المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

369

مضى في مستهلّ الحديث من الآيتين (73 ـ 74) من سورة الحج. ومورد نزول الآية وإن كان ـ في الأكثر ـ مشركي مكّة والذين ورد أنّهم كانوا يطْلون أصنامهم بالمسك والعنبر أو الزعفران والعسل، وكان الذباب يقع عليها ويسلب منها هذه الأُمور، ولم يكونوا يقدرون على استنقاذ ما أخذوه، لكن قد يستظهر من الآية إرادة الإطلاق لكلِّ معبود صنميّ أو بشريّ أو غير ذلك، بل لكلِّ جبّار يطاع أو قدرة يعتمد عليها منفصلاً عن الله تعالى؛ وذلك بقرينة أنّ الخطاب في صدر الآية لم يوجّه إلى المشركين خاصّة، بل إلى جميع الناس؛ إذ قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ وفي ذيل الآية أثبت القدرة والعزّة لله في مقابل الضعف الذي أوضحه في صدر الآية لغير الله.

وكذلك في الآية الأُخرى وهي قوله: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ جاء تعليل ضرورة رجاء الوقار لله تعالى بالإشارة إلى ما يبدي قدرته الواسعة؛ إذ قال ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ والمخاطبون المباشرون في هذه الآية أيضاً ـ في أغلب الظنّ ـ هم مشركو قوم نوح، ولكن لا يبعد أن يكون مفاد الآية مطلقاً شاملاً لجميع الناس، فالمشركون يطالَبون بأن يرجوا لله وقاراً ولو بمعنى ترك الشرك والإيمان بالله وبالتوحيد، والموحّدون يطالَبون بأن يرجوا لله وقاراً بمعنى: أن يقدّروا حقّ قدره، أو يعظّموا حرماته وشعائره بالمستويين اللذين مضت الإشارة إليهما.

والمقصود بقوله: ﴿خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ ـ في أغلب الظنّ ـ أحد معنيين أو كلاهما:

الأوّل: خلق الناس مختلفين في الأطوار: من اللهجات المختلفة، أو الألوان المختلفة، أو الشُعور المختلف، أو العواطف المختلفة، أو الهيئات المختلفة، أو ما إلى ذلك من الاختلاف في الأطوار. وقد يشهد لهذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَمِنْ