المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

320

الكتاب، ومن قبيل قِصّة غريبة رُويت في بعض الكتب: من أنّ رجلاً معروفاً من رجال البصرة قال: كنت أمشي في طريق وإذا بصيحة جلبت انتباهي، فعقّبتُها فرأيت رجلاً طريحاً على الأرض مغمىً عليه، فسألت عنه فقالوا لي: هذا رجل من أهل الحال سمع آية من القرآن فوقع مغشيّاً عليه، قلت لهم: وأيّة آية تلك؟ فقالوا: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...﴾ وإذا بالرجل سمع صوتي فانتبه، وأنشد هذه الأبيات الحزينة:

أما آن للهجرانِ أنْ يتصرّما
وللغصن غصن البان(1) أنْ يتبسّما
وللعاشقِ الصبِّ الذي ذاب وانحنى
ألم يأن أنْ يُبكى عليه ويُرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي
كتاباً حكى نقش الوشيّ المنمنما(2)

ثُمّ قال ثلاث مرّات: مشكل، مشكل، مشكل، فوقع مرّة أُخرى مغشيّاً عليه، فحرّكناه فإذا به قد قضى نحبه(3).

أقول: إنّ هذه القِصَّة إن لم تكن من نسج بعض المتصوّفة، وكانت قِصّة واقعية، فهي تحكي عن نموّ صاحبها في بعض الجوانب الروحية، ونقصه في بعض الجوانب الأُخرى، وإلاّ فليس المفروض بمن ينمو روحيّاً في جانب الخشوع والخضوع، أو الخوف والخشية، أو الشعور بعظمة الربّ تبارك وتعالى، أو ما إلى ذلك، أن يشوش على نفسه الحياة الدنيا، وأن يموت بسبب سماعه للآية المباركة ونحو ذلك من الأُمور، فلو صدق ذلك فهذا يعني: ضعف نفس في الشخص، وفي تحمّله، وفي حفظه لجانب الاتّزان.


(1) البان شجر معتدل القوام مهده الأصلي آسيا القطبية، ورقه ليّن كورق الصفصاف، يؤخذ من حبّته دهن طيب، ويشبّه به القدّ لطوله. وكأنّ الشاعر يشبّه شجرة الأمل بشجرة البان ويتمنّى أن يتبسم غصن أمله.

(2) الوشيّ والمنمنم بمعنى واحد تقريباً، أي: المزخرف والمنقش والمزيّن بألوان مختلفة.

(3) تفسير «نمونه» 23/346 نقلاً عن تفسير روح المعاني 27/156.