490

بسبب واقع تحقّق الوصف.

وهذان الارتباطان للرضا بالوصف موجودان تماماً في موارد تخلّف الدّاعي فمَن اشترى دواء باعتقاد كون ابنه مريضاً يكون رضاه متعلّقاً بكليّ بذل المال في مقابل الدواء الذي يحتاجه ابنه المريض، ولم يتعلّق رضاه ببذل المال في مقابل الدواء الذي لا يحتاجه ابنه ولكن سرى رضاه إلى البذل الذي وقع منه بواسطة اعتقاده بانّه من القسم الأوّل فرضى بالبيع، فتخلّف الوصف فيما نحن فيه يكون من هذهِ الناحية تماماً من قبيل تخلّف الداعي، ويكون الرضا المطلوب في صحّة البيع حاصلاً ولأجل رضاه بذلك نرى انّه يقدم عليه من دون إكراه أو إجبار ويصحّ البيع.

سبب الخيار في فقهنا عند تخلّف الوصف:

وأمّا ثبوت الخيار في المقام فله نكتتان إحداهما غير مطردة في تمام موارد محل الكلام والثانية مطردة في تمام موارده:

أمّا النكتة الاُولى ـ فهي تخلّف الداعي القائم على أساس التغرير فصحيح انّ تخلّف الدّاعي بشكل عام لا يوجب الخيار فمَن اشترى دواء لابنه باعتقاده مريضاً ثم انكشف خلافه لم يكن له خيار الفسخ، ولكن لو كان انبعاث هذا الداعي على أساس التغرير كما لو كان بائع الدواء هو الذي أومى إليه بمرض ابنه فهنا لا إشكال في ثبوت الخيار عقلائياً وبالتالي ثبوته شرعاً على أساس الإمضاء المنكشف بعدم الردع، أو على أساس قاعدة نفي الضرر، وفي ما نحن فيه إذا فرض انّ البائع هو الذي وصف عبده بالكتابة مثلاً وغرّر المشتري بذلك انطبقت عليه قاعدة الرجوع إلى من غرّه وثبت بها الخيار.

وهذا كما نرى ـ ليس مطرداً في تمام الموارد فقد يتّفق انّه لم يكن تغرير من

491

قِبَل البائع كما لو تورّط البائع والمشتري في عرض واحد في خطأ الاعتقاد باتّصاف هذا العبد بالكتابة ولم يكن البائع هو الذي أوحى إلى المشتري بذلك وقد يتّفق انّ المشتري كان راضياً بشرائه حتى لو لم يكن كاتباً وان اشترط الكتابة تكثيراً للخير فليس التغرير هو الذي ورّطه في الالتزام بالعقد.

وأمّا النكتة الثانية ـ فهي ما عرفت من انّ قيد الوصف في المقام راجع إلى الشرط، بمعنى التزام مرتبط بالتزام العقد، وارتباطه به يعني تقابله معه أي انّ الالتزام بالعقد من أحد الطرفين مقابل ومكافأ بالتزام الآخر بالشرط، والتقابل يساوق الاستقلال فبتخلّف المشترط عليه لا يبطل الالتزام بالعقد ولكن بما انّ الالتزامين كانا متقابلين أي كان كل منهما كجزاء للآخر وكبدل له ومكافئة له فالتخلّف عن أحدهما يسمح عقلائياً للآخر بالتخلّف سنخ ما نراه في المالين اللّذين وقعا عوضاً ومعوّضاً فأخلف أحدهما في تسليم المال فيكون للآخر أيضاً حق التخلّف، والحاصل انّ الالتزامين إذا كانا متقابلين فوجوب الوفاء بهما أيضاً متقابلان في نظر العقلاء أي لا يجب الوفاء بأحدهما إلّا في مقابل وفاء الآخر، فلو أخلف من عليه الشرط لم يجب على الآخر الوفاء بالعقد وجاز له فسخه وهذا معنى الخيار فإذا تبيّن في المقام عدم اتصاف العين بالوصف المطلوب فقد وقع التخلّف عن الشرط وهذا يوجب الخيار عقلائياً وبالتالي يوجب الخيار شرعاً إمّا بالإمضاء المنكشف بعدم الردع أو بقاعدة نفي الضرر لانّ سلب الحقّ العقلائي عنه يعتبر ضرراً عليه.

هذا. وذكر السيد الخوئي (رحمه الله) بياناً آخر لثبوت الخيار في موارد تخلّف الشرط غير ما ذكرناه من انّ تقابل الالتزامين يوجب التقابل في وجوب الوفاء بهما أيضاً وهو انّ الشرط بعد أن لم يكن راجعاً إلى تعليق العقد على تحقّق الشرط

492

لا بد أن يكون التعليق فيه في الالتزام بالوفاء بالعقد وإتمامهِ، فحقيقته جعل الخيار على تقدير التخلّف ولهذا يثبت الخيار بتخلّف الشرط(1).

أقول: كأنّ السيد الخوئي رأى انّ للشرط ارتباطاً لا محالة بالعقد وليست النسبة بينهما مجرّد نسبة الظرفية والمظروفية البحتة من دون ارتباط معنوي بينهما وبما انّ هذا الارتباط المعنوي بينهما ليس عبارة عن تعليق العقد على الشرط فانحصر عنده الأمر في أن يكون الارتباط عبارة عن تعليق الوفاء بالالتزام على الشرط أو عن جعل الخيار عند تخلّف الشرط وهذا الكلام لو صحّ عقلائياً فلازمه عدم وجوب وفاء المشروط عليه بالشرط في ارتكاز العقلاء لانّ واقع ما التزم به انّما هو عبارة عن تحقّق الخيار لدى عدم الاتيان بالعمل الفلاني، وليس عبارة عن نفس ذلك العمل بينما من الواضح في الارتكاز العقلائي ان من حقّ المشروط له إلزام المشروط عليه بالوفاء بالشرط، وإن لم يف بالشرط كان له الخيار، فلو كان مرجع الشرط عقلائياً إلى ما يقوله من مجرد جعل الخيار على تقدير التخلّف أو تعليق الوفاء بالعقد على الوفاء بالشرط لم يكن بالإمكان تفسير ما هو المركوز عقلائياً من وجوب الوفاء بالشرط الذي كان ضمن ا لعقد.

إذن فلا بد للشرط من تفسير آخر يحفظ ارتباطه بالعقد مع اشتماله على عنصر التزام المشروط عليه بالشرط من كتابة العبد أو عمل من الأعمال أو أي شيء آخر لا مجرّد جعل الخيار على تقدير عدم تحقّق الشرط.

نعم لو كان الشرط سنخ شرط لا يشتمل على التزام العاقد بشيء ولم يكن راجعاً إلى تعليق العقد عليه انحصر تفسيره بإرجاعه إلى جعل الخيار على تقدير


(1) المحاضرات 2: 140.

493

عدمه، مثاله ما لو اشترى من الصيدلي دواءً بشرط كون ابنه مريضاً وافترضنا عدم رجوعه إلى تعليق العقد على مرض ابنه فهذا تفسيره الوحيد هو شراء الدواء مع فرض الخيار على تقدير عدم كون ابنه مريضاً إذ لا يحتمل هنا إرادة التزام البائع بكون ابن المشتري مريضاً.

هذا مضافاً إلى انّ إرجاع الشروط إلى جعل الخيار أو تعليق الالتزام بالوفاء بالعقد على تلك الشروط غير كاف لتفسير الارتباط المعنوي للشرط بالعقد.

وتوضيح ذلك: انّنا ننقل الكلام عندئذ إلى جعل الخيار لنرى هل انّ هناك ارتباطاً معنوياً بين جعل الخيار في هذا العقد ونفس هذا العقد أو ان ارتباطهما عبارة عن مجرّد الظرفية والمظروفية مع كون العقد هو متعلّق الخيار فيرجع جعل الخيار إلى شرط ابتدائي بحت من قبيل ما لو جعلا الخيار في بيع بعد تمامية ذاك البيع فالفرق فقط في انّ علاقة الظرفية والمظروفية بينهما منتفية في مثال جعل الخيار بعد البيع وثابتة في ما نحن فيه؟

فان فرض الثاني، أي انّ العلاقة بين العقد وجعل الخيار انّما هي علاقة الظرفية والمظروفية قلنا:

أولاً: انّ الشرط الابتدائي البحت غير لازم لدى العقلاء فكيف يثبت الخيار؟ !

وثانياً: لا شك في انّه لو باعه شيئاً بشرط الخيار وقَبِل المشتري ذلك بلا شرط الخيار ثبت الإحساس بعدم تطابق الإيجاب والقبول ولو على مستوى الشروط واحتجنا إلى البحث الآتي من ان عدم تطابقهما في الشروط هل يضر بالعقد أو لا، بينما على الظرفية البحتة من الواضح التطابق الكامل بين الإيجاب والقبول وعدم وجود أي خلل في العقد

494

وثالثاً: لو فسّرنا ارتباط شرط الخيار بالعقد بمجرّد علاقة الظرفية والمظروفية فلم لا نفسّر كل الشروط بهذا التفسير بأن يكون كل شرط ضمن العقد عبارة عن الإلزام والالتزام بذاك الشرط في ظرف العقد بلا حاجة إلى إرجاع جميع الشروط إلى شرط الخيار؟ ! !

وان فرض الأوّل وهو ان هناك نوع علاقة معنوية بين شرط الخيار والعقد وراء مجرّد الظرفية البحتة فلا بد من التفتيش عن تلك العلاقة فلعلّها تصدق ابتداء في سائر الشروط الضمنية بلا حاجة إلى إرجاعها إلى شرط الخيار.

والصحيح ما عرفته منّا من انّ العلاقة المعنوية الموجودة بين الشرط الضمني والعقد هو تقابل الالتزامين وكون أحدهما بمنزلة العوض عن الآخر والتقابل يحفظ الاستقلال من ناحية فلا يفسد العقد بفساد الشرط أو بالتخلّف عنه ويؤدي إلى الخيار من ناحية اُخرى باعتبار انّ التقابل بين الالتزامين موضوع للتقابل بين الوفائين في الوجوب. أي انّ وجوب وفاء أحدهما بما التزم مشروط بوفاء الآخر بما التزم.

وعلى أيّة حال فقد اتضح بهذا العرض ان لثبوت الخيار عند تخلّف وصف مطلوب ملاكين بينهما عموم من وجه:

الأوّل ـ ملاك التغرير بإيحاء أمر لم يكن الطرف الآخر ليقبل الدخول في العقد لولاه.

والثاني ـ ملاك تخلّف الشرط.

فقد لا يكون شرط بين البائع والمشتري ولكن التغرير ثابت وذلك على أساس انّ البائع غرّر المشتري بإيحائه إليه بكون العبد كاتباً مثلاً فوثق المشتري بذلك ولم ير حاجة للشرط فأوقع العقد على هذا العبد الجزئي معتقداً كتابته فهنا

495

يثبت الخيار بالملاك الأوّل دون الثاني.

وقد لا يكون البائع مغرّراً للمشتري بل كانا معاً متورّطين في الخَطأ في عرض واحد ولكن العقد تمّ بشرط الكتابة، أو غرّره بدعوى ثبوت الوصف ولكن المشتري كان راضياً بالعقد حتى مع عدم الوصف ومع ذلك اشترط الوصف طلباً لزيادة الخير فهنا يثبت الخيار بالملاك الثاني دون الأوّل.

وقد يثبت الملاكان معاً كما لو اشترط المشتري على البائع وصف الكتابة وأوحى إليه البائع بثبوت هذا الوصف.

ومتى ما انتفى الملاكان دخل الأمر في تخلّف الداعي الذي لا يوجب الخيار ـ إلّا فيما سيأتي من الاستثناء ـ كما لو اشترى عبداً بتخيّل كونه كاتباً وكان داعيه إلى هذا الشراء هو الاستفادة من كتابته، ولم يكن هذا الخطأ بوحي من البائع ولا كان بينهما اتفاق على شرط الكتابة ثم تبيّن انّه ليس كاتباً فهنا لا خيار له.

سبب الخيار في الفقه الوضعي عند تخلّف الوصف:

إلّا أنّه ورد في الفقه الوضعي المقياس لثبوت الخيار في المقام بشكل آخر يختلف عما ذكرناه.

وقد نقل في الوسيط(1) مقياسين لذلك ناسباً لأحدهما إلى: كثير من الفقهاء، والآخر إلى التقنين المصري الجديد:

أمّا ما نسبه إلى كثير من الفقهاء فهو انّ المقياس للخيار هو كون الغلط مشتركاً بين المتعاقدين، فالعقد عندئذ وإن كان صحيحاً لانّ الإرادة موجودة ولكن له الخيار، لانّ إرادته معيبة بمعنى قيامها على أساس الغلط، وصحيح انّ


(1) راجع الوسيط 1: 331 ـ 340، الفقرة 175 ـ 177.

496

هذا السبب للخيار موجود في فرض الغلط الفردي أيضاً، أي ما إذا اختص الغلط بمن قامت إرادته على أساسه، والآخر كان يعلم بواقع الحال إلّا انّ الذي يمنع عن الحكم بالخيار في هذا الفرض هو انّ الحكم بالخيار في ذلك يؤدّي إلى تزعزع التعامل ولم يأمن أي متعاقد ان يرى العقد الذي اطمأن إليه قد انهار بدعوى الغلط يقدمها الطرف الآخر وهو بعد لم يدخل في سريرته فيعلم انّ رضاءه كان قد صدر عن غلط ! إذن فينبغي تخصيص الخيار بالغلط المشترك، ذلك انّ المتعاقد الآخر إذا اشترك معه في الغلط فمن العدل ان يقره على بطلان العقد لسبب هو نفسه قد اشترك فيه، ولا يعود هناك وجه للتذمّر من تقلقل المعاملات وعدم استقرارها.

وعلّق على ذلك السنهوري بان هذه النظرية لا تتمشّى مع المنطق ولا تتفق مع العدالة، ثم هي ليست ضرورية لتحقيق الغرض العملي المقصود وهو استقرار المعاملات إذ يمكن الوصول إلى هذا الغرض من طريق آخر.

أمّا انّ النظرية لا تتمشى مع المنطق فظاهر لانّ الغلط يفسد رضاء من وقع فيه ولو لم يشترك الآخر معه في الغلط فيجب منطقيّاً إبطال العقد سواء وقع المتعاقد الآخر في هذا العقد أو لم يقع.

وأمّا انّ النظرية لا تتفق مع العدالة فيظهر ذلك إذا فرضنا انّ الغلط لم يكن مشتركاً ولكن المتعاقد الذي صدر منه رضاء صحيح كان يعلم بالغلط الذي وقع فيه المتعاقد الآخر وتركه مسترسلاً في غلطه دون ان ينبهه إلى ذلك، فالغلط في مثل هذهِ الحالة يكون فردياً وليس من شأنه ان يبطل العقد طبقاً لنظرية الغلط المشترك.

ويترتب على ذلك انّه ما لم يكن هناك تدليس من المتعاقد الآخر ولنفرض انّه وقف موقفاً سلبياً محضاً فانّ العقد يكون صحيحاً لا مطعن فيه، وبديهي انّ هذهِ

497

النتيجة تصطدم العدالة فانّه إذا كان عدلاً ان يبطل العقد في حالة اشتراك الطرفين في الغلط فالأولى ان يبطل العقد إذا انفرد أحد المتعاقدين بالغلط وكان الآخر يعلم ذلك ولم ينبّهه إليه.

وأمّا انّ النظرية ليست ضرورية لاستقرار التعامل فانّ ذلك يظهر في وضوح لو أخذنا بنظرية الغلط الفردي واقتصرنا على اشتراط أن يكون المتعاقد الآخر متصلاً بهذا الغلط على الوجه الذي سيبيّن في الرأي الثاني.

أقول: كأن ملاحظة السنهوري الاُولى والثالثة تشكّلان إشكالاً واحداً وهو انّه حينما يمكن حفظ استقرار التعامل بالقدر المطلوب مع القول بالخيار في الغلط الفردي وجب منطقياً إبطال العقد لانّ رضاءه مشوب على أي حال بالغلط، أمّا لو فصلت الملاحظة الثالثة عن الاُولى لكان لصاحب نظرية الغلط المشترك ان يجيب عليها بانّه صحيح انّ مقتضى الطبع الأولي للمنطق هو ثبوت الخيار لدى الغلط الفردي ولكن منعنا عن القول به ضرورة حفظ استقرار التعامل، كما انّه لا يبقى مجال للملاحظة الاُولى لو قلنا بالإرادة الظاهرة فانّ الإرادة الظاهرة لم تكن مشوبة إلّا إذا ضمّمنا إليها أيضاً ما يحل محل الملاحظة الثالثة وهي توضيح انّه يكفي في مشوبية الإرادة الظاهرة كون المتعاقد الآخر متصلاً بهذا الغلط.

وأمّا ما نسبه إلى التقنين المصري الجديد فهو كفاية الغلط الفردي الذي يتصل به المتعاقد الآخر بمعنى انّه يكفي ثبوت الغلط ولو فردياً ولكن إذا كان المتعاقد الآخر لم يشترك في هذا الغلط وجب ـ حتى تمتنع مفاجأته بدعوى الغلط ـ أن يكون على علم به، أو أن يكون من السهل عليه ان يتبيّنه وهذا ما تقضي به المادّة [120] من التقنين الجديد المصري فهي تنصّ على انّه (إذا وقع المتعاقد في غلط جوهري جاز له ان يطلب إبطال العقد إن كان المتعاقد الآخر قد

498

وقع مثله في الغلط أو كان على علم به أو كان من السهل عليه ان يتبيّنه).

وعلّل السنهوري ذلك(1) بانّ الغلط إذا لم يكن مشتركاً وفاجأ المتعاقد الذي وقع في الغلط المتعاقد الآخر بدعوى الغلط ولزم ان نبطل العقد بناء على مبنى الإرادة الباطنة فانّ المتعاقد الآخر حسن النية لا ذنب له فلماذا يبتلى بمشكلة عدم استقرار التعامل؟! والمخطئ هو المتعاقد الأوّل الذي أهمل في كشف نيّته ولم يجعل المتعاقد الآخر يتبيّن أو يستطيع ان يتبيّن ما شاب إرادته من غلط فوجب عليه التعويض وتدارك ضرر عدم استقرار التعامل وخير تعويض في هذهِ الحالة بقاء العقد صحيحاً وبكلمة اُخرى انّ الإرادة الباطنة وإن كانت مشوبة بالغلط ولكن هذا المورد من الموارد التي غلب فيها جانب الإرادة الظاهرة حفظاً لاستقرار التعامل ولا يستقيم هذا التعليل إلّا إذا كان المتعاقد الآخر لا علم له بالغلط وليس من السهل عليه ان يتبيّنه، أمّا إذا كان عالماً بالغلط وانّه هو الدافع إلى التعاقد فلا حق له في الشكوى من إبطال العقد لانّه يكون سيّئ النيّة، وإذا لم يكن عالماً بالغلط ولكن كان من السهل ان يتبيّنه وان يتبيّن انّه هو الدافع إلى التعاقد فلا حقّ له كذلك في الشكوى من إبطال العقد لانّه يكون مقصّراً، ويخلص لنا من كل ذلك ان الغلط الجوهري لا يجعل العقد قابلاً للإبطال إلّا إذا كان غلطاً مشتركاً أو كان غلطاً فردياً يعلمه المتعاقد الآخر أو يسهل عليه ان يتبّينه.

فإذا تحددت نظرية الغلط على هذا النحو فانّها لا تتنافى مع استقرار التعامل ذلك لانّ المتعاقد الذي وقع في الغلط لا يدع للمتعاقد الآخر سبيلاً للزعم بانّه


(1) ما نقلته هنا مستخلص من مجموع ما جاء في الوسيط في المتن وفي التعليق تحت الخط، الصفحة 335، الفقرة 176.

499

فوجئ بطلب إبطال العقد فقد ثبت انّ هذا المتعاقد الآخر كان مشتركاً في الغلط، أو كان يعلم به، أو كان من السهل عليه ان يتبيّنه، وهو في الاُولى حسن النيّة ولكن مقتضى حسن نيّته ان يسلِّم بإبطال العقد، وهو في الثانية سيّئ النيّة والإبطال جزاء لسوء نيّته، وهو في الثالثة مقصّر وتعويض التقصير الإبطال.

وغنيٌّ عن البيان انّنا إذا اشترطنا أن يكون المتعاقد الآخر متصلاً بالغلط على النحو المتقدّم فانّ ذلك يعني أن يكون على بيّنة أيضاً من ان هذا الغلط الجوهري هو الدافع إلى التعاقد كما سبق القول. انتهى ما أردتُ نقله عن الوسيط.

أقول: إنّ الفرق الأساسي في المقام بين النظرة الفقهية للفقه الغربي والنظرة الفقهية للفقه الإسلامي هو انّ الفقه الغربي يرى انّ العيب الذي ادّى إلى قابلية العقد للإبطال يكمن في نفس الإرادة، فالإرادة لانّها كانت معيبة كان أثر ذلك قابلية العقد للإبطال ولو كانت مفقودة كان أثر ذلك بطلان العقد ففي المقام حيث انّ الإرادة موجودة فالعقد صحيح وحيث انّها قائمة على أساس الغلط فهي معيبة فالعقد قابل للإبطال.

ومن هنا نرى انّ الفقه الغربي أخذ يبحث عمّا هو المبرّر لعدم الخيار في موارد الغلط الفردي، أو في موارد الغلط غير المتصل بالمتعاقد الآخر، أو في موارد ما يسمّيه فقهاء الإسلام بتخلّف الداعي رغم انّ الإرادة هنا أيضاً معيبة بمعنى كونها قائمة على أساس الغلط فبرّروا ذلك بضرورة استقرار التعامل، أو بان المقياس هو الإرادة الظاهرة.

امّا الفقه الإسلامي فلا يقسّم الإرادة إلى معيبة بعيب يوجب الخيار وغير معيّبة بل الإرادة متى ما كانت موجودة مع تواجد سائر الشروط صحّ العقد وإلّا بطل العقد، وفي باب الإكراه يكون العقد باطلاً في رأي الفقه الإسلامي لفقدان

500

الرضا بالمعنى المقابل للإكراه، وإن ثبتت الإرادة بمعنى ما يقابل صدور العمل من دون اختيار أو بمعنى الرغبة الموجودة حتى مع الإكراه دفعاً للخطر في عمل لم يكن الإكراه بمستوى سلب الاختيار فانّ العامل عندئذ يعمل بإرادته تخلصاً من الخطر المتوعّد به أو قل إنّنا نقصد بالإرادة التي هي شرط في صحّة العقد طيب النفس بالمعنى المقابل للإكراه لا بمعنى مجرّد القصد الذي يمتاز به العمل الاختياري عن العمل غير الاختياري، ولا بمعنى الرغبة أو الرضا الناتج عن قصد التخلّص من خطر المكره، وان شئت فعبّر بانّ عيب الإرادة في الفقه الإسلامي الذي لا يفقدها وانّما يعيبها هو الإكراه وانّ جزاء عيب الإرادة هو البطلان لا الخيار.

وعلى أيّة حال فالخيار في الفقه الإسلامي لا يستند إلى كون الإرادة معيبة بقيامها على أساس الخطأ ولذا لم يبحثوا عن المبرّر لعدم الخيار في موارد ما اسموه بتخلّف الداعي وانّما بحثوا عن نكتة الخيار في موارد تخلّف الوصف المذكور في متن العقد مثلاً وبرّروه بمثل تخلّف الالتزام الضمني أو تخلّف الغرض المعاملي أو غير ذلك وقد عرفت انّنا نرى نكتتين للخيار كلتاهما غير مسألة كون الإرادة معيبة بقيامها على أساس الغلط احداهما التغرير والاُخرى تخلّف الشرط.

وهذا المنهج الإسلامي أوفق بالمرتكزات العقلائية من المنهج الغربي وذلك لانّ المنهج الغربي لا يستطيع ان يفسّر الخيار في المقام تفسيراً يطابق المرتكزات العقلائية على مسلك الإرادة الباطنة الذي هو أحد المسلكين في الفقه الغربي، وتفسير ذلك باستقرار التعامل لا يوضّح لنا الفرق بين هذا المقام وسائر الموارد التي أخذوا فيها بالإرادة الباطنة فإن كان الحفاظ على استقرار التعامل هو المنهج العام وكان هو الذي ادّى إلى العدول في المقام إلى الأخذ بالإرادة الظاهرة

501

فالمترقب هو المصير إلى إعطاء الأصالة للإرادة الظاهرة وهو خلف هذا المسلك وإلّا فما هو السرّ في خصوص المقام بالتوجّه إلى فكرة استقرار التعامل واستثنائه من بين الموارد الاُخرى التي اُسّست الأحكام فيها على أساس الإرادة الباطنة؟ !

وبكلمة اُخرى نحن نرى انّ الفقه الغربي بكلا مسلكيه في باب الإرادة أطبق على قابلية العقد للإبطال في مورد الغلط المتصل بالمتعاقد الآخر أو ـ على الأقل ـ الغلط المشترك وان اختلافهم في كون الأصالة للإرادة الباطنة أو للإرادة الظاهرة لم يؤثّر على فكرة قابلية العقد للإبطال في المقام، فلو أردنا ان نفترض ذلك مطابقاً لمرتكزات عقلائية كامنة في النفوس دون مجرّد تعبّد واجتهاد من قِبَل المشرّعين فهو يكشف لا محالة عن وجود نكتة اُخرى للخيار وقابلية العقد للإبطال غير نكتة كون الإرادة معيبة بقيامها على أساس الغلط لانّ هذهِ النكتة لا تفسّر لنا الفرق بين الغلط المشترك والغلط الفردي أو الغلط المتصل بالمتعاقد الآخر والغلط غير المتصل به على مدرسة الإرادة الباطنة مع انّنا نرى انّ اختلاف المدرستين لم يؤثّر على ما يختار في المقام.

وإذا قسنا النتيجة التي توصّلنا إليها إلى ما ذكروه من الغلط المشترك رأينا انّ النسبة بينهما عموم من وجه، فربما يكون التغرير أو الشرط موجوداً ولا يكون الغلط مشتركاً بل كان صاحبه على علم وعمد في ما فعل فهنا يثبت الخيار رغم عدم الاشتراك في الغلط كما قال به أصحاب نظرية الغلط المتصل به المتعاقد الآخر بل قال به حتى أصحاب نظرية الغلط المشترك لكن تحت اسم آخر غير اسم الغلط وهو اسم التدليس، كما انّ خيار التدليس وارد في فقهنا الإسلامي أيضاً وربما يكون الغلط مشتركاً وقد وقعا في الغلط في عرض واحد ولم يكن تغرير ولا شرط وهنا لا نلتزم بالخيار خلافاً لما قالوه.

502

وإذا قسنا النتيجة التي توصّلنا إليها بما أضافوه من كفاية علم المتعاقد الآخر بغلط صاحبه أو كون تبيّنه سهلاً عليه قلنا: إنّه ربما يكون العلم أو سهولة التبين ثابتاً له ولكنه لم يكن هو المغرّر ولا كان هناك شرط وجود الوصف بينهما وهنا لا مبرّر لدينا للخيار.

ثم انّ صاحب الوسيط نقل في المقام(1) عن التقنين المصري الجديد المادة [124] انّه: (1 ـ ليس لمَن وقع في غلط ان يتمسّك به على وجه يتعارض مع ما يقضي به حسن النيّة. 2 ـ ويبقى بالأخص ملزماً بالعقد الذي قصد ابرامه إذا أظهر الطرف الآخر استعداده لتنفيذ هذا العقد) والمقصود بالبند الأوّل ما يشمل فرض ما إذا لم يكن البائع مثلاً محققاً للوصف أو الشرط المطلوب بالذات ولكنّه كان مستعداً لتدارك الضرر الحاصل من فقد الوصف بحيث يتحقّق كل الأغراض التي قصدها المشتري كما مثّل له في الوسيط بمَن اشترى أرضاً وهو يعتقد انّ لها منفذاً إلى الطريق العام ثم يتضح انّها محصورة فيعرض عليه البائع النفقات التي يقتضيها حصوله على حق المرور إلى الطريق العام ممّا يحقّق له كل الأغراض التي قصد إليها فيأبى إلّا إبطال البيع فلا يجاب المشتري إلى طلبه. والمقصود بالبند الثاني خصوص ما إذا استعد البائع لتحقيق الوصف أو الشرط المطلوب وتنفيذ العقد حرفيّاً ونقل في الوسيط تحت الخط عن المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للتقنين المصري بصدد المادّة [124] التمثيل له بمَن يشتري شيئاً معتقداً خطأً أن له قيمة أثرية مرتبطاً بعقد البيع وعرض البائع استعداده لأن يسلّمه نفس الشيء الذي انصرفت نيّته إلى شرائه فهنا ليس للمشتري حق الإبطال.


(1) راجع الوسيط 1: 340 ـ 341، البند 178.

503

أقول: لا شك في انّ استعداد البائع لتنفيذ العقد حرفياً لا يُبقي مجالاً لحق خيار الفسخ، لكن هذا انّما يتمّ فيما إذا كان المبيع كلياً وكان معه شرط لم ينفّذه البائع، أو كان المبيع موصوفاً بوصف لم ينفّذه البائع لدى التسليم فاستعدّ لتحقيق الشرط أو تبديل الفرد المسلّم بفرد آخر واجد للوصف مثلاً فانّ هذا يُسقط الخيار الناتج عن عدم وفاء البائع بالشرط أو عدم تسليمه لما التزم به من المتاع الموصوف بوصف ما لانّ هذا معناه حصول الوفاء وبه يزول سبب الخيار.

وكذلك ما لو كان المبيع جزئياً وكان فاقداً للوصف المشترط لكن كان بإمكان البائع تحقيق ذلك الوصف بحيث يتحقّق بذلك الشرط الموصوف به نفس ذاك المبيع الجزئي كما لو اشترى البيت بشرط تعمير الفطور الموجود فيه فخالف البائع الشرط ثم استعد لتحقيقه بنحو يعدّ وفاء بالشرط.

أمّا إذا كان المبيع جزئياً فاقداً للوصف المطلوب كما في المثال الذي ذكره فهنا لا مجال لإسقاط الخيار بتبديل الفرد بفرد آخر واجد للوصف فانّ العقد انّما وقع على الفرد الأوّل وهو فاقد للوصف المقصود فليس المشتري ملزماً بقبوله، وأمّا الفرد الثاني الواجد للوصف فهو بحاجة إلى عقد جديد وليس المشتري ملزماً بقبول العقد الجديد إلّا ان ندخل هذا التبديل تحت عنوان تدارك الضرر الحاصل بفقدان الوصف وهذا رجوع إلى البند الأوّل.

وتحقيق الحال في البند الأوّل إذا أردنا ان نخضعه للمقاييس التي نحن توصّلنا إليها من التغرير وتخلّف الشرط هو انّ التغرير يرتفع بالتدارك فانّ التدارك يشبع الفطرة العقلائية التي تقول: إنّ المغرور يرجع إلى من غرّه لانّ إلزامه البائع بالتدارك بنفسه مصداق تام لرجوع المغرور إلى مَن غرّه فلا يبقى مجال لخيار الفسخ، وأمّا تخلّف الشرط فلا يرتفع بذلك لانّ المفروض انّ ذات الشرط لم

504

يحصل والعدول إلى شيء آخر يحقّق نفس الأغراض المرجوّة من ا لشرط عدول إلى شرط جديد يحتاج إلى موافقة المشتري عليه ومجرّد حصول الغايات المطلوبة لا يكفي لإشباع الفطرة العقلائية التي تقول: إنّ الالتزامين المتقابلين لدى الانعقاد متقابلان لدى الوفاء فإذا تخلّف أحدهما عن الوفاء كان للآخر التخلف عن التزامه والتراجع عنه وفسخه.

 

تنبيهات حول فقدان الإرادة ووجودها المعيب:

وفي ختام بحثنا عن المقارنة بين فقدان الإرادة ومسألة الغلط الموجب للخيار نرى لزاماً علينا التنبيه على عدّة اُمور:

أقسام عدم التطابق بين الإيجاب والقبول:

الأمر الأوّل ـ انّ المصداق المتفق عليه لفقدان الإرادة الموجب للبطلان بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي كان عبارة عن عدم التطابق بين الإيجاب والقبول وهل عدم التطابق بينهما بجميع أنحائه المتصورة يوجب البطلان أو لا؟

ذكر السيد الخوئي في المقام أقساماً خمسة لعدم التطابق بين الإيجاب والقبول(1).

القسم الأوّل ـ ما إذا اختلفا في عنوان العقد وهذا ما ذكره في مصباح الفقاهة دون المحاضرات كما لو انشأ الموجب البيع وقَبِل القابل الهبة، وهنا لا إشكال في البطلان لعدم تماميّة العقدة بين الإيجاب والقبول وبالتالي عدم انعقاد العقد.

القسم الثاني ـ ما إذا اختلفا في المتعلّق، أي الثمن أو المثمن وهنا أيضاً لا إشكال في عدم الانعقاد بنفس النكتة.


(1) راجع مصباح الفقاهة 3: 71 ـ 74، والمحاضرات 2: 139 ـ 141.

505

القسم الثالث ـ ما إذا اختلفا في طرف العقد كما لو قال: بعتك بكذا فقال له القابل: قبلت لموكّلي وهنا فصّل السيد الخوئي بين ما لو كان طرف العقد ركناً ومقوّماً للعقد وما لم يكن كذلك، ففي الأوّل يبطل العقد وفي الثاني لا يبطل، والركنية في نظر السيد ا لخوئي تكون في موردين:

(الأوّل) عقد النكاح لوضوح ركنية الزوجين فيه (وإن كان هذا خارجاً عن معقد بحثنا حيث عقدنا البحث في العقود المالية) فلو قالت: زوّجتك نفسي فقال: قبلت لموكّلي بطل العقد، وهذا بخلاف مثل البيع الذي يكون المهمّ فيه تبادل المالين ولا ركنية لشخصية البائع أو المشتري.

(والثاني) ما إذا كان الثمن أو المثمن في الذمّة فعندئذ تكون ذمم الأشخاص مختلفة ويكون تعيين شخصية العاقد مقوّماً وركناً في العقد ودخيلاً في ما يهمّ الطرف الآخر، فلو باعه بثمن في ذمته وقَبِل القابل لموكّله بثمن في ذمّة الموكّل بطل البيع، وبكلمة اُخرى انّ الاختلاف في طرف العقد حينما يكون الثمن أو المثمن في ذمّته يرجع إلى الاختلاف في المتعلّق وهو القسم السابق لانّ ما في ذمّة هذا غير ما في ذمّة ذاك باعتبار تقوّم ما في الذمّة بالذمة (وهذه الكلمة الاُخرى موجودة في مصباح الفقاهة دون المحاضرات) والأصح ما جاء في تعليق المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) على المكاسب(1) من انّ الاعتبار بالقصد العهدي العقدي لا بالقصد الخارجي الذي لم يقع العهد والعقد عليه فلو قال: بعت من موكّلك ولم تقم قرينة على نفي تعلّق القصد العقدي بالموكّل فقال القابل: قبلت لنفسي بطل العقد، وإن كان الغرض الخارجي متعلّقاً بمبادلة مال بمال من دون


(1) المكاسب 1: 72.

506

خصوصية للأشخاص إلّا في ما إذا شكّلت غلبة عدم الاهتمام بخصوصية الأشخاص قرينة نوعية على صرف القصد العهدي والعقدي عن الظهور الأوّلي للفظ.

القسم الرابع ـ ما إذا اختلفا في الشروط وهنا جاء في مصباح الفقاهة: انّ الاختلاف في الشرط يوجب البطلان لانّ الشرط إمّا أن يرجع في واقعه إلى تعليق العقد على الشرط وبه يختلف الإيجاب عن القبول لا تتمّ العقدة بينهما فيبطل العقد، أو يرجع في واقعه إلى تعليق اللزوم على الشرط وهذا يعني جعل الخيار الراجع إلى تحديد المُنشأ وبتحديد المُنشأ بحدين مختلفين يقع الفرق بين الإيجاب والقبول فيبطل العقد أيضاً.

أقول: إنّ هذا الكلام غريب فان جعل الخيار ليس تحديداً للمُنشأ بما قبل الفسخ بذاك الخيار ولا بأي شيء آخر.

والواقع انّ ما جاء في المحاضرات أدقّ وأمتن ممّا ورد في مصباح الفقاهة وهو انّ الشرط في باب العقود اجنبيّ عن الالتزام العقدي ولا يستلزم تعليقه عليه وانّما التعليق راجع إلى الالتزام بالوفاء فحقيقته جعل الخيار على تقدير تخلّف العقد فلو اختلفا في الشرط لم يعد ذلك إلى الاختلاف في ذات الإيجاب والقبول فإذا رضي البائع بعد ذلك بسقوط الشرط صحّ البيع.

أقول: إنّ مجرّد إرجاع الشرط إلى شرط الخيار لا يحلّ إشكال الاختلاف بين الإيجاب والقبول بل كان لا بد من تحقيق الحال في شرط الخيار عندئذ هل هو قيد في العقد فيعود الأمر مرّة اُخرى إلى الاختلاف بين الإيجاب والقبول؟ أو ليس قيداً فيه إذن فما هي العلاقة المعنوية بين الشرط الضمني والعقد؟

وقد مضى منّا البحث عن ذلك فيما سبق وانتهينا إلى انّ سائر الشروط لا

507

ترجع إلى شرط الخيار، وإلى انّ الشرط هو التزام في مقابل الالتزام بالعقد وهذا التقابل يساوق الاستقلال من ناحية ويفسّر الخيار على تقدير التخلّف من ناحية اُخرى. وإذا ثبت الاستقلال ثبت انّ الاختلاف في الشرط لا يعود إلى الاختلاف بين ذات الإيجاب وذات القبول نعم بما انّ الرضا كان منوطاً بالشرط فالاختلاف في الشرط أوجب فقدان الرضا فنحتاج إلى تجدّد الرضا كي يتم البيع أو ـ على الأقل ـ كان الرضا المبرز منوّطاً بالشرط فاحتجنا إلى تجدّد إبراز الرضا كي نحرز تمامية العقد.

وذكر المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) في المقام(1) انّ صحّة البيع في موارد تعذّر الشرط أو فساده إذا كانت على مقتضى القاعدة لا بالتعبّد بمثل الإجماع فلا محالة يلزم القول في موارد اختلاف الإيجاب والقبول في الشرط بالصحّة أيضاً وذلك لانّ تحقّق المعاقدة إن كان دائراً مدار الشرط إذن فتعذره أو فساده يبطل العقد، وإن لم يكن دائراً مداره فالمعاقدة في المقام تتم على أصل التبادل رغم اختلاف الموجب والقابل في الشروط، فالمفروض عدم مضريّة هذا الخلاف بصحّة العقد.

أقول: قد مضى منّا انّ الرضا بكليّ العقد يقبل التقييد بواقع الشرط بمعنى التحصيص، أي ان يتعلّق الرضا بخصوص تلك الحصّة من العقد المقارنة لتحقّق الشرط المقصود ولكن الرضا يسري من الكليّ إلى هذا الفرد من العقد ويكون سريان الرضا من الكليّ إلى الجزئي دائراً مدار وصول الأوصاف والشروط المطلوبة بدرجة من درجات الوصول لا دائراً مدار واقع تلك الأوصاف والشروط وبهذا يتّضح الفرق بين باب اختلاف الإيجاب والقبول في الشرط


(1) راجع تعليقته على المكاسب 1: 72 ـ 73.

508

وباب تعذّر الشرط أو فساده حيث انّه في مورد انكشاف التعذّر أو الفساد بعد العقد يكون الرضا محرزاً حين العقد لانّ سريان الرضا إلى الجزئي لم يكن دائراً مدار تحقّق الشرط واقعاً في الخارج وانّما كان دائراً مدار مستوى من وصوله الثابت حين العقد، أمّا مع اختلاف الإيجاب والقبول في الشرط فلم يتحقّق حين العقد الوصول المطلوب في سريان الرضا فلا بد من تجديد الرضا كي يتمّ العقد.

وهذه حالة وسطية بين بطلان العقد بمعنى الحاجة إلى تجديد الانشاء وصحّته مع الخيار، بمعنى انّ إزالته بحاجة إلى الفسخ ففي المقام ليس العقد باطلاً بمعنى انّ أحدهما لو تنازل بعد ذلك عن اختلافه مع صاحبه في الشرط احتاجا إلى تجديد إنشاء العقد، وليس صحيحاً بمعنى انّ إزالته بحاجة إلى الفسخ على أساس الاختلاف في الشرط بل العقد يكون في تأثيره بحاجة إلى تعقّب الرضا لانّ الرضا كان منوطاً بالشرط وقد وقع الخلاف بينهما فيه فان أعقبه الرضا تمّ العقد وإلّا بطل العقد بفقدان الرضا.

ونستثني من ذلك حالتين:

الحالة الاُولى ـ ما إذا كان العاقد راضياً بالعقد حتى على شرط صاحبه وانّما فرض الشرط الذي فرض طلباً لمزيد الخير فهنا ينعقد العقد (ما لم يفرض معلّقاً على الشرط الذي لم يقبله صاحبه) ويكون له الخيار على أساس عدم موافقة صاحبه على شرطه.

الحالة الثانية ـ ما إذا لم يطلع العاقد على عدم موافقة صاحبه على شرطه لغفلة أو لإجمال كلام صاحبه أو لأيّ سبب آخر فسرى الرضا إلى هذا المصداق من العقد على أثر جهله بعدم انعقاد شرطه المطلوب له فهنا أيضاً ينعقد العقد ويكون له الخيار.

509

هذا. وما افترضناه من الحالة الوسطية بين البطلان الذي لا يمكن أن يلحقه التصحيح بالرضا والصحّة مع الخيار انّما تتعقّل في المقام على أساس مرتكزات فقهنا الإسلامي ولا تتعقّل على أساس مرتكزات الفقه الغربي.

وتوضيح ذلك: انّ الفقه الإسلامي يرى انّ البيع مثلاً إنشاء للتمليك وانّه مشروط بالرضا فان تمَّ بالنتيجة إنشاء التمليك ولكن الرضا بالنتيجة كان مفقوداً حصلت تلك الحالة الوسطية فبالإمكان بعد ذلك تصحيح البيع بإلحاق الرضا به، وبالإمكان عدم تصحيحه بعدم الرضا فليس هو باطلاً بمعنى عدم قابلية لحوق الرضا ولا صحيحاً يمكن فسخه.

أمّا على منهج الفقه الغربي فالبيع ليس عدا إبراز الرضا بالتمليك فان فقد الرضا لم يكن هناك بيع والرضا الجديد يجب ان يتم على أساس بيع جديد وإن لم يفقد الرضا فالبيع قد تحقّق وله الخيار لو كان الرضا معيباً ولذا ترى انّ الفقه الغربي لم يفصّل في الحكم بين الاختلاف في المتعلّق والاختلاف في الشروط(1) فقد كان هذا مترقباً من الفقه الغربي ولكن الشيخ الانصاري (رحمه الله) (وهو شيخ فقهاء الإسلام) لم يفصل أيضاً بين الاختلاف في المتعلّق والاختلاف في الشروط(2)ولعلّه ينظر إلى جامع البطلان الذي يكون في موارد الاختلاف في المتعلّق غير قابل للتدارك بإلحاق الرضا وفي موارد الاختلاف في الشرط قابلاً لذلك.

القسم الخامس ـ ما إذا اختلفا في الأجزاء كما لو قال أحدهما للآخر: بعتك هذه الدار بألف وقال الآخر: قَبِلتُ نصفها بخمسمائة أو قال أحدهما: بعتك هاتين


(1) راجع الوسيط 1: 232، الفقرة 111.

(2) راجع المكاسب 1: 101، حسب طبعة الشهيدي.

510

الساعتين بعشرة وقال الآخر قَبِلتُ هذه الساعة بخمسة، وألحق بذلك فيالمحاضرات مثل ما إذا قال البائع بعتكما هذه الدار بكذا فقَبِل أحدهما حصته من البيع ولم يقبل الآخر، وقد حكم السيد الخوئي في هذا القسم بانّ مبدأ الانحلال يؤدّي إلى مطابقة الإيجاب والقبول في القسم الذي اشترك عليه الإيجاب والقبول فلا يبقى فرق بين الإيجاب والقبول إلّا من حيث شرط الانضمام بين الأجزاء فيرجع هذا القسم إلى القسم السابق.

أقول: إنّ هذا الكلام متين إلّا انّه قد يتفق ان قرائن الحال تدلّ على إرادة الانحلال البحت، أعني انّه لا يوجد حتى شرط الانضمام فكأنّما الإنشاء كان في روحه إنشائين جمعا في صيغة واحدة، وهناك لا إشكال في انّه لا يوجد أي فرق بين الإيجاب والقبول حتى على مستوى الشروط.

فرض القبول إيجاباً وإلحاقه بقبول آخر:

ومهما بطل العقد على أساس عدم التوافق بين الإيجاب والقبول فهل يمكن فرض القبول إيجاباً وإلحاقه بقبول من قبل الموجب الأوّل كي يتمّ بذلك العقد أو لا؟ قد نصّ القانون المصري الجديد في المادّة [96] بإمكان ذلك(1) ولا يوجد في المبادئ الفقهية لفقهنا الإسلامي ما يمنع عن ذلك ما دمنا آمنّا بإطلاق الأدلّة في طريق إبراز المقصود بالعقد ما عدا قابلية صيغة القبول لوقوعها إبرازاً لإيجاب جديد فلو كانت صيغة القبول مثلاً بلسان (اشتريت) فهذا قابل لفرضه إيجاباً للشراء يقبله البائع، أمّا لو كانت صيغة القبول عبارةً عن المطاوعة البحتة للإيجاب السابق كما في مثل (قَبِلتُ) فقد لا تقبل عرفاً فرضها إيجاباً جديداً وإن كان فرض اختلافه عن الإيجاب يبعده عن المطاوعة.


(1) راجع الوسيط 1: 235، الفقرة 111.

511

تخلّف الداعي لا يوجب الخيار إلّا في موردين:

الأمر الثاني ـ في بيان ما وعدناه من الاستثناء عن عدم كون تخلّف الداعي موجباً عندنا للخيار.

وتوضيح المقصود انّه تلخص ممّا مضى ان نكتة الخيار عندنا في المقام هي أحد أمرين صادرين ممّن عليه الخيار وهما التغرير وتخلّف الشرط لا ما صدر من ذي الخيار وهو الوقوع في الغلط والاشتباه، ولذا نرى انّ عدم الخيار في موارد تخلّف الدّاعي يكون وفق الطبع الأوَّلي بلا حاجة إلى تبريره بمثل استقرار العقد.

ونستثني من عدم كون تخلّف الداعي سبباً للخيار موردين.

المورد الأوّل ـ ما إذا كان الغلط الذي وقع فيه عبارة عن تخلّف الهدف العام الثابت لجميع العقلاء عادة في معاملاتهم وهو هدفان:

أحدهما ـ انحفاظ القيمة المالية ولو بشكل تقريبي لما بذله في ما أخذه بدلاً عن ماله، فلو غبن في ذلك كان له خيار الغبن ولو فرض انّ السبب في وقوعه في الغبن لم يكن هو المتعاقد الآخر بل كان هو أيضاً كالمتعاقد الأوّل متورّطاً معه في نفس الخطأ في عرض واحد، أو كان غير مطّلع على السعر السوقي والمغبون هو الذي أخبره بالسعر الذي اعتقده خطأ.

وثانيهما ـ وصف صحّة المتاع الذي أخذه بدلاً عن ماله فلو تبيّن كونه معيباً كان له خيار العيب.

فبما انّ انحفاظ القيمة المالية ووصف الصحّة غرضان عامّان لدى الناس، من دون فرق بين الموجب والقابل، ولا بين عقد وعقد، ولا بين متاع ومتاع فكأنّهما فرضا في النظام العام مّما ينبغي انحفاظه وضمانه لكِلا المتعاملين بحيث أصبح تخلّف أحدهما موجباً للخيار، وليس كذلك الحال في الأغراض الخاصّة

512

فلو تخلّف وصف تخيّله العاقد غير وصف الصحّة ووصف انحفاظ القيمة المالية فيه من دون تغرير أو التزام بالشرط من قِبَل صاحبه لم يكن هذا في النظام العام العقلائي موجباً للخيار، وكذلك فرض تخلّف باقي الدواعي فليس في النظام العام العقلائي انّه ينبغي انحفاظ الأغراض الشخصية للمتعاملين، وإن شئت فعبّر بتعبير أن كون وصف الصحّة والسلامة وكذلك وصف انحفاظ القيمة المالية لما انتقل منه فيما انتقل إليه بما انّهما غرضان عامّان فكأنّه ثبتت لدى العقلاء أصالة السلامة وأصالة عدم الغبن، فقد يعتمد العاقد في تعاقده على هذا الأصل ويراه مغنياً عن شرط السلامة أو شرط عدم الغبن فلو ثبت بعد ذلك تخلّف هذا الأصل كان له الخيار عقلائياً لأجل تخلّف هذا الأصل لا لمجرّد كون الإرادة معيبة بالعيب الموجود في جميع موارد تخلّف الداعي.

والدليل الشرعي على خياري الغبن والعيب بعد عقلائيتهما هو الإمضاء الثابت بعدم الردع مضافاً إلى قاعدة نفي الضرر المطبّقة على هذا الحق العقلائي حيث انّ هذا الخيار حقّ عقلائي، يكون سلبه ضرراً على المسلوب عنه ويمكن تطبيق قاعدة نفي الضرر في مورد الغبن على المالية التي خسرها المغبـون فحتى لو لم نقبل بعقلائية خيار الغبن كانت قاعدة لا ضرر دليـلاً كافياً لإثبات الخيـار لانّ اللـزوم ضـرريٌ في المقام. ولعلّ تفصيل الكلام في ذلك نذكره في مجال آخر.

أمّا خيار العيب فلا يمكن إثباته بقاعدة نفي الضرر من دون توسيط دعوى عقلائية حق الخيار لانّ العيب لا يلازم الضرر المالي، ولو ثبت الضرر المالي دخل في الغبن وثبت الخيار بنكتة الغبن.

513

نعم خيار العيب يمتاز بدلالة نصوص صحيحة صريحة عليه(1).

وقد يقال: إنّ النكتة العقلائية المقتضية للخيار لدى العقلاء في موارد الغبن والعيب انّما هي الشرط الضمنيّ العام، فاشتراط السلامة وعدم الغبن أمر مركوز لدى العقلاء في العقود ولو لم يصرّح به فليس هذان الخياران عقلائيين بنكتة جديدة غير ما مضى فان تخلّف الشرط هي إحدى النكتتين الماضيتين.

ولكنّ الواقع أنّ هذا الشرط الضمني كثيراً مّا يكون غير موجود في موارد الغبن كما قد يتفق عدم وجوده في مورد العيب، وعلى أيّة حال فنحن نقصد انّه حينما لا يوجد شرط ضمنيّ من هذا القبيل يكون المرتكز عقلائياً ـ رغم عدم الشرط ـ الخيار لفقدان الغرض العام أو قل: لأصالة السلامة وعدم الغبن إلّا إذا كان ظاهر الحال هو نفي الالتزام بالسلامة، أو بعدم الغبن إلى حدّ فهم منه ضمناً إسقاط الخيار أو قل البراءةُ عن العيوب والغبن.

هذا. وخيار الغبن أو العيب غير مشروط في الفقه الإسلامي بكون الغلط مشتركاً، أو كون المتعاقد الآخر عالماً بالغلط الذي وقع فيه صاحبه، أو أن يكون من السهل ان يعلمه فان أدلّة الخيار الماضية تشمل فرض عدم كون الأمر كذلك، ولا يضرّ ذلك بملاك استقرار التعامل فانّ الفقه الإسلامي يرى كفاية الاستقرار الحاصل من حجية الظهورات والاُصول ففي المقام مثلاً لا يكفي مجرّد دعوى


(1) من قبيل: صحيحة داود بن فرقد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى جارية مدركة فلم تحض عنده حتى مضى لها ستة أشهر وليس بها حمل، فقال: إن كان مثلها تحيض ولم يكن ذلك من كبر فهذا عيب تردّ منه. الوسائل 18: 101، الباب 3 من أبواب أحكام العيوب، الحديث 1، طبع مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام).

514

الغبن أو العيب لحكم المحكمة بالخيار بل لا بد من إثبات ذلك بأمارة حجّة وإلّا فالحقّ مع المنكر بيمينه.

المورد الثاني ـ ما إذا جهل من انتقل إليه المتاع بوصف المتاع نتيجة عدم القيام بالمقدار المتعارف من الفحص قبل الشراء فتورّط في وصف غير مطلوب له. وهذا ليس على أساس نكتة عقلائية في ذلك فانّ النكتة العقلائية مخصوصة ـ كما مضى ـ بخصوص الأغراض العامّة وانّما ثبت هذا ببعض النصوص تعبّداً من قبيل:

1 ـ ما ورد بسند تام عن جميل بن دراج قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى ضيعة وقد كان يدخلها ويخرج منها فلمّا ان نقد المال صار إلى الضيعة فقلبها ثم رجع فاستقال صاحبه فلم يقله فقال ابو عبد الله (عليه السلام) انّه لو قلّب منها ونظر إلى تسعة وتسعين قطعة ثم بقى منها قطعة ولم يرها لكان له في ذلك خيار الرؤية(1) فظاهر هذا الحديث انّ المقصود بخيار الرؤية ليس هو خيار تخلّف الوصف المذكور في العقد بل هو خيار فقدان وصف في المتاع لم يكن يعلم فقدانه فيه ولم يكن قام بالفحص والرؤية بالقدر الكافي عرفاً ثم رآه بعد الشراء على غير الوصف المطلوب.

2 ـ ما عن زيد الشحّام بسند تام قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى سهام القصّابين من قبل ان يخرج السهم فقال: لا تشترِ شيئاً حتى تعلم أين يخرج السهم فان اشترى شيئاً فهو بالخيار إذا خرج(2) بناء على انّ المقصود هو


(1) الوسائل 12: 361، الباب 15 من أبواب الخيار، ا لحديث 1.

(2) الوسائل 12: 362، الباب 15 من أبواب الخيار، الحديث 2.