504

يحصل والعدول إلى شيء آخر يحقّق نفس الأغراض المرجوّة من ا لشرط عدول إلى شرط جديد يحتاج إلى موافقة المشتري عليه ومجرّد حصول الغايات المطلوبة لا يكفي لإشباع الفطرة العقلائية التي تقول: إنّ الالتزامين المتقابلين لدى الانعقاد متقابلان لدى الوفاء فإذا تخلّف أحدهما عن الوفاء كان للآخر التخلف عن التزامه والتراجع عنه وفسخه.

 

تنبيهات حول فقدان الإرادة ووجودها المعيب:

وفي ختام بحثنا عن المقارنة بين فقدان الإرادة ومسألة الغلط الموجب للخيار نرى لزاماً علينا التنبيه على عدّة اُمور:

أقسام عدم التطابق بين الإيجاب والقبول:

الأمر الأوّل ـ انّ المصداق المتفق عليه لفقدان الإرادة الموجب للبطلان بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي كان عبارة عن عدم التطابق بين الإيجاب والقبول وهل عدم التطابق بينهما بجميع أنحائه المتصورة يوجب البطلان أو لا؟

ذكر السيد الخوئي في المقام أقساماً خمسة لعدم التطابق بين الإيجاب والقبول(1).

القسم الأوّل ـ ما إذا اختلفا في عنوان العقد وهذا ما ذكره في مصباح الفقاهة دون المحاضرات كما لو انشأ الموجب البيع وقَبِل القابل الهبة، وهنا لا إشكال في البطلان لعدم تماميّة العقدة بين الإيجاب والقبول وبالتالي عدم انعقاد العقد.

القسم الثاني ـ ما إذا اختلفا في المتعلّق، أي الثمن أو المثمن وهنا أيضاً لا إشكال في عدم الانعقاد بنفس النكتة.


(1) راجع مصباح الفقاهة 3: 71 ـ 74، والمحاضرات 2: 139 ـ 141.

505

القسم الثالث ـ ما إذا اختلفا في طرف العقد كما لو قال: بعتك بكذا فقال له القابل: قبلت لموكّلي وهنا فصّل السيد الخوئي بين ما لو كان طرف العقد ركناً ومقوّماً للعقد وما لم يكن كذلك، ففي الأوّل يبطل العقد وفي الثاني لا يبطل، والركنية في نظر السيد ا لخوئي تكون في موردين:

(الأوّل) عقد النكاح لوضوح ركنية الزوجين فيه (وإن كان هذا خارجاً عن معقد بحثنا حيث عقدنا البحث في العقود المالية) فلو قالت: زوّجتك نفسي فقال: قبلت لموكّلي بطل العقد، وهذا بخلاف مثل البيع الذي يكون المهمّ فيه تبادل المالين ولا ركنية لشخصية البائع أو المشتري.

(والثاني) ما إذا كان الثمن أو المثمن في الذمّة فعندئذ تكون ذمم الأشخاص مختلفة ويكون تعيين شخصية العاقد مقوّماً وركناً في العقد ودخيلاً في ما يهمّ الطرف الآخر، فلو باعه بثمن في ذمته وقَبِل القابل لموكّله بثمن في ذمّة الموكّل بطل البيع، وبكلمة اُخرى انّ الاختلاف في طرف العقد حينما يكون الثمن أو المثمن في ذمّته يرجع إلى الاختلاف في المتعلّق وهو القسم السابق لانّ ما في ذمّة هذا غير ما في ذمّة ذاك باعتبار تقوّم ما في الذمّة بالذمة (وهذه الكلمة الاُخرى موجودة في مصباح الفقاهة دون المحاضرات) والأصح ما جاء في تعليق المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) على المكاسب(1) من انّ الاعتبار بالقصد العهدي العقدي لا بالقصد الخارجي الذي لم يقع العهد والعقد عليه فلو قال: بعت من موكّلك ولم تقم قرينة على نفي تعلّق القصد العقدي بالموكّل فقال القابل: قبلت لنفسي بطل العقد، وإن كان الغرض الخارجي متعلّقاً بمبادلة مال بمال من دون


(1) المكاسب 1: 72.

506

خصوصية للأشخاص إلّا في ما إذا شكّلت غلبة عدم الاهتمام بخصوصية الأشخاص قرينة نوعية على صرف القصد العهدي والعقدي عن الظهور الأوّلي للفظ.

القسم الرابع ـ ما إذا اختلفا في الشروط وهنا جاء في مصباح الفقاهة: انّ الاختلاف في الشرط يوجب البطلان لانّ الشرط إمّا أن يرجع في واقعه إلى تعليق العقد على الشرط وبه يختلف الإيجاب عن القبول لا تتمّ العقدة بينهما فيبطل العقد، أو يرجع في واقعه إلى تعليق اللزوم على الشرط وهذا يعني جعل الخيار الراجع إلى تحديد المُنشأ وبتحديد المُنشأ بحدين مختلفين يقع الفرق بين الإيجاب والقبول فيبطل العقد أيضاً.

أقول: إنّ هذا الكلام غريب فان جعل الخيار ليس تحديداً للمُنشأ بما قبل الفسخ بذاك الخيار ولا بأي شيء آخر.

والواقع انّ ما جاء في المحاضرات أدقّ وأمتن ممّا ورد في مصباح الفقاهة وهو انّ الشرط في باب العقود اجنبيّ عن الالتزام العقدي ولا يستلزم تعليقه عليه وانّما التعليق راجع إلى الالتزام بالوفاء فحقيقته جعل الخيار على تقدير تخلّف العقد فلو اختلفا في الشرط لم يعد ذلك إلى الاختلاف في ذات الإيجاب والقبول فإذا رضي البائع بعد ذلك بسقوط الشرط صحّ البيع.

أقول: إنّ مجرّد إرجاع الشرط إلى شرط الخيار لا يحلّ إشكال الاختلاف بين الإيجاب والقبول بل كان لا بد من تحقيق الحال في شرط الخيار عندئذ هل هو قيد في العقد فيعود الأمر مرّة اُخرى إلى الاختلاف بين الإيجاب والقبول؟ أو ليس قيداً فيه إذن فما هي العلاقة المعنوية بين الشرط الضمني والعقد؟

وقد مضى منّا البحث عن ذلك فيما سبق وانتهينا إلى انّ سائر الشروط لا

507

ترجع إلى شرط الخيار، وإلى انّ الشرط هو التزام في مقابل الالتزام بالعقد وهذا التقابل يساوق الاستقلال من ناحية ويفسّر الخيار على تقدير التخلّف من ناحية اُخرى. وإذا ثبت الاستقلال ثبت انّ الاختلاف في الشرط لا يعود إلى الاختلاف بين ذات الإيجاب وذات القبول نعم بما انّ الرضا كان منوطاً بالشرط فالاختلاف في الشرط أوجب فقدان الرضا فنحتاج إلى تجدّد الرضا كي يتم البيع أو ـ على الأقل ـ كان الرضا المبرز منوّطاً بالشرط فاحتجنا إلى تجدّد إبراز الرضا كي نحرز تمامية العقد.

وذكر المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) في المقام(1) انّ صحّة البيع في موارد تعذّر الشرط أو فساده إذا كانت على مقتضى القاعدة لا بالتعبّد بمثل الإجماع فلا محالة يلزم القول في موارد اختلاف الإيجاب والقبول في الشرط بالصحّة أيضاً وذلك لانّ تحقّق المعاقدة إن كان دائراً مدار الشرط إذن فتعذره أو فساده يبطل العقد، وإن لم يكن دائراً مداره فالمعاقدة في المقام تتم على أصل التبادل رغم اختلاف الموجب والقابل في الشروط، فالمفروض عدم مضريّة هذا الخلاف بصحّة العقد.

أقول: قد مضى منّا انّ الرضا بكليّ العقد يقبل التقييد بواقع الشرط بمعنى التحصيص، أي ان يتعلّق الرضا بخصوص تلك الحصّة من العقد المقارنة لتحقّق الشرط المقصود ولكن الرضا يسري من الكليّ إلى هذا الفرد من العقد ويكون سريان الرضا من الكليّ إلى الجزئي دائراً مدار وصول الأوصاف والشروط المطلوبة بدرجة من درجات الوصول لا دائراً مدار واقع تلك الأوصاف والشروط وبهذا يتّضح الفرق بين باب اختلاف الإيجاب والقبول في الشرط


(1) راجع تعليقته على المكاسب 1: 72 ـ 73.

508

وباب تعذّر الشرط أو فساده حيث انّه في مورد انكشاف التعذّر أو الفساد بعد العقد يكون الرضا محرزاً حين العقد لانّ سريان الرضا إلى الجزئي لم يكن دائراً مدار تحقّق الشرط واقعاً في الخارج وانّما كان دائراً مدار مستوى من وصوله الثابت حين العقد، أمّا مع اختلاف الإيجاب والقبول في الشرط فلم يتحقّق حين العقد الوصول المطلوب في سريان الرضا فلا بد من تجديد الرضا كي يتمّ العقد.

وهذه حالة وسطية بين بطلان العقد بمعنى الحاجة إلى تجديد الانشاء وصحّته مع الخيار، بمعنى انّ إزالته بحاجة إلى الفسخ ففي المقام ليس العقد باطلاً بمعنى انّ أحدهما لو تنازل بعد ذلك عن اختلافه مع صاحبه في الشرط احتاجا إلى تجديد إنشاء العقد، وليس صحيحاً بمعنى انّ إزالته بحاجة إلى الفسخ على أساس الاختلاف في الشرط بل العقد يكون في تأثيره بحاجة إلى تعقّب الرضا لانّ الرضا كان منوطاً بالشرط وقد وقع الخلاف بينهما فيه فان أعقبه الرضا تمّ العقد وإلّا بطل العقد بفقدان الرضا.

ونستثني من ذلك حالتين:

الحالة الاُولى ـ ما إذا كان العاقد راضياً بالعقد حتى على شرط صاحبه وانّما فرض الشرط الذي فرض طلباً لمزيد الخير فهنا ينعقد العقد (ما لم يفرض معلّقاً على الشرط الذي لم يقبله صاحبه) ويكون له الخيار على أساس عدم موافقة صاحبه على شرطه.

الحالة الثانية ـ ما إذا لم يطلع العاقد على عدم موافقة صاحبه على شرطه لغفلة أو لإجمال كلام صاحبه أو لأيّ سبب آخر فسرى الرضا إلى هذا المصداق من العقد على أثر جهله بعدم انعقاد شرطه المطلوب له فهنا أيضاً ينعقد العقد ويكون له الخيار.

509

هذا. وما افترضناه من الحالة الوسطية بين البطلان الذي لا يمكن أن يلحقه التصحيح بالرضا والصحّة مع الخيار انّما تتعقّل في المقام على أساس مرتكزات فقهنا الإسلامي ولا تتعقّل على أساس مرتكزات الفقه الغربي.

وتوضيح ذلك: انّ الفقه الإسلامي يرى انّ البيع مثلاً إنشاء للتمليك وانّه مشروط بالرضا فان تمَّ بالنتيجة إنشاء التمليك ولكن الرضا بالنتيجة كان مفقوداً حصلت تلك الحالة الوسطية فبالإمكان بعد ذلك تصحيح البيع بإلحاق الرضا به، وبالإمكان عدم تصحيحه بعدم الرضا فليس هو باطلاً بمعنى عدم قابلية لحوق الرضا ولا صحيحاً يمكن فسخه.

أمّا على منهج الفقه الغربي فالبيع ليس عدا إبراز الرضا بالتمليك فان فقد الرضا لم يكن هناك بيع والرضا الجديد يجب ان يتم على أساس بيع جديد وإن لم يفقد الرضا فالبيع قد تحقّق وله الخيار لو كان الرضا معيباً ولذا ترى انّ الفقه الغربي لم يفصّل في الحكم بين الاختلاف في المتعلّق والاختلاف في الشروط(1) فقد كان هذا مترقباً من الفقه الغربي ولكن الشيخ الانصاري (رحمه الله) (وهو شيخ فقهاء الإسلام) لم يفصل أيضاً بين الاختلاف في المتعلّق والاختلاف في الشروط(2)ولعلّه ينظر إلى جامع البطلان الذي يكون في موارد الاختلاف في المتعلّق غير قابل للتدارك بإلحاق الرضا وفي موارد الاختلاف في الشرط قابلاً لذلك.

القسم الخامس ـ ما إذا اختلفا في الأجزاء كما لو قال أحدهما للآخر: بعتك هذه الدار بألف وقال الآخر: قَبِلتُ نصفها بخمسمائة أو قال أحدهما: بعتك هاتين


(1) راجع الوسيط 1: 232، الفقرة 111.

(2) راجع المكاسب 1: 101، حسب طبعة الشهيدي.

510

الساعتين بعشرة وقال الآخر قَبِلتُ هذه الساعة بخمسة، وألحق بذلك فيالمحاضرات مثل ما إذا قال البائع بعتكما هذه الدار بكذا فقَبِل أحدهما حصته من البيع ولم يقبل الآخر، وقد حكم السيد الخوئي في هذا القسم بانّ مبدأ الانحلال يؤدّي إلى مطابقة الإيجاب والقبول في القسم الذي اشترك عليه الإيجاب والقبول فلا يبقى فرق بين الإيجاب والقبول إلّا من حيث شرط الانضمام بين الأجزاء فيرجع هذا القسم إلى القسم السابق.

أقول: إنّ هذا الكلام متين إلّا انّه قد يتفق ان قرائن الحال تدلّ على إرادة الانحلال البحت، أعني انّه لا يوجد حتى شرط الانضمام فكأنّما الإنشاء كان في روحه إنشائين جمعا في صيغة واحدة، وهناك لا إشكال في انّه لا يوجد أي فرق بين الإيجاب والقبول حتى على مستوى الشروط.

فرض القبول إيجاباً وإلحاقه بقبول آخر:

ومهما بطل العقد على أساس عدم التوافق بين الإيجاب والقبول فهل يمكن فرض القبول إيجاباً وإلحاقه بقبول من قبل الموجب الأوّل كي يتمّ بذلك العقد أو لا؟ قد نصّ القانون المصري الجديد في المادّة [96] بإمكان ذلك(1) ولا يوجد في المبادئ الفقهية لفقهنا الإسلامي ما يمنع عن ذلك ما دمنا آمنّا بإطلاق الأدلّة في طريق إبراز المقصود بالعقد ما عدا قابلية صيغة القبول لوقوعها إبرازاً لإيجاب جديد فلو كانت صيغة القبول مثلاً بلسان (اشتريت) فهذا قابل لفرضه إيجاباً للشراء يقبله البائع، أمّا لو كانت صيغة القبول عبارةً عن المطاوعة البحتة للإيجاب السابق كما في مثل (قَبِلتُ) فقد لا تقبل عرفاً فرضها إيجاباً جديداً وإن كان فرض اختلافه عن الإيجاب يبعده عن المطاوعة.


(1) راجع الوسيط 1: 235، الفقرة 111.

511

تخلّف الداعي لا يوجب الخيار إلّا في موردين:

الأمر الثاني ـ في بيان ما وعدناه من الاستثناء عن عدم كون تخلّف الداعي موجباً عندنا للخيار.

وتوضيح المقصود انّه تلخص ممّا مضى ان نكتة الخيار عندنا في المقام هي أحد أمرين صادرين ممّن عليه الخيار وهما التغرير وتخلّف الشرط لا ما صدر من ذي الخيار وهو الوقوع في الغلط والاشتباه، ولذا نرى انّ عدم الخيار في موارد تخلّف الدّاعي يكون وفق الطبع الأوَّلي بلا حاجة إلى تبريره بمثل استقرار العقد.

ونستثني من عدم كون تخلّف الداعي سبباً للخيار موردين.

المورد الأوّل ـ ما إذا كان الغلط الذي وقع فيه عبارة عن تخلّف الهدف العام الثابت لجميع العقلاء عادة في معاملاتهم وهو هدفان:

أحدهما ـ انحفاظ القيمة المالية ولو بشكل تقريبي لما بذله في ما أخذه بدلاً عن ماله، فلو غبن في ذلك كان له خيار الغبن ولو فرض انّ السبب في وقوعه في الغبن لم يكن هو المتعاقد الآخر بل كان هو أيضاً كالمتعاقد الأوّل متورّطاً معه في نفس الخطأ في عرض واحد، أو كان غير مطّلع على السعر السوقي والمغبون هو الذي أخبره بالسعر الذي اعتقده خطأ.

وثانيهما ـ وصف صحّة المتاع الذي أخذه بدلاً عن ماله فلو تبيّن كونه معيباً كان له خيار العيب.

فبما انّ انحفاظ القيمة المالية ووصف الصحّة غرضان عامّان لدى الناس، من دون فرق بين الموجب والقابل، ولا بين عقد وعقد، ولا بين متاع ومتاع فكأنّهما فرضا في النظام العام مّما ينبغي انحفاظه وضمانه لكِلا المتعاملين بحيث أصبح تخلّف أحدهما موجباً للخيار، وليس كذلك الحال في الأغراض الخاصّة

512

فلو تخلّف وصف تخيّله العاقد غير وصف الصحّة ووصف انحفاظ القيمة المالية فيه من دون تغرير أو التزام بالشرط من قِبَل صاحبه لم يكن هذا في النظام العام العقلائي موجباً للخيار، وكذلك فرض تخلّف باقي الدواعي فليس في النظام العام العقلائي انّه ينبغي انحفاظ الأغراض الشخصية للمتعاملين، وإن شئت فعبّر بتعبير أن كون وصف الصحّة والسلامة وكذلك وصف انحفاظ القيمة المالية لما انتقل منه فيما انتقل إليه بما انّهما غرضان عامّان فكأنّه ثبتت لدى العقلاء أصالة السلامة وأصالة عدم الغبن، فقد يعتمد العاقد في تعاقده على هذا الأصل ويراه مغنياً عن شرط السلامة أو شرط عدم الغبن فلو ثبت بعد ذلك تخلّف هذا الأصل كان له الخيار عقلائياً لأجل تخلّف هذا الأصل لا لمجرّد كون الإرادة معيبة بالعيب الموجود في جميع موارد تخلّف الداعي.

والدليل الشرعي على خياري الغبن والعيب بعد عقلائيتهما هو الإمضاء الثابت بعدم الردع مضافاً إلى قاعدة نفي الضرر المطبّقة على هذا الحق العقلائي حيث انّ هذا الخيار حقّ عقلائي، يكون سلبه ضرراً على المسلوب عنه ويمكن تطبيق قاعدة نفي الضرر في مورد الغبن على المالية التي خسرها المغبـون فحتى لو لم نقبل بعقلائية خيار الغبن كانت قاعدة لا ضرر دليـلاً كافياً لإثبات الخيـار لانّ اللـزوم ضـرريٌ في المقام. ولعلّ تفصيل الكلام في ذلك نذكره في مجال آخر.

أمّا خيار العيب فلا يمكن إثباته بقاعدة نفي الضرر من دون توسيط دعوى عقلائية حق الخيار لانّ العيب لا يلازم الضرر المالي، ولو ثبت الضرر المالي دخل في الغبن وثبت الخيار بنكتة الغبن.

513

نعم خيار العيب يمتاز بدلالة نصوص صحيحة صريحة عليه(1).

وقد يقال: إنّ النكتة العقلائية المقتضية للخيار لدى العقلاء في موارد الغبن والعيب انّما هي الشرط الضمنيّ العام، فاشتراط السلامة وعدم الغبن أمر مركوز لدى العقلاء في العقود ولو لم يصرّح به فليس هذان الخياران عقلائيين بنكتة جديدة غير ما مضى فان تخلّف الشرط هي إحدى النكتتين الماضيتين.

ولكنّ الواقع أنّ هذا الشرط الضمني كثيراً مّا يكون غير موجود في موارد الغبن كما قد يتفق عدم وجوده في مورد العيب، وعلى أيّة حال فنحن نقصد انّه حينما لا يوجد شرط ضمنيّ من هذا القبيل يكون المرتكز عقلائياً ـ رغم عدم الشرط ـ الخيار لفقدان الغرض العام أو قل: لأصالة السلامة وعدم الغبن إلّا إذا كان ظاهر الحال هو نفي الالتزام بالسلامة، أو بعدم الغبن إلى حدّ فهم منه ضمناً إسقاط الخيار أو قل البراءةُ عن العيوب والغبن.

هذا. وخيار الغبن أو العيب غير مشروط في الفقه الإسلامي بكون الغلط مشتركاً، أو كون المتعاقد الآخر عالماً بالغلط الذي وقع فيه صاحبه، أو أن يكون من السهل ان يعلمه فان أدلّة الخيار الماضية تشمل فرض عدم كون الأمر كذلك، ولا يضرّ ذلك بملاك استقرار التعامل فانّ الفقه الإسلامي يرى كفاية الاستقرار الحاصل من حجية الظهورات والاُصول ففي المقام مثلاً لا يكفي مجرّد دعوى


(1) من قبيل: صحيحة داود بن فرقد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى جارية مدركة فلم تحض عنده حتى مضى لها ستة أشهر وليس بها حمل، فقال: إن كان مثلها تحيض ولم يكن ذلك من كبر فهذا عيب تردّ منه. الوسائل 18: 101، الباب 3 من أبواب أحكام العيوب، الحديث 1، طبع مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام).

514

الغبن أو العيب لحكم المحكمة بالخيار بل لا بد من إثبات ذلك بأمارة حجّة وإلّا فالحقّ مع المنكر بيمينه.

المورد الثاني ـ ما إذا جهل من انتقل إليه المتاع بوصف المتاع نتيجة عدم القيام بالمقدار المتعارف من الفحص قبل الشراء فتورّط في وصف غير مطلوب له. وهذا ليس على أساس نكتة عقلائية في ذلك فانّ النكتة العقلائية مخصوصة ـ كما مضى ـ بخصوص الأغراض العامّة وانّما ثبت هذا ببعض النصوص تعبّداً من قبيل:

1 ـ ما ورد بسند تام عن جميل بن دراج قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى ضيعة وقد كان يدخلها ويخرج منها فلمّا ان نقد المال صار إلى الضيعة فقلبها ثم رجع فاستقال صاحبه فلم يقله فقال ابو عبد الله (عليه السلام) انّه لو قلّب منها ونظر إلى تسعة وتسعين قطعة ثم بقى منها قطعة ولم يرها لكان له في ذلك خيار الرؤية(1) فظاهر هذا الحديث انّ المقصود بخيار الرؤية ليس هو خيار تخلّف الوصف المذكور في العقد بل هو خيار فقدان وصف في المتاع لم يكن يعلم فقدانه فيه ولم يكن قام بالفحص والرؤية بالقدر الكافي عرفاً ثم رآه بعد الشراء على غير الوصف المطلوب.

2 ـ ما عن زيد الشحّام بسند تام قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى سهام القصّابين من قبل ان يخرج السهم فقال: لا تشترِ شيئاً حتى تعلم أين يخرج السهم فان اشترى شيئاً فهو بالخيار إذا خرج(2) بناء على انّ المقصود هو


(1) الوسائل 12: 361، الباب 15 من أبواب الخيار، ا لحديث 1.

(2) الوسائل 12: 362، الباب 15 من أبواب الخيار، الحديث 2.

515

خيار الفسخ لعدم معرفة وصف المبيع لا خيار إمضاء الشراء وعدمه لأجل كون البيع قبل القبض ولا يبعد كون الحديث مجملاً بين المعنيين.

3 ـ ما ورد عن ميسّر بسند تام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له: رجل اشترى زقّ زيت فوجد فيه دردياً قال فقال: إن كان يعلم انّ ذلك يكون في الزيت لم يرده وإن لم يكن يعلم انّ ذلك يكون في الزيت ردّه على صاحبه(1) بناء على انّ قوله: (إن كان يعلم انّ ذلك يكون في الزيت... الخ) قرينة على انّ درديّ الزيت لم يكن أكثر من المقدار المتعارف كي يكون عيباً، أو تبعّض صفقة فيدخل في خيار العيب أو تبعّض الصفقة فالخيار إذن انّما يكون لأجل عدم معرفته بوصف المتاع وعدم فحصه عنه.

هذا. والتعدي العرفي من موارد هذه الروايات لا يقتضي أكثر من التعدي إلى سائر أوصاف المتاع وإلى سائر أقسام الفحص المتعارف فلا يستفاد من هذه الروايات بالتعدّي العرفي قاعدة عامّة مشابهة لمبدأ الفقه الغربي وهي كون تورّط العاقد في الخطأ يقتضي بشكل مطلق حقّ إبطال العقد كي نحتاج لإخراج موارد ما يسمّى بتخلّف الدّاعي إلى التبرير بضرورة حفظ استقرار التعامل كما فعله الفقه الغربي في الغلط غير المتصل به المتعاقد الآخر، وكذلك ليس خيار الرؤية مشروطاً عندنا بكون الغلط مشتركاً أو كون المتعاقد الآخر عالماً بالغلط أو من سهل ان يعلمه.

حكم أقسام الغلط الواردة في كتاب (الوسيط):

الأمر الثالث قد ظهر بكل ما ذكرناه حال غالب أقسام الغلط التي جاء في


(1) الوسائل 12: 419، الباب 7 من أبواب أحكام العيوب، الحديث 1.

516

الوسيط(1) فرض إيجابها لحق إبطال العقد وهي:

1 ـ الغلط في وصف المتاع.

وقد عرفت انّ هذا هو مورد خيار تخلّف الوصف أو الشرط أو خيار الرؤية أو العيب بالتفاصيل التي عرفت فرقها عن التفاصيل الواردة في الفقه الغربي.

2 ـ الغلط في شخص المتعاقد.

ولا يبعد في موارد ركنيّة المتعاقد كما في عقد الشركة أو القرض أو التبرّع ونحو ذلك التعدّي من مورد روايات خيار الرؤية إلى الغلط في شخص المتعاقد سواء كان الغلط في شخصية المتعاقد كالاعتقاد خطأ بكونه فلاناً أو في وصفه الذي يهمّه كالاعتقاد خطأ برابطة قرابة بينه وبين المتبرّع له حينما يكون هذا الاعتقاد هو الدافع إلى التبرّع مثلاً فيوجب ذلك الخيار (بقطع النظر عن فرض تزلزل أصل عقد التبرّع) هذا فيما إذا لم يكن الخطأ في شخص العاقد بمعنى اختلاف الإيجاب والقبول في تعيين شخص العاقد وإلّا فقد عرفت انّ هذا يؤدّي إلى بطلان العقد.

3 ـ الغلط في القيمة.

وهذا هو مورد ما مضى من خيار الغبن.

4 ـ الغلط في الباعث.

وهذا هو مورد تخلّف الدّاعي الذي عرفت انّه لا خيار فيه.

5 ـ الغلط في القانون.

وهو ان يشترط خطأ شرطاً غير قانوني وهذا ما يسمّى عندنا بالشرط الفاسد.


(1) الوسيط 1: 320 ـ 331، الفقرة 169 ـ 174.

517

حكم الشرط الفاسد:

وقد اتّضحت ممّا مضى صفوة القول في مفسديّة الشرط الفاسد للعقد وعدمها وانّ الصحيح عدم الإفساد لانّ الشرط التزام في مقابل الالتزام بالعقد، والتقابل يساوق الاستقلال فلا موجب لسريان فساده إلى العقد(1)، وقد يشهد لعدم سريان فساد الشرط إلى العقد بعض الروايات من قبيل:

ما عن الحلبي بسند تام عن أبي عبد الله (عليه السلام): انّ بريرة كانت عند زوج لها وهي مملوكة فاشترتها عائشة وأعتقتها فخيّرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال إن شاءت ان تقرّ عند زوجها وإن شاءت فارقته وكان مواليها الذين باعوها اشترطوا على عائشة ان لهم ولاءها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الولاء لمَن أعتق»(2) ففي هذا الحديث قد أبطل رسول الله الشرط من دون ان يبطل البيع.

وما عن إسحاق بن عمّار بسند تام عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام): إنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يقول: من شرط لامرأته شرطاً فليف لها به فانّ المسلمين عند شروطهم إلّا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً»(3) حيث فرض كونه امرأته أمراً مفروغاً عنه فظاهره صحّة النكاح ولو كان فيه شرط حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً إلّا ان تحتمل الخصوصية في النكاح فلا يتعدّى إلى عقود الأموال.


(1) طبعاً هذا في غير ما إذا كان سبب الفساد كون الشرط مخالفاً لمقتضى العقد كما في بعتك بلا ثمن، أمّا في هذا الفرض فلا إشكال في فساد العقد لانّ الضمير لم ينعقد على مقتضى العقد كما هو واضح.

(2) الوسائل 14: 559، الباب 52 من أبواب نكاح العبيد والإماء، الحديث 2.

(3) الوسائل 14: 487، الباب 32 من أبواب المتعة، الحديث 9. و 12: 354، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 5.

518

وما عن زرارة بسند تام عن أبي عبد الله (عليه السلام): قلت له: رجل كانت له مأتادرهم فوهبها لبعض إخوانه أو ولده أو أهله فراراً بها من الزكاة فعل ذلك قبل حلّها بشهر فقال: إذا دخل الشهر الثاني عشر فقد حال عليه الحول ووجبت عليه فيها الزكاة قلت له: فان أحدث فيها قبل الحول؟ قال: جائز ذلك له قلت: انّه فرّ بها من الزكاة قال: ما أدخل على نفسه أعظم ممّا منع من زكاتها فقلت له: إنّه يقدر عليها قال فقال: وما علمه انّه يقدر عليها وقد خرجت من ملكه؟ قلت فانّه دفعها إليه على شرط فقال: إنّه إذا سمّاها هبة جازت الهبة وسقط الشرط وضمن الزكاة قلت له: وكيف يسقط الشرط وتمضي الهبة ويضمن الزكاة؟ فقال: هذا شرط فاسد والهبة المضمونة ماضية والزكاة له لازمة عقوبة له ثم قال: إنّما ذلك له إذا اشترى بها داراً أو أرضاً أو متاعاً...(1).

وقد يقال: إنّ هذا الحديث لم يدل فقط على عدم فساد العقد بفساد الشرط بل دلّ أيضاً على عدم ثبوت الخيار بسبب فساد الشرط لانّ الإمام (عليه السلام)نفى ضمان قدرته على إرجاع ما وهب وهذا لا يكون إلّا مع عدم الخيار، ومع فرض كون الهبة لازمة إمّا لكونها هبة لذي رحم أو لدعوى لزوم الهبة في ذاتها ولو بعد القبض كما في بعض الأحاديث، أو لفرض تصرّف الموهوب له فكأنّ الإمام (عليه السلام)يقول: (وما علمه انّه يقدر عليها مع انّ الموهوب له من الممكن ان يتصرّف في المال فتلزم الهبة) وعلى أيّة حال فقد دلّ الحديث على عدم الخيار.

إلّا انّه لا يمكن التعدّي في مسألة عدم الخيار من مورد الحديث إلى سائر الشروط لانّ الشرط الفاسد في مورد الحديث انّما هو شرط الخيار ومن الواضح انّه لو كان فساد شرط الخيار موجباً للخيار كان هذا مساوقاً لعدم فساد الشرط


(1) الوسائل 6: 111 ـ 112، الباب 12 من أبواب زكاة الذهب والفضّة، الحديث 2.

519

لتحقّق ما هو المقصود من الشرط فلعلّه لأجل هذا لم يثبت الخيار في المقامبخلاف سائر الشروط.

وعلى أيّة حال فيقع الكلام في المقام في انّ فساد الشرط ـ بعد ان عرفنا عدم مفسّديته للعقد ـ هل يوجب الخيار للمشروط له أو لا؟ والكلام في ذلك تارة يكون في ما فرضناه من تورّط المشروط له في الشرط الفاسد خطأً، واُخرى في فرض العمد والعلم بفساد الشرط:

أمّا في فرض الخطأ فتارة نفترض ان المشروط عليه يخلف الشرط لفساده واُخرى نفترض انّ المشروط عليه يعمل بالشرط ظاهراً لكن الشرط لا يتنفّذ واقعاً لفساده، كما لو شرط عليه بيع اُمّ ولد له وهو يعمل بالشرط ولكنّه لا يتنفّذ الشرط واقعاً، لفساد بيع اُمّ الولد وثالثة نفترض أنّ المشروط عليه يعمل بالشرط وهو أمر تكوينيّ يتنفّذ تكويناً رغم فساد الشرط كما لو شرط عليه شرب الخمر فشرب.

ففي الفرض الأوّل تكفي في ثبوت الخيار نفس النكتة التي ثبّتناها لدى التخلّف عن الشرط الصحيح وهي انّ الشرط التزام في مقابل التزام وتقابلهما لدى العقد يوجب عقلائياً تقابلهما لدى الوفاء، بمعنى انّ وجوب الوفاء بأحدهما يناط بالوفاء بالآخر بحيث لو لم يف الآخر بذاك الالتزام ولو لأجل عدم مشروعيته كان للأوّل عدم الوفاء بمخالفة آثاره بترك التسليم مثلاً وبالفسخ.

وكذلك الحال في الفرض الثاني لانّ المشروط عليه وان أراد الوفاء بالشرط لكنه عاجز عن الوفاء حسب الفرض لعدم نفوذ ما أراد الشارط نفوذه، ونكتة خيار تخلّف الشرط وهي التقابل بين الالتزامين تعمّ التخلّف العمدي والتخلّف القهري.

520

وأمّا الفرض الثالث فهذه النكتة للخيار غير ثابتة فيه لانّ المفروض وفاء المشروط عليه بالشرط وإن كان فاسداً، فالتقابل بين الالتزامين في الوفاء لا يؤدّي إلى الخيار فهذا الفرض نلحقه في الحكم بفرض عدم الخطأ مع وفاء المشروط له بالشرط الفاسد الذي سنبحثه إن شاء الله.

وأمّا في فرض عدم الخطأ والعلم بفساد الشرط منذ البدء فإن كان فساده يساوق عدم القدرة على نفوذه كما في بيع اُمّ الولد حينما يقصد بشرطه شرط البيع الصحيح وكان الشارط يعلم بعدم القدرة فالشرط لا يعدو ان يكون لقلقة لسان ويكون لغواً من قبيل ان يشترط عليه الطيران في السماء مثلاً، وإن لم يكن كذلك فهل يثبت له الخيار بفساد الشرط خصوصاً إذا لم يف المشروط عليه بالشرط؟ أو لا يثبت له الخيار خصوصاً في فرض وفاء المشروط عليه بالشرط رغم فساده؟ التحقيق ان نكتة الخيار الماضية لا توجد في فرض وفاء المشروط عليه وهي التقابل بين الوفاءين لانّ المفروض وفاؤه في المقام.

أمّا في فرض عدم وفاء المشروط عليه بالشرط الفاسد فهنا وجهان:

الأوّل ـ دعوى ثبوت الخيار لنفس النكتة الماضية وهي انّ التقابل بين الالتزامين أوجب عقلائياً تقيد وجوب الوفاء بوفاء الآخر.

والثاني ـ دعوى عدم ثبوت الخيار بدعوى انّ البناء العقلائي على التقابل بين الوفاءين يختص بفرض عدم علم الشارط بفساد الشرط وإمضاء الشارع لهذا البناء بعدم الردع أو بلا ضرر أيضاً مقيّد بنفس القيد وهو عدم علم الشارط بفساد الشرط، على فرق في بعض الموارد بين العقلاء والشرع في تشخيص مصداق الشرط الفاسد حسب اختلافهما في الرؤية والاعتبار هذا.

وقد يدّعى انّ هنا نكتة اُخرى للخيار ثابتة في جميع موارد فساد الشرط،

521

سواء في الموارد التي تمّت النكتة الاُولى فيها، أو التي لم تتم فيها النكتة الاُولىوهي انّ الارتكاز العقلائي الحاكم بوجوب الوفاء في الالتزامين المتقابلين يرى الوجوبين مترابطين، أي انّه لا يجعل على كل واحد من الالتزامين الحكم بوجوب الوفاء بشكل مستقل عن حكم الآخر بل يحكم بالوجوبين بشكل مترابط ومتلازم، ففي مورد عجز الارتكاز عن إيجاب الوفاء بأحد الالتزامين لكونه مخالفاً لقوانين عقلائية اُخرى يسقط الارتكاز في الجانب الآخر أيضاً فلا يبقى أي حكم عقلائي بوجوب الوفاء من طرف واحد، أمّا الإمضاء الشرعي لما عليه العقلاء الثابت بعدم الردع أو بلا ضرر فهو أيضاً غير ثابت طبعاً بأكثر ممّا عليه العقلاء من الوجوب المترابط لكلا الوفاءين بحيث لو ثبت الردع عن أحدهما لكونه خلاف القوانين الشرعية لم يثبت إمضاء الآخر لانّ العقلاء يرون انّ شريعة كان الشرط فيها غير قانوني لا نكتة عقلائية لصحّة العقد بلحاظ تلك الشريعة.

وأمّا النصوص التعبّدية الدالة على وجوب الوفاء من قبيل ﴿اوفوا بالعقود﴾و «المؤمنون عند شروطهم» فهي أيضاً منصرفة إلى نفس النسق المألوف من قبل العقلاء من فرض وجوبين مترابطين بحيث لو سقط أحدهما قصر الدليل عن إثبات الوجوب الآخر.

والخلاصة انّنا في ما سبق قلنا: إنّ الالتزامين المتقابلين لدى العقد متقابلان أيضاً لدى الوفاء والآن نقول: إنّ الالتزامين المتقابلين لدى العقد متقابلان أيضاً في وجوب الوفاء فإذا سقط أحدهما عن الوجوب سقط الآخر أيضاً عن الوجوب.

إلّا انّ هذه النكتة الجديدة للخيار لو تمّت للزم ثبوت الخيار بمجرّد عدم وجوب الوفاء بالشرط حتى إذا لم يحرم الوفاء به وفعلاً وفى به المشروط عليه وهذه نتيجة غريبة عن الذهن العرفي ومثاله ما لو باع شيئاً من غلام لم يبلغ الحلم

522

بإذن وليّه وبشرط مشروع وقد وفى الغلام بالشرط ولكنه لم يكن يجب عليهالوفاء به لانّه غير مكلّف بشيء من التكاليف، ومنها وجوب الوفاء بالشرط والأغرب من ذلك انّنا لو حملنا دليل وجوب الوفاء بالشرط ضمن العقد على الوجوبين المترابطين أي وجوب الوفاء بالعقد من طرف وبالشرط من طرف آخر فحمل دليل اصل وجوب الوفاء بالعقد على وجوبين مترابطين بلحاظ وفاء الموجب بإيجابه ووفاء القابل بقبوله أولى، فإذا كان القابل مثلاً غير بالغ فلم يجب عليه الوفاء بالقبول ولكنه وفى فهل بالإمكان ان يقال: إنّ من حق الموجب الفسخ لانّه لم يكن يجب على القابل القبول؟ !

فهذا شاهد على عدم تمامية هذه النكتة.

وقد يقال: إنّ دليل فساد الشرط إذا كان لفظيّاً يدل بإطلاقه على انتفاء تمام أحكام الشرط، ومنها ثبوت الخيار لدى التخلّف إذن ففساد الشرط لا يوجب الخيار.

ويرد عليه انّ دليل فساد الشرط اللفظي لا يدل على أكثر من عدم نفوذ الشرط، خاصّة وان ذاك الدليل ورد بلسان نفي النفوذ أو نفي الجواز من قبيل ما مضى من قوله: «من شرط لامرأته شرطاً فليف لها به فانّ المسلمين عند شروطهم إلّا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً»(1) ومن قبيل «من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له ولا يجوز على الذي اشترط عليه»(2).


(1) الوسائل 14: 487، الباب 32 من أبواب المتعة، الحديث 9 و 12: 354، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 5.

(2) الوسائل 12: 353، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 1.

523

نعم ذكر السيد الإمام (رحمه الله)(1): انّ الشرط تارة يكون شرط فعل واُخرى شرط نتيجة وثالثة شرط وصف كشرط كتابة العبد مثلاً فشرط الفعل نفوذه عبارة عن وجوب العمل به وفساده وعدم نفوذه عبارة عن عدم وجوب العمل به، وشرط النتيجة نفوذه عبارة عن تحقّقها، وفساده وعدم نفوذه عبارة عن عدم تحقّقها، أمّا شرط الوصف فلا معنى لنفوذه بمعنى وجوب العمل به أو تحقّقه ولا معنى لفساده وعدم نفوذه بمعنى نفي ذلك فالحديث الذي دلّ على نفوذ الشرط بناء على شموله لشرط الوصف ليس له معنى عدا ثبوت الخيار على تقدير التخلّف وبطلان هذا الشرط وفساده لا معنى له عدا نفي هذا الخيار فلو شرط كون العنب على صفة صالحة للتخمير أو كون العبد كافراً أو كون الجارية مغنيّة فبناء على بطلان ذلك وممنوعيّته ينتفي الخيار عند تخلّف الوصف، إذن فالاستثناء الوارد في الحديث ينفي الخيار في شرط الوصف بناء على فساده في مثل هذه الأمثلة ولا ينفيه في شرط الفعل أو النتيجة إذا كان فاسداً.

أقول: إنّ ثبوت الخيار لدى تخلّف الشرط إن كان مصداقاً حقيقياً لنفوذ الشرط أو عنوان العندية مثلاً الوارد في قوله: «المؤمنون عند شروطهم» إذن فاستثناء الشرط المخالف للكتاب يدلّ على عدم الخيار في تمام أقسام الشرط لا في خصوص شرط الوصف، لانّ مقتضى الإطلاق هو نفي نفوذ الشرط المخالف للكتاب بجميع أنحاء النفوذ وإن لم يكن مصداقاً حقيقياً لذلك كما هو الصحيح، فالإطلاق لا يدلّ عليه ويبقى شرط الوصف خارجاً عن إطلاق دليل «المؤمنون عند شروطهم».


(1) في كتاب البيع 5: 252.

524

ثم المقصود من مخالفة الشرط للكتاب هل هو حرمة الاشتراط أو عدم نفوذه أو مخالفة المشروط للكتاب؟ والجمع بين الكل أو بين اثنين منها كاستعمال اللفظ في معنيين فان فرض الثاني وهو عدم النفوذ أصبحت القضية ضرورية بشرط المحمول إذ معنى الكلام عندئذ: (الشروط نافذة إلّا الشروط التي لا تنفذ) والأوّل حمل للكلام على فرض نادر فانّ الشروط المتعارفة ليس فيها ما تكون الحرمة في نفس الاشتراط أو يندر ذلك، والمتبادر إلى الذهن هو المعنى الثالث أي كون المشروط مخالفاً للكتاب وهذا انّما يتصوّر في شرط الفعل وشرط النتيجة ولا معنى لشموله لشرط الوصف.

خيار التدليس:

الأمر الرابع ـ جاء في الفقه الوضعي: انّ أحد عيوب الإرادة هو التدليس والتدليس وارد في فقهنا الإسلامي أيضاً ولكن في فقهنا انّما يوجب الخيار لكونه تدليساً وتغريراً لا لمجرّد صيرورة الإرادة معيبة بالمعنى المنحفظ حتى في تخلّف الدواعي كما اتضح بيانه ممّا تقدّم فالتدليس هو التغرير المتعمّد، وقد مضى منّا الكلام عن التغرير، والتغرير اعمّ من التدليس إذ قد لا يكون المغرّر متعمّداً كما لو كان هو متورّطاً في الخطأ فأوجب خطأ الآخرين وكان ذكر التدليس في الفقه الغربي كمادّة مستقلة عن الخطأ في محلّه بناء على مذهب الغلط المشترك لانّ الغلط في مورد التدليس ليس مشتركاً، وكذلك بناء على تخصيص الغلط بمثل الغلط في أوصاف المبيع وفرض التدليس شاملاً لما هو أوسع من ذلك كالتدليس على الشخص بالإيحاء إليه بكون ابنه مريضاً كي يقدم على شراء الدواء في حين ان ابنه ليس مريضاً، أو الإيحاء إليه بانّ السعر سعر عادل بينما هو سعر مجحف، أمّا بناء على توسيع دائرة الغلط لمثل الغلط في الباعث والقيمة والتعدّي من الغلط

525

المشترك إلى كل غلط يتصل به المتعاقد الآخر فلا يبقى مورد مستقل عن الغلط يدرج في التدليس، ولا تظهر نكتة مستقلة في التدليس حسب مبانيهم توجب ذكره كسبب مستقل عن الخطأ لصيرورة الإرادة معيبة.

وقد جاء في الوسيط(1) نقلاً عن المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المصري: انّ النكتة في إفراد التدليس بالذكر ثبوت أثرين عمليين للتدليس لم يكونا في سائر موارد الغلط، أحدهما سهولة الإثبات فان دعوى الغلط في غير موارد وجود العلائم المادّيّة للتدليس ليس إثباتها سهلاً وهذا بخِلاف موارد التدليس، وثانيهما ثبوت حقّ التدارك للأضرار الناجمة عن التدليس.

وعلى أيّة حال فنحن عندنا ثلاثة أسباب عقلائية للخيار كما مضى، التغرير، وتخلّف الشرط، وتخلّف الأغراض العامّة أو التي يكون تخلّفها خلاف الأصل كالسلامة وعدم الغبن، ولا يوجد أي تداخل بين هذه النكات كالتداخل الموجود بين النكات المتعرّض لها في الفقه الغربي وقد فرضوا من طرق التدليس مجرّد السكوت إذا كان عارفاً بتأثيره على إرادة المتعاقد الأوّل ولم يكن المتعاقد الأوّل قادراً على كشف الحقيقة عن طريق آخر.

وهذا ممّا لا دليل عليه في فقهنا عدا الاستحسان، نعم بالقياس إلى وصف المبيع الذي بقي مستوراً على أثر السكوت وعدم فحص المشتري يدخل الأمر في ما مضى من بحث خيار الرؤية ويثبت الخيار، رغم كون المشتري مثلاً قادراً على كشف الحقيقة عن غير طريق إخبار البائع وهو طريق الفحص، ثم انّ خيار


(1) راجع الوسيط 1: 359، المادّة 186، التعليق الثاني تحت الخط.

526

التدليس في فقهنا الإسلامي مضافاً إلى ما عرفت من عقلائيته وإمضاء هذا الارتكاز العقلائي شرعاً بالسكوت وعدم الردع، أو بقاعدة نفي الضرر يمكن الاستدلال عليه ببعض الروايات وهي الروايات الواردة في الحيوان المصرّاة(1)ولكنّها غير تامّة سنداً، والروايات الواردة في خيار التدليس في النكاح وهي وإن كانت في الغالب واردة في تدليس العيب(2) ولا يمكن التعدّي منها إلى مطلق التدليس لاحتمال دخل العيب في الخيار، سواء فرض العيب سبباً مستقلاً للخيار كما في العيوب الخاصّة في النكاح، أو فرض هو مع التدليس بمجموعهما سبباً للخيار فمع هذا الاحتمال لا يمكن التعدّي إلى التدليس المنفصل عن العيب لكن فيها ما لا يكون كذلك(3) من قبيل ما ورد بسند تام عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام)في رجل يتزوّج المرأة فيقول لها: أنا من بني فلان فلا يكون كذلك فقال: تفسخ النكاح أو قال: تردّ(4) فبناء على التعدّي من النكاح إلى العقود الماليّة يثبت خيار التدليس في العقود المالية. وقد يدغدغ في هذا التعدّي باحتمال الخصوصية في النكاح لخطورته وكونه بداية اتخاذِ حياة مشتركة طويلة الأمد.


(1) راجع الوسائل 12: 360، الباب 13 من أبواب الخيار، الحديث 2 و 3.

(2) من قبيل ما في الوسائل الجزء 14، الباب 2 من العيوب والتدليس، الحديث 1 و 2 و 7 وقد يكون من هذا القبيل الحديث 1 و 4 الباب 6 من تلك الأبواب بناء على انّ الزنا عيب اجتماعي بل هو عيب كبير لا يمكن التعدّي منه إلى العيوب المتعارفة فضلاً عن التدليس المنفصل عن العيب وقد يكون من هذا القبيل أيضاً الحديث 1 و 2 من الباب 11 من تلك الأبواب بناء على انّ عدم الحريّة عيب اجتماعي

(3) راجع الوسائل 14: 614 ـ 615، روايات الباب 16 من أبواب العيوب والتدليس.

(4) الوسائل 14: 614 ـ 615، الباب 16 من أبواب العيوب والتدليس، الحديث 1.

527

وقد يدعم هذا التعدّي بكون خيار التدليس أمراً ارتكازياً لدى العقلاء، ولا أقصد بذلك الرجوع إلى دليل سابق وانّما أقصد بذلك انّنا لو تنزّلنا عن إثبات إمضاء هذا الارتكاز بعدم الردع أو بقاعدة نفي الضرر (وهذه هي الأدلّة السابقة) فسيكون دليلنا الجديد هو النص الدال على خيار التدليس في النكاح الذي يفهم منه العرف بسبب ما يمتلك من ذاك الارتكاز قاعدة عامّة تشمل سائر العقود فهذا الارتكاز وإن كان في حدّ ذاته غير حجّة لكنّه يساعد على استظهار العرف للإطلاق من ذاك الدليل اللفظي.

حكم الاستغلال وخيار الغبن:

الأمر الخامس ـ جاء في الفقه الغربي: انّ أحد عيوب الإرادة هو الاستغلال.

وكما مضى في التدليس ان نظرية الغلط تغني عنه، فانّ التدليس يوقع المدلّس عليه في الغلط لا محالة، كذلك كان بالإمكان الاستغناء عن ذكر عيب الاستغلال لو قصد به استغلال جهل المتعاقد الآخر المؤدّي إلى إخلال الموازنة بين العوضين في القيمة فانّ هذا يرجع إلى التدليس أو الغلط ولكنهم توسّعوا في مسألة الاستغلال لاستغلالات اُخرى تؤدّي إلى الغبن غير استغلال الجهل فمثلاً ورد في القانون المدني الألماني في المادّة [138] بطلان التصرّف القانوني الذي يستغل الشخص حاجة الغير أو خفّته أو عدم تجربته ليحصل لنفسه أو لغيره في نظير شيء يؤدّيه على منافع ماليّة تزيد على قيمة هذا الشيء بحيث يتبين من الظروف انّ هناك اختلالاً فادحاً في ا لتعادل ما بين قيمة تلك المنافع وقيمة هذا الشيء(1).


(1) راجع الوسيط 1: 389 ـ 390، الفقرة 203.

528

وورد في القانون المصري الجديد في المادّة [129]: إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر وتبيّن انّ المتعاقد المغبون لم يُبرم العقد إلّا لانّ المتعاقد الآخر قد استغلّ فيه طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً جاز للقاضي بناء على طلب المتعاقد المغبون ان يبطل العقد أو ان ينقص التزامات هذا المتعاقد(1).

ومن حكم منهم بكون الاستغلال مبطلاً كما عرفته عن القانون الآلماني فهو لا ينظر إلى الاستغلال بما هو معيب للإرادة بل ينظر إليه بما هو عمل غير مشروع(2) وذلك لانّ جزاء معيبية الإرادة في نظرهم انّما هو الخيار لا البطلان.

وعلى أيّة حال فالخيار في نظر الفقه الإسلامي انّما يترتّب في موارد الغبن لدى جهل المغبون وهذا رجوع إلى الغلط أمّا سائر الاستغلالات فلا يوجب الخيار فالطيش مثلاً إذا كان بمستوى السفه يوجب بطلان البيع ولو لم يستغله المتعاقد الآخر لانّ السفيه محجور عليه في نظر الفقه الإسلامي، وإن لم يكن بهذا المستوى لم يوجب الخيار إلّا بلحاظ الجهل بالقيمة وهذا رجوع إلى الغلط. والهوى الجامح لو جعل المعاملةَ سفهيّة محاباتيّة وقلنا ببطلان مثل هذه المعاملة لم نصل أيضاً إلى الخيار وإلّا فالعقد لازم ولا موجب للخيار أيضاً لانّه باختياره التام فعل ما فعل، وكذلك استغلال حاجة الغير لا يوجب الخيار ولا يحرم ما لم يحرّمه وليّ الأمر.

وهذا والغبن بما هو شيء مادّي كان قديماً لدى الفقه الغربي هو الموجب


(1) راجع الوسيط 1: 391، الفقرة 204.

(2) راجع الوسيط 1: 401، الفقرة 208.