1

الوطن الشرعيّ ومقياس تعدّد الوطن

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

هل يشترط في التمام في غير الوطن الغالب على الإنسان أن يكون مستوطناً في المكان الثاني أيضاً (أو قل: غير مسافر)، أو يكفيه في التمام أن يكون مالكاً لمنزل أو شجرة أو ضيعة ونحو ذلك؟

الروايات منقسمة إلى قسمين:

القسم الأوّل: ما يشترط الاستيطان، وفيه الصحاح من قبيل:

1 ـ صحيحة عليّ بن يقطين، عن أبي الحسن الأوّل أنّه قال: « كلّ منزل من منازلك لا  تستوطنه فعليك فيه التقصير »(1).

2 ـ صحيحته الاُخرى قال: «قلت لأبي الحسن الأوّل: الرجل يتّخذ المنزل فيمرّ به، أيتمّ أم يقصّر؟ قال: كلّ منزل لا  تستوطنه فليس لك بمنزل، وليس لك أن تتمّ فيه »(2).

ويحتمل كونها نفس الصحيحة الاُولى.

3 ـ صحيحته الثالثة قال: « سألت أبا الحسن الأوّل عن رجل يمرّ ببعض الأمصار، وله بالمصر دار، وليس المصر وطنه، أيتمّ صلاته أم يقصّر؟ قال: يقصّر الصلاة. والضياعُ مثل ذلك إذا مرّ بها »(3).


(1) الوسائل 8: 492، الباب 14 من صلاة المسافر، الحديث 1.
(2) المصدر السابق: 493، الحديث 6.
(3) المصدر السابق، الحديث..
2

ويحتمل كونها نفس إحدى الصحيحتين السابقتين.

4 ـ صحيحة حمّاد بن عثمان أو الحلبيّ، عن أبي عبدالله في الرجل يسافر، فيمرّ بالمنزل له في الطريق، يتمّ الصلاة أم يقصّر؟ قال: «يقصّر، إنّما هو المنزل الذي توطّنه »(1).

5 ـ صحيحة رابعة لعليّ بن يقطين رواها سعد بن أبي خلف قال: « سأل أباالحسن الأوّل عن الدار تكون للرجل بمصر أو الضيعة فيمرّ بها؟ قال: إن كان ممّا قد سكنه أتمّ فيه الصلاة، وإن كان ممّا لم يسكنه فليقصّر »(2).

ويحتمل اتّحادها مع إحدى صحاحه الاُول.

6 ـ صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن قال: « سألته عن الرجل يقصّر في ضيعته؟ فقال: لا  بأس ما لم ينو مقام عشرة أيّام، إلّا أن يكون له فيها منزل يستوطنه. فقلت: ما الاستيطان؟ فقال: أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستّة أشهر، فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى دخلها »(3).

 

والقسم الثاني: ما يصرّح بكفاية وجود بيت أو ضيعة أو نخلة ونحو ذلك للإنسان في كون صلاته تامّة هناك، وفيه أيضاً الصحاح من قبيل:

1 ـ صحيحة أو موثّقة إسماعيل بن الفضل قال: « سألت أبا عبدالله عن الرجل يسافر من أرض إلى أرض، وإنّما ينزل قراه وضيعته؟ قال: إذا نزلت قراك وأرضك فأتمّ الصلاة، وإذا كنت في غير أرضك فقصّر »(4).


(1) المصدر السابق: 494، الحديث..
(2) المصدر السابق، الحديث 9.
(3) المصدر السابق: 494 ـ 495، الحديث 11.
(4) المصدر السابق: 492، الحديث 2. وإنّما قلنا:. صحيحة أو موثّقة. لوجود أبان بن عثمان في السند.
3

2 ـ موثّقة عمّار بن موسى، عن أبي عبدالله في الرجل يخرج في سفر، فيمرّ بقرية له أو دار، فينزل فيها؟ قال: «يتمّ الصلاة ولو لم يكن له إلّا نخلة واحدة ولا  يقصّر، وليصم إذا حضره الصوم وهو فيها »(1).

3 ـ صحيحة عمران بن محمّد قال: «قلت لأبي جعفر الثاني: جعلت فداك، إنّ لي ضيعة على خمسة عشر ميلاً خمسة فراسخ، فربّما خرجت إليها فاُقيم فيها ثلاثة أيّام أو خمسة أيّام أو سبعة أيّام، فاُتمّ الصلاة أم اُقصّر؟ فقال: قصّر في الطريق، وأتمّ في الضيعة »(2).

رواية موسى بن الخزرج (وهو رجل مجهول) قال: «قلت لأبي الحسن: أخرج إلى ضيعتي، ومن منزلي إليها اثناعشر فرسخاً، اُتمّ الصلاة أم اُقصّر؟ فقال: أتمّ »(3).

4 ـ رواية سهل بن اليسع (وفي السند ابنه محمّد بن سهل الذي يقال: إنّه مجهول) عن رجل يسير إلى ضيعته على بريدين أو ثلاثة، وممرّه على ضياع بني عمّه، أيقصّر ويفطر أم يتمّ ويصوم؟ قال: « لايقصّر ولايفطر »(4).

5 ـ رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر (وفي السند سهل بن زياد) قال: « سألت الرضا عن الرجل يخرج إلى ضيعته، ويقيم اليوم واليومين والثلاثة، أيقصّر أم يتمّ؟ قال: يتمّ الصلاة كلّما أتى ضيعة من ضياعه »(5).

ويحتمل كونها نفس صحيحته الآتية الآن.

6 ـ صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: « سألت الرضا عن الرجل يخرج إلى الضيعة، فيقيم اليوم واليومين والثلاثة، يتمّ أم يقصّر؟ قال: يتمّ فيها »(6).


(1) المصدر السابق: 493، الحديث 5.
(2) المصدر السابق: 496، الحديث 14.
(3) المصدر السابق، الحديث 15.
(4) المصدر السابق، الحديث 16.
(5) المصدر السابق: 497، الحديث 17.
(6) المصدر السابق: 497، الحديث 18.
4

والتعامل مع هاتين الطائفتين يكون بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ تقيّد الطائفة الثانية بفرض كون محلّ الضيعة أو النخلة أو القرية أو الدار وطناً له.

وقد أورد السيّد الخوئيّ (رحمه الله) على ذلك أنّ هذه الطائفة أو بعضها ـ  في الأقلّ  ـ آبية من التقييد؛ لظهورها في أنّ المقياس نفس عنوان امتلاكه لشيء من منزل أو ضيعة أو نخلة، وليست المسألة مجرّد مسألة الإطلاق حتّى تقيّد(1).

الوجه الثاني: ما أفاده السيّد الخوئيّ (رحمه الله): من «إمكان حملها على التقيّة؛ لموافقتها مع العامّة كما قيل»(2).

أقول: إنّني بقدر فحصي الناقص في كتب العامّة لم أر لهم رأياً من هذا القبيل، نعم لاإشكال على العموم في تسامحهم في مسألة التقصير حتّى أنّهم رووا روايات في أصل أنّ التقصير في السفر بلاخوف ليس إلّا مجرّد ترخيص، وليس عزيمة(3).

الوجه الثالث: ما أفاده أيضاً السيّد الخوئيّ (رحمه الله): من إسقاط هذه الطائفة عن الاعتبار؛ لمخالفتها لإطلاق السنّة المتواترة القطعيّة الواردة في التقصير في السفر.

الوجه الرابع: ما أفاده أيضاً السيّد الخوئيّ (رحمه الله): من فرض سقوطها بالمعارضة مع الطائفة الاُولى والرجوع إلى مطلقات التقصير(4).


(1) راجع مستند العروة الوثقى 8: 241 بحسب طبعة لطفي.
(2) راجع المصدر السابق.
(3) راجع السنن الكبرى للبيهقي 3: 141 ـ 145 بحسب طبعة دار المعرفة ببيروت.
(4) راجع المصدر السابق من مستند العروة.
5

ولنا بحث مبنائيّ في الاُصول في أصل فكرة تساقط المتعارضين والرجوع إلى المطلق الفوقانيّ من إبداء احتمال جعل التعارض ثلاثيّ الأطراف.

فالعمدة من هذه الوجوه هي الوجه الثاني والثالث.

يبقى الكلام في الوطن الشرعيّ. ويقصد السيّد الخوئيّ (رحمه الله) بذلك الوطن الاعتباريّ الفرضيّ البحت من قبل الشريعة ولو لم يعتبر العرف ذلك وطناً له أصلاً.

وقد حمل على ذلك صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع الماضية: «سألته عن الرجل يقصّر في ضيعته؟ فقال: لا  بأس ما لم ينو مقام عشرة أيّام، إلّا أن يكون له فيها منزل يستوطنه. فقلت: ما الاستيطان؟ فقال: أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستّة أشهر، فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى دخلها»(1).

أقول: إنّ حمل الاستيطان على معنىً فرضيٍّ واعتباريٍّ بحت خلاف الظاهر جدّاً، وبحاجة إلى قرينة قويّة، وفرقٌ بين حمل الكلمة على فرد اعتباريّ فرضيّ بحت، وبين حملها على تدخّل شرعيّ في المصاديق العرفيّة كمصداق الملك حيث أبطلت الشريعة ملكيّة الخمر أو الخنزير مثلاً، أو التدخّل في التحديد ببعض الحدود المشكِّكة كتحديد كثير الشكّ بالشكّ في كلّ ثلاث مرّات ونحو ذلك.

فالظاهر أنّ التدخّل في المقام من هذا القبيل، فلا إشكال في أنّ الاستيطان بحاجة عرفاً إلى مقدار من السكن، وهو مقدار مشكّك، فتدخّلت الشريعة بجعل مقداره ستّة أشهر.

ويشهد لذلك ـ كما عن بعض الأعاظم كالمحقّق الهمدانيّ (رحمه الله)   ـ التعبيرُ بصيغة المضارع في المفسَّر والمفسِّرالظاهرة في معنى الدوام حيث قال:  ... إلّا أن يكون له فيها منزل يستوطنه ... ، وفسّر الاستيطان بأن يكون له منزل يقيم فيه ستّة أشهر ... ، وهذا يعني: أنّ الاستيطان أو المقام ستّة أشهر يكون دائميّاً وفي كلّ سنة.


(1) راجع المصدر السابق من مستند: 246. 248.
6

ومن الطريف ما أجاب به السيّد الخوئيّ (رحمه الله) عمّا ذكرناه من مسألة التعبير بصيغة المضارع: من أنّ الوجه في التعبير بصيغة المضارع كان المفروض بالرجل عدم الاستيطان أو المقام ستّة أشهر حتّى الآن، فعبّر بصيغة المضارع، أي: مادام أنّه لم يفعل ذلك في الماضي فعليه أن يفعل ذلك في المستقبل حتّى يصبح البلد وطناً له، فهذا نظير ما لو فرضنا أنّه قال: ( امرأة في دارنا لها زوج ولها ابنة صغيرة، وإنّني مبتلى بالنظر إلى شيء من بدنها أو لمسه بغير شهوة؟ قال: ليس لك ذلك، إلّا أن تعقد على ابنتها. قلت: وما العقد على ابنتها؟ قال: تتزوّجها ولو ساعة، فإذا كان كذلك جاز لك النظر واللمس بغير شهوة متى شئت )، أفهل يدلّ هذا على شرط دوام العقد أو التزويج والتوالي فيهما؛ لأنّه عبّر عنهما بصيغة المضارع؟!(1).

أقول: الفرق بين المقام وبين هذا المثال واضح، وهو: أنّه فُرِضَ في هذا المثال رجلٌ لم يعقد ولم يتزوّج بنتها من قبل، فكان هذا هو مناسبة التعبير بصيغة المضارع، أمّا في موردنا فصحيحة ابن بزيع ذكرت رجلاً فرضيّاً يملك ضيعة ولم يفترض عدم استيطانه أو إقامته سابقاً في وقت ما، فلا  نكتة في التعبير بالمضارع إلّا إرادة الإشعار بالدوام.

ومن الطريف أيضاً مناقشته في أصل دلالة صيغة المضارع على الدوام والتلبّس وإن اشتهرت على الألسن، وربّ شهرة لا  أصل لها، وهل يحتمل التجدّد في المثال المزبور ـ  يقصد مثال امرأة في دارنا ...  ـ أو هل يفهم من مثل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾(2) ضرورةُ تجدّد نكاح زوج غيره على الدوام؟!

أقول: الفرق بين هذه الموارد والمقام ما قلناه: من أنّ نكتة التعبير بالمضارع في المثال الذي ذكره السيّد الخوئيّ (رحمه الله) وكذلك في الآية الشريفة أنّ الكلام كان في رجل كان المفروض عدم صدور ما طلبته الشريعة منه، بخلاف صحيحة ابن بزيع التي لم يكن فيها فرض من هذا القبيل.


(1) راجع ما ذكرناه من المستند: 249.
(2) سورة البقرة، الآية: 230.
7

ثُمّ قال السيّد الخوئيّ (رحمه الله): « ويؤكّد ما ذكرناه، بل يعيّنه التعبير بصيغة الماضي في صحيحة سعد بن أبي خلف قال: «سأل عليّ بن يقطين أبا الحسن الأوّل عن الدار تكون للرجل بمصر أو الضيعة فيمرّ بها؟ قال: إن كان ممّا قد سكنه أتمّ فيه الصلاة، وإن كان ممّا لم يسكنه فليقصّر»، حيث علّق الحكم بالتمام على ما إذا سكنه سابقاً وإن أعرض عنه، غايته أنّها مطلقة من حيث تحديد السكونة بستّة أشهر وأن تكون في منزله المملوك، فيقيّد بكلا الأمرين بمقتضى صحيحة ابن بزيع».

أقول: إنّ تفسير صحيحة سعد بن أبي خلف أو قل: صحيحة عليّ بن يقطين التي رواها سعد بن أبي خلف بباقي صحاح عليّ بن يقطين وخاصّة مع احتمال اتّحادها معها أو مع بعضها أولى من تفسيرها بصحيحة ابن بزيع، فليس المقصود بها إلّا شرط الاستيطان لابيان الوطن الشرعيّ، بل قد عرفت أنّنا لانفهم من صحيحة ابن بزيع أيضاً إلّا ذلك.

نعم، يبقى الكلام في شيء واحد، وهو: أنّ الظاهر بالمناسبات العرفيّة أنّ المقصود بستّة أشهر الواردة في صحيحة ابن بزيع هو تحديد الأمر المشكّك في تعدّد الوطن، وهو مقدار السكن في كلّ واحد منهما بالتساوي العرفيّ في مقدار السكن في كلّ واحد منهما، فلو كانت له ثلاثة أوطان مثلاً كان الشرط هو أن يسكن في كلّ واحد منها ثلاثة أشهر.

وإن دغدغنا في كلّ ما ذكرناه فلا  أقلّ من إيجاب الاحتياط بالجمع بين القصر والتمام في البلد الذي يكون سكنه فيه أقلّ من باقي البلاد.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

20. صفر. 1426 هـ ق

كاظم الحسينيّ الحائريّ