529

للخيار أو البطلان بوصفه عيباً في العقد لا بوصفه عيباً في الإرادة ولكنّهم أخيراًاهتدوا إلى اشتراط العنصر النفسي، وهو عنصر الاستغلال ومن هنا أمكن درجه ضمن عيوب الإرادة، فالمُقدِم بكامل وعيه واختياره على تقبّل الغبن ومن دون استغلال لخطئه أو جهله أو نحو ذلك من قبل المتعاقد الآخر لا خيار له ولا يكون العقد معه باطلاً، وبهذا اقتربوا من الفقه الإسلامي الذي لا يرى خياراً للمغبون الذي تقبّل الغبن بكامل الوعي والاختيار، وخيار الغبن في الفقه الشيعي وبعض مدارس الفقه السنّي يكفي فيه جهل المغبون ولا يشترط فيه عنصر التغرير لما عرفته في ما مضى من انّ نفس أصالة التساوي في القيمة أو كون التساوي في القيمة هو الغرض العام للعقلاء نكتة مستقلة للخيار غير التغرير، ولكن بعض مدارس الفقه السنّي اشترط في خيار الغبن التغرير(1).

وقد جاء في الفقه الغربي(2): انّ حقّ الإبطال الذي يتحقّق بسبب الاستغلال له عدل آخر وهو حقّ تقليل التزامات المغبون الباهظة إلى الحدّ الذي لا يجعلها باهظة فان اختار المغبون تقليل الالتزامات نفذّه له القاضي بقدر ما يقدّره القاضي كافياً لرفع الغبن، وان اختار الإبطال جاز للقاضي الإبطال إذا رآى انّ الاستغلال عاب رضا المغبون إلى حدّ ان أفسده نهائياً أي لا يعالج ذلك بتنقيص الالتزامات، فلولا الاستغلال لم يكن يقبل بهذا العقد حتى مع تنقيص التزاماته، أمّا لو لم يكن الأمر كذلك بان رأى القاضي انّ الاستغلال لم يفسد الرضا إلى هذا الحدّ وانّ المغبون كان يقبل الدخول في العقد بلا استغلال لو لم تكن التزاماته باهظة فهنا ليس للقاضي إبطال العقد واقتصر على انقاص الالتزامات الباهظة.


(1) راجع مصادر الحق 2: 134 ـ 137.

(2) راجع الوسيط 1: 406، الفقرة 211.

530

أقول: إنّ الاقتصار على حقّ الخيار بمعنى حقّ الردّ كما فعله الفقهالإسلامي أوفق بالاعتبارات العقلائية ذلك لانّ الغابن انّما التزم بهذا العقد المشتمل على كذا مقدار من التزامات صاحبه تجاهه، وقد لا يكون مستعداً للالتزام بعقد آخر لا يشتمل على تلك الالتزامات ولا مبرّر لفرض ذلك عليه، فغاية ما يكون للمغبون على الغابن هي فسخ العقد فان اتفقا بعد ذلك على عقد جديد تقل فيه التزامات المغبون عقدا العقد الجديد وإلّا فلا. والشاهد على ذلك من نفس الفقه الغربي أنّهم لم يقبلوا في المقام بتدارك الغبن عن طريق إضافة التزامات الغابن.

وذكر السنهوري في وجه الفرق بين انقاص التزامات المغبون وزيادة التزامات الغابن بقبول الأوّل دون الثاني ان انقاص مقدار المبيع لا يؤذي البائع المغبون بل يرفع عنه الغبن، ولكنّ الزيادة في ا لثمن قد تؤذي المشتري إلى حد ان يؤثر العدول عن الصفقة، نعم تجوز الزيادة في الثمن إذا رغب المشتري نفسه في ذلك بان ترفع دعوى الإبطال فيتوقّاها بعرض زيادة في الثمن يراها القاضي كافية لرفع الغبن.

أقول: إنّ هذا الوجه للتفريق بين انقاص التزامات المغبون وزيادة التزامات الغابن غريب فكما انّ الزيادة في الثمن قد تؤذي المشتري إلى حد ان يؤثر العدول عن الصفقة كذلك النقيصة في المثمن قد تؤذي المشتري إلى حدّ ان يؤثر العدول عن الصفقة.

بل حتى ما ذكروه من انّ الغابن بإمكانه رفع دعوى الإبطال بتدارك الغبن بزيادة في الثمن غير مقبول في فقهنا الإسلامي فان البيع بثمن أكبر من الثمن الأوّل عقد جديد وهو بحاجة إلى توافق جديد، نعم لو انحصر دليل الخيار في تطبيق

531

قاعدة نفي الضرر في المقام على الضرر المالي فقد يقال: إنّ الغابن إذا كان مستعدّاً لرفع الضرر المالي بدفع زيادة توجب تدارك الضرر فلا موجب للخيار، أمّا إذا صحَّ الاستدلال على الخيار بالارتكاز العقلائي بعد ضمِّ عدم الردع إليه الكاشف عن الإمضاء، أو إثبات إمضائه بتطبيق قاعدة نفي الضرر على الضرر الحقّي لكون نفي حقّ الخيار الثابت عقلائياً ضرراً فهنا لا تصل النوبة إلى إسقاط الخيار بتقديم الزيادة الرافعة للغبن نعم لو تراضيا معاً على ذلك فهذا مطلب آخر.

والخلاصة انّ خيار الغبن حسب ما هو المعروف في فقهنا الإسلامي له عِدل واحد وهو الفسخ.

نعم في خيار العيب قد ورد في فقهنا الإسلامي الارش وذلك بنصّ خاص ولعلّ نكتتهُ العقلائيّة انّ العيب بمنزلة فقدان جزء من المبيع.

الإكراه مبطل للعقد أو موجب للخيار؟

الأمر السادس ـ جاء في الفقه الغربي: انّ أحد عيوب الإرادة الموجبة لحقّ الإبطال هو الإكراه(1) ولكنّ الفقه الإسلامي يرى الإكراه مبطلاً للعقد لا موجباً لحقّ الإبطال كما سيأتي إن شاء الله في البحث الثالث. وقد تلخّص من كل ما ذكرناه: انّه لو صحَّ أن نقول الفقه الإسلامي يرى تدخّل العيب في الإرادة موجباً للخيار فانّما يكون هذا منحصراً في عيب واحد وهو «الغلط» وليس عيوباً أربعة وهي الغلط، والتدليس، والاستغلال، والإكراه، فالتدليس والاستغلال يرجعان إلى الغلط، والإكراه مبطل للعقد لا موجب للخيار.

ولو صحّ انّ الغلط عيب في الإرادة يوجب الخيار فانّما هو في مورد تخلّف


(1) راجع الوسيط 1: 360 ـ 363، الفقرة 187 ـ 190.

532

الأغراض العامّة، وهي موارد العيب والغبن وكذلك في موارد التغرير وتخلّف الشرط. أمّا ذات الغلط المنحفظ في جميع موارد تخلّف الدّاعي فلا يقتضي الخيار أبداً.