المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الخامس

268


هو مشرّع، لا أنّها صدرت منه بما هو إنسان مخبر عن حقائق الاُمور، وكاشف عن الدقائق الموجودة في هذا العالم، فهذا الوجه ـ أيضاً ـ غير صحيح ـ إن كان هذا هو المقصود ولعله الظاهر من العبارة ـ وذلك لأنّه صحيح: أنّنا على العموم نقول: أنّ الأصل في الشارع عندما يصدر كلاماً أن يكون كلامه بما هو مشرّع لا بما هو مخبر لكن هذا الكلام إنّما نقوله على العموم بنكتة، وتلك النكتة هي: أنّ هذا المشرّع بوصفه حاكماً وبوصفه مشرّعاً لدين من الأديان، منقطع الصلة بالاُمور التكوينيّة. نعم، قد يشرح التكوينيّات، وقد يشرح الآفاق والأنفس، والعجائب الموجودة في الآفاق والأنفس لهدف تحكيم الاعتقادات، ولأهداف اُخرى، ولكن بما أنّه مشرّع لدين لا يكون بصدد بيان أسرار الآفاق، وإنّما هو بصدد التشريع، هذا المعنى على العموم صحيح، لكن لو أنّ هناك خصوصيّات تكوينيّة أصبحت موضوعة لآثار شرعيّة، فكان عليه أن يكشفها، ونحن لا نعلم بها كي نرتّب آثارها الشرعية، فهنا ليس حمل كلام هذا المشرع على الكشف والإخبار عن تلك الاُمور خلاف طبع المشرّع، فلو فرضنا أنّ النجاسة والطهارة أمران تكوينيّان لكنّهما ـ على أيّ حال ـ موضوعان لآثار شرعية، فالقذارة التكوينيّة للبول موضوع لبطلان الصلاة ولحرمة الشرب مثلاً، وكذلك طهارة ومطهّريّة الماء موضوع لأحكام، فهنا لا معنى للقول بأنّ حمل كلام الشارع على الكشف عن ذلك خلاف الظاهر. نعم، بشكل عامّ نحن نقول: إنّ كلام المشرّع يحمل على عالم التشريع، وهذا معناه: أنّ غرض المشرّع راجع الى تكميل تشريعه وليس إلى عوالم التكوين، فهو حينما يتكلّم بما هو بارئ ومكوّن يحكي عن الغيب، ويحكي عن أسرار العالَم، ولكن حينما يتكلّم بما هو مشرّع يكون في عالم آخر، ولا ينظر في هذه الحال إلى بيان أسرار التكوين في ذاتها، ولا إشكال في أن حديثه عن الطهارة والنجاسة يكون ناظراً إلى عالم التشريع، ولأجل تحقيق أهداف التشريع، ولكن هذا لا ينافي حمل كلامه على الإخبار عن الاُمور التكوينيّة المؤثّرة في تحديد الأحكام، وتشخيص موضوعاتها التي يعجز الإنسان الاعتيادي عن تشخيصها.

الاستدلال ببعض الروايات على مجعولية الطهارة والنجاسة:

ولعلّ أقوى الوجوه التي يمكن أن تذكر لإثبات كون الطهارة والنجاسة أمرين تشريعيّين لا واقعيّين هو التمسّك ببعض الروايات، ولعلّ مقصود السيّد الخوئي(رحمه الله) من الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرها هو ذلك.

وعلى أيّ حال، فهناك عدد من الروايات قد يستظهر منها كون الطهارة والنجاسة أمرين تشريعيّين، ونحن نذكر هنا بهذا الصدد روايات ثلاث:

الرواية الاُولى: رواية داود بن فرقد، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال:«كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسّع الله عليكم ما بين السماء والأرض، وجعل لكم الماء طهوراً، فانظروا كيف تكونون»(1).

هذه الرواية ظاهرها: أنّ الماء لم يجعل من قبل الله تبارك وتعالى طهوراً لبني اسرائيل، إنّما جعله طهوراً لكم


(1) الوسائل: ب 1 من الماء المطلق، ح 4