المولفات

المؤلفات > تزكية النفس من منظور الثقلين (7) التّوبة والأنابة (3)

17

وقد ذكر الشيخ المجلسي (قدس سره) هذه القِصّة بكلّ تفصيل في البحار(1)، إلّا أن الآية التي فرض نزولها في تلك القِصَّة ليست الآية الماضية، بل آية أُخرى، وهي قوله تعالى: ﴿والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلّا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون* اولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنّات تجريمن تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين﴾(2).

وثالثها ـ ما رواه فخر الرازي في تفسيره(3) بعنوان أحد الأُمور التي ذكرت في سبب نزول الآية، وهو أنّه قيل: «إنّها نزلت في أهل مكّة، فإنّهم قالوا: يزعم محمّد (صلى الله عليه و آله) أنّ من عبد الأوثان، وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا، فكيف نسلم؟!» فنزلت هذه الآية معلنةً عن قبول توبتهم.

وممّا يناسب ذكره في المقام قِصّة أبي لبابة التي رواها المجلسي في البحار(4) عن تفسير علي بن إبراهيم في ذيل آية ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم﴾(5) قال: «نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، وكان رسول الله (صلى الله عليه و آله) لمّا حاصر بني قريظة قالوا له: ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله): يا أبا لبابة ائت حلفاءك ومواليك، فأتاهم، فقالوا له: يا أبا لبابة ما ترى؟ أننزل على حكم رسول الله؟ فقال: انزلوا، واعلموا أنّ حكمه فيكم هو الذبح وأشار إلى حلقه، ثُمّ ندم على ذلك، فقال: خنت الله ورسوله، ونزل من حصنهم، ولم يرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله)، ومرّ إلى المسجد، وشدّ في عنقه حبلاً، ثُمّ شدّه إلى الأُسطوانة التي تسمّى أسطوانة التوبة، فقال: لا أحلّه حتى أموت، أو يتوب الله عليّ، فبلغ رسول الله (صلى الله عليه و آله) ذلك، فقال: أمّا لو أتانا لاستغفرنا الله له(6) فأمّا إذا قصد إلى ربّه فالله أولى به. وكان أبو لبابة يصوم النهار، ويأكل بالليل ما يمسك رمقه، وكانت بنته تأتيه بعشائه، وتحلّه عند قضاء الحاجة، فلمّا كان بعد ذلك ورسول الله (صلى الله عليه و آله) في بيت أُمّ سلمة نزلت توبته، فقال: يا أُمّ سلمة قد تاب الله على أبي لبابة، فقالت: يا رسول الله أفأُؤذنه بذلك؟ فقال: لتفعلنّ، فأخرجت رأسها من الحجرة، فقالت: يا أبا لبابة أبشر قد تاب الله عليك، فقال: الحمدلله، فوثب المسلمون يحلّونه، فقال: لا والله حتى يحلّني رسول الله (صلى الله عليه و آله) بيده، فجاء رسول الله (صلى الله عليه و آله) فقال: يا أبا لبابة قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من أُمّك يومك هذا لكفاك، فقال: يا رسول الله أفأتصدّق بمالي كلِّه، قال:لا، قال: فبثلثيه؟ قال: لا، قال: فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال: نعم، فأنزل الله: ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله غفور رحيم* خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم* ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم﴾(7) ».


(1) البحار 6/23 ـ 26.
(2) السورة 3، آل عمران، الآيتان: 135 ـ 136.(3) التفسير الكبير للفخر الرازي 27/4.
(4) البحار 22/93 ـ 94.
(5) السورة 9، التوبة، الآية: 102.
(6) لعلّه إشارة إلى قوله تعالى:... ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما. السورة 4، النساء، الآية: 64.
(7) السورة 9، التوبة، الآيات: 102 ـ 104.