المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

336

والدرجة الثالثة: الزهد في الزهد، أي: أنّه لا يرى مال الدنيا شيئاً في جنب الله تعالى، فهو مشغول عنه بالله، لا ينشغل لا بحبّ الدنيا ولا ببغضها، قيل: ومنه قول الشاعر وإن لم يقصده:

إذا زهّدتني في الهوى خشية الردى
جلت لي عن وجه يزهّد في الزهد(1)

وذكر الغزالي(2) ما حاصله: إنّ الفقير ـ وأقصد بذلك فقر المال ـ يتصوّر له خمسة أحوال:

الأُولى: وهي الحالة العليا: أن يكون بحيث لو أتاه المال لكرهه، وتأذّى به، وهرب من آخذه مبغضاً له، ومحترزاً من شرّه وشغله، وهذا هو الزهد، واسم صاحبه: الزاهد.

والثانية: أن يكون بحيث لا يرغب فيه رغبة يفرح لحصوله، ولا يكرهه كراهة يتأذّى بها ويزهد فيه، ولو أتاه رضي به. وصاحب هذه الحالة يُسمّى: راضياً.

والثالثة: أن يكون وجود المال أحبّ إليه من عدمه؛ لرغبة له فيه، ولكن لم يبلغ من رغبته أن ينهض لطلبه، بل إن أتاه عفواً صفواً أخذه وفرح به، وإن افتقر إلى تعب في طلبه لم يشتغل به. وصاحب هذه الحالة نسمّيه: قانعاً؛ إذ قنعت نفسه بالموجود حتّى ترك الطلب مع ما فيه من الرغبة الضعيفة.

والرابعة: أن يكون تركه الطلب لعجزه، وإلاّ فهو راغب فيه رغبةً لو وجد سبيلاً إلى طلبه ولو بالتعب لطلبه، أو هو مشغول بالطلب. وصاحب هذه الحالة نسمّيه: بالحريص.

الخامسة: أن يكون ما فقده من المال مضطرّاً إليه كالجائع الفاقد للخبز والعاري الفاقد للثوب، ويسمّى صاحب هذه الحالة: مضطراً. كيفما كانت رغبته في الطلب


(1) شرح منازل السائرين للتلمساني: 143.

(2) راجع إحياء العلوم 4 / 179 ـ 181، وإحياء الإحياء 7 / 315 ـ 319.