30

وهذا يعني: أنّه لو أراد العالم أجمع كيداً لأحد ولم يشأ الله ذلك، يهن كيدهم ولا يفلح.

اگر تيغ عالم بجنبد زجاى
نبرّد رگى تا نخواهد خداى
خدا كشتى آنجا كه خواهد برد
وگر ناخدا جامه بر تن درد(1)

 

تأثير الحسد في النفوس:

والمعروف أنّ يوسف وبنيامين كانا من اُمّ واحدة غير باقي الإخوة، واختلاف الاُمّهات قد يبعث بنائرة الحسد في النفوس، خصوصاً إذا رأوا باقي الإخوة أنّهم هم الأقوياء، وأنّهم هم الذين يدبّرون لأبيهم حياته، ويتكفّلون بحلّ مشاكله باعتبارهم هم الأقوياء، دون الأخ الصغير، ولكن الأخ الصغير كان هو أكثر محبوبيّة لدى الأب سواءٌ كان



(1) وإليك معنى البيتين:

إذا اهتزّ سيف العالم في مكان
فلن يقطع وريداً إن لم يشأ الله
إنّ الله يسوق السفينة إلى ما يشاء
سواءٌ ربّانها شاء أم لم يشأ
31

ذلك لصغره وضعفه، أم لطهره ونظافته، أم لذكائه ونبوغه، خصوصاً بعد اطّلاع يعقوب(عليه السلام) على رؤيا يوسف.

لاحظوا الحسد كيف يؤثّر في النفوس؛ إذ يغري الإخوة للتخطيط الجنائيّ لقتل أخيهم، أو إبعاده عن الأرض.

ولم يكن هذا هو أوّل مرّة من اشتعال نائرة الحسد في نفوس أولاد آدم، فقد سبق ذلك في أوّل خلقة بني آدم في قصّة قتل قابيل لهابيل ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(1).

يقال: إنّ هابيل قرّب شاة سمينة من شياهه في سبيل الله، وإنّ قابيل قرّب سنبلة ضعيفة من زرعه، أو طحيناً في سبيل الله، فصعّدا قربانيهما على جبل، فنزلت صاعقة، وأكلت قربان هابيل، ولم تأكل قربان قابيل، وكان ذلك علامة على قبول القربان الأوّل دون الثاني، فهذا أوجب تأجيج نار الحسد في نفس قابيل على هابيل.

 

التذرّع بالتوبة عند ارتكاب المعصية:

وعلى أيّ حال، فمن أعظم العبر في قصّة إخوة يوسف طريقةُ إغفالهم لوجدانهم الذي كان يمنعهم عن ارتكاب الجرم الذي ارتكبوه



(1) سورة المائدة، الآية: 30.

32

بشأن أخيهم يوسف، وهي أن حدّثوا أنفسهم بالتوبة على ما يبدو منقوله تعالى: ﴿وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ﴾ وهذا ما يتذرّع به كثير من المسلمين الذين يذنبون، وهذا هو الذي تذرّع به عمر بن سعد في قتل الحسين(عليه السلام)حيث قال:

فإنْ صدقوا فيما يقولون إنّني
أتوبُ إلى الرحمنِ من سنتين

وغفلوا أوّلاً: عن أنّه لا ضمان لبقائهم أحياء إلى أن يصبحوا قوماً صالحين، ويتوبوا عمّا يفعلون الآن بيوسف.

يا مَن يَعُدُّ غداً لتوبتِهِ
أعلى يقين من بلوغِ غدِ
أيّامُ عمرِكَ كلُّها عددٌ
ولعلَّ يومك آخرُ العددِ

وثانياً: عن أنّ ترك الذنب أسهل من التوبة، فسلام الله على مولى المتّقين الذي قال: «ترك الذنب أهون من طلب التوبة»(1).

والسرّ في ذلك واضح؛ فإنّ القلب بذاته نورانيّ ناصع ذو صفاء، فإذا تعكّر صفاؤه بالذنب، أصبحت التوبة أصعب.

وإغواء الشيطان للإنسان المؤمن بوعده إيّاه بالتوبة هو أنجح طريق للشيطان في الغلبة على وجدان المؤمن حينما يمنعه عن ارتكاب الذنب.

 



(1) نهج البلاغة، طبعة ابن أبي الحديد ذات عشرين مجلّداً، ج 18، ص 396.

33

 

 

 

﴿قَالَ قَائِلٌ مِنهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيبَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾(1).

 

إبعاد يوسف(عليه السلام) دون قتله:

يبدو أنّ هذا الأخ كان أذكى، أو أديَن، أو أصفى وجداناً من باقي الإخوة، فخطّط تخطيطاً لا ينتهي إلى هلاك يوسف وفنائه، وإنّما ينتهي إلى إبعاده عن أبيه، ويبقى سالماً باعتبار أنّه لو اُلقي في غيابة بئر في الطريق، فسوف تلتقطه بعض السيّارة الذين يريدون استخراج الماء من البئر في طريقهم في السفر، فيتعلّق يوسف بحبل الدلو، فيلتقطه



(1) الآية: 10.

﴿غَيبَتِ الْجُبِّ...﴾الغيابة: المخبأ من البئر الغائب عن النظر، ولعلّ هذا التعبير يشير إلى أنّ الآبار الصحراويّة يصنع في قعرها مكان قريب من الماء، بحيث لو أراد أحد النزول إلى البئر ليستفيد من الماء، فإنّه يستطيع أن يجلس هناك، ويملأ دلوه من ذلك الماء دون أن ينزل هو في الماء.

والجُبّ: البئر التي لم تنضّد بالطابوق والصخور.

34

بعض السيّارة، قال هذا مشروطاً بقوله: ﴿إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ ويبدومن هذا الشرط أنّه كان له نوع تردّد وشكّ في أصل فكرة إبعادهعن أبيه.

* * *

35

 

 

 

﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾(1).

 



(1) الآية: 11 ـ 14.

﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ناصحون، أي: لا نريد به إلاّ الخير، ولا نبتغي إلاّ ما يرضيه ويسرّه.

﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ...﴾الرتع: هو توسّع الحيوان في الرعي، والإنسان في التنزّه وأكل الفواكه، ونحو ذلك.

﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ...﴾هذا ما ذكره أبوهم جواباً عمّا سألوه، ولم ينفِ عن نفسه أنّه لا يأمنهم عليه، وإنّما ذكر ما يأخذه من الحالة النفسانيّة لو ذهبوا به، فكشف عن المانع أنّه نفسه التي يحزنها ذهابهم به، واعتذر إليهم في ذلك بقوله: ﴿وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾.

﴿قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ...﴾تجاهلوا لأبيهم، كأنّهم فهموا أنّه يأمنهم

36

احتجاج يعقوب(عليه السلام) بخوفه من أكل الذئب ليوسف(عليه السلام):

رويت في كنز الدقائق(1) روايات أذكر منها مايلي:

1 ـ عن تفسير العيّاشيّ، عن أبي خديجة، عن رجل، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «إنّما ابتلي يعقوب بيوسف أنّه ذبح كبشاً سميناً ورجلٌ من أصحابه محتاج لم يجد ما يفطر عليه، فأغفله ولم يطعمه، فابتلي بيوسف، وكان بعد ذلك كلّ صباح مناديه ينادي: من لم يكن صائماً فليشهد غداء يعقوب، فإذا كان المساء نادى: من كان صائماً فليشهد عشاء يعقوب».

2 ـ عن كتاب علل الشرائع بإسناده إلى عمر بن يزيد، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «إنّ بني يعقوب لمّا سألوا أباهم يعقوب أن يأذن ليوسف في الخروج معهم، قال لهم: إنّي أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، قال: فقال أبو عبدالله(عليه السلام): قرّب يعقوب لهم العلّة، فاعتلّوا بها في يوسف».

 


عليه، لكن يخاف أن يأكله الذئب على حين غفلة منهم، فردّوه ردّ منكر مستغرب، وذكروا لتطيب نفسه أنّهم جماعة أقوياء متعاضدون ذوو بأس وشدّة، وأكّدوا أنّ أكل الذئب إيّاه وهم عصبة يقضي بخسرانهم، ولن يكونوا خاسرين البتّة.


(1) ج 6، ص 279 فصاعداً.

37

3 ـ عن مجمع البيان: روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لا تلقّنوا الكذب فتُكذَبوا، إنّ بني يعقوب لم يعلموا أنّ الذئب يأكل الإنسان حتّى لقّنهم أبوهم».

4 ـ عن علل الشرائع، عن محمّد بن موسى بن المتوكّل قال: حدّثنا عبدالله بن جعفر الحميري عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطيّة، عن الثماليّ قال: «صلّيت مع عليّ بن الحسين(عليه السلام) الفجر بالمدينة يوم الجمعة، فلمّا فرغ من صلاته وسبحته، نهض إلى منزله وأنا معه، فدعا مولاة له تسمّى سكينة، فقال لها: لا يعبر على بابي اليوم سائل إلاّ أطعمتموه، وإنّ اليوم يوم الجمعة، قلت له: ليس كلّ من يسأل مستحقّاً، فقال: يا ثابت، أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّاً، فلا نطعمه ونردّه، فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله، أطعموهم أطعموهم.

إنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشاً، فيتصدّق منه، ويأكل هو وعياله منه، وإنّ سائلاً مؤمناً صوّاماً محقّاً، له عند الله منزلة، وكان مجتازاً غريباً اعترّ على باب يعقوب عشيّة جمعة عند (غير خل) أوان إفطاره، فهتف(1) على بابه، وقال: أطعموا السائل المجتاز الغريب



(1) في علل الشرائع: يهتف.

38

الجائع من فضل طعامكم، يهتف بذلك على بابه مراراً وهم يسمعونه،وقد جهلوا حقّه، ولم يصدّقوا قوله.

فلمّا يئس أن يطعموه، وغشيه الليل، استرجع واستعبر، وبكى وشكا جوعه إلى اللهعز وجل، وبات طاوياً (أي: جائعاً) وأصبح صائماً جائعاً حامداً لله، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً، وأصبحوا وعندهم فضلة من طعامهم.

قال: فأوحى اللهعز وجل إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت يا يعقوب، عبدي ذلّة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي، ونزول عقوبتي، وبلواي عليك وعلى ولدك.

يا يعقوب، إنّ أحبّ أنبيائي إليّ وأكرمهم عليّ من رحم مساكين عبادي، وقرّبهم إليه، وأطعمهم، وكان لهم مأوىً و ملجأ.

يا يعقوب، أما رحمت ذميال عبدي المجتهد في عبادتي القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس...

أو ما علمت يا يعقوب، أنّي بالعقوبة والبلوى إلى أوليائي أسرع منّي بها إلى أعدائي؟! وذلك حسن النظر منّي لأوليائي، واستدراج منّي لأعدائي.

أما وعزّتي لاُنزلنّ بك بلائي، ولأجعلنّك وولدك به غرضاً لمصائبي، ولاُؤدّبنّك بعقوبتي، فاستعدّوا لبلائي، وارضوا بقضائي، واصبروا للمصائب.

فقلت لعليّ بن الحسين(عليه السلام): جعلت فداك، متى رأى يوسف الرؤيا؟ فقال: في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب شبعاناً، وبات فيها ذميال طاوياً جائعاً.

39

فلمّا رأى يوسف الرؤيا وأصبح، فقصّها على أبيه يعقوب، فاغتمّ يعقوب لمّا سمع من يوسف الرؤيا مع ما أوحى اللهعز وجل إليه: أنِ استعدّ للبلاء، فقال يعقوب ليوسف: لا تقصص رؤياك هذه على إخوتك؛ فإنّي أخاف أن يكيدوا لك كيداً، فلم يكتم يوسف رؤياه، وقصّها على إخوته.

قال عليّ بن الحسين(عليه السلام): وكانت أوّل بلوى نزلت بيعقوب وآل يعقوب الحسد ليوسف لمّا سمعوا منه الرؤيا.

قال: فاشتدّت رقّة يعقوب على يوسف، وخاف أن يكون ماأوحى اللهعز وجل إليه من الاستعداد للبلاء إنّما هو في يوسف خاصّة، فاشتدّت رقّته عليه من بين ولده، فلمّا رأى إخوة يوسف ما يصنع يعقوب بيوسف وتكرمته إيّاه، وإيثاره إيّاه عليهم، اشتدّ ذلك عليهم،وبدأ البلاء فيهم، فتآمروا فيما بينهم، وقالوا: إنّ يوسف وأخاه أحبّإلى أبينا منّا ونحن عصبة، إنّ أبانا لفي ضلال مبين، اقتلوا يوسفأو اطرحوه أرضاً يخلُ لكم وجه أبيكم، وتكونوا من بعده قوماً صالحين، أي: تتوبون، فعند ذلك ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّالَهُ لَحَافِظُونَ﴾فقال يعقوب: ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾.

40

فانتزعه حذراً عليه من أن تكون البلوى من الله على يعقوب في يوسف خاصّة؛ لموقعه من قلبه، و حبّه له.

قال: فغلبت قدرة الله وقضاؤه ونافذُ أمره في يعقوب ويوسف وإخوته، فلم يقدر يعقوب على دفع البلاء عن نفسه، ولا عن يوسف وولده، فدفعه إليهم وهو لذلك كاره متوقّع للبلوى من الله في يوسف.

فلمّا خرجوا من منزلهم، لحقهم أبوهم مسرعاً، فانتزعه من أيديهم، فضمّه إليه واعتنقه وبكى، ودفعه إليهم، فانطلقوا به مسرعين؛ مخافة أن يأخذه منهم، ولا يدفعه إليهم.

فلمّا مضوا به أتوا به غيضة(1) أشجار، فقالوا: نذبحه و نلقيه تحت هذه الشجرة، فيأكله الذئب الليلة، فقال كبيرهم يهوذا: لا تقتلوا يوسف، ولكن ألقوه في غيابة الجُبّ يلتقطه بعض السيّارة إن كنتم فاعلين».

 

* * *



(1) الغَيْضَة: الأَجمة، والموضع يكثر فيه الشجر ويلتفّ.

41

 

 

 

﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾(1).

 

ما المقصود بالوحي في الآية؟

رُوي في كنز الدقائق(2) عن اُصول الكافي، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن الحسن بن عمّار الدهّان، عن مسمع، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «لمّا طرح إخوة يوسف يوسف في الجبّ، أتاه



(1) الآية: 15.

﴿وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ...﴾أجمعوا، أي: عزموا جميعاً أن يجعلوه في غيابة الجبّ، وهو: قعر البئر، واتّفقت دواعيهم عليه. فالمعنى: وأوحينا إلى يوسف: اُقسم لتخبرنّهم بحقيقة أمرهم هذا، وتأويل ما فعلوا بك، فإنّهم يرونه نفياً لشخصك وإنساءً لاسمك، وهو في الحقيقة تقريب لك إلى أريكة العزّة وعرش المملكة، وإحياءٌ لذكرك، وهم لا يشعرون بهذه الحقيقة، وستنبّؤهم بذلك.

(2) ج 6، ص 284 ـ 285.

42

جبرئيل(عليه السلام) فدخل عليه، فقال: يا غلام، ما تصنع هاهنا؟!

فقال: إنّ إخوتي ألقوني في الجبّ، قال: أفتحبّ أن تخرج منه؟ قال: ذاك إلى اللهعز وجل، إن شاء أخرجني، قال: فقال له: إنّ الله يقول لك: ادعني بهذا الدعاء حتّى اُخرجك من الجبّ، فقال له: وما الدعاء؟ قال: قل: اللّهمّ إنّي أسألك ـ بأنّ لك الحمد، لا إله إلاّ أنت المنّان، بديع السماوات والأرض، ذوالجلال والإكرام ـ أن تصلّي على محمّد وآل محمّد، وأن تجعل لي ممّا أنا فيه فرجاً ومخرجاً».

والوحي المشار إليه في هذه الآية الكريمة يحتمل أن يكون هو وحي النبوّة، فأصبح نبيّاً في غيابة الجبّ في صغره، كما أصبح يحيى وعيسى(عليهم السلام)نبيّين في صغرهما، ويحتمل أن لا يكون على مستوى النبوّة، وأن تكون نبوّته حصلت في سنّ البلوغ، كما قد يستظهر ذلك من قوله تعالى ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمَاً وَعِلْمَاً﴾(1).

أمّا بناءً على الرواية التي رويناها، فلو صحّت، فقد يفترض أنّ نزول جبرئيل عليه، وأمره إيّاه بالدعاء يكون نوع نبوّة، ويحمل قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمَاً وَعِلْمَاً﴾ على الرسالة.

وعلى أيّ حال، فيبدو أنّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ إشارة إلى ما وقع بعد ذلك من دخولهم على



(1) الآية: 22 من نفس السورة.

43

يوسف يمدّون إليه يد الحاجة، فعرفهم وهم له منكرون، وإلى أن قاللهم يوسف: ﴿هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾(1).

 

لا ينبغي الاعتماد إلاّ على الله:

من المسائل المهمّة التي يجب الالتفات إليها هي الاعتماد على الله تعالى فحسب، فقد روى سماحة آية الله الشيخ ناصر مكارم ـ حفظه الله ـ رواية مفادها: «أنّ يوسف كان يبكي تحت وابل الضربات القاسية، لكن حين أرادوا أن يلقوه في الجبّ شرع بالضحك فجأة، فتعجّب إخوته كثيراً، وحسبوا أنّ أخاهم يظنّ أنّ الأمر لا يعدو كونه مزاحاً، لكنّه فسّر سبب ضحكه قائلاً: لا أنسى أنّني نظرت ـ أيّها الإخوة ـ إلى سواعدكم القويّة وقواكم الجسديّة الخارقة، فسررت، وقلت في نفسي: ما عسى أن يخاف من الملمّات من عنده مثل هؤلاء الإخوة، فاعتمدت عليكم، والآن وقد أصبحت أسيراً بين أيديكم، وأستجير بكم من واحد لآخر فلا اُجار، وقد سلّطكم الله عليّ لأتعلّم أن لا أعتمد وأتوكّل على أحد سواه»(2).



(1) الآية 89 من نفس السورة.

(2) تفسير الأمثل، ج 7، ص 155.

44

 

 

 

﴿وَجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِن لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَم كَذِب قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرَاً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾(1).

 



(1) الآية: 16 ـ 18.

﴿وَجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا...﴾أي: إنّهم حينما جاؤوا أباهم عشاءً يبكون، قالوا لأبيهم: يا أبانا، إنّا معشر الإخوة ذهبنا إلى البيداء نتسابق في عدو أو رمي، وتركنا يوسف عند رحلنا ومتاعنا، فأكله الذئب، ومن خيبتنا ومسكنتنا أنّك لست بمصدّق لنا فيما نقوله ونخبر به ولو كنّا صادقين فيه.

﴿وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَم كَذِب...﴾فوجئ يعقوب بنعي ابنه وحبيبه يوسف عندما دخلوا عليه وليس معهم يوسف وهم يبكون، يخبرونه أنّ يوسف قد أكله الذئب، وجاؤوا بقميصه وعليه دم كذب ينادي بكذبهم فيما قالوه وأخبروا به، فأضرب عن قولهم: ﴿إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ...﴾بقوله: ﴿بَلْ

45

علم يعقوب(عليه السلام) بكذب إخوة يوسف:

يبدو أنّ يعقوب(عليه السلام) عرف كذبهم في دعوى أكل الذئب ليوسف بدليلين:

أحدهما: أنّه كان يعلم أنّ رؤيا يوسف ستكون حقّاً، وأنّ الله سيجتبيه، ويعلّمه من تأويل الأحاديث، ويتمّ نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما مضى في أوّل السورة، فلن يموت يوسف قبل تحقّق تعبير الرؤيا.

 


سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرَاً﴾والتسويل: الوسوسة، أي: ليس الأمر على ما تخبرون، بل وسوست لكم أنفسكم فيه أمراً، وأبهم الأمر ولم يعيّنه، ثُمّ أخبر أنّه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم، وينتقم منهم لنفسه انتقاماً، وإنّما يكظم ما هجم نفسه كظماً. وقوله: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾أي: سأصبر على ما أصابني؛ فإنّ الصبر جميل. وتنكير الصبر وحذف صفته وإبهامها للإشارة إلى فخامة أمره وعظم شأنه، أو مرارة طعمه وصعوبة تحمّله. ﴿وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾بيان لتوكّله على ربّه، يقول: إنّي أعلم أنّ لكم في الأمر مكراً، وأنّ يوسف لم يأكله ذئب، لكنّي لا أركن في كشف كذبكم والحصول على يوسف إلى الأسباب الظاهرة التي لا تغني طائلا بغير إذن من الله، بل أضبط استقامة نفسي بالصبر، واُوكل ربّي أن يظهر على ما تصفون: من أنّ يوسف قد قضى نحبه، وصار أكلة لذئب.

46

والثاني: أنّ قميص يوسف كان سالماً ليس عليه أثر من براثن الذئب وأنيابه.

وقد رويت في كنز الدقائق(1) الروايات التالية:

1 ـ عن تفسير العيّاشي، عن أبي جميل(2)، عن رجل، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «لمّا اُوتي بقميص يوسف إلى يعقوب فقال: اللّهمّ لقد كان ذئباً رقيقاً(3) حين لم يشقّ القميص، قال: وكان به نضح من دم».

2 ـ عن تفسير العيّاشي أيضاً قال ـ يعني يعقوب ـ: «ما كان أشدّ غضب ذلك الذئب على يوسف وأشفقه على قميصه حيث أكل يوسف ولم يمزّق قميصه!».

3 ـ عن مجمع البيان، روي: «أنّه ألقى ثوبه على وجهه، وقال: يا يوسف، لقد أكلك ذئب رحيم، أكل لحمك ولم يشقّ قميصك!».

4 ـ عن الخصال، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «كان في قميص يوسف ثلاث آيات: في قوله: ﴿جَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَم كَذِب﴾، وقوله: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُل﴾، وقوله تعالى: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـذَا﴾».



(1) كنز الدقائق، ج 6، ص 287.

(2) في المصدر: أبي جميلة.

(3) في المصدر: رفيقاً.

47

 

 

 

﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَن بَخْس دَرَاهِمَ مَعْدُودَة وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾(1).

 

استملاك يوسف(عليه السلام):

السيّارة تعني: قافلة الطريق، والوارد هو الذي يرد على الماء.



(1) الآية: 19 ـ 20.

﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ...﴾أي: وجاءت جماعة مارّة إلى هناك، فأرسلوا من يطلب لهم الماء، فأرسل دلوه في الجبّ، ثُمّ لمّا أخرجها فاجأهم بقوله: يا بشرى هذا غلام! وقد تعلّق يوسف بالحبل، فخرج، فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع والتجارة، والحال أنّ الله سبحانه عليم بما يعملون، يؤاخذهم عليه، أو أنّ ذلك كان بعلمه تعالى.

﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَن بَخْس...﴾أي: إنّ السيّارة الذين أخرجوه من الجبّ وأسرّوه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص، وهي دراهم قليلة، وكانوا يتّقون أن تظهر حقيقة الحال، فينتزع هو من أيديهم.

48

والذي يتبادر إلى ذهني من الآية المباركة: أنّ هذا الوارد قال للقافلة: يا بشرى هذا غلام! فأعضاء القافلة فرضوا يوسف ـ الذي تدلّى بالدلو أو بحبله فخرج من غيابة الجبّ ـ عبداً لهم، إلاّ أنّهم باعوه بثمن بخس، وكانوا فيه من الزاهدين: إمّا بسبب حصولهم عليه مجّاناً، وإمّا بسبب خشية أن ينفضحوا في دعوى عبوديّته لهم، فأرادوا بيعه ـ ولو بثمن بخس ـ قبل الانفضاح، والله عليم بما يعملون من ظلمهم ليوسف في تعاملهم معه معاملة العبد المملوك.

وهناك تفسيرات اُخرى من قبيل: أنّ بعض أعضاء السيّارة استملكوه، وأخفوا الأمر على باقي رفاقهم، أو أنّ إخوة يوسف هم الذين استملكوه وباعوه، ولكن الذي نستظهره هو ماقلناه، والله أعلم بحقيقة الحال.

* * *

49

 

 

 

﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدَاً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْمَاً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمحْسِنِينَ﴾(1).

 



(1) الآية: 21 ـ 22.

﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ...﴾أي: إنّ السيّارة حملوا يوسف معهم، وأدخلوه مصر، وشروه من بعض أهلها، فأدخله بيته وأوصى به امرأته قائلاً: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا، أو نتّخذه ولداً.

ولعلّ المراد بتمكين يوسف في الأرض: إقراره فيها بما يقدر معه على التمتّع بمزايا الحياة، والتوسّع فيها بعد ما حرّم عليه إخوته القرار على وجه الأرض، فألقوه في غيابة الجبّ، ثُمّ بيع بثمن بخس؛ ليسير به الركبان من أرض إلى أرض، ويتغرّب عن أرضه ومستقرّ أبيه.

والظاهر: أنّ المراد بالأمر في ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾الشأن، وهو

50

مقدّمات بلوغ يوسف(عليه السلام) الكمالات الإلهيّة:

من الواضح: أنّ الذي اشتراه من مصر ليس هو الذي شراه منه أصحاب السيّارة في موضع الجُبّ بثمن بخس دراهم معدودة، وإنّما هو


ما يفعله في الخلق ممّا يتركّب منه نظام التدبير، وإنّما اُضيف إليه تعالىلأنّه مالك كلّ أمر، كما قال تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾الأعراف: (54). والمعنى: أنّ كلّ شأن من شؤون الصنع والإيجادمن أمره تعالى، وهو غالب عليه، وهو مغلوب له مقهور دونه، يطيعهفيما شاء.

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾الظاهر: أنّ المراد بـ ﴿بلغ أشدّه﴾ الانتهاء إلى أوّل سنّ الشباب. وقوله: ﴿آتَيْنَاهُ حُكْماً﴾ الحكم هو: القول الفصل، وإزالة الشكّ والريب من الاُمور القابلة للاختلاف، ولازمه إصابة النظر في عامّة المعارف الإنسانيّة الراجعة إلى المبدأ والمعاد، والأخلاق النفسانيّة، والشرائع والآداب المرتبطة بالمجتمع البشري. وقوله: ﴿وَعِلْمَاً﴾وهذا العلم المذكور المنسوب إلى إيتائه تعالى كيفما كان، وأىّ مقدار كان، علم لا يخالطه جهل، كما أنّ الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوىً نفسانيّ، ولا تسويل شيطاني. ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمحْسِنِينَ﴾يدلّ على أنّ هذا الحكم والعلم اللذين آتاهما الله إيّاه لم يكونا موهبتين ابتدائيّتين لا مستدعي لهما أصلاً، بل هما من قبيل الجزاء، جزاه الله بهما؛ لكونه من المحسنين.

51

عزيز مصر، وقد أمر امرأته زليخا بأن لا تتعامل معه معاملة العبد المملوك، بل تكرم مثواه، فإمّا أن ينتفعوا به مستقبلاً كرجل مناصر أمين لهم، وإمّا أن يتّخذوه ولداً على أساس أنّ عزيز مصر لم يكن له ولد.

وكلّ هذا كان في تقدير الله مقدّمةً لانتهاء أمر يوسف إلى تعليم الله إيّاه تأويل الأحاديث، ولغلبة الله تعالى في أمره: من تأثير عمل أعداء يوسف ـ وهم إخوته ـ في وصوله إلى قُلّة العظمة، ومنتهى القدرة، وعرش العزّ والكرامة، وهكذا يغلب الله على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.

 

ما المقصود ببلوغ الأشدّ والحكم؟

وأمّا المقصود ببلوغ الأشُدّ، فقرينة المقام تشير إلى أنّه هو البلوغ الجنسيّ برغم أنّ هذا العنوان ينطبق على مصاديق اُخرى أيضاً كبلوغ أربعين سنة.

وأمّا المقصود بالحكم، فأغلب الظنّ أنّه هو النبوّة، وأنّ الوحي الذي مضى في الآية الخامسة عشرة لم يكن هو وحي النبوّة.

 

ليس المقصود بـ﴿هَمّ بها﴾ الهمّ الفعليّ بالزنا:

ووصوله(عليه السلام) إلى مرتبة النبوّة هو أحد دليلَيْنا على أنّ المقصود بهمّه بها في الآية: (24) من نفس السورة ليس هو الهمّ الفعليّ بالزنا،

52

وسنبيّن دليلنا الثاني على ذلك لدى شرحنا لتلك الآية إن شاء الله.

أمّا بيان هذا الدليل الذي نحن بصدده الآن، فهو: أنّنا لنفترض ـ على خلاف معتقدنا نحن الشيعة ـ أنّه يحتمل صدور الهمّ بالمعصية عن النبيّ قبل نبوّته، لكنّنا نقول: ينبغي أن يعتبر عدم احتمال ذلك بعد النبوّة من القضايا التي تكون قياساتها معها؛ لأنّ وحي النبوّة هو أقصى ارتباط بالله سبحانه و تعالى الموجب لاكتناه عظمة الربّ بالمقدار الممكن للإنسان المخلوق، ويكون ذلك مانعاً قطعيّاً عن المعصية، فكيف يمكن لمن انمحى في عظمة الله جلّ جلاله وحَسُنَ جماله أن تخطر بباله معصيته فضلاً عن أن يهمّ بها؟! هذا من ناحية.

ومن ناحية اُخرى: أنّ الاتّصال بالله سبحانه و تعالى على مستوى النبوّة يوجب اكتشاف حقيقة المعصية، وإدراك خسّتها وحقيقتها الدنيئة، وواقعيّتها القذرة.

وقد ذكرنا في كتابنا اُصول الدين(1) ما نقل عن بعض عوام الشيعة الذي كان يتكلّم بفطرته: من أنّه قيل له: كيف تقولون: إنّ أ ئمتّنا لم يكن يخطر ببالهم المعصية، فلنقبل منكم أنّهم لم يكونوا يعصون، ولكن ما هذه المبالغة بالقول بعدم خطور المعصية في أذهانهم؟! فأجاب الشيعيّ



(1) ص 166 ـ 167.

53

بالبداهة وبمحض الفطرة: هل خطر ببالك يوماً ما أكل قاذورة الإنسان؟ فامتعض الرجل من هذا الكلام، وقال: كيف يخطر ببالي ذلك؟! فأجابه الشيعيّ: أنّ المعصية عند أئمّتنا أخسّ وأقذر من هذا الشيء.

أقول: أترى نحن بحاجة في إثبات عصمة الأنبياء من الهمّ بالمعاصي إلى البراهين التي ذكرها المتكلّمون؟! صحيح: أنّ تلك البراهين تنفع العلماء، ولكن كلام هذا العاميّ الشيعيّ الذي ذكره بشأن أئمّة الشيعة بمحض فطرته يملأ وجدان كلّ إنسان مسلم بما فيهم العوام ببرهان من سنخ التمسّك بالقضايا التي قياساتها معها على عدم معقوليّة الهمّ بالمعصية من قبل نبيّ من الأ نبياء.

 

* * *

 

54

 

 

 

﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُْمخْلَصِينَ﴾(1).

 



(1) الآية: 23 ـ 24.

﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ...﴾المراودة: أن تنازع غيرك في الإرادة، فتريد غير ما يريد، و ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ﴾أي: تصرفه عن رأيه. والتغليق: إطباق الباب بما يعسر فتحه، وإنّما شدّد ذلك لتكثير الإغلاق، أو للمبالغة في الإيثاق. وهيت لك: اسم فعل بمعنى: هلمّ. ومعاذ الله، أي: أعوذ بالله معاذاً، فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله. و ﴿قَالَ مَعَاذَ اللّهِإِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ...﴾جواب ليوسف يقابل به مسألتها بالعياذبالله، يقول: أعوذ بالله معاذاً ممّا تدعينني إليه؛ لأنّه ربّي الذي تولّىأمري وأحسن مثواي، وجعلني بذلك سعيداً مفلحاً، ولو اقترفت هذاالظلم لتغرّبت به عن الفلاح، وخرجت به من تحت ولايته. واحتمل عدّة