المولفات

المؤلفات > تزكية النفس من منظور الثقلين (7) التّوبة والأنابة (1)

6

وقال عزّ اسمه: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً إنّه هو الغفور الرحيم. وأنيبوا الى ربّكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون. واتّبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربّكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون. أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرّطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين. أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين. أو تقول حين ترى العذاب لو أنّ لي كرّة فأكون منالمحسنين﴾(1).

إنّ آيات التوبة في القرآن كثيرة، وكان اختياري لهذه الآيات الأربع بالذات لبدء الحديث فيالتوبة لنكات خاصّة بها:

أما الآية الأُولى فالنكتة الخاصّة بها هي ما ورد فيها: من أنّ الله ـتعالىـ فرض على نفسه التوبة على العبد التائب حيث قال: ﴿انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب...﴾ وكلمة (على) تعطي معنى الوجوب، فلاحظ رحمة الربّ ـ تعالى ـ الذي لا يجب عليه عقلاً قبول التوبة؛ لأنّ العبد العاصي بعد أن خالف نظام العبودية فهو لا محالة يستحق جزاء عمله، وليست التوبة ماحية لاستحقاقه، ولكنّك تقف إعظاماً وإكباراً للرحمة البارزة في هذه الآية الشريفة؛ إذ فرض الله ـ تعالى ـ قبول التوبة أمراً واجباً على نفسه، وكأنّ عبده المذنب له حقّ دلال على الربّ ـ تبارك وتعالى ـ يطالبه بما أوجبه على نفسه من المغفرة والرحمة والتوبة عليه.

ولعل السبب في هذا ـ بعد وضوح سعة رحمته التي ستظهر في يوم القيامة حتى يطمع إبليس فيها(2) ـ واضح، وهو: أنّ فرض العقاب على ذنوب العباد لم يكن بهدف التشفّي من العبد تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، بل كان بهدف جعله رادعاً للعبد عن الهلاك وسقوطه في وادي الضلال وفي رذائل النفس وقبائح الأعمال، ومحفّزاً له على تزكية نفسه وتنمية الفضائل في ذاته، وتكميله في سلّم المعنويات بقدر قابليته، هذا بالنسبة لغير الخبيث الذي وصل استحقاقه للعقاب (لولا أن يتوب) إلى حدّ لا يكون قابلاً للعفو عنه، أمّا بالنسبة لهذا فهناك ملاك آخر للعقاب زائداً على ما مضى لسنا الآن بصدد شرحه. فإذا تاب العبد وأناب إلى ربّه فقد طهّر نفسه، واستعاد حسن سريرته، وبدأ يرقى مرقى الكمال، فقد تحقّق الهدف الذي كان كامناً من وراء فرض العقاب، فالربّ تعالى يكون ـعندئذ ـ أعلى وأجل من أن يعاقبه، وهو تبارك وتعالى قد فرح ـ إن صحّ التعبيرـ بحصول الهدف المنشود، وهو: هداية العبد. فقد ورد في الحديث عن أبي عبيدة الحذّاء قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام): ألا إنّ الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب من رجل ضلّت راحلته في أرض قفر وعليها طعامه وشرابه، فبينما هو كذلك لا يدري ما يصنع ولا أين يتوجه حتى وضع رأسه لينام فأتاه آت فقال له: هل لك في راحلتك، قال: نعم، قال: هو ذه فاقبضها، فقام إليها فقبضها، فقال ابوجعفر (عليه السلام): والله أفرح بتوبة عبده حين يتوب من ذلك الرجل حين وجد راحلته»(3) ـ.


(1) السورة 39، الزمر، الآيات: 53 ـ 58.
(2) راجع البحار 7/287، الباب 14 من كتاب العدل والميعاد، الحديث 1.
(3) البحار 6/38 ـ 39.