المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الخامس

279

قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ»، فيستفاد منه كون النظر الإنشائي للمولى في المقام إلى الشكّ نظراً فراغياً، أي: إنّه يفرض الموضوع مفروغاً عنه، فيرتّب عليه الحكم. وهذا ما يعترف به القوم؛ ولذا جعلوا الاستصحاب السببي حاكماً على الاستصحاب المسبّبي برفعه لموضوعه الذي هو الشكّ، فلو لم يكن ينظر إليه بما هو مفروغ عنه فزواله بالاستصحاب السببي لم يكن يضرّ بجريان الاستصحاب المسبّبي، فإذا فرض أنّه ينظر إلى الشكّ نظر الفراغ عن وجوده، قلنا: إنّ ادّعاء وجوده بنفس الإنشاء الذي ينظر فيه إليه نظر الفراغ عنه يكون تهافتاً في عالم النظر الإنشائي، فكيف يعقل حمل الحديث على جعل الطريقية واعتبار العلم وعدم الشكّ؟!(1)

ولعلّ هذا هو السرّ فيما ذهب إليه المحقّق النائيني(رحمه الله) من التفكيك بين الاستصحاب والأمارات، فإنّه(قدس سره) وإن لم يذكر دليلاً على ذلك التفكيك، وإنّما ذكره كتنظيم للأدلّة وبيان


(1) قد تقول: لا يوجد تهافت في المقام؛ لأنّ المستفاد من نفي الشكّ مثلاً: أنّ الشكّ الموجود في ذاته وبقطع النظر عن الجعل والاعتبار منفيّ جعلاً واعتباراً، فما فرغ المتكلّم عن وجوده هو ذات الشكّ التكويني وبقطع النظر عن الجعل والاعتبار، وما أثبته من اليقين هو اليقين الجعلي والاعتباري، ولا تنافي بين الأمرين، وهذا ما يفهم من مثل قوله:(شكّك ليس بشكّ).

ولكن هذا الكلام إنّما يصحّ في فرضين:

الفرض الأوّل: أن يقصد بالجعل والاعتبار التنزيل، وهو معقول في مثل قوله:(شكّك ليس بشكّ) فإنّ النظر إلى الشكّ لدى التنزيل نظر واحد، وليس نظرين، فيقول القائل:(شكّك المنظور إليه بالنظر الواقعي منزّل منزلة اليقين وعدم الشكّ)، ولا تهافت في ذلك. وأمّا في ما نحن فيه، فعلى مسلك الشيخ النائيني(رحمه الله) القائل بعدم إمكانية تنزيل حاكم شيئاً منزلة شيء آخر في آثاره التي حكم بها حاكم آخر، لا يمكن تنزيل الشكّ أو احتمال بقاء الحالة السابقة منزلة اليقين الطريقي؛ لأنّ آثار اليقين الطريقي عبارة عن التنجيز والتعذير، وهما عقليان، وليسا شرعيين حتّى يمكن إثباتهما بالتنزيل.

والفرض الثاني: أن يفرض كون الكلام إخباراً لا إنشاءً، وكون الاعتبار ثابتاً من قبل، فيقول المتكلّم بنظر واحد وهو النظر الإخباري:(إنّ الشكّ الثابت تكويناً منفيّ جعلاً واعتباراً)، فهنا ـ أيضاً ـ لم يلزم الجمع بين نظرين في نظر واحد. إلاّ أنّ هذا في ذاته خلاف الظاهر، لا يصار إليه إلاّ إذا حصل العجز عن أيّ تفسير آخر معقول للحديث غير مخالف للظاهر، بينما الشيخ النائيني(رحمه الله) في فسحة عن الالتزام بهذا التفسير؛ لأنّه يعتقد ـ كما سيأتي في المتن ـ إمكانية اعتبار الطريقية واليقين بلحاظ الجري العملي، فيمكن أن يفرض الفراغ عن ثبوت الشكّ وعدم اليقين بلحاظ الكشف، وتعتبر الطريقية واليقين بلحاظ الجري العملي، ولا تهافت في ذلك.

وإذا غضضنا النظر عن هذين الفرضين، وعن فرض تعدّد جهات اليقين وإمكانية التفكيك بينهما في جعل الطريقية، فنفي الشكّ التكويني بالجعل والاعتبار في إنشاء واحد يعني الجمع بين نظرين في إنشاء واحد، وهما النظر الواقعي والنظر الجعلي والاعتباري. وهذا غير معقول.