المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

338

وإنّما قرب العبد من الله بقرب الصفات لا بقرب المكان، ولكنّا لا نسمّي صاحب هذه الحالة غنيّاً، بل مستغنياً؛ ليبقى الغنيّ اسماً لمن له الغنى المطلق عن كلّ شيء، وهو: الله سبحانه. وأمّا هذا العبد وإن استغنى عن المال وجوداً وعدماً، فلم يستغن عن أشياء أُخر سواه، ولم يستغن عن مدد توفيق الله له ليبقى استغناؤه الذي زيّن الله به قلبه، فإنّ القلب المقيد بحبّ المال رِقّ، والمستغني عنه حرّ، والله تعالى هو الذي أعتقه من هذا الرقّ، فهو محتاج إلى دوام هذا العتق، والقلوب متقلّبة بين الرّقّ والحرّية في أوقات متقاربة؛ لأنّها بين أصبعين من أصابع الرحمن، فلذلك لم يكن اسم الغني مطلقاً عليه مع هذا الكمال إلاّ مجازاً.

واعلم أنّ الزهد درجةً هي كمال الأبرار، ولكنّ صاحب هذه الحالة التي هي فوق الزهد من المقرّبين، فلا جرم صار الزهد في حقّه نقصاناً؛ إذ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين؛ وهذا لأنّ الكاره في الدنيا مشغول بالدنيا، كما أنّ الراغب فيها مشغول بها. والشغل بما سوى الله حجاب عن الله تعالى؛ إذ لا بُعْدَ بينك وبين الله حتّى يكون البعد حجاباً، فإنّه أقرب إليك من حبل الوريد، وليس هو في مكان حتّى تكون السماوات والأرض حجاباً بينك وبينه، فإنّه أقرب إليك منك، فلا حجاب بينك وبينه إلاّ شغلك بغيره، وشغلك بنفسك وشهواتك شغل بغيره، وأنت لا تزال مشغولاً بنفسك وبشهوات نفسك، فلذلك لا تزال محجوباً عنه، فالمشغول بحبّ نفسه مشغول عن الله، والمشغول ببغض نفسه ـ أيضاً ـ مشغول عن الله، بل كلّ ما سوى الله مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق، فإنِ التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حالة اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذّذ بمشاهدة معشوقه، ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق، ولم يلتفت إليه، فكما أنّ النظر إلى غير المعشوق لحبّه عند حضور المعشوق شرك في العشق ونقص فيه، فكذا النظر إلى غيره لبغضه شرك فيه ونقص، ولكن أحدهما أخفّ من الآخر، بل الكمال في أن