المولفات

المؤلفات > مالكيّة الأعيان والجهات

5

بل إنّ بيت المال يقسّم إلى أقسام وفروع كلّ منها يعود إلى جهة من الحقوق والنفقات، ويكاد يعتبر كلّ قسم من أقسامه ذا شخصيّة حكميّة منفصلة عن شخصيّة القسم الآخر ضمن الشخصيّة الكبرى لبيت المال العامّ، لأنّ لكلّ قسم استحقاقات وأحكاماً تخصّه، فلا ينفق من قسم فيما يعود إلى آخر على سبيل الخلط، بل على سبيل القرض بين تلك الفروع، كما عليه الفكرة الماليّة القانونيّة الحديثة في تنظيم خزينة الدولة العامّة وفروعها.

الثاني: شخصيّة الوقف. فنظام الوقف في الإسلام قائم على أساس اعتبار شخصيّة حكميّة للوقف بالمعنى الحقوقيّ الحديث، فللوقف ملك محجور عن التمليك والتملّك والإرث والهبة ونحوها، وهو مرصد لما وقف عليه الوقف يستحقّ ويُستحق عليه، وتجري العقود الحقوقيّة بينه وبين أفراد الناس من إيجار وبيع وغلّة واستبدال وغير ذلك، ويمثّله في كلّ هذا المتولّي، ويكون المتولّي مسؤولا عن صيانة حقوق الوقف تجاه السلطة القضائيّة، ويشتري المتولّي للوقف ما يحتاج إليه، فيملكه الوقف ويدفع ثمنه من غلّته، وكذلك يستدين المتولّي لجهة الوقف عند الحاجة بإذن القاضي.

الثالث: شخصيّة الدولة. فقد قرّر الفقهاء من الأحكام لتصرّف السلطان ما لا يمكن تفسيره إلّا باعتبار أنّ الدولة شخصيّة حكميّة عامّة، ويمثّلها في التصرّفات والحقوق والمصالح رئيسها ونوّابه من سائر العمّال والموظّفين في فروع الأعمال كلّ بحسب اختصاصه في كلّ من النواحي الخارجيّة والداخليّة والماليّة.

فمن تلك الأحكام ما يلي:

1 ـ في الناحية الخارجيّة اعتبروا أنّ ما يبرمه الإمام من صلح أو معاهدات محترم وملزم للاُمّة، لا تجوز للإمام أو الرعيّة مخالفته ما لم ينتهِ أجله، أو ينقض نقضاً مشروعاً بعد إنذار وإمهال، أو يخلّ الطرف الثاني بعهده، وما يفتح من البلدان صلحاً يجري الإمام فيه على موجب الصلح، ولا يجوز للإمام الذي يأتي بعده تغييره، ومعنى هذا اعتبار الدولة من الوجهة السياسيّة الخارجيّة شخصاً حكميّاً يمثّله الإمام ويتعاقد باسمه وفقاً لنظريّات الحقوق الدوليّة الحديثة.

2 ـ وفي الناحية الداخليّة ذكروا أنّ القضاة والعمّـال ـ أي الموظّفين ـ لا ينعزلون بموت السلطان الذي عيّنهم.

3 ـ وفي الناحية الماليّة ـ وهي التي يبرز فيها وجه الذمّة الماليّة في شخصيّة الدولة ـ ذكروا أنّ القاضي إذا أخطأ في قضائه بما لا يكون فيه التلافي كان الضمان على بيت المال.

ومقتضى هذه النصوص وأمثالها أنّ الفقهاء قد اعتبروا الدولة شخصيّة حكميّة ذات أهليّة وذمّة مستقلّة عن شخصيّات أفراد الاُمّة، ولها ماليّة خاصّة مستقلّة عن أموالهم وإن كانت تجبى منهم، وهي بيت المال.