114

تنافٍ بين الدليلين إذا قبلنا بالنتيجة السابقة(1).

ولذا فإن مقتضى الأخذ بكلا الدليلين ـ لو تمّا في نفسيهما ـ هو القول بمنح الأمة حق انتخاب مرشحيها للحكم، ولكن ليس لها أن تختار من غير الفقهاء، فإذا انتخبت من الفقهاء راح المنتخبون يديرون الأمور بالتشاور فيما بينهم.

فإذا أعطينا الأمة هذا المقدار من النصيب في الأمر، كنّا قد تجاوبنا مع الفهم العرفي الذي لم يستسغ بأي وجه تخصيص الآية الكريمة وجعلها في دائرة الفقهاء فقط(2). إلا أن كل هذا البحث فرع أن نفهم من دليل الشورى مسألة التصويت وإعطاء الولاية بيد الأكثرية أو من ينتخب.

فلنقم بمناقشة أدلة الشورى ومعرفة مدى إمكان تعيين الاحتمال الأول منها من بين الاحتمالات الثلاثة السابقة.

ملاحظة أدلة الشورى

أما الروايات:

فنستثني منها قبل كل شيء ما دل على أن تعيين الامامة في



(1) فان هذا من سنخ اباء بعض الأدلة عن التخصيص حسب مصطلح علماء أصول الفقه.

(2) أي إن هذا المقدار كاف لرفع مثل محذور الاباء عن التخصيص، وعليه فهو القدر المتيقن ثبوته للأمة.

115

زمن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أيضاً كان بالشورى والانتخاب(1)! وقد تقدم الحديث عنها.

وهنا نلاحظ أن بعض روايات الشورى لا تشتمل على أمر بالشورى أو نهي عن مخالفتها، وإنما لا تعدو كونها حثاً على التشاور، كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: "لا مظاهرة أوثق من المشاورة".

وهذا القسم من الروايات ـ لا يدل على المقصود ـ كما هو واضح.

كما أن هناك قسماً منها يأمر بالمشورة دون أن ينهى عن مخالفة المستشارين، وهي كما في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لمحمد بن الحنفية حيث قال له: "اضمم آراء الرجال بعضها الى بعض ثم اختر أقربها الى الصواب وأبعدها من الارتياب".

وهذا القسم لو فرض(2) دلالته على وجوب المشورة على الإطلاق فإنه لا دلالة فيه على كون لزوم التشاور لأجل ما في الشورى من ولاية، ذلك أن الولاية لم تؤخذ ـ لا لغة ولا عرفاً ـ في كلمة الشورى.



(1) وكذا ما الحقناه به في الهامش.

(2) اشارة الى إمكان رفض هذه الدلالة بجعلها رواية مرشدة الى القاعدة العقلائية التي تحكم بحسن التشاور في الأمور للاستضاءة بآراء الاخرين، وهذه القاعدة يختلف ملاكها ـ من حيث اللزوم والاستحباب ـ من مورد الى مورد، بل قد يكون الأمر في نظر الشخص واضحاً كل الوضوح بحيث لا يرى مورداً للمشورة فيه.

116

ولهذا فيمكننا أن نقول: ان المراد به هو إيجاب التشاور طبق المحتمل الثالث من المحتملات الثلاثة الماضية، وذلك للاستضاءة بآراء الآخرين والاستفادة من خبراتهم، كما هو الظاهر من الوصية الماضية حيث يقول (عليه السلام): "ثم إختر أقربها من الصواب وأبعدها من الارتياب"، ويعطي الخيار بيد المستشير دون المستشارين.

وهناك قسم ثالث من الروايات ينهى عن مخالفة نتيجة الشورى، كقوله (صلى الله عليه وآله): "استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا".

وهذا القسم يمكن حمله على مجرد الحث دون الوجوب والولاية، وذلك بملاحظة أن هذه الرواية لم ترد بالنسبة لخصوص الأمور العامة، وإنما تشمل الأمور الشخصية. ومن الواضح أن المشورة في الأمور الشخصية ليست إلا بمعنى الاستضاءة بآراء الآخرين بلا أي إلزام.

ولعل أكثر الروايات دلالة على المقصود ما مضى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمرؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم الى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها".

وهناك نقطتان يمكن أن تؤثرا في قوة الاستدلال بهذا الحديث:

النقطة الأولى: أنه يمكن أن يدّعى في هذا الحديث أنه

117

لا يشمل إطلاقاً الأمور الشخصية، لأن قوله (صلى الله عليه وآله) "أموركم شورى بينكم" موجّه الى المجتمع المسلم من حيث هو مجتمع، والأمر أمره، فلا ينظر الى الأمور الفردية الشخصية. ولذا نجد عدم افتراض مستشير ومستشار في الحديث(1)؛ فهناك وحدة



(1) ولعل هناك من يقول: ان قرينة التقابل في الرواية بين عبارة "أموركم شورى بينكم" وعبارة "اموركم الى نسائكم" تقتضي شمول الجملة الاولى للقضايا الشخصية كما تشمل الجملة الثانية لها، ذلك لأن الضمير في قوله "أموركم الى نسائكم" راجع الى الرجال بقرينة ذكر النساء، فهي اذن تتعرض لتدخل النساء في أمور الرجال الشخصية وتوجيههم وتحبذ اختصاص مشورة الرجال بالرجال وعدم تدخل النساء في تلك الأمور.

ولكن قد يرد عليه بأن قوله صلى الله عليه وآله: "أموركم شورى بينكم" يحتمل أن يقصد منه الأمور العامة لمجموع المسلمين بما فيهم الرجال والنساء، ويراد منه تدخل النساء في الشؤون العامة.

ولربما قيل بهذا الصدد انه اذا كنا نتردد في المقصود من قوله "أموركم الى نسائكم"، هل هو ناظر الى الشؤون الخاصة أو العامة، اذن نحتمل كون هذا المقطع قرينة على شمول المقطع الأول للأمور الشخصية لأن القرينة على الفرض الأول ثابتة. ومع هذا الاحتمال يصبح المقطع الأول مجملاً مبهماً لا يمكن أن يستفيد المقصود منه.

كما أنه قد يؤيد شمول الرواية للقضايا الشخصية مجيء التعبير بصيغة الجمع "أموركم"، ومقابلة الجمع بالجمع تعني التقسيم والتوزيع، فأمر هذا وأمر ذاك وأمر ذلك.

118

بين المستشيرين والمستشارين تتجلى في المجتمع. وعليه فهذه الأمور هي الأمور العامة.

وإذ قد عرفنا أن الرواية لا تشمل الأمور الشخصية، فإن هذه الرواية لا تكون مبتلاة بالإشكال الذي أوردناه سابقاً على الروايات؛ إذ كان شمولها للأمور الشخصية يصرفها الى أن المراد بها هو خصوص الاسترشاد والاستضاءة بآراء الآخرين، دون أن تنتج أي ولاية.

وهو المحتمل الثالث من المحتملات السابقة.

فإذا استطعنا أن نعثر على دلالة في الرواية على المحتمل الأول للشورى ـ أي إعطاء الولاية للأكثرية مثلاً أو لمن يعين من قبلها ـ لم يكن لهذه الدلالة معارض من هذه الجهة.

النقطة الثانية: ان في الرواية قرينة تصرفها الى المحتمل الأول للشورى دون الثالث، وهي ما أشرنا إليه من وحدة المستشير والمستشار وعدم افتراض اختلافهما.

بيان ذلك: أن أكثر روايات الشورى فرض فيها مستشير ومستشار، وفرض أحدهما على الآخر، وفرض الأمر المستشار فيه أمراً راجعاً الى المستشير دون المستشار، وذلك من قبيل وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لمحمد بن الحنفية الماضية "اضمم آراء الرجال بعضها الى بعض"؛ فالمستشير هو محمد بن الحنفية مثلاً والمستشارون هم الرجال.

وقوله: "لا مظاهرة أوثق من المشاورة" محتمل لذلك؛

119

فهناك شخص يحتاج الى ظهر وقوة فتقول الرواية أن قوته بالمشورة مع الآخرين.

وقوله فيما مضى أيضاً: "استرشدوا العاقل ولا تعصوه"؛ فهناك شخص يسترشد عاقلاً.

وقوله: "من لا يسترشد يندم"؛ والفرد طبعاً يستشير غيره لا نفسه.

وقوله: "لن يهلك امرؤ عن مشورة".

وقوله: "إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه". وغير ذلك.

فهذه الروايات فرضت مستشيراً له أمر يحتاج فيه الى مشورة ومستشاراً، ولذا فبالإمكان حملها على المحتمل الثالث، بأن يقال ان المستشير يعمل في النهاية برأيه لا برأي المستشار وإنما يستشير لكسب العلم والمعرفة، واحتمال تأثير كلام المستشار على رأيه وتبدل رأيه بذلك.

وأما النهي الوارد في بعضها عن مخالفة المستشار، فيحمل على الحث على العمل برأيه ما لم تتحقق رؤية واضحة على خلافه وذلك بما مضى من قرينة عدم تخصيص المشورة بالأمور العامة.

وأما قوله: "أموركم شورى بينكم" فليس المفروض فيه مستشير ومستشار يختلف أحدهما عن الآخر، وإنما الأمر أمرهم جميعاً، فكلهم مستشيرون وكلهم مستشارون في أمر مشترك.

فلا يتطرق بحسب المفهوم العرفي احتمال أن المستشير يعمل برأيه لا برأي المستشارين كي يحمل على المعنى الثالث، إذ لا يوجد

120

مستشير منفصل عن المستشارين، كما لا يتطرق عرفاً أيضاً احتمال العمل برأي ولي ما منفصلاً عن المشورة بنكتة سيأتي توضيحها ان شاء الله عند الاستدلال بالآية الثانية على الشورى.

إذن، فيصبح المفهوم العرفي للكلام هو: أن الرأي رأي المجموع على شكل الأخذ برأي الأكثرية مثلاً أو على أي شكل آخر. وبهذا يثبت المعنى الأول وتثبت إمكانية تعيين ولي الأمر بالشورى.

وحاصل ما ذكرناه هو إمكان القول بتمامية دلالة هذه الرواية لولا الملاحظة العامة الماضية في أول بحث الشورى. إلا أنه لا قيمة لهذه الرواية من حيث السند. وواضح أن روايات الشورى ـ وإن قلنا أنها متواترة أو مستفيضة ـ إذا كان ما يمكن أن يتم منها دلالة لا يبلغ حد التواتر ولا الاستفاضة سقط بضعف السند.

البحث عن آية ﴿وشاورهم في الأمر.

وأما الآيات فتنحصر في الآيتين الشريفتين:

الأولى: هي قوله تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر.

ويمكن المناقشة في الاستدلال بهذه الآية بوجهين:

الوجه الأول:

ان الاستدلال بهذه الآية الشريفة اما أن يفترض نشوؤه من إدعاء

121

أن الأخذ بآراء الغير المستشار متضمن في مفهوم (الشورى)، فإذا أطلق هذا اللفظ ومشتقاته فهم منه استقراء آراء الآخرين والأخذ بأكثريتها مثلاً. أو يفترض نشوؤه من ادعاء أن الأمر بالشورى إنما هو للوصول إلى ما هو أقرب للواقع، ولا يتم هذا إلا إذا عمل المستشير برأي الآخرين. في حين أنه لو استشارهم ثم أعرض عمّا توصلوا اليه فإن هذه الشورى سوف لا تحقق هدفها المرجو. وهكذا تجعل هذه الصفة الطريقية للشورى قرينة عرفية على أنه يهدف من الأمر بالشورى إعطاء الولاية للأكثرية مثلاً.

أما الفرض الأول فباطل جزماً، فلم يؤخذ ـ لغة ـ في مفهوم "الشورى" أن يؤخذ بآراء الغير لتثبت بذلك الولاية لهم ولو بنحو ناقص فضلاً عن ثبوتها ـ أي الولاية ـ بالنحو الكامل. وبه نعرف أن لا دليل هناك من مفهوم الشورى يلزمنا بحمل "الشورى" في الآية على المحتمل الأول أو المحتمل الثاني.

وهكذا أيضاً لا يتم الفرض الثاني، إذ حتى لو قبلنا أن المشورة المفروضة في الآية كانت لتحقيق الوصول الى ما هو الأصلح أو للتعويد على مبدأ يوصل الأمة الى ما هو الأصلح "وإن كان النبي (صلى الله عليه وآله) غير محتاج الى ذلك"، حتى لو قبلنا هذا، فإنه لا يلازم ولا يقتضي أن تعطى الولاية للأكثرية، إذ يحتمل أن يكون الأمر بالشورى لتحصيل المعرفة بآراء الآخرين والاستضاءة بأفكارهم

122

وتجاربهم التي تضاف الى تجارب المستشير مما يقربه الى ما هو الأصلح حتى لو لم يلتزم برأي الأكثرية. وإنما استعرض الآراء وانتخب منها ـ حسب فهمه وتصوراته ـ الرأي الأصلح الذي قد لا يعدو أن يكون رأي القلة، أو رأيه هو لا غير بعد أن رأى بطلان آرائهم.

هذا، وقد لا يكون الأمر بالشورى في هذه الآية باعتبارها طريقاً للوصول الى الرأي الأسد، وإنما باعتبارها عملية تطيب القلوب والعواطف وتحملها بشكل أكثر مسؤولية الأمر الذي استشير فيه. وإذا راجعنا سياق الآية رأيناه يناسب هذا المعنى، إذ يقول تعالى:

﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفظّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر.

انه سياق تطييب القلوب وشدها الى الدعوة الاسلامية، فلا يتم الاستدلال بهذه الآية الكريمة حتى لو فرضنا أن سبيل الوصول الى الأصلح منحصر بالأخذ برأي الأكثرية.

هذا، وقد تجعل رواية علي بن مهزيار ـ التي سبق ذكرها ـ شاهدة على أن الملاحظ في الآية الكريمة هو عنصر الوصول الى الحق والأصلح دون مجرد تطييب القلوب وتحميل المسؤولية.

فقد روى العياشي عن أحمد بن محمد عن علي بن مهزيار قال: كتب إليَّ أبو جعفر (عليه السلام) أن سل فلاناً أن يشير عليَّ

123

ويتخير لنفسه فهو أعلم بما يجوز في بلده وكيف يعامل السلاطين، فإن المشورة مباركة؛ قال الله لنبيه في محكم كتابه: ﴿وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله؛ فإن كان مما يجوز كتبت أصوب رأيه، وإن كان غير ذلك رجوت أن أضعه على الطريق الواضح إن شاء الله. ﴿وشاورهم في الأمر قال: يعني الاسختارة.

إلا أن هذه الرواية لم تدل على أن الغرض الأساس في المشورة في الآية الشريفة كان هو اكتشاف الأصح، فلا يمكن أن نثبت وجوب المشورة بالآية الكريمة كقاعدة عامة من باب الوصول الى ما ينبغي العمل به.

ثم ان هذه الرواية ضعيفة سنداً، لعدم معرفتنا بالرواة الذين كانوا الواسطة بين العياشي وأحمد بن محمد.

وإذ قد أثبتنا ـ الى هنا ـ عدم وجود دلالة على ان الشورى في الآية فإنما كانت للعمل برأي الأكثرية قلنا: ان هناك دلالة على خلاف ذلك تستفاد من قوله تعالى: ﴿فإذا عزمت فتوكل على الله، فهذا يعني عدم وجوب العمل برأي المشاورين. فليس المفروض في مورد الآية التشاور لاتباع نتيجة رأيهم أياً كانت، وإنما طلبت منه (صلى الله عليه وآله) أن يشاورهم ثم يتخذ هو القرار النهائي، ويتوكل على الله.

ومن هنا، فليس من الصحيح ما جاء في تفسير المنار حيث فسر ﴿فإذا عزمت فتوكل على الله بالعزم على امضاء ما ترجحه

124

الشورى(1)، لأن هذا الكلام إنما يتم لو كان صدر الآية ظاهراً في الإلزام باتباع رأي الأكثر، فيحمل عندئذ "فإذا عزمت" على امضاء ما ترجحه الشورى، أما مع عدم ظهور الصدر في ذلك فإن قوله تعالى "فإذا عزمت" محذوف المتعلق؛ أي لم يذكر العزم على ماذا، وهذا الحذف يصبح ظاهراً في أن متعلق العزم عبارة عما يرتئيه هو بنفسه(2). وتكون الآية ظاهرة في المحتمل الثالث من المحتملات التي ذكرناها في الشورى، وهو مجرد طلب الاسترشاد بآراء الآخرين بلا أي إلزام في البين.

الوجه الثاني:

أنه لا يمكن تفسير الآية الكريمة بفرض أي ولاية للمستشارين أو الأكثرية، فمن الواضح عدم وجود أي حاكمية أو ولاية لأي جهة في مورد الآية ـ وهو النبي (صلى الله عليه وآله) ـ إذ هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا قالوا: أن عمل النبي بالشورى كان لغرض تدريب الناس على الالتزام بهذا النظام وإن لم يكن بنفسه محتاجاً الى الشورى ولم تكن للمشاورين أي ولاية عليه.



(1) تفسير المنار ج4 ص205.

(2) أي أنه متى ما حذف متعلق العزم من دون قرينة على تعيين المحذوف كان ظاهره عرفاً ان متعلقه هو رأي نفس العازم.

125

قلنا: انه إذا لم نقبل وجود الولاية في المورد الذي صرحت الآية به، فكيف نقبل دلالتها على الولاية في غير موردها(1)؟!

البحث عن آية ﴿وأمرهم شورى بينهم

الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم.

وتقريب الاستدلال بها أن يقال: أنه لا إشكال في أن المفروض عادة في باب الاستشارة أن المستشير يعمل بعد الاستشارة برأي ما، فما هو الرأي الذي يعمل به في المقام، وهل يتعين أن يكون هو رأي المستشارين أو أكثريتهم مثلاً، أو لا يتعين ذلك، بل قد يطرح رأي المستشارين جميعاً ويعمل برأي نفسه لإقوائية أدلته، أو لأن كل واحد من المستشارين دله على نقاط ضعف كلام الآخر مثلاً، أو أن هناك ولياً آخر في المجتمع غير الأكثرية، أو من تعينه الأكثرية يتعين الأخذ برأيه، وإنما كانت الاستشارة لأجل الاستضاءة بأفكار الناس، فقد تؤثر أفكار الناس على الولي وتنير الدرب أمامه؟

فهذه فروض ثلاثة:

1 ـ فرض العمل برأي المستشارين.

2 ـ فرض كون الاستشارة لأجل الاستضاءة بأفكار الآخرين، ثم يعمل المستشير بما يرتئيه هو.

3 ـ فرض كون الاستشارة لأجل الاستضاءة بأفكار المستشارين،



(1) يقول الأصوليون: ان خروج المورد من العام مستهجن عرفاً.

126

ثم الذي يصمم على رأي معين ويتبع الآخرون رأيه هو ولي المجتمع لا الأكثرية.

اما الفرض الأول فهو المقصود.

وأما الفرض الثاني، وهو أنه قد يأخذ المستشير برأي نفسه ويطرح رأي المستشارين فهذا يتوقف على المغايرة بين المستشير والمستشار، بينما نجد هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة التي أضافت الأمر الى ضمير راجع الى نفس المستشارين.

وأما الفرض الثالث، وهو افتراض وجود شخص ما غير تمام المستشارين أو أكثريتهم يجب الرجوع إليه، فهو وإن كان محتملاً في المقام، ولكنه خلاف الظاهر في الآية الشريفة، وكذا في رواية "أموركم شورى بينكم"، وذلك بنكتة عدم وجود أي إشارة في الكلام من قريب أو بعيد الى وجود ولي من هذا القبيل يؤخذ برأيه(1).

إذن فالمتعين هو الفرض الأول، وهو العمل برأي المستشارين أنفسهم أو أكثريتهم. وهذا يعني إعطاء الولاية للأمة أو الأكثرية؛ إما ولاية جزئية في دائرة تبديل الجواز بالوجوب كما هو الحال في المحتمل الثاني من المحتملات الثلاثة التي عرضناها لأدلة الشورى، أو ولاية عامة تتم على أساسها إقامة الدولة كما هو الحال في المحتمل الأول من تلك المحتملات الثلاثة. وهذا هو المتعين



(1) راجع الملحق رقم (1).

127

بمقتضى إطلاق الدليل، فإن التقيد بتلك الدائرة الخاصة هو الذي يحتاج الى القرينة(1).

وقد يقال: انه لا يستفاد من الآية الشريفة وجوب الالتزام بالشورى، وذلك لأن سياق الآية يمنع عن الدلالة على الوجوب، قال الله تعالى: ﴿فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون* والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون* والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون* والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، حيث نلاحظ أن جملة ﴿أمرهم شورى بينهم وقعت في سياق جمل عديدة تبين تعاليم اخلاقية للشريعة بعضها واجب وبعضها مستحب وبعضها يكون في بعض الفروض واجباً وفي بعض الفروض غير واجب، بل أحياناً غير صحيح، كالإنفاق مما رزقهم الله تعالى، وهذا السياق يكسر الدلالة على الوجوب.

إلا أن هذه المناقشة إنما تفيد في مقابل جعل الآية الشريفة دالة على الوجوب بعد تطبيقها على المحتمل الثالث من الشورى، فتكون الآية أمراً بالمشورة لأجل الاستضاءة بأفكار الآخرين. وهكذا يتردد الأمر بين أن يكون هذا الأمر أمراً وجوبياً أو استحبابياً، وعندئذ



(1) راجع الملحق رقم (2).

128

يقال: إن السياق المذكور لا يدع الأمر دالاً على الوجوب.

أما إذا فسرنا الآية بتشاور المسلمين فيما بينهم في أمورهم واتباع رأي الأكثرية دون مجرد الاستضاءة بالأفكار والتجارب، فإن العرف لا يحتمل أن يكون الأمر أمراً استحبابياً، لأنه يتعلق بمبدأ هام لحل مشاكل المجتمع الاسلامي وإدارة شؤونه العامة. ومعه يقال: ان الشورى إما أن تنتج الولاية العامة التي تشكل أساس الحل الاجتماعي أولا، فإن لم تكن تنتج الولاية شرعاً لم تكن علاجاً للمشكلة الاجتماعية، فلا معنى للأمر بها سواء كان الأمر للوجوب أو للاستحباب. وإن كانت تؤدي الى ولاية شرعية عامة لمن ينتخب أو للأكثرية كي تنحل المشكلة بذلك اذن فالأمر للوجوب، فإن اتباع الولي أمر واجب، ولا معنى لجعله مستحباً، إذ الاتباع الاستحبابي وغير الإلزامي ليس أساساً لحل المشكلة الاجتماعية.

وهكذا بينا أقصى ما يمكن ذكره في تأكيد الاستدلال بالآية الكريمة على جعل الشورى أساساً لبناء الدولة الاسلامية.

والواقع أن هذا الاستدلال لا يمكن أن يتم، فصحيح أن مورد الآية الكريمة يبعد جداً أن يفترض فيه كون المستشير شخصاً أهمه أمر فاحتاج الى شخص آخر كمستشار له، دون أن يكون لهذا الآخر أي رابطة بالأمر المذكور، وإنما كان الأمر في الآية مضافاً للمستشارين أنفسهم، إلا أن هناك في مورد الآية احتمالين:

129

الاحتمال الأول: أن يكون المقصود اتخاذ رأي المستشارين أو الأكثرية منهم مرجعاً في تحديد المواقف في القضايا العامة.

الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود هو الشورى بمحتملها الثالث، أي مجرد استعانة الناس بعضهم ببعض في الأفكار والخبرات، مع فرض وجود ولي للأمر هو الذي يقرر المواقف ويحسم الأمر فيها، مستفيداً من مشورته واطلاعه على آراء الأخصائيين في كل مورد يرتبط بهم.

والاحتمال الثاني هذا هو الظاهر من الآية.

أما ما ذكرناه في معرض تقوية الاستدلال من أن فرض الأخذ برأي ولي الأمر خلاف الظاهر لاحتياجه الى قرينة ومؤونة زائدة غير مذكورة في الآية، فإنه غير صحيح باعتبار

ان الظاهر من الآية الكريمة أنها تصف جماعة المؤمنين ببعض الأوصاف الحسنة، وهي عبارة عن أفعال وتروك ـ أي امتناعات عن أفعال ـ وصفات مرغوب فيها شرعاً في زمان نزول الآية على الأقل.

أما افتراض أن بعض هذه الصفات مما يرغب الالتزام به في زمان مستقبل فحسب، حيث لا يكون أمراً حسناً إلا في ظرف يتحقق فيما بعد زمان نزول الآية؛ هذا الافتراض خلاف ظاهر الآية.

ومن الواضح أن الولاية الالهية في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) كانت له لا للشورى، وانه كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم،

130

وقد أمر بالمشورة وترك له الخيار بأن يعزم فيتوكل على الله في تنفيذ عزمه، اما تشاوره مع الناس فإما انه كان لجلب النفوس وتطييب القلوب، أو أنه كان من باب معرفة آراء الآخرين ـ أي المحتمل الثالث ـ على أشد تقدير.

إن ظهور الآية في أنها تصف أناساً مؤمنين نموذجيين تحسن منهم هذه الصفات في زمان صدور الآية لا في زمن متأخر فحسب، وكذلك وضوح وجود ولي الأمر للمسلمين ـ وقتئذ ـ هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن لا ولاية أخرى تثبت عن طريق الشورى. كل هذا يشكل دليلاً وقرينة تكاد تكون متصلة بالآية، كأنه قد صرح بها على الأخذ برأي ولي الأمر بعد المشورة وقتئذ.

صحيح ما قلناه سابقاً: من أن فرض الأخذ برأي ولي الأمر بعد المشورة دون رأي المستشارين خلاف ظاهر الآية لولا القرينة.. ولكن قد عرفنا أن القرينة موجودة بنحو تشبه التصريح بها أثناء نزول الآية لأنها واضحة في الأذهان وضوحاً تاماً.

وبهذا يظهر أن الاستدلال بهذه الآية الكريمة على منح الشورى الولاية الشرعية العامة استدلال باطل.

آية: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير

وفي ختام هذا البحث نود أن نسجل عجبنا الشديد ممن استدل على نظام الشورى بآية كريمة أخرى، هي قوله تعالى:

﴿ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون

131

عن المنكر وأولئك هم المفلحون(1).

ومن هؤلاء الشيخ محمد عبده كما جاء في تفسير المنار(2) وقحطان الدوري في كتاب (الشورى بين النظرية والتطبيق)(3).

ونحن لا ندري كيف يمكن الاستدلال على نظام الشورى بالأمر بالدعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وهل يدل ذلك على أن أسلوب تطبيق المعروف وافناء المنكر عبارة عن اتباع الشورى أو التصويت؟ وأنى يدل على كون الشورى مبدأً للولاية العامة التي تشكل هي أساساً شرعياً لإدارة شؤون الدولة دون غيرها؟!

وعلى أي… فإن الاستدلال بأي آية أو رواية ـ حتى لو سلمتا من الإشكال الخاص عليهما ـ مبتلى بالملاحظة العامة التي عرضناها في مطلع الحديث عن الشورى بالتفصيل، حيث رأينا بوضوح عدم اهتمام القائد الأعظم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببيان نظم الشورى ومبادئها، وكذلك عدم ورود شيء من ذلك ـ لدى الشيعة ـ عن أئمة اهل البيت (عليهم السلام) قبل الغيبة.

ولو فرضنا أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أو أحد الأئمة (عليهم السلام)



(1) سورة آل عمران الآية 104.

(2) لمحمد رشيد رضا نقلاً عن الشيخ محمد عبده ج4 ص 45.

(3) لقحطان عبد الرحمن الدوري ص26

132

كان مهتماً بهذه المسألة ـ التي ترتبط بجانب حياتي هام جداً لا يمكن ان يترك مبهماً ـ لوصلنا شيء من البيانات والنصوص الشرعية الموضحة ـ على أقل تقدير ـ ولكننا نلاحظ عدم وصول شيء على الإطلاق.

اللهم الا ان نحتمل أن قوله تعالى ﴿وأمرهم شورى بينهم ينظر الى مستقبل لم يحن بعد لحد الآن، وحينذاك ستبين شروط الشورى وحدودها ونظمها ولو من قبل الامام المهدي (عليه السلام) حين ظهوره. وإن كان هذا الاحتمال في الآية الشريفة خلاف ظهورها في أنه وصف فعلي مستحسن حين نزول الآية وليست تبين حكم نظام يجب تطبيقه في المستقبل البعيد.

وعلى أي حال، فإننا لا يمكننا أن نستفيد من الآية ولا من أي دليل آخر كون الشورى أساساً لنظام الحكم بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أو في عصر الغيبة.

وبهذا يتضح أن نظام الشورى أيضاً كالنظام الديموقراطي لا يشكل أساساً منطقياً صحيحاً للدولة.

شورى الفقيه

يمكن أن يقال: اننا بالجمع العرفي بين أدلة ولاية الفقيه الآتية ـ لو تمت ـ والآية الشريفة ـ ﴿وأمرهم شورى بينهم بعد جعلها

133

ناظرة الى جانب الاستضاءة بآراء الآخرين والاسترشاد بتجاربهم ـ وهو المحتمل الثالث ـ بالجمع بينها نفهم وجوب قيام الفقيه بالتشاور في الأمور المختلفة والاستعانة بأفكار الآخرين. لا بمعنى العمل برأي الأكثرية مثلاً، بل لمجرد الاستضاءة والقرب من الحقيقة وتكثير الخبرات.

وحينئذ فلا ينبغي حمل الشورى على لزوم معرفة آراء جميع من يهمهم موضوع الشورى وكل من كان الأمر أمرهم، وإنما تجعل ناظرة لمبدأ عقلائي يدعو الى تجميع الخبرات المختلفة وملاحظة آراء الآخرين قبل الإقدام على العمل.

ومن الواضح أن هذا المبدأ العقلائي لم تلحظ فيه مسألة إحصاء آراء كل من له صلة بالموضوع المشاور عليه، فإن هذا هو مقتضى عقلية أنصار الديموقراطية التي تجعل لكل من يكون الأمر أمره الحق في إبداء رأيه وتقرير مصيره، لا عقلية السعي لمعرفة السبيل الأصلح والواقع عن طريق الاستنارة بالعقول والخبرات، إذ الاستشارة تتحقق ـ في كثير من الأحيان ـ ضمن المشورة المركزة والبحث وتبادل الآراء بين مجموعة خاصة، ولربما كانت فرص الوصول الى الواقع من خلال هذه المشورة الخاصة أكبر بكثير منها عند إحصاء الآراء، اللهم قد يتفق ترتب أثر على كون عدد الراغبين في الموضوع المشاور عليه أو نسبتهم المئوية عالية، وهذا أمر آخر.

134

وحاصل القول: أن الآية الشريفة بعد حملها على المعنى الثالث للشورى لا تكون ناظرة على المشورة مع الكل أو ما يقرب من الكل.

ولكن هل يتم هذا الجمع وتصح هذه النتيجة، ويكون من الواجب على الفقيه الوالي أو الفقهاء ـ التشاور في الأمور العامة مع الناس؟

ربما قيل بهذا الصدد: ان هذه الاستفادة والنتيجة غير صحيحة، لأنها متوقفة على أن تكون الآية دالة على وجوب الشورى، في حين أن حملها على المحتمل الثالث من محتملات الشورى يجعلها غير دالة على الوجوب بملاحظة سياقها ـ كما قدمنا ـ.

نعم، لم تكن تقبل الحمل على الاستحباب لو كنا حملنا الشورى على معنى الأخذ بآراء المستشارين. وعليه فالآية ـ من خلال سياقها ـ لا تدل على أكثر من أن الشورى أدب من آداب الاسلام قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً وقد يختلف وجوبه واستحبابه باختلاف الموارد والخصوصيات. إذن فلا يمكن إثبات وجوب المشورة على الفقيه الذي هو ولي الأمر بهذه الآية الشريفة.

نعم، سنرى فيما يأتي أن ولي الأمر إنما جعل ولياً لسد نقص المولّى عليه وإنما يجب عليه مراعاة مصالح المولّى عليه؛ فالفقيه لم يجعل ولياً على المجتمع كي يستبد عليهم بالآراء، وإنما جعل ولياً عليهم كي يخدمهم ويرعى مصالحهم. وحيئذ إذا رأى من المصلحة الملزمة أن يستشير في الأمور وجبت عليه الاستشارة، واذا

135

رأى أحياناً أن المصلحة تلزمه بالأخذ برأي الأكثرية مثلاً لا بمجرد المشورة وجب عليه ذلك.

هذا، وقد يلاحظ البعض أن الآية الشريفة ـ بعد أن كانت بصدد بيان أوصاف المسلمين النموذجيين ومنها الشورى ـ يستفاد منها أن المشورة هي في صالح الأمة دائماً، ولما كان من المفروض في الولي لزوم مراعاة مصالح المولى عليه فإنه يثبت وجوب المشورة على الفقيه في كل أمور المسلمين دائماً.

والحقيقة النهائية: هي أنه بعد أن حملنا الشورى على المعنى الثالث لا يمكن ان يستفاد من الآية الوجوب المطلق ـ حتى لو ضممنا اليها الملاحظة السابقة ـ فيقال: انها واجبة دائماً وفي كل أمر لأنها دائماً لصالح الأمة بلا استثناء ـ بل يحتمل أن يكون الأمر ناظراً الى المشورة العقلائية المرنة المختلف حكمها باختلاف الموارد، ذلك لوقوع هذه الجملة في الآية الشريفة في سياق الانفاق والمغفرة، ومن الواضح أنها امور تختلف أحكامها باختلاف الموارد؛ فقد تكون واجبة وقد تكون مستحبة وقد لا تكون مرغوباً فيها، فليست اذاً اموراً حدية ودائمة.

وهكذا نجد أنه لا يمكن أن يستفاد من الآية الشريفة أكثر مما هو ثابت ـ بغض النظر عنها ـ وهو أنه يجب عادة وفي غالب الامور على ولي الامر ـ وهو الفقيه الجامع للشرائط ـ أن يعمد للشورى

136

لتنير له الطريق الأصوب.

ثم اننا ـ حتى لو غضضنا النظر عن سياق الآية ـ لا يمكن أن نستفيد منها وجوب المشورة المطلق، ذلك أننا بعد حملنا الشورى في الآية على المحتمل الثالث من محتملاتها ـ أي مجرد الاستضاءة ـ وهو ارتكاز عقلائي موجود عند كل العقلاء، يصبح هذا الارتكاز العقلائي بنفسه مؤثراً في فهم حدود الشورى ويجعل الآية مشيرة الى نفس القاعدة العقلائية المرنة غير الصارمة ولا تتعدى دائرتها المرنة هذه.

137

ولاية الفقيه