المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الخامس

269


أنتم أيّها المسلمون، إذن، فهذه الطهارة طهارة تشريعيّة؛ إذ لو كانت طهارة تكوينيّة لم يكن فرق فيها بين المسلمين وبين بني اسرائيل، وليس في عصرنا هذا أصبحت للماء خصوصيّة تكوينيّة لم تكن موجودة في زمان بني إسرائيل، وإذا كانت الطهارة تشريعيّة فالنجاسة التي تكون هذه رافعة لها ـ أيضاً ـ تشريعية؛ لأنّ رفع النجاسة التكوينيّة بالتشريع غير معقول.

الرواية الثانية: رواية محمّد بن حمران، وجميل بن درّاج، «أنّهما سألا أبا عبدالله(عليه السلام) عن إمام قوم أصابته جنابة في السفر وليس معه من الماء ما يكفيه للغسل، أيتوضأ بعضهم ويصلي بهم، فقال: لا، ولكن يتيمّم الجنب ويصلّي بهم، فإنّ الله عزّ وجلّ جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً»(1). فهنا جعل التراب طهوراً جعل تشريعي وليس جعلاً تكوينياً؛ لأنّ جعل التراب طهوراً يقصد به الطهارة الحدثيّة، بمعنى رفع الجنابة، والطهارة الحدثية تشريعية وليست تكوينية، وعندئذ فبوحدة السياق نفهم أنّ الجعل في قوله:«كما جعل الماء طهوراً» أيضاً جعل تشريعي، وطهوريّة الماء مطلقة ليست مخصوصة بالطهارة عن الحدث، بل تشمل الطهارة عن الحدث وعن الخبث، وإنّما سمّيت الطهارة الحدثية بالطهارة تشبيهاً للحدث بالخبث، ولفرض الحدث كأنّه نوع قذارة، ولهذا سمّي رفعها طهارة فكأنما الحدث نوع قذارة إلاّ أنّها قذارة معنوية، ورفعها طهارة معنوية، فإذا كان المقصود بطهوريّة الماء ما يشمل مطهّريته للخبث،وعرفنا بوحدة السياق أنّ المقصود الجعل التشريعي للتطهير، عرفنا بذلك أنّ النجاسة التي ترفع بهذا التطهير التشريعي ـ أيضاً ـ نجاسة تشريعيّة؛ لأنّ الشيء التكويني لا يمكن رفعه بالتشريع.

الرواية الثالثة: رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام):«لا صلاة إلاّ بطهور، ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأمّا البول فإنّه لابدّ من غسله»(2) بناءً على أنّ المسح بثلاثة أحجار لا يرفع غالباً القذارة التكوينيّة، فيكون هذا شاهداً على أنّ المقصود الطهارة التشريعيّة ورفع القذارة التشريعيّة.

مناقشة الاستدلال:

إلاّ أنّ الاستدلال بكلّ هذه الروايات قابل للمناقشة.

فالرواية الأخيرة لو حملت على التطهير التكويني فالأحجار الثلاثة وإن كانت في الغالب لا تولّد الطهارة والنقاء التامّين، ولذا يكون الاستنجاء بالماء أفضل، ولكن لا شكّ في أنّها توجب مستوى من الطهارة والنقاء التكوينيين، فمعنى الرواية: أنّه في باب الاستنجاء يجزيك هذا المستوى من الطهور المتمثّل في ثلاثة أحجار.

والرواية الثانية لو تمّ أنّ ما فيها من قوله:«جعل التراب طهوراً» يقصد به الطهارة التشريعيّة، باعتبار أنّ الطهارة الحدثية لا تكون إلاّ تشريعيّة، فوحدة السياق تقتضي أنّ المقصود بقوله:«كما جعل الماء طهوراً» أيضاً هي الطهارة التشريعيّة، فإذا شككنا في تشريعيّة وتكوينيّة الطهارة الخبثيّة لم يكن مقتضى الإطلاق شمول الطهارة