمكن افتراض أنّ وجوب الحجِّ في كلّ عام مثلاً فيه ملاك لزومي، لكن توجد مصلحة في بعض مراتب الإخفاء، فقد يكون السؤال أو الإلحاح ببعض درجاته يوجب البيان؛ لعدم مصلحة في الإخفاء بتلك المرتبة بأن يسكت، أو يجيب بما يُفهم منه العدم عند الإصرار في السؤال بتلك المرتبة، فالسؤال يحقّق موضوع هذه المرتبة من الإخفاء التي ليس فيها مصلحة، ولعلّ هذا هو المشار إليه في الآية الكريمة في سورة المائدة﴿يا أيّها الّذينَ آمَنوا لا تَسألوا عن أشياءَ إن تُبدَ لكم تَسؤكم وإن تَسألوا عنها حينَ يُنزّل القرآن تُبدَ لكم عَفا الله عنها واللّه غَفورٌ حَليم﴾(1) وهذه الآية الكريمة لا تخلو عن إجمال، إلّا أنّ أظهر ما فيها هو حملها على ما ذكرناه من كون السؤال موجباً لإظهار الحكم.

ويوجد في الآية الكريمة احتمال أن يكون المراد من تلك الأشياء المعاجز كما حَمَلَه على ذلك جملة من المفسّرين، فكأنّهم كانوا يقترحون معاجز ويشتهونها، ومن السنن الإلهيّة أنـّه إذا أُبديت المعجزة الاشتهائيّة والمقترحة ولم يؤمنوا؛ ترتّب على ذلك العقاب على المقترحين والمشتهين؛ ولذا تقول الآية: ﴿ لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾ .

هكذا يفسّر بعض المفسّرين، لكنّ هذا خلاف الظاهر؛ فإنّ الخطاب في لسان الآية متوجّه إلى المؤمنين، وتعدية السؤال بـ( عن ) والتعبير بــ (الإبداء) وربط المطلب بحال تنزّل القرآن كلّ هذه تبعّد هذا الاحتمال، وتقرّب كون تلك الأشياء أشياء يستخبرون عنها، لا أنـّه يطلبون إيجادها، وتلك الأشياء هي أحد أمرين: إمـّا هي الأحكام فهذا هو المقصود، وإمـّا هي اُمور واقعيّة تكوينيّة كانوا يستخبرون عنها


(1) سورة 5، المائدة، الآية 101.