المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

339

لا يلتفت القلب إلى غير المحبوب بغضاً وحبّاً، فإنّه كما لا يجتمع في القلب حبّان في حالة واحدة، فلا يجتمع ـ أيضاً ـ بغض وحبّ في حالة واحدة، فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله تعالى كالمشغول بحبّها، إلاّ أنّ المشغول بحبّها غافل، وهو في غفلته سالك في طريق البعد، والمشغول ببغضها غافل، وهو في غفلته سالك في طريق القرب؛ إذ يُرجى له أن ينتهي حاله إلى أن تزول هذه الغفلة، وتتبدّل بالشهود، فالكمال له مرتقب؛ لأنّ بغض الدنيا مطيّة توصل إلى الله، فالمحبّ والمبغض كرجلين في طريق الحج مشغولين بركوب الناقة وعلفها وتسييرها، ولكن أحدهما مستدبر للكعبة، والآخر مستقبل لها، فهما سيّان بالإضافة إلى الحال في أنّ كلّ واحد منهما محجوب عن الكعبة ومشغول عنها، ولكنّ حال المستقبل محمود بالإضافة إلى المستدبر، إذ يُرجى له الوصول إليها، وليس بمحمود بالإضافة إلى المعتكف في الكعبة والملازم لها الذي لا يخرج منها حتّى يفتقر إلى الاشتغال بالدّابّة في الوصول إليها، فلا ينبغي أن تظنّ أنّ بغض الدنيا مقصود في عينه، بل الدنيا عائق عن الله، ولا وصول إليه إلاّ بدفع العائق.

فإذن قد ظهر: أنّ الزهد في الدنيا إن أُريد به عدم الرغبة في وجودها وعدمها فهو غاية الكمال، وإن أُريد به الرغبة في عدمها فهو كمال بالإضافة إلى درجة الراضي والقانع والحريص، ونقصان بالإضافة إلى درجة المستغني.

وما ينقل عن الزاهدين من الامتناع من مال الدنيا فإمّا أن ينقل عمّن خاف أن لو أخذه لخدعه المال، وقيّد قلبه، فيدعوه إلى الشهوات، وهذا حال الضعفاء، فلا جرم البغض للمال والهرب منه في حقّهم كمال، وهذا حكم جميع الخلق؛ لأنّ كلّهم ضعفاء إلاّ الأنبياء والأولياء. وإمّا أن يُنقَل عن قويّ بلغ الكمال ولكن أظهر الفرار والنفار نزولاً إلى درجة الضعفاء ليقتدوا به في الترك إذ لو اقتدوا به في الفعل لهلكوا كما يفرّ الرجل المعزم بين يدي أولاده من الحيّة لا لضعفه عن أخذها ولكن لعلمه أنّه لو أخذها أخذها أولاده إذا رأوها فيهلكون، والسير بسير الضعفاء