المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

330

وفي مقابل هذا السنخ من التفكير أو هذا الطرز من التربية يجب بيان عدّة أُمور:

الأوّل: أنّ مَن يرغب في تقليل الاستفادة من مُتَع الدنيا: بأن يجعل تمتّعه بها أنزل من حدّ الاعتدال يجب أن لا يكون ذلك بروح الرغبة عنها وكُرهها والعزوف عنها؛ فتشمله النواهي الواردة في الكتاب والسُنّة وذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ...﴾(1) وغير ذلك ممّا مضى طرفٌ منه في بحث النقطة الرابعة من نقاط المدخل، بل يكون بروح الإيثار وتقديم الآخرين على نفسه، والإيثار لا يكون إلاّ فيما هو محبوب، قال الله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...﴾(2) فإن كان ابتعاده بالقدر المعقول عن الإكثار من النِّعم المادّية بهذه الروح فلن يؤدّي ذلك إلى ترك خيرات البلاد وبركاتها للكافر المستكبر أو للفاسق المتجبّر، بل ينسجم ذلك مع سعيه في نفس الوقت لطرد المستكبرين والمتجبّرين، وحصر الخيرات والبركات بقدر الإمكان للمؤمنين والمسلمين؛ كي يستفيدوا منها، ويتنعّموا بها، ويبذلوها ـ أيضاً ـ في سبيل الله وفي سبيل إحياء كلمة الله، فإنّ روح الإيثار لا تكون بمجرد ترك النِّعم، بل تكون بتحصيلها؛ لكي يبذلها للآخرين، وينعّم المسلمين بها، ويكون ببذل التعب في فتح باب البركات لأجل الآخرين، لا لأجل ملذّات نفسه. وكذلك التقمّص بالحكم يجب أن يكون بروح تحمّل المسؤوليّة والخدمة، لا بروح التلذّذ بالمنصب والتفكّه بالرئاسة، أو بروح الظلم والإجحاف لا سمح الله.

والثاني: أنّ الزهد ليس عبارة عن ترك الدنيا إلاّ في المحرمات والشبهات، وأمّا في المباحات فالزهد عبارة عن أن لا تملكك الدنيا. ألا ترى أنّ الآية المباركة


(1) السورة 5، المائدة، الآية: 87 .

(2) السورة 3، آل عمران، الآية: 92.