المولفات

المؤلفات > مَغزى البيعة مع المعصومين (علیهم السلام)

3

ومن هنا يتّضح أنّنا لو استظهرنا من بعض النصوص ولاية الحكم للإمام قبل البيعة، فحتّى لو انحصر تفسير البيعة بالعقد الاجتماعيّ لم يضرّ ذلك بما هو مسلّم لدى الشيعة من ثبوت ولاية الحكم للمعصوم بالنصّ.

أمّا كيفيّة سلوكنا للطريقين المشار إليهما آنفاً فهي مايلي:

الطريق الأوّل: اقتناص قرينة قطعيّة أو عرفيّة من نفس الكيفيّة التطبيقيّة للفعل لتفسير ذلك الفعل.

وهذه القرينة إن كانت فهي في صالح التفسير الثاني للبيعة دون الأوّل، أي في صالح أنّ أخذ البيعة كان لأجل التأكّد من وجود الناصر الذي لم يكن المفروض إيجاده بالقهر الإعجازي، والذي لم يكن يمكن عملاً تحقيق السلطة والحكم بدونه، وليست في صالح التفسير الأوّل وهو كون هذه البيعة عقداً اجتماعيّاً لتحقيق مصدر لولاية الأمر والحكم. وتلك القرينة هي أنّه لو كانت البيعة ملحوظة كعقد اجتماعيّ ناقل لحقّ الاُمّة في نفسها إلى المعصوم بقرار بينهما كما هو الحال في نظائرها من العقود، لكان المتوقّع أن يكون أحد طرفي هذا الحقّ هو المعصوم والطرف الآخر كلّ الاُمّة، إمّا بمعنى بيعة الأكثريّة الساحقة بنحو لا يتخلّف عنها إلّا النزر القليل الذي لا ينفي تخلّفه عرفاً صدق عنوان التوافق والعقد بين الاُمّة والمعصوم، وإمّا بمعنى أنّ الاُمّة كلاًّ لها توافق سابق على تمشية رأي الأكثريّة مع فرض أنّ البيعة تُحقَّق من أكثريّة الاُمّة، على رغم أنّ المخالف لم يكن نزراً قليلاً بل كان كثيراً جدّاً، فإن تخلّف القسم الأقلّ حتّى ولو كان أقلّ من القسم الآخر بصوت واحد فقط لا يضرّ بعد ما كان هناك اتّفاق بين الفريقين الأقلّ والأكثر على انّ الذي يحكمهم جميعاً هو رأي الأكثر. وهذا البيان الثاني هو المفهوم من الكلمات المنقولة عن روسو، ولكنّنا ـ كما قلنا ـ لسنا الآن بصدد مناقشة روسو.

ولو كانت البيعة ملحوظة لا عقداً اجتماعيّاً بين الاُمّة والمعصوم يورث الحقّ بل تأكّداً من وجود القدر الكافي من الناصر الذي به يستطيع المعصوم المبايع الحرب مع الأعداء أو إقامة الحكم، لكان المترقّب اكتفاء المعصوم ببيعة من يكفيه للنهوض بالأمر على رغم عدم اتّفاق أكثريّة ساحقة على تلك البيعة ولا توافق سابق بين الفئتين على تحكيم رأي الأكثريّة ولو غير الساحقة.

والذي وقع في غالب البيعات التي ثبتت بالتأريخ القطعيّ للمعصوم هو الثاني لا الأوّل، فهذا رسول الله (صلى الله عليه و آله) قد بايعته أقلّيّة مسلمة وخالفته الأكثريّة الكافرة، واكتفى بذلك في تثبيت حكمه على أهل الكتاب بكونهم مخيَّرين بين الالتزام بالإسلام أو الالتزام بإعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، ولم يكن هذا تبليغاً لتشريع الله لهم إن شاؤوا عملوا به وإن شاؤوا خالفوه؛ إذ لو كان كذلك لما كان هناك أيّ داع لأحدهم للالتزام بالجزية.

وهذا عليّ  اكتفى ببيعة من حضرها من المسلمين ولم يكن قد دخل أهل الشام في البيعة معه ولا كانوا قد أعطوا رضاً بنفوذ بيعة الآخرين عليهم، فما الذي أدخلهم في أحد طرفي العقد حتّى ينفذ العقد عليهم؟ وما معنى قول عليّ : «أيّها الناس، إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شَغَب شاغب استُعتِب، فإن أبى قوتل. ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثُمّ ليس للشاهد أن يرجع، ولا للغائب أن يختار»(1)؟

وما معنى كتاب عليّ  لمعاوية: «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ. وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباع غير سبيل المؤمنين وولاّه الله ما تولّى»(2)؟

وروى ذلك أيضاً نصر بن مزاحم في كتاب وقعة صفّين مع شيء من التفصيل مصدّراً الكلام بقوله: «أمّا بعد، فإنّ بيعتي لزمتك وأنت بالشام؛ لأنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ... »(3).


(1) نهج البلاغة: 549 بحسب طبعة الفيض.
(2) نهج البلاغة: 831، بحسب طبعة الفيض.
(3) وقعة صفّين: 21 بحسب طبعة قم.