122

الإخوة يبرّرون إرسال بنيامين معهم:

قوله: ﴿مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾ المقصود: هو المنع عن الكيل في سفرة ثانية.

قوله: ﴿مَا نَبْغِي هذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾ أقوى الاحتمالين في (ما) أنّها استفهاميّة. وكان إرجاع البضاعة ـ وهي رأس مالهم ـ دليلاً على صدقهم.

قوله: ﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾ أي: نجلب الطعام والموادّ الغذائيّة لأهلنا.

 


شيء، أي: مسلّط عليه حافظ له من كلّ جهة، وأحاط به البلاء والمصيبة، أي: نزل به على نحو انسدّت عليه جميع طرق النجاة. والتوكّل على الغير: اعتماده والاطمئنان إليه في أمر. ومعنى الآية: قال يعقوب لبنيه: لن أرسل أخاكم من اُمّ يوسف معكم حتّى تعطوني موثقاً من الله أثق به واعتمد عليه: من عهد أو يمين لتأتنّني به، واللام للقسم، ولمّا كان إيتاؤهم موثقاً من الله إنّما كان يمضي ويفيد فيما كان راجعاً إلى استطاعتهم وقدرتهم، استثنى، فقال: إلاّ أن يحاط بكم، وتسلبوا الاستطاعة والقدرة، فلمّا آتوه موثقهم من الله، قال يعقوب: الله على ما نقول وكيل، أي: إنّا قاولنا جميعاً، فقلتُ وقلتم، وتوسّلنا بذلك إلى هذه الأسباب الاعتياديّة؛ للوصول إلى غرض نبتغيه، فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الأقاويل يجريها على رسلها، فمن التزم بشيء، فليأتِ به كما التزم، وإن تخلّف فليجازه الله، وينتصف منه.

123

قوله: ﴿وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِير ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ أقوى الاحتمالين أنّ المقصود: أنّ كيل بعير يسيرٌ على عزيز مصر.

وبرغم دلالة إرجاع البضاعة على صدقهم، وأنّ أخذ بنيامين ليس من قبيل قصّة أخذ يوسف، لم يكتفِ يعقوب(عليه السلام)بذلك إلى أن استوثق منهم تأكيداً بتحليفهم بالله ﴿فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾.

وبرغم هذا الاستيثاق لم يكلّفهم بغير المقدور فيما لو تحقّق قدرٌ أسقط عنهم القدرة على إرجاع بنيامين ﴿إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾.

 

* * *

 

124

 

 

 

﴿وَقَالَ يَابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَاب وَاحِد وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَاب مُّتَفَرِّقَة وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِنْ شَيْء إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْء إلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُوعِلْم لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(1).

 



(1) الآية: 67 ـ 68.

﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَاب وَاحِد...﴾ هذه كلمة ألقاها يعقوب(عليه السلام) إلى بنيه حين آتوه موثقاً من الله، وتجهّزوا واستعدّوا للرحيل، ومن المعلوم أنّه خاف على بنيه ـ وهم أحد عشر رجلاً متعاضدين ـ من أن يراهم الناس، فتصيبهم عين أو يحسدون، فيفرّق جمعهم، وينقص عددهم، فأمرهم أن لا يتظاهروا بالاجتماع، وحذّرهم من الدخول من باب واحد، وعزم عليهم أن يدخلوا من أبواب متفرّقة؛ رجاء أن يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم، والنقص في عددهم. ﴿وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِنْ شَيْء...﴾ أي: لست أرفع حاجتكم إلى الله سبحانه بما أمرتكم به من السبب الذي تتّقون به نزول النازلة، وتتوسّلون به إلى

125

يعقوب(عليه السلام) يحتاط لحفظ بنيه:

قوله: ﴿يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَاب وَاحِد وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَاب مُّتَفَرِّقَة وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْء إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾: إنّ يعقوب يعلم


السلامة والعافية، ولا أحكم بأن تحفظوا بهذه الحيلة؛ فإنّ هذه الأسباب لا تغني من الله شيئاً، ولا لها حكم دون الله سبحانه، فليس الحكم مطلقاً إلاّ لله.

﴿وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم...﴾ أي: إنّهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرّقة كما أمرهم أبوهم، وكان قضاء الله سبحانه ماضياً فيهم، وأخذ العزيز أخاهم من أبيهم؛ لحديث سرقة الصواع، وانفصل منهم كبيرهم، فبقي في مصر، وأدّى ذلك إلى تفرّق جمعهم ونقص عددهم، فلم يغنِ يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم عنهم من الله من شيء، لكن الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب(عليه السلام)؛ فإنّه جعل هذا السبب الذي تخلّف عن أمره وأدّى إلى تفرّق جمعهم ونقص عددهم بعينه سبباً لوصول يعقوب إلى يوسف(عليه السلام)؛ فإنّ يوسف أخذ أخاه إليه، ورجع سائر الإخوة إلاّ كبيرهم إلى أبيهم، ثُمّ عادوا إلى يوسف يسترحمونه، ويتذلّلون لعزّته، فعرّفهم نفسه، وأشخص أباه وأهله إلى مصر، فاتّصلوا به. ﴿ما كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْء﴾ أي: لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر ـ الذي اتّخذه وسيلة لتخلّصهم من هذه المصيبة النازلة ـ أن يغني عنهم من الله شيئاً البتّة، ويدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم. ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْم لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾الضمير ليعقوب، أي: إنّ يعقوب لذو علم بسبب ما علّمناه من العلم.

126

أنّ دخولهم من أبواب متفرّقة لا يغني عن القضاء الحتميّ ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾لكنّه قد يُغني عن غير الحتميّات.

وأكبر الظنّ أنّ نظره(عليه السلام) في هذا الأمر كان إلى أحد شيئين:

إمّا إلى أثر عين السوء الذي اُكّد في روايات كثيرة، فهم كلّهم أولاد يعقوب رشيدون، وذوو حسن وبهاء وإن لم يكونوا بمستوى يوسف، وهم إخوة متكاتفون متعاضدون، فدخولهم من باب واحد قد يجلب عليهم أثر العين.

وإمّا إلى حسد الحسّاد الذين إذا رأوهم بهذه الهيئة، اشتعلت نائرة حسدهم، فسعوا ضدّهم لدى عزيز مصر.

ولم يكن مقصوده(عليه السلام) أنّ هذا يؤمّنهم من قضاء الله وقدره، وإنّما كان يقصد هذا المقدار من الاحتياط الذي كان أمراً صحيحاً، ولهذا قال الله سبحانه و تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْم لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.

* * *

127

 

 

 

﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَآؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَات مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيمٌ﴾(1).

 



(1) الآية: 69 ـ 76.

﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ...﴾الإيواء إليه: ضمّه وتقريبه منه في مجلسه، والابتئاس: اجتلاب البؤس والاغتمام والحزن، وضمير الجمع

128


للإخوة. ومعنى الآية: ولمّا دخلوا على يوسف بعد دخولهم مصر، آوى وقرّب إليه أخاه الذي أمرهم أن يأتوا به إليه، وكان أخاً له من أبيه واُمّه، قال له: ﴿إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ﴾ أي: يوسف الذي فقدته منذ سنين، فلا تبتئس، ولا تغتمّ بما كانوا يعملون من أنواع الأذى والمظالم التي حملهم عليها حسدهم لي ولك، ونحن أخوان من اُمّ.

﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ... أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾السقاية: الظرف الذي يشرب فيه. والرحل: ما يوضع على البعير للركوب. والعير: القوم الذين معهم أحمال الميرة.

﴿قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ﴾الفقد: غيبة الشيء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه، والضمير في قوله: ﴿قَالُوا﴾للإخوة. والمعنى: قال إخوة يوسف المقبلين على يوسف وفتيانه: ماذا تفقدون؟ وفي السياق دلالة على أنّ المنادي إنّما ناداهم من ورائهم وقد أخذوا في السير.

﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ...﴾الصواع بالضمّ: السقاية، وقيل: إنّ الصواع هو الصاع الذي يكال به، وكان صواع الملك إناء يشرب فيه ويكال به؛ ولذلك سمّي تارةً سقاية، واُخرى صواعاً. وقوله: ﴿حِمْلُ بَعِير﴾ الحمل: ما يحمله الحامل من الأثقال. وقوله: ﴿وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ الزعيم والكفيل والضمين

129


نظائر، والزعيم أيضاً القائم بأمر القوم، وهو الرئيس. ولعلّ القائل: نفقد صواع الملك هو فتيان يوسف، والقائل: ﴿وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ يوسف(عليه السلام)نفسه؛ لأنّه هو الرئيس الذي يقوم بأمر الإعطاء.

﴿قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ...﴾المراد بالأرض أرض مصر، وهي التي جاؤوها. وفي قولهم: ﴿لَقَدْ عَلِمْتُم ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ﴾دلالة على أنّهم فتّشوا وحقّق في أمرهم أوّل ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف(عليه السلام)بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس وعيوناً.

﴿قَالُوا فَمَا جَزَآؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ﴾أي: قال فتيان يوسف أو هو وفتيانه سائلينهم عن الجزاء: ما جزاء السرقة؟ أو ما جزاء الذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم؟

﴿قَالُوا جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ...﴾مرادهم: أنّ جزاء السرقة نفس السارق، أو جزاء السارق نفسه، بمعنى: أنّ من سرق مالاً يصير عبداً لمن سُرِقَ مالُه.

﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ...﴾أي: أخذ بالتفتيش والفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء، فبدأ بأوعيتهم وظروفهم قبل وعاء أخيه؛ للتعمية عليهم حذراً من أن يتنبّهوا ويتفطّنوا أنّه هو الذي وضعها في رحل أخيه، ثُمّ استخرجها من وعاء أخيه، وعند ذلك استقرّ الجزاء عليه؛ لكونها في رحله.

130

يوسف(عليه السلام) يحتفظ بأخيه:

قوله سبحانه وتعالى: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ﴾ روي في


﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ...﴾الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف(عليه السلام) أخاه لاُمّه من عصبة إخوته وقد كان كيداً؛ لأنّه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا ويتفطّنوا به، غير أنّه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه؛ ولذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد، فقال: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ و ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ﴾بيان للسبب الداعي إلى الكيد، وهو أنّه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، ولم يكن في دين الملك، أي: سنّته الجارية في أرض مصر طريق يؤدّي إلى أخذه، ولا أنّ السرقة حكمها استعباد السارق، ولذلك كادهم يوسف بأمر من الله بجعل السقاية في رحله، ثُمّ إعلام أنّهم سارقون حتّى ينكروه، فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين، فيخبروا: أنّ جزاء السرقة عندهم أخذ السارق واستعباده، فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم. ﴿نَرْفَعُ دَرَجَات مِّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيمٌ﴾امتنان علىيوسف(عليه السلام)بما رفعه الله على إخوته، وبيان لقوله: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾وكان امتناناً عليه. وفي قوله: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيمٌ﴾بيان أنّ العلممن الاُمور التي لا يقف على حدّ ينتهي إليه، بل كلّ ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.

131

كنز الدقائق(1) عن تفسير عليّ بن إبراهيم: خرجوا وخرج معهم بنيامين، وكان لا يؤاكلهم ولا يجالسهم ولا يكلّمهم، فلمّا وافوا مصر دخلوا على يوسف وسلّموا، فنظر يوسف إلى أخيه فعرفه، فجلس منهم بالبعيد، فقال يوسف: أنت أخوهم؟ قال: نعم، قال: فلِملا تجلس معهم؟ قال: لأنّهم أخرجوا أخي من اُمّي وأبي، ثُمّ رجعوا ولم يردّوه، وزعموا أنّ الذئب أكله، فآليت على نفسي أن لا اجتمع معهم على أمر مادمت حيّاً. قال: فهل تزوّجت؟ قال: بلى، قال: كمولد لك؟ قال: ثلاثة بنين، قال: فما سمّيتهم؟ قال: سميّت واحداًمنهم الذئب، وواحداً القميص، وواحداً الدم، قال: وكيف اخترتهذه الأسماء؟ قال: لئلاّ أنسى أخي، كلّما دعوت واحداً من ولدي،ذكرت أخي.

قال لهم يوسف اُخرجوا. وحبس بنيامين، فلمّا خرجوا منعنده، قال يوسف لأخيه: أنا أخوك يوسف ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوايَعْمَلُونَ﴾.

ثُمّ قال له: أنا اُحبّ أن تكون عندي، فقال: لا يدعني إخوتي؛ فإنّ أبي قد أخذ عليهم عهداً لله وميثاقه أن يردّوني إليه، قال: أنا أحتال



(1) ج 6، ص 341.

132

بحيلة، فلا تنكر إذا رأيت شيئاً، ولا تخبرهم، فقال: لا.

قوله عزّ من قائل: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ عبّر القرآن عن ذاك الظرف تارةً بالسقاية، وهي المشربة، واُخرى بالصواع، وهو الكيل، فلعلّه كان تارةً مشربة واُخرى كيلاً، وقيل: إنّه كان من فضّة، وقيل: إنّه كان من ذهب.

قوله: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُون﴾ العير: بمعنى القافلة، ولعلّه(عليه السلام)قصد بذلك أنّكم سرقتم يوسف، فلم يكذب.

 

* * *

133

 

 

 

﴿قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الُْمحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ﴾(1).

 


(1) الآية: 77 ـ 79.

﴿قَالُوا إِن يَسْرِقْ...﴾القائلون هم إخوة يوسف(عليه السلام) لأبيه، ولذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتّهم بالسرقة؛ لأنّهما كانا من اُمّ واحدة. والمعنى: أنّهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك، فليس ببعيد منه؛ لأنّه كان له أخ وقد تحقّقت السرقة منه من قبل، فهما يتوارثان ذلك من ناحية اُمّهما، ونحن مفارقوهما في الاُمّ.

وبهذا يتّضح بعض الشيء معنى قول يوسف: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ كما أنّ الظاهر أنّه كالبيان لقوله: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾والمعنى: فأسرّها، أي: أخفى هذه الكلمة التي قالوها، أي: لم يتعرّض لما نسبوا إليه من

134

إخوة يوسف(عليه السلام) يخطأون في الدفاع:

روى المجلسيّ في البحار(1) عن تفسير عليّ بن إبراهيم بسند له عن الحسن بن بنت إلياس وإسماعيل بن همام، عن أبي الحسن(عليه السلام)(2) قال: «كانت الحكومة في بني إسرائيل إذا سرق أحد شيئاً استرقّ به، وكان يوسف عند عمّته وهو صغير، وكانت تحبّه، وكانت لإسحاق منطقة


السرقة، ولم ينفه، ولم يبيّن حقيقة الحال، بل أسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم، وكأنّ هناك قائلاً يقول: كيف أسرّها في نفسه؟ فاُجيب: أنّه قال: أنتم شرّ مكاناً وأسوأ حالا؛ لما في أقوالكم من التناقض، وفي نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة، واجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإكرام والإحسان كلّه، والله أعلم بما تصفون أنّه قد سرق أخ له من قبل، فلم يكذّبهم في وصفهم، ولم ينفه.

﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ...﴾سياق الآيات يدلّ على أنّهم إنّما قالوا هذا القول لمّا شاهدوا أنّه استحقّ الأخذ والاستعباد، وذكروا: أنّهم أعطوا أباهم موثقاً من الله أن يرجعوه إليه، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم.

﴿قَالَ مَعَاذَ اللّهِ...﴾ردّ منه(عليه السلام) لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه.

(1) ج 12، ص 249 ـ 250، ح 15.

(2) المقصود هو الإمام الرضا(عليه السلام) بقرينة الراويين. (من المؤلّف دام ظلّه).

135

ألبسها يعقوب، وكانت عند اُخته، وإنّ يعقوب طلب يوسف ليأخذه من عمّته، فاغتمّت لذلك، وقالت: دعه حتّى اُرسله إليك، وأخذت المنطقة وشدّت بها وسطه تحت الثياب، فلمّا أتى يوسف أباه جاءت وقالت: قد سرقت المنطقة، ففتّشته فوجدتها معه في وسطه، فلذلك لمّا حبس يوسف أخاه حيث جعل الصاع في وعاء أخيه، فقال يوسف: ماجزاء من وجد في رحله؟ قالوا: هو جزاؤه ـ السنّة التي تجري فيهم ـ فلذلك قال إخوة يوسف: ﴿إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾».

قوله: ﴿وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ يُتراءى لي من هذه الجملة ـ أقصد كلمة ﴿مَا تَصِفُونَ﴾ـ أنّ إخوة يوسف كانوا يعلمون بأنّ يوسف لم يكن قد سرق المنطقة؛ فإنّ هكذا حيلة من عمّة يوسف ـ لو صدقت القصّة ـ لا تبقى عادةً منطوية ومخفيّة على يعقوب وأولاده، ولكنّ الإخوة أرادوا أن يبرّئوا أنفسهم من الاشتراك في سرقة الصواع، فقالوا: إنّ السرقة تناسب بنيامين ولا تناسبنا؛ لأنّه قد سرق أخ له من قبل، فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم، فالظاهر أنّ جملة: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُون﴾كان من قبل يوسف كحديث نفس لا كتعبير باللسان.

* * *

136

 

 

 

﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُون﴾(1).

 



(1) الآية: 80 ـ 82.

﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً...﴾اليأس: قطع الطمع من الأمر. والمناجاة: المسارّة. والمعنى: فلمّا استيأس إخوة يوسف من يوسف فيأن يخلّي عن سبيل أخيه ولو بأخذ أحدهم بدلا منه، خلصوا وخرجوامن بين الناس إلى فراغ يتناجون في أمرهم: أيرجعون إلى أبيهم وقد أخذ منهم موثقاً من الله أن يعيدوا أخاهم إليه، أم يقيمون هناك ولا فائدة في إقامتهم؟ ماذا يصنعون؟ قال كبيرهم مخاطباً لسائرهم: ﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ﴾ألاّ ترجعوا من سفركم هذا إليه إلاّ

137


بأخيكم، ومن قبل هذه الواقعة ما فرّطتم ـ أي: تفريطكم وتقصيركم ـفي أمر يوسف، عهدتم أباكم أن تحفظوه وتردّوه إليه سالماً، فألقيتموهفي الجبّ، ثُمّ بعتموه من السيّارة، ثُمّ أخبرتم أباكم أنّه أكله الذئب ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ﴾أي: فإذا كان الشأن هذا الشأن، فلن أتنحّى، ولن اُفارق أرضمصر حتّى يأذن لي أبي برفعه اليد عن الموثق الذي واثقته به، أو يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين، فيجعل لي طريقاً إلى النجاة من هذه المضيقة التي سدّت عليّ كلّ باب.

قيل: المراد بقوله: ﴿وَمَا شَهِدْنَا إلاَّ بِمَا عَلِمْنَا﴾أ نّا لم نشهد في شهادتنا هذه أنّ ابنك سرق إلاّ بما علمنا من سرقته.

وقوله: ﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾قيل: أي: لم نكن نعلم أنّ ابنك سيسرق فيؤخذ ويسترقّ، وإنّما كنّا نعتمد على ظاهر الحال، ولو كنّا نعلم ذلك لما بادرنا إلى أخذه معنا في السفر، ولا أقدمنا على الميثاق. ومعنى الآية: أنّ ابنك سرق، وما شهدنا في جزاء السرقة إلاّ بما علمنا، وما كنّا نعلم أنّه سرق السقاية، وأنّه سيؤخذ بها حتّى نكفّ عن تلك الشهادة، فما كنّا نظنّ به ذلك.

﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا...﴾أي: واسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة، أو شاهد جريان حالنا عند العزيز؛ حتّى لا يبقى لك أدنى ريب في أنّا

138

الأخ الأكبر لا يطيق مواجهة أبيه:

يبدو ـ والله العالم ـ أنّ كبيرهم هذا هو الذي حكى الله تعالى عنه ـ في أوّل ما صمّم الإخوة على قتله، أو طرحه في البيداء والذي هو أيضاً كان يعني المصير إلى الموت والفناء ـ بقولهعز وجل: ﴿قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِين﴾. و ﴿خَلَصُوا نَجِيّاً﴾يعني: تباعدوا عن الناس يتناجون بينهم في الموضوع، فلم يقبل كبيرهم أن يرجع إلى أبيهم، ولعلّه كان ذلك خجلاً منه، فكأنّه بقي هناك حتّى تثبت براءته تجاه قصّة بنيامين، والتي تكون علامتها إذن الأبِ بالرجوع، أو نزول حكم الله تعالى ببراءته، وعلّم الإخوة توضيح الأدلّة التي كانت كافية في نظره في تبرئتهم جميعاً من الخيانة في قصّة بنيامين، وهي توجيه السؤال من قبل يعقوب إلى أهل مصر وإلى القافلة التي رجعوا معها، ولكن كلّ هذا الكلام لم يقنع يعقوب بالأمر بعد أن كان قد رأى منهم الخيانة بشأن يوسف كما يشهد لذلك قوله تعالى:

 


لم نفرّط في أمره، بل إنّه سرق فاستُرقّ. فالمراد بالقرية التي كانوا فيها: بلدة مصر على الظاهر، وبالعير التي اقبلوا فيها: القافلة التي كانوا فيها.

139

 

 

 

﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم﴾(1).



(1) الآية: 83.

﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً...﴾ في المقام حذف كثير يدلّعليه قوله: ﴿ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا...﴾ والتقدير: ولمّا رجعوا إلىأبيهم، وقالوا ما وصّاهم به كبيرهم، قال أبوهم: بل سوّلت لكم أنفسكمأمراً... إلى آخره. ولم يقل(عليه السلام) هذا القول تكذيباً لهم فيما أخبروه به،وحاشاه أن يكذّب خبراً يحتفّ بقرائن الصدق، بل ليس إلاّ أنّه وجدبفراسة إلهيّة أنّ هذه الواقعة ترتبط وتتفرّع على تسويل نفسانيّ منهمإجمالاً، وكذلك كان الأمر؛ فإنّ الواقعة من أذناب واقعة يوسف،وكانت واقعته من تسويل نفسانيّ منهم. ومن هنا يظهر أنّه(عليه السلام) لم ينسبإلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب، بل عدم رجوعه وعدم رجوع كبيرهم الذي توقّف بمصر ولم يرجع إليه، ويشهد لذلكقوله: ﴿عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً﴾ فجمع في ذلك بين يوسف وأخيه وكبير الإخوة.

140

يعقوب(عليه السلام) يتمسّك بالصبر:

وليس معنى ذلك: أنّه(عليه السلام) اتّهمهم بغير حقّ بأنّهم كاذبون في نسبة السرقة إلى بنيامين، وإنّما معنى ذلك على حسب ما فهمه العلاّمة الطباطبائيّ(رحمه الله): أنّه(عليه السلام)كان يعلم بحياة بنيامين، ويقول: إنّ فقدي لبنيامين ولكبير أولادي أيضاً هو نتيجة ما سوّلت لكم أنفسكم من الكيد بيوسف، فأصبر صبراً، وأرجو أن يأتيني الله بأبنائي جميعاً، ويتمّ نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه؛ إنّه هو العليم بمورد الاجتباء وإتمام النعمة، حكيم في فعله، يقدّر الاُمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة، فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا والمحن بالطيش والجزع، ولا أن ييأس من روحه ورحمته(1).

 

* * *



(1) راجع تفسيرالميزان،ج 11، ص 231 ـ 232 بحسب طبعة إسماعيليان بقم.

141

 

 

 

﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضَاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(1).

 



(1) الآية: 84 ـ 86.

﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى...﴾الأسف: الحزن والغضب معاً. وابيضاض العين: سوادها، وهو العمى. والكظم: مخرج النفس، يقال: أخذ بكظمه، ويعبّر به عن السكوت. ومعنى الآية: ثُمّ تولّى وأعرض يعقوب(عليه السلام)عنهم، أي: عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله: بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً، وقال: يا أسفي ويا حزني على يوسف، وابيضّت عيناه، وذهب بصره من الحزن على يوسف، فهو كظيم حابس غيظه، متجرّع حزنه، لا يتعرّض لبنيه بشيء.

﴿قَالُوا تَاللّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ...﴾الحَرَض والحارض: المشرف على الهلاك. والمعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف، وتديم ذكره منذ سنين لا تكفّ عنه، حتّى تشرف على الهلاك أو تهلك.

142

ابيضّت عينا يعقوب:

يبدو من هذه الآية المباركة أنّ يعقوب(عليه السلام) لم تبيضّ عيناه قبل فراقه لبنيامين، ولكن حينما انضمّ بنيامين إلى يوسف ـ وكان هو ليعقوب نوع تسلية عن يوسف ـ تولّى عن الأولاد التسعة، وقال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ وهنا ﴿ابْيَضَّتْ عَيْنَاه مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم﴾ فقال له أولاده: تالله لا تفترّ عن ذكر يوسف حتّى تكون حَرَضاً، أي: مريضاً منحرف المزاج مشرفاً على الهلاك، أو تكون من الهالكين، فقال لهم: إنّني لا أشكو أمري إليكم، و ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُمِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.

 

* * *

 


﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي...﴾البثّ: الهمّ الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه، فيبثّه، أي: يفرّقه. والحصر الذي في قوله: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو...﴾يعني: أنّي لست أشكو بثّي وحزني إليكم، معاشر ولدي وأهلي، ولو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقلّ زمان، كما يجري عليه دأب الناس في بثّهم وحزنهم عند المصائب، وإنما أشكو بثّي وحزني إلى الله سبحانه الذي لا يأخذه ملل ولا سأمة فيما يسأله عنه عباده، ويبرمه أرباب الحوائج ويلحّون عليه، وأعلم من الله ما لا تعلمون، فلست أيأس من روحه، ولا أقنط من رحمته.

143

 

 

 

﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون﴾(1).

 

مكاتبة يعقوب(عليه السلام):

روى المجلسيّ في البحار(2) عن دعوات الراونديّ هذه القصّة: لمّا



(1) الآية: 87.

﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا...﴾التحسّس بالحاء: طلب الشيء بالحاسّة، والتجسّس بالجيم: نظيره. الرَوْح بالفتح فالسكون: النفس أو النفس الطيّب، ويكنّى به عن الحالة التي هي ضدّ التعب، وهي الراحة، وذلك أنّ الشدّة التي فيها انقطاع الأسباب وانسداد طرق النجاة تتصوّر اختناقاً وكظماً للإنسان، وبالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج والظفر بالعافية تنفّساً ورَوحاً؛ لقولهم يفرّج الهمّ، وينفّس الكرب، فالرَوح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدّة بإذن الله ومشيّته، وقد عُدَّ اليأس من رَوح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.

(2) ج 12، ص 269.

144

كان من أمر إخوة يوسف ما كان، كتب يعقوب(عليه السلام) إلى يوسف(عليه السلام) وهو لا يعلم أنّه يوسف:

«بسم الله الرحمن الرحيم

من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللهعز وجل إلى عزيز آل فرعون.

سلام عليك، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنّا أهل بيت مولعة بنا أسباب البلاء، كان جدّي إبراهيم اُلقي في النار في طاعة ربّه، فجعلها اللهعز وجل عليه برداً وسلاماً، وأمر الله جدّي أن يذبح أبي، ففداه بما فداه به، وكان لي ابن، وكان من أعزّ الناس عليّ ففقدته، فأذهب حزني عليه نور بصري، وكان له أخ من اُمّه، فكنت إذا ذكرت المفقود ضممت أخاه هذا إلى صدري، فاُذهب عنّي بعض وجدي، وهو المحبوس عندك في السرقة، وإنّي اُشهدك أنّي لم أسرق، ولمألد سارقاً».

فلمّا قرأ يوسف كتابه بكى، وكتب إليه:

«بسم الله الرحمن الرحيم

اصبر كما صبروا، تظفر كما ظفروا».

فلمّا انتهى الكتاب إلى يعقوب قال: والله ما هذا بكلام الملوك والفراعنة، بل هو كلام الأ نبياء وأولاد الأ نبياء، فحينئذ قال: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُف﴾.

145

أقول: وأمّا الروايات التي جمعها صاحب كنز الدقائق(1) ـ حول أنّ يعقوب سأل ملك الموت: هل مرّ بك روح يوسف في جملة ما قبضت من الأرواح؟ فقال: لا . فعند ذلك قال لبنيه: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُف وَأَخِيه﴾ ـ فهذه يمكن أن تكون صحيحة، ولكن لا تفسّر كيف حدس يعقوب أنّ يوسف وأخاه هما في مصر بالخصوص، في حين أنّ رواية دعوات الراونديّ تفسّر ذلك.

 

* * *



(1) ج 6، ص 363 ـ 364.

146

 

 

 

﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَة مُّزْجَاة فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُون﴾(1).

 


(1) الآية: 88 ـ 89.

﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ... وَجِئْنَا بِبِضَاعَة...﴾البضاعة المزجاة: المتاع القليل. وفي الكلام حذف، والتقدير: فسار بنو يعقوب إلى مصر، ولمّا دخلوا على يوسف، قالوا... . ومعنى الآية: يا أيّها العزيز، مسّنا وأهلنا الضرّ، وأحاط بنا جميعاً المضيقة وسوء الحال، وجئنا إليك ببضاعة مزجاة، ومتاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام، غير أنّه نهاية ما في وسعنا، فأوفِ لنا الكيل، وتصدّق علينا، وكأنّهم يريدون به أخاهم، أو إيّاه والطعام، إنّ الله يجزي المتصدّقين خيراً. وقد بدأوا القول بخطاب: ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ﴾ وختموه بما في معنى الدعاء، وأتوا خلاله بذكر سوء حالهم والاعتراف بقلّة بضاعتهم، وسؤاله أن يتصدّق عليهم، وهو من أمر السؤال، والموقف موقف الاسترحام