469



وأمّا الثواب المفترض ترتّبه على مطلق الانقياد، أو الخضوع والتعظيم، فأيضاً لا يتعدّد بتعدّد المقدّمات أو الأجزاء، لكن لا ببيان: أنّ التعظيم والانقياد برغم تعدّده لا يكثّر عدد الثواب؛ لأنّ الجميع ناتج من موضوع واحد للثواب الانفعاليّ، وهو رضا المولى وانشراحه الذي ينشأ من حصول الهدف، بل ببيان: أنّ هذا الخضوع والانقياد من حين البدء بالمقدّمة الاُولى وإلى حين الانتهاء من ذي المقدّمة، أو من حين البدء بالجزء الأوّل إلى حين إنهاء الجزء الأخير ليس منحلاًّ إلى عدّة خضوعات وتعظيمات بعدد الأجزاء، أو المقدّمات وذي المقدّمة، بل هو تعظيم وخضوع واحد مستمرّ مادام موضوع الثواب الانفعاليّ ـ أو قل: الهدف النفسيّ ـ للمولى واحداً، إلّا أنّ هذا الخضوع يطول ويقصر بكثرة الأجزاء وقلّتها، أو بكثرة المقدّمات وقلّتها، وبذلك يزداد أو ينقص حجم الثواب الواحد. هذا.

وقد يستشهد لتعدّد الثواب بأنّه لو أتى بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذيها، ثُمّ لم يتمكّن من الإتيان بذي المقدّمة لمانع، استحقّ الثواب على ما جاء به.

وهذا الاستشهاد أيضاً غير صحيح، وإلّا لاتى مثل ذلك في أجزاء المركّب الارتباطيّ، فإنّ من أتى ببعضها بداعي الإتيان بالكلّ، ثُمّ عجز عن الباقي، كان مستحقّاً للثواب، مع أنّه لا إشكال هنا في وحدة الثواب.

والواقع: أنّه لو أتى بالمقدّمة أو بالجزء بقصد إطاعته سبحانه، ثُمّ عجز عن ذي المقدّمة، أو عن الكلّ، فهذا يستحقّ الثواب، لكن لا من باب تعدّد الأسباب، بل من باب: أنّ ذاك السبب الواحد ـ وهو ذلك الخضوع والانقياد ـ وجد على أيّ حال، إلّا أنّه لم يستمرّ بقاءً، فبقدر ما كان موجوداً يوجب استحقاق الثواب، فإنّا وإن قلنا بأنّ السبب الموجود للثواب من حين الشروع في المقدّمة إلى الانتهاء من ذي المقدّمة واحد، ولكن هذا ليس بمعنى:

470

يفترض: أنّ المقدّمة أحسن حالا من الجزء، بحيث لو فرض الوضوء مقدّمة، كان تعظيماً، ولو صار جزءاً، لم يكن تعظيماً؟! طبعاً هذا لا معنى له.

وتظهر الثمرة بين ما نقوله من وحدة الثواب ووحدة سببه وإن زاد حجمه بكثرة المقدّمات، وما يقال من تعدّد الثواب وتعدّد سببه: أنّه بناءً على ما نقوله، يصحّ أن ندّعي ما هو مطابق للوجدان: من أنّ من أتى بمقدّمات كثيرة بداعي خدمة شخص، ثُمّ أحجم عن إيصالها إلى النتيجة، لا لأجل العجز أو تلاقي الصعوبة، بل لمجرّد حصول البداء، وتغيّر حالته النفسيّة، لم يكن مستحقّاً للثواب، فمن أخذ مالاً، وطوى مقدّمات إلى أن وصل إلى باب دار زيد، لكي يوصله إلى زيد فبدا له حين وصوله إلى باب داره أن لا يطرق الباب، ولا يوصله إليه، فرجع إلى بيته، أفهل يوجد هناك عاقل يقول بأنّ هذا يستحقّ الثواب من قبل زيد؟!

في حين أنّه لو قلنا بأنّ كلّ مقدّمة من المقدّمات سبب مستقلّ للثواب، فلا معنى لعدم استحقاقه للثواب على تلك المقدّمات لمجرّد ترك سبب آخر مستقلّ للثواب حتّى بناءً على القول بالمقدّمة الموصلة، فإنّه قد أتى بتلك المقدّمات بقصد التوصّل، فيدخل في باب الانقياد، وحصول البداء له بعد ذلك لا يضرّ بكون ما أتى به سابقاً من المقدّمات بقصد التوصّل تعظيماً للمولى، أمّا لو لم نبنِ على المقدّمة



أنّ كلّ الأجزاء الطوليّة لهذا السبب الواحد دخيلة في أصل الثواب، بحيث إذا انتفى الجزء البقائيّ انتفى الثواب، وبمعنى: أنّه ما لم يتأتَّ الجزء الأخير، لم يتأتَّ السبب الكامل، بل وحدة السبب هنا من قبيل وحدة وجود زيد الثابت في اليوم الأوّل، وفي اليوم الثاني؛ حيث إنّ زيداً بكامله موجود في اليوم الأوّل، وبكامله موجود في اليوم الثاني، فالسبب كان موجوداً بكامله، ولذا استحقّ الثواب. وهذا السبب الواحد بطوله وقصره يؤثّر في مقدار الثواب من باب: أنّ أفضل الأعمال أحمزها.

471

الموصلة، فيلزم استحقاق الثواب على المقدّمة حتّى لو أتى بها قاصداً من أوّل الأمر لترك ذي المقدّمة.

وقد تحصّل: أنّ حجم العوض يختلف سعةً وضيقاً بكثرة المقدّمات وقلّتها، لكن لا من باب تعدّد أسباب الثواب، بل من باب: أنّ أفضل الأعمال أحمزها.

وعندئذ نقول: إنّه تارةً يفرض: أنّ المكلف يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة لأمتثال أمره، أي: أنّ المحرّك له إلى المقدّمة هو الأمر بذي المقدّمة، وهذا لا إشكال في أنّه دخيل في حجم العوض وسعة الثواب.

واُخرى يفرض: أنّه يأتي بالمقدّمة لغرض دنيويّ لا يمتّ إلى المولى بصلة، ثُمّ يبدو له الإتيان بذي المقدّمة، وهذا لا إشكال في أنّه ليس دخيلا في حجم العوض، ولا يوجب سعة الثواب، ولكن الكلام يقع في أنّه: هل يمكن التقرّب بالأمر الغيريّ المتعلّق بالمقدّمة، فهو لا يتقرّب بالأمر النفسيّ المتعلّق بذي المقدّمة، ولا يكون إتيانه بالمقدّمة لمجرّد داع دنيويّ بعيد عن المولى، ولكن يتقرّب إليه بالإتيان بداعي الأمر الغيريّ المتعلّق بالمقدّمة، وإن فرضنا أنّ الثواب المترتّب عليه ليس ثواباً مستقلاًّ، بل هو توسيع لحجم ثواب ذي المقدّمة؟

المشهور: أنّ هكذا تقرّب غير معقول في ذاته، ويمكن أن يقرّب ذلك بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: مبنيّ على المقدّمة الموصلة، حيث يقال: إنّ الأمر الغيريّ متعلّق بالمقدّمة الموصلة، فقصد امتثال الأمر الغيريّ معناه: قصد الإتيان بالمقدّمة مع الإيصال إلى ذي المقدّمة، وذلك بالإتيان بذي المقدّمة، فقصد امتثاله ملازم دائماً لقصد التوصّل؛ لأنّ التوصّل قيد أو جزء في متعلّق الأمر الغيريّ.

وهذا الوجه مغالطة؛ فإنّ قصد الإتيان بمتعلّق الأمر الغيريّ وإن فرض استبطانه لقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة، لكن الكلام في أنّ قصد هذا التوصّل هل كان

472

بمحرّكيّة الأمر الغيريّ من باب: أنّ هذا التوصّل قيد أو جزء في متعلّقة، أو كان بمحرّكيّة الأمر النفسيّ، فنحن بحاجة إلى برهان على أنّ الانبعاث عن الأمر الغيريّ لا يمكن أن ينفكّ عن الانبعاث عن الأمر النفسيّ، وهذا البيان لا يكون برهاناً على ذلك.

الوجه الثاني: مبنيّ أيضاً على المقدّمة الموصلة، وحاصله: أنّه لو كان الوجوب لمطلق المقدّمة، لأمكن فرض تحريك الأمر الغيريّ دون النفسيّ، فيفرض: أنّ الأمر بالصلاة لا يحرّكه نحو الصلاة المقيّدة بالوضوء، وبالتالي لا يحرّكه نحو الوضوء، لكن الأمر الغيريّ بالوضوء يحرّكه نحو الوضوء؛ وذلك لأنّ الصلاة أشدّ مؤونة عليه من الوضوء؛ لتوقّفها على الوضوء، فهي تستبطن مؤونة الوضوء وزيادة، وأمّا على المقدّمة الموصلة، فالمؤونة التي يستبطنها امتثال الأمر النفسيّ مع المؤونة التي يستبطنها الأمر الغيريّ متّحدتان دائماً؛ إذ لا يحصل امتثال الأمر الغيريّ إلّا بأن يتوضّأ ويصلّي، حتّى يكون آتياً بالحصّة الموصلة، كما لا يحصل امتثال الأمر النفسيّ إلّا بأن يأتي بالصلاة المقيّدة بالوضوء، ومحرّكيّة الأمر إنّما هي بلحاظ ما يترتّب عليه من آثار: من الثواب والتجنّب عن العقاب، ولا توجد مزيّة في الآثار في الأمر الغيريّ مرغّبة في العدول عن التحرّك من الأمر النفسيّ إلى التحرّك من الأمر الغيريّ، وكلاهما يحرّك نحو الوضوء، أمّا الغيريّ فلتعلّقه به، وأمّا النفسيّ فلأنّه يقتضي سدّ أبواب عدم تحقّق ذي المقدّمة، ومنها عدم المقيّد بعدم الوضوء، فلا يعقل اختصاص التحريك بالغيريّ، وهذا تقريب صحيح بناءً على المقدّمة الموصلة.

الوجه الثالث: ما ذكره جملة من الأصحاب، كالمحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(1): من أنّ



(1) نهاية الدراية، ج 2، ص 113 ـ 114 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

473

الأمر الغيريّ غير مستقلّ في الوجود، بل هو تابع في الوجود للأمر النفسيّ، فكذلك يتبعه في التحريك، ولا يمكن أن يكون له تحريك مستقلّ، فالمحرّك حقيقة هو الأمر النفسيّ.

وكأنّ هذه الاصطلاحات مأخوذة من الحكماء، حيث قالوا: إنّ كلّ ممكن غير مستقلّ في الوجود، بل يتبع في وجوده واجب الوجود، فلا يستقلّ في الإيجاد والفاعليّة أيضاً، ومن هنا صحّ القول بأنّه لا فاعل حقيقة إلّا الله، فكأنّ هذا المطلب اُريد تطبيقه هنا، فالأمر الغيريّ حيث إنّه غير مستقلّ في الوجود في مقابل الأمر النفسيّ فلا يكون مستقلاًّ في المحرّكيّة والفاعليّة، بل فاعليّته من شؤون فاعليّة الأمر النفسيّ، في حين أنّ إسراء هذا البيان من مورد كلام الحكماء إلى ما نحن فيه غير صحيح؛ لأنّ الفاعل والموجد للوضوء خارجاً إنّما هو الإنسان، لا الأمر الغيريّ، وتعبيرنا بفاعليّة الأمر الغيريّ مسامحة، وإنّما الأمر بالوضوء يوجب فوائد مترتّبة على الوضوء: من استحقاق ثواب والتجنّب عن عقاب، فيكون هذا علّة غائيّة للفعل، فلابدّ من النظر إلى أنّ تلك الفوائد هل تترتّب على قصد الأمر الغيريّ مستقلاًّ، أو لا.

الوجه الرابع: أنّك قد عرفت: أنّ الأمر الغيريّ لا يترتّب على موافقته ثواب، ولا على مخالفته عقاب، إذن فلا أثر ولا تقرّب يترتّب على الفعل الذي يكون بتحريك هذا الأمر، فكيف يعقل تحريك هذا الأمر وحده، والتقرّب بالإتيان بالفعل بداعويّة هذا الأمر وحده؟!

فإن قلت: إنّ امتثال الأمر الغيريّ وإن لم يكن مقرّباً وموجباً للثواب بلحاظ الأمر الغيريّ، ولكن قد مضى: أنّ الإتيان بالمقدّمة يزيد في حجم ثواب العمل على وفق الأمر النفسيّ، فيقع الكلام في أنّ الذي يزيد في حجم ثواب العمل بالأمر النفسيّ هل هو خصوص الإتيان بالمقدّمة بداعي الأمر النفسيّ لذي

474

المقدّمة، أو يكفي في زيادة حجم الثواب في العمل بالأمر النفسيّ الإتيان بالمقدّمة بداعي الأمر الغيريّ، وهذا الوجه لا يبرهن على الأوّل.

قلت: إنّ هذا الذي يأتي بالمقدّمة لا يخلو الأمر من أنّه: إمّا كان متحرّكاً بالأمر النفسيّ إلى الإتيان بذي المقدّمة، أو لا:

فعلى الأوّل، فلا محالة يكون هذا الأمر النفسيّ المحرّك له نحو ذي المقدّمة محرّكاً له نحو المقدّمة، فلم يكن الإتيان بالمقدّمة بتحريك الأمر الغيريّ وحده، وعلى الثاني لا ثواب على العمل وفق الأمر النفسيّ حتّى يتكلّم في أنّ الإتيان بالمقدّمة بداعي الأمر الغيريّ هل يزيد في حجم الثواب، أو لا.

إذن، فتبرهن بذلك: أنّه لا يمكن التقرّب بقصد الأمر الغيريّ وحده، ولا يكون الأمر الغيريّ كافياً للتحريك.

وهذا الوجه أيضاً يمكن المناقشة فيه بأنّه إذا فرض مثلا أنّ شخصاً أتى بالمقدّمة بتحريك الأمر الغيريّ دون الأمر النفسيّ، لكنّه يعلم بأنّه سوف يحدث له بعد الإتيان بالمقدّمة داع إلى امتثال الأمر النفسيّ، فيأتي بذي المقدّمة بتحريك الأمر النفسيّ، ففي مثل هذا المورد يمكن البحث عن أنّه: هل هذه المقدّمة تؤثّر في حجم ثواب امتثال أمر ذي المقدّمة، أو لا.

الوجه الخامس: أنّ العبد إنّما يكون مورداً للمجازاة بحكم العقل إذا جعل نفسه كأنّه هو المولى امتداداً وتنزيلا، وهذه الحالة تستدعي التطابق بين إرادة العبد وإرادة المولى لو كان هو المباشر، وطبعاً لو كان المولى هو المباشر، لكانت إرادته للوضوء غيريّة لا نفسيّة، فالعبد إنّما يستحقّ الجزاء لو تعلّقت إرادته بالوضوء غيريّة، وكان مراده النفسيّ الصلاة، دون ما لو كانت إرادته المتعلّقة بالوضوء نفسيّة.

وبكلمة اُخرى: إنّك قد عرفت أنّ موضوع الثواب المولويّ هو العمل بداعي

475

تحقيق ما هو موضوع الثواب الانفعاليّ، وموضوع الثواب الانفعاليّ إنّما هو تحقيق الفائدة للشخص، وتحصيل غرضه وتفريحه، ومن الواضح: أنّ الإتيان بالمقدّمة بداعي الأمر المقدّميّ ليس إتياناً بها بداعي تحقيق الفائدة للمولى وتفريحه، وهذا بخلاف الإتيان بالمقدّمة بداعي امتثال الأمر النفسيّ المتعلّق بذي المقدّمة.

وهذا هو أحسن الوجوه وألطفها في مقام بيان هذا التلازم، وهو لا يختصّ بفرض القول بالمقدّمة الموصلة(1)، بخلاف بعض الوجوه السابقة.

ولا يعترض على هذا الوجه بما اعترض به المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(2)، حيث قال بأنّ هذا منقوض بأنّ إرادة المولى للصلاة غيريّة؛ لأنّه إنّما يريدها باعتبار ما فيها من مصالح وفوائد، في حين أنّ إرادة العبد للصلاة نفسيّة، فلو اشترطنا تطابق الإرادتين في استحقاق الثواب، لزم عدم الاستحقاق هنا.

وهذا النقض غير وارد؛ لأنّ المدّعى في الصيغة المطروحة لهذا التقريب يمكن أن يبيّن ببيان لا يرد عليه هذا النقض، بأن نقول: إنّ اللازم هو التطابق بين الإرادتين من تلك النقطة التي يبدأ بها المولى مولىً.

وتوضيح ذلك: أنّه عندنا ثلاث نقاط: الوضوء، والصلاة، وفائدة الصلاة.



(1) كما أنّ هذا الوجه يمتاز بأنّه يثبت ابتداءً عدم إمكانيّة التقرّب بالأمر الغيريّ، وعدم إمكان محرّكيّته، لا وحده، ولا مع تحريك الأمر النفسيّ والتقرّب به، في حين أنّ ما كان صحيحاً من الوجوه السابقة كان يثبت ابتداءً أنّ الأمر الغيريّ وحده لا يفيد في التحرّك والمقرّبيّة، وأمّا إثبات عدم صلاحيّته لذلك مع ضمّه إلى الأمر النفسيّ بذي المقدّمة، فيحتاج إلى إضافة، بداهة عدم زيادة التقرّب عند قصد كلا الأمرين عليه عند قصد الأمر النفسيّ فقط، فيكون ضمّ الأمر الغيريّ إلى الأمر النفسيّ في فرض الوجه الأوّل أو الثاني كضمّ الحجر إلى جنب الإنسان.

(2) المقالات، ج 1، ص 326 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

476

والمولى وإن كان مراده بما هو كائن عاقل هو الفائدة، ولكن أوّل إرادة ثابتة له بما هو مولىً إنّما هي الصلاة، حيث إنّه سجّل على العبد الصلاة، لا تلك الفائدة، فبدأ مولويّته من النقطة الثانية، فإرادته بما هو كائن عاقل تبدأ من الفائدة، وبما هو مولىً تبدأ من الصلاة، واللازم تطابق كيفيّة الإرادتين من حين تبدأ الإرادة المولويّة للمولى وبدأ المولى كمولىً.

فهذه دعوى صحيحة مقبولة وجداناً، ولا نقض عليها، وتفسّر لنا كيف لا يعقل قصد الأمر الغيريّ من دون الأمر النفسيّ(1).



(1) لا يخفى: أنّه لو ادّعينا وجدانيّة أنّه لا يأتي استحقاق الثواب، أو قل: التقرّب إلى المولى، أو حجم ذلك من قبل كلّ أمر، إلّا بمحرّكيّة ذاك الأمر، وضممنا إلى ذلك الوجه الرابع، وهو: أنّ الأمر الغيريّ لا ثواب على موافقته، أصبح ذلك دليلا على المدّعى: من عدم معقوليّة قصد الأمر الغيريّ، وصيرورة ذلك سبباً في زيادة حجم الثواب.

وبكلمة اُخرى: إنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ذكر هنا بحثين تباعاً، فبحث أوّلا: أنّ كثرة المقدّمات لا تعدّد الثواب، بل الثواب واحد وإن كان يزيد حجمه بقدر ما يحتاجه الواجب النفسيّ من المقدّمات، وبحث ثانياً: أنّ التقرّب بالأمر الغيريّ ومن دون الانبعاث من الأمر النفسيّ في حين الإتيان بالمقدّمة غير معقول، وأقام على كلّ واحد من المطلبين برهاناً مستقلاًّ عن الآخر، في حين أنّه بعد الالتفات إلى وضوح: أنّ كلّ أمر يكون منشأً للثواب والتقرّب، أو لحجمهما إنّما يكون كذلك بقصده ومحرّكيّته، ولو كان أمران كلّ واحد منهما كذلك، لأصبحا ثوابين مستقلّين، لا ثواباً واحداً كبير الحجم، إذن يكون المدّعيان متلازمين، وهما: وحدة الثواب والتقرّب في المقام من ناحية، وعدم إمكان التقرّب بقصد الأمر الغيريّ من ناحية اُخرى، وكلّ برهان على أحدهما برهان على الآخر.

فلو دلّ دليل على عدم تعدّد الثواب ـ وهو يعني عدم تعدّد سبب الثواب؛ لأنّ تعدّد

477



الثواب يكون بمعنى تعدّد سببه ـ فقد دلّ ذلك الدليل على عدم الثواب، أو التقرّب بالأمر الغيريّ؛ لأنّ الأمر النفسيّ لا يمكن إنكار كونه سبباً للثواب، فلو كان الأمر الغيريّ أيضاً سبباً له، لزم تعدّد الثواب وقد فرضنا الدليل على عدمه، ولو كان الأمر الغيريّ سبباً لتضخّم ثواب الأمر النفسيّ، كان ذلك خلف ما فرضناه: من أنّ تضخّم الثواب على أمر ما أيضاً لا يكون إلّا بمحرّكيّة ذلك الأمر لعمل أضخم، وأكثر زحمةً ومؤونةً.

ولو دلّ دليل على عدم الثواب والتقرّب بالأمر الغيريّ، ثبتت وحدة الثواب؛ لأنّه بعد استثناء الأمر الغيريّ عن السببيّة للثواب لم يبقَ إلّا سبب واحد له، وهو الأمر النفسيّ.

نعم، لو دلّ دليل على مجرّد أنّ محرّكيّة الأمر الغيريّ لا يمكن أن تنفكّ عن محرّكيّة الأمر النفسيّ؛ لأنّ ما يحرّك إليه ليس أقلّ ممّا يحرّك إليه الأمر النفسيّ، بل هما متّحدان مثلا، فهذا لا يدلّ على وحدة الثواب إلّا بعد إضافة وجدانيّة عدم الفرق في مقدار التقرّب بين من تحرّك من الأمر النفسيّ فحسب إلى ذي المقدّمة ومقدّماته، ومن تحرّك منه ومن الأمر الغيريّ إلى نفس تلك المقدّمات وذيها.

478

إشكال الطهارات الثلاث

الجهة الرابعة: في إشكال الطهارات الثلاث، حيث يقال: إنّها واجبات غيريّة، مع أنّها لا تتمتّع بصفات الواجبات الغيريّة.

والإشكال يمكن أن يقرّب بتقريبات:

التقريب الأوّل: أنّه لو توضّأ لا على وجه التقرّب، لم يخرج عن عهدة المقدّميّة، وبطل وضوؤه، فيقال: إنّ التقرّب غير مقدور للمكلّف؛ لأنّ الأمر المقدّميّ لا يمكن أن يكون امتثاله مقرّباً وموجباً لاستحقاق الثواب، ولا تركه مبعّداً وموجباً لاستحقاق العقاب، فكيف يتأتّى له الوضوء القربيّ مع أنّ التقرّب يتوقّف على تعلّق أمر بالفعل صالح للمقرّبيّة نحو المولى، والأمر بالوضوء ليس كذلك، فالإتيان به على وجه عباديّ غير مقدور له.

هذه هي الصياغة الساذجة للإشكال.

ويكفي في مقام الجواب عليه أن يقال: إنّ التقرّب بالوضوء من ناحية الأمر الغيريّ وإن كان غير ممكن، لكن التقرّب به من ناحية الأمر النفسيّ بذي المقدّمة أمر ممكن، وهو الذي نسمّيه بقصد التوصّل باعتبار أنّ الأمر بذي المقدّمة يحرّك نحو سدّ تمام أبواب عدمه، ومنها عدمه بعدم الوضوء، فالمقدّمة بهذا القصد محسوبة على المولى، وتدخل في حصول الغرض.

التقريب الثاني: كأنّه تعميق للتقريب الأوّل، فيسلّم: أنّ الإتيان بالوضوء قربيّاً ممكن، ولكن يقال: إنّ الأمر الغيريّ لا يمكن أن يكون سقوطه متوقّفاً على قصد القربة، فإنّ الغرض من الأمر الغيريّ إنّما هو التوصّل إلى الواجب لا التعبّد، وذلك يتحقّق بمجرّد الإتيان بذات المقدّمة، كما أنّ الكون على السطح يتوقّف على نصب السلّم، فنصب السلّم يكفي للتوصّل إلى المطلوب بلا حاجة إلى قصد القربة.

479

والجواب: أنّه صحيح: أنّ الأمر الغيريّ الغرض منه هو التوصّل إلى الواجب النفسيّ، وذلك يتحقّق بمجرّد الإتيان بالمقدّمة، لكن نفترض: أنّ عباديّة الوضوء دخيلة في وقوعه مقدّمة، أي: أنّ الصلاة تتوقّف على الوضوء العباديّ، ولكن الكون على السطح لم يكن متوقّفاً على نصب السلم عباديّاً.

وكون العباديّة دخيلة في مقدّميّة المقدّمة له بيانان:

البيان الأوّل: هو البيان الواضح والعرفيّ الذي يتبادر إلى الذهن، وهو كون العباديّة بنفسها ممّا تتوقّف عليه الصلاة، فالصلاة تتوقّف على مجموع العمل الخارجيّ وكون الإتيان به عباديّاً.

والبيان الثاني: بيان ملتو نقله في الكفاية عن تقريرات الشيخ الأعظم (رحمه الله)، حيث افترض: أنّ العباديّة بعنوانها ليست دخيلة في المقدّمة كما كنّا نفترض في البيان الواضح، وإنّما النكتة في الحاجة إلى قصد القربة أنّه مقدّمة للمقدّمة، بتقريب: أنّ المقدّمة ـ في الحقيقة ـ ليست هي الوضوء بما هو غسل ومسح، بل هي الوضوء المعنون بعنوان لاهوتيّ لا نعرفه، وهو عنوان قصديّ، من قبيل عنوان التعظيم الذي لا ينطبق على مصداقه إلّا إذا قصد ذلك العنوان، واُشير إليه في عالم النفس(1)، وحيث إنّ ذلك العنوان لا نعرفه حتّى نقصده، إذن نقصده بالمعرّف والمشير، وهو الأمر، فنأتي بذلك الوضوء بالعنوان الذي تعلّق به الأمر، فلو لم يأتِ به بقصد الامتثال، فهو لم يقصد ذلك العنوان، لا تفصيلا ولا إجمالا(2).

وهذا البيان من كيفيّة عمل الاُصوليّين في تبعيد المسافات للوصول إلى النتائج، فيعدل عن ذلك البيان الأوّل العرفيّ الواضح إلى هذا البيان، على أنّ هذا



(1) مع فارق بين ما نحن فيه والتعظيم، وهو: أنّ التعظيم لا يتحقّق إلّا بقصد عنوانه، والمفروض في المقام أن يكفي قصد العنوان إجمالا.

(2) راجع الكفاية، الطبعة المشتملة في الحواشي على تعليقات المشكينيّ، ص 178.

480

البيان غير صحيح في نفسه كما نبّه عليه في الكفاية(1)؛ إذ هذا البيان ينتج كفاية قصد الأمر الغيريّ وصفاً لا غاية وإن كان قصده غايةً كافياً في المقام من باب أنّه يشتمل ـ لا محالة ـ على قصده وصفاً؛ إذ هو ـ لا محالة ـ قصد العنوان المأمور به، ولو فرض خطأه في التطبيق، وتخيّله: أنّ ذلك العنوان ليس إلّا عبارة عن عنوان الوضوء، فإنّ هذا الخطأ في التطبيق لا ينافي قصد عنوان المأمور به على إجماله، إلّا على فرض التقييد في القصد.

وعلى أيّ حال، فمفاد هذا البيان إنّما هو ضرورة كون المتوضّي قاصداً إجمالا ذلك العنوان الذي اُمر به، بأن يكون عنوان الأمر مشيراً إلى ذلك، أمّا أنّ محرّكه نحو هذا الوضوء هل هو ذلك الأمر، أو شيء آخر غيره، فهذا شيء لا يعيّنه هذا البيان، فالصحيح هو البيان الأوّل.

التقريب الثالث: تعميق أكثر للإشكال، وهو: أنّنا بعد أن فرضنا: أنّ العباديّة داخلة في حاقّ المقدّمة، فالمقدّمة ليست هي ذات الوضوء، بل الوضوء العباديّ، فالأمر الغيريّ يتعلّق بالوضوء العباديّ، نقول: إنّ العباديّة: إن فرضت بلحاظ قصد امتثال الأمر الغيريّ، لزم الدور(2) الذي تقدّم في بحث التعبّديّ والتوصّليّ؛ لأنّ



(1) نفس المصدر.

(2) إشكال الدور في هذا الشقّ قد يأتي عليه بعض التخلّصات عن الدور في تصوّر عباديّة العبادة لو تمّ هناك، وبالإمكان تبديل إشكال الدور في هذا الشقّ بإشكال آخر، وهو: أنّ قصد الأمر الغيريّ لا يكون مقرّباً إلى المولى أو مؤثّراً في ازدياد مقرّبيّة قصد الأمر النفسيّ مثلا؛ لما مضى: من أنّ العبد يجب أن يكون بمنزلة أعضاء المولى، والمولى لو كان هو المباشر لكانت إرادته للمقدّمة غيريّة لا نفسيّة، وما ثبت في الفقه: من عباديّة الطهارات الثلاث ليس فقط بمعنى لزوم قصد الأمر فيها ولو بنحو لا يصلح للمقرّبيّة، وإنّما الثابت طبعاً هو عباديّتها بالمعنى الذي يصلح للمقرّبيّة.

481

هذه العباديّة اُخذت في متعلّق الأمر، فكيف يفرض نظرها إلى نفس هذا الأمر؟ وإن فرضت بلحاظ قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة، فهذا أيضاً دور؛ لأنّ قصد التوصّل بالوضوء إلى الصلاة فرع كونه مقدّمة؛ إذ لا يعقل قصد التوصّل بشيء إلى شيء لا يكون مقدّمة له، وكونه مقدّمة له فرع قصد التوصّل؛ لأنّنا فرضنا: أنّ العباديّة دخيلة في مقدّميّة المقدّمة، وهو معنى الدور.

وهذا التقريب جوابه الواضح الساذج: أنّه لو سلّم بطلان الشقّ الأوّل بالدور، لا نسلّم بطلان الشقّ الثاني؛ إذ لا دور فيه؛ فإنّنا لا نفترض كون المقدّمة مجرّد انقداح حالة التقرّب في النفس، وإنّما المفروض: أنّ المقدّمة عبارة عن مجموع الأمرين: من الفعل الخارجيّ والتقرّب، ومعه يكون الفعل الخارجيّ مقدّمة أيضاً؛ لأنّ جزء المقدّمة مقدّمة، فيعقل قصد التوصّل به إلى ذيه؛ إذ لا يتوقّف ذلك إلّا على دخله ضمناً في تحقّق ذي المقدّمة، وهو حاصل. ومن حسن الصدفة: أنّ نفس قصد التوصّل هو الجزء الآخر، وبذلك تتحقّق المقدّمة كاملة، بلا لزوم دور.

إلّا أنّ صاحب الكفاية ذكر في مقام الجواب على هذا الإشكال: أنّنا نختار شقّاً ثالثاً، وهو كون العباديّة من ناحية الاستحباب النفسيّ، فإنّ الطهارات الثلاث مضافاً إلى مقدّميّتها للصلاة الواجبة تتّصف بالأمر النفسيّ الاستحبابيّ، فيؤتى بالوضوء بقصد امتثال هذا الأمر الاستحبابيّ، ولا يلزم دور.

وهذا الجواب يوجد هناك اعتراضان واردان عليه، وبعض الاعتراضات غير الواردة عليه.

أمّا الاعتراضان الواردان:

فأحدهما: ما أشار إليه نفسه، وصار بصدد الجواب عنه، وهو: أنّه إذا كان المصحّح لعباديّة الوضوء هو قصد الأمر النفسيّ الاستحبابيّ المتعلّق بالوضوء، لزم أنّه في حالة الاعتقاد بعدم الاستحباب النفسيّ، أو حالة عدم الالتفات إليه، وتوجّه

482

المكلّف بتمام نظره نحو الأمر الغيريّ، وقصد التوصّل غافلا عن أمر نفسيّ استحبابيّ متعلّق بالوضوء، يقع الوضوء باطلا، مع أنّ الضرورة قاضية بأنّ الوضوء يصحّ من المتشرّع حتّى لو كان غافلا عن الاستحباب النفسيّ.

وقد حاول صاحب الكفاية الجواب على هذا الاعتراض بتصوير الداعي، على الداعي، بدعوى: أنّ من توضّأ بداعي الأمر الغيريّ وداعي التوصّل إلى الصلاة، فهو قاصد للإتيان بمتعلّق الأمر الغيريّ، ومتعلّق الأمر الغيريّ هو الإتيان بالفعل على الوجه العباديّ، وهو إنّما يكون عباديّاً بقصد الأمر النفسيّ، إذن فهو قاصد لبّاً وإجمالا الأمر النفسيّ، فيكون عنده داعيان طوليّان، أحدهما الأمر الغيريّ، وهو يبعث نحو داعويّة الداعي الآخر، وهو الأمر النفسيّ.

ومن الواضح: أنّ هذا الجواب لا محصّل له؛ لأنّ تعدّد الداعي بنحو يكون أحدهما مولّداً للآخر وإن كان معقولا، ولكنّه إنّما يكون معقولا مع الالتفات إلى الداعي الطوليّ الثاني؛ إذ الانبعاث عن جهة وغاية يتوقّف على الالتفات إلى تلك الجهة، فالأمر الغيريّ إنّما يبعث إلى داعويّة الأمر النفسيّ لمن يكون ملتفتاً إلى كلّ منهما في مرتبته، وإلّا فالداعي الأوّل يكون عاجزاً عن إيجاد الداعي الثاني؛ إذ فرض داعويّة الداعي الثاني فرض محرّكيّته له، وفرض محرّكيّته له هو فرض التفاته إليه، وإلّا فكيف يحرّكه؟!

وثانيهما: أنّه قد ينطبق عنوان استحبابيّ راجح على ترك الوضوء، بحيث لولا وجوب الصلاة لكان فعل الوضوء وتركه سيّان، كما لو كان مؤمن تستحبّ إطاعته يحبّ ترك هذا الوضوء ويتأذّى منه حرصاً على وجود هذا الماء لغرض أهمّ، فالترك يشتمل على قضاء حاجة المؤمن، فالاستحباب النفسيّ للوضوء مزاحم باستحباب نقيضه على حدّ استحباب الفعل، فيكون الاستحبابان اقتضائيّين، وإذا صار الفعل والترك عند المولى على حدّ سواء لتزاحم الملاكين، لا يعقل التقرّب به

483

إلى المولى، وإنّما التقرّب يعقل إذا كان الفعل أرجح عند المولى من الترك، وإنّما يكون أرجح بضمّ ملاك مقدّميّته للصلاة، والمفروض: أنّ قصد التوصّل إلى الصلاة ليس مصحّحاً للعباديّة، بل يمكن أن يفرض وجوب الترك لولا مقدّميّته للصلاة الواجبة، كما لو أمر الوالد بترك الوضوء وكانت إطاعته واجبة، ولكن وجوب الصلاة أهمّ من إطاعة الوالد(1)، فلابدّ أن يعترف صاحب الكفاية بأنّ قربيّة الوضوء وعباديّته غير منحصرة بقصد الأمر النفسيّ.



(1) فإن قلت: إنّ استحباب ترك الوضوء لأجل قضاء حاجة المؤمن، أو وجوبه لأجل إطاعة الوالد قد سقط بالمزاحم الأهمّ، وهو الوجوب المقدّميّ للصلاة، أو قل: وجوب الصلاة، ومع سقوط الأمر لا كاشف عن الملاك، فيبقى الأمر الاستحبابيّ بالوضوء بلا مزاحم، ويتمسّك بإطلاقه.

قلت: أوّلا: إنّ صاحب الكفاية لا يقول بتبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في السقوط، وعدم إمكانيّة كشف الملاك، فالإشكال مسجّل على صاحب الكفاية.

وثانياً: إنّه بالإمكان أن يقال: إنّ المتفاهم عرفاً ـ بمناسبات الحكم والموضوع من مثل دليل قضاء حاجة المؤمن، أو وجوب إطاعة الوالد، أو نحو ذلك ممّا له نكات عرفيّة وليس تعبّديّاً صرفاً ـ أنّ قضاء حاجة المؤمن، أو طاعة الوالد، أو نحوهما في ذاته أمر حسن ومطلوب وإن فرضت مزاحمته أحياناً بما هو أهمّ منه، فعند المزاحمة بالأهمّ إنّما يرفع اليد عنه لتقدّم الأهمّ، لا لعدم المقتضي.

وثالثاً: إنّه بالإمكان أن يفرض ـ تسجيلا للنقض ـ وجود فردين للمقدّمة، أصبح ترك أحدهما مطلوباً استحبابيّاً، كما لو كان ماءان: أحدهما عذب حلو، والآخر مجّ مالح، وكان طلب المؤمن منصبّاً على عدم الوضوء بالماء الأوّل، فتوضّأ به برغم فرض أهمّيّة استجابة طلب المؤمن من استحباب الوضوء، أو تساويها معه، فهنا استحباب الترك غير ساقط بالتزاحم مع الوجوب المقدّميّ؛ لأنّ الوجوب المقدّميّ ثابت على الجامع، فلا تزاحم بينهما.

484

وأمّا الاعتراضات غير الواردة:

فأهمّها ما اُورد عليه: من أنّ الاستحباب النفسيّ الذي نريد تصحيح العباديّة به يرتفع عند تحقّق الوجوب؛ لاستحالة اجتماعه معه، ومع زواله وارتفاعه لا معنى لمحرّكيّته.

وقد يجاب عن ذلك بأنّ الاستحباب لا يزول بذاته، بل يزول بحدّه، ويندمج مع الوجوب، وتتحصّل منهما إرادة شديدة ممثّلة للوجوب والاستحباب معاً، فيمكن التقرّب بهذا الاستحباب.

ولكن يمكن للمعترض التخلّص عن ذلك بأن يقول: لو فرضنا اندماجهما في إرادة واحدة قويّة شديدة، لم يتمّ الجواب؛ لأنّ هذه الإرادة الشديدة قد اُخذ في موضوعها العباديّة، والمفروض: أنّ العباديّة تكون نتاجاً لبعض مراتب هذه الإرادة الشديدة، فلزم أخذ قصد الأمر في متعلّق ذلك الأمر.

وعليه؛ فينبغي أن يجاب بأنّ الوجوب والاستحباب محفوظان بحدّهما؛ لتعدّد متعلّقهما؛ لأنّ الاستحباب متعلّق بذات الوضوء، والوجوب متعلّق بالوضوء العباديّ، أي: الوضوء بقصد الاستحباب النفسيّ، فيمكنه التقرّب بلحاظ الأمر النفسيّ.

وملاك دعوى الانحفاظ بحدّه تغاير موضوعهما لا طوليّتهما كما ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، حيث ذكر: أنّ الأمر الغيريّ تعلّق بالوضوء المقيّد بقصد الأمر النفسيّ، فهو في طوله، فينحفظان بحدّهما(1).

ويرد عليه: أن لو اتّحد موضوعهما، استحال اجتماعهما بناءً على تضادّهما،



(1) هذا ما يستفاد من فوائد الاُصول، ج 1، ص 230 ـ 231 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، ولكن ما في أجود التقريرات، ج 1، ص 178 ـ 179 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله) أظهر في إرادة تعدّد المتعلّق بالنحو الذي اختاره اُستاذنا (رحمه الله) منه في إرادة الطوليّة برغم أنّ التعبير بالطوليّة موجود في عبارته.

485

ومجرّد فرض الطوليّة بين المتضادّين لا يرفع التضادّ والتنافي كما هو واضح.

ومن الاعتراضات على كلام صاحب الكفاية أن يفرض: أنّ المستحبّ النفسيّ ليس هو عنواناً منطبقاً على نفس الغسلات والمسحات، بل المستحبّ أمر معنويّ مسبّب عن الوضوء، سمّي بالطهارة، فبالأخرة أصبح الوضوء مطلوباً مقدّميّاً لا نفسيّاً، فيعود الإشكال في قصد القربة في المقدّمة.

إلّا أنّ صاحب الكفاية لا يقول بهذا المبنى، فهذا الاعتراض غير وارد عليه بناءً على مسلكه، بل حتّى لو بنينا على هذا المبنى، لا يرد عليه هذا الإشكال؛ إذ بالإمكان أن يقال ـ بناءً على أنّ المستحبّ النفسيّ هو الطهارة التي هي أمر مسبّب عن هذه الأفعال، لا نفس هذه الأفعال ـ: إنّ مقدّمة الصلاة وشرطها أيضاً هي هذه الطهارة، لا تلك الأفعال، وإنّ هذه الطهارة لابدّ فيها من قصد أمرها من أوّل الشروع في هذه الأفعال.

ومنها: أنّ التيمّم ليس مستحبّاً.

ويمكن الجواب على ذلك باستفادة استحبابه بضمّ ما ورد: من أنّ التراب أحد الطهورين(1)، إلى ما دلّ على أنّ الله يحبّ المتطهّرين(2).



(1) يحضرني فعلا نقل الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن محمّد بن حمران، وجميل بن درّاج، أنّهما سألا أبا عبدالله(عليه السلام)عن إمام قوم أصابته جنابة في السفر وليس معه من الماء ما يكفيه للغسل: أيتوضّأ بعضهم ويصلّي بهم؟ فقال: «لا، ولكن يتيمّم الجنب ويصلّي بهم، فإنّ الله عزّوجلّ جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً» وسائل الشيعة، ج. بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 24، من التيمّم، ح 2، ص 387.

(2) قال الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، السورة 2، البقرة، الآية: 222، وقال الله عزّوجلّ: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)، السورة 9، التوبة، الآية: 108.

486

كيفيّة صياغة الوجوب الغيريّ إطلاقاً وتقييداً

الجهة الخامسة: في كيفيّة صياغة الوجوب الغيريّ إطلاقاً وتقييداً على القول به، فإنّ هناك احتمالات عديدة:

إطلاق الوجوب والواجب

الاحتمال الأوّل: ما هو المشهور بينهم: من القول بالإطلاق في الوجوب والواجب، وعدم تقييدهما بقيد زائداً على شرائط الوجوب النفسيّ السارية إلى الوجوب المقدّميّ بالتبع.

اشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذيها

الاحتمال الثاني: ما يظهر من عبائر المعالم(1): من تقييد وجوب المقدّمة بشرط إرادة ذيها، فلا تجب بدون ذلك.

وقد أشكل المحقّقون المتأخّرون في معقوليّة هذا الاحتمال، وادّعوا استحالته. وما يستخلص من كلماتهم في وجه الاستحالة أحد وجهين:

الأوّل: ما يظهر من المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من أنّه شبيه بطلب الحاصل، وهو مستحيل؛ إذ إرادة ذي المقدّمة مستلزمة ومستبطنة لإرادة المقدّمة لا محالة، فاشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذيها يساوق اشتراط وجوبها بإرادتها، وهو شبيه بطلب الحاصل، ويكون مستحيلا(2).



(1) في آخر بحث الضدّ.

(2) راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 333 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، ولكن كلامه في فرض شرط إرادة التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها.

487

وهذا الوجه غير تامّ؛ ذلك أنّ اشتراط الوجوب الغيريّ بإرادة الواجب النفسيّ يتصوّر بأحد أنحاء:

الأوّل: أن يكون الشرط إرادة الواجب النفسيّ، وسدّ أبواب عدمه من غير جهة هذه المقدّمة.

ومن الواضح: أنّه على هذا يرتفع المحذور موضوعاً.

الثاني: أن يكون الشرط صدق القضيّة الشرطيّة القائلة: إنّه لو أوجد هذه المقدّمة لأراد ذا المقدّمة، فكلّ من يريد الصلاة على تقدير الوضوء يجب عليه الوضوء.

وهذا في الروح وإن كان راجعاً إلى الأوّل، غير أنّه يختلف عنه صياغة، فالشرط هنا صدق القضيّة الشرطيّة نفسها، والذي لا يستلزم صدق طرفيها، فلا يكون الاشتراط به في قوّة الاشتراط بإرادة المقدّمة.

الثالث: أن يكون الشرط هو إرادة ذي المقدّمة من كلّ الجهات.

وهذا هو الذي يستلزم المحذور الذي أفاده المحقّق العراقيّ (رحمه الله)، غير أنّ الصحيح: عدم المحذور في هذا الفرض أيضاً؛ لأنّ محذور تحصيل الحاصل: إمّا أن يكون بنكتة التهافت، باعتبار كون طلب الشيء مساوقاً لفقده، فكونه حاصلا تهافت وتناقض، وإمّا بنكتة اللغويّة؛ إذ الأمر من أجل قدح الداعي نحو المطلوب لتحصيله، فلو فرض حصوله، كان من اللغو طلبه.

وكلتا النكتتين غير موجودة في المقام: أمّا التهافت، فلأنّ الشرط إنّما هو إرادة الواجب لا حصوله، والتهافت إنّما يكون في فرض شرط حصوله، وأمّا اللغويّة بملاك عدم الداعويّة، فلأنّ الوجوب الغيريّ ـ عند القائلين به ـ لا يكون استقلاليّاً في الجعل، وإنّما هو وجوب تبعيّ قهريّ، فلا تكون اللغويّة محذوراً مانعاً عن وجوده، بل قد تقدّم: أنّ الوجوب الغيريّ لا داعويّة مستقلّة له، وإنّما الداعويّة للواجب النفسيّ دائماً، فإشكال اللغويّة لا موضوع له في الواجبات الغيريّة.

488

وهكذا يتّضح عدم تماميّة الوجه المذكور في البرهنة على الاستحالة.

الثاني: ما أفاده المحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1)، وهو ـ بتنقيح منّا ـ: أنّ الوجوب الغيريّ لو كان مشروطاً بإرادة ذي المقدّمة، فمع عدمها لا يكون ثابتاً لا محالة، وحينئذ لو كان الوجوب النفسيّ ثابتاً، لزم من ذلك التفكيك بين الوجوبين: النفسيّ والغيريّ، مع أنّ قانون الملازمة ـ على القول به ـ لا يفرّق فيه بين مورد ومورد، ولو كان الوجوب النفسيّ مرتفعاً أيضاً، كان معنى ذلك اشتراطه بالإرادة أيضاً، والاشتراط المذكور إن كان بالصياغة الثالثة من الصياغات المتقدّمة، ففيه المحذور الثبوتيّ المتقدّم: من طلب الحاصل واللغويّة، حيث إنّه تامّ في التكاليف النفسيّة، وإن كان بالصياغة الاُولى أو الثانية، فهو وإن لم يكن ذا محذور ثبوتيّ، ولكنّه باطل إثباتاً؛ لوضوح عدم كون سدّ بعض أبواب عدم الواجب شرطاً في وجوب الباقي، بل الوجوب الثابت للواجب من أوّل الأمر يتطلّب سدّ كلّ أبواب عدمه.

وهذا الوجه في إبطال هذا الاحتمال صحيح لا غبار عليه.

اشتراط وجوب المقدّمة بقصد التوصّل بها إلى ذيها

الاحتمال الثالث: ما ينسب إلى الشيخ الأعظم(قدس سره) على ما في تقرير بحثه: من أنّ الواجب الغيريّ هو المقدّمة مع قصد التوصّل بها إلى ذيها على نحو يكون قصد التوصّل من قيود الواجب(2).



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 286 ـ 287 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 232 ـ 233 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

(2) مطارح الأنظار، ص 70.

489

وقد أفاد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: أنّ هذا التقييد هو نفس التقييد السابق الذي اختاره صاحب المعالم (رحمه الله)، غير أنّه جعله من قيود الوجوب، والشيخ(قدس سره) جعله من قيود الواجب(1)، ولكن الصحيح هو الفرق بينهما من ناحية القيد أيضاً، فإنّه عند صاحب المعالم هو إرادة ذي المقدّمة، وهي غير قصد التوصّل، ولذلك ربما يكون الإنسان مريداً تحقيق ذي المقدّمة، ولكنّه مع ذلك يأتي بالمقدّمة بغير قصد التوصّل بها فعلا إلى ذي المقدّمة، فإرادة ذي المقدّمة بمعناها الحقيقيّ لا تساوق قصد التوصّل بالمقدّمة.

وأيّاً ما كان، فهذا الاحتمال وإن نسب إلى الشيخ(قدس سره)، إلّا أنّ عبارة التقرير مشوّشة، ولذلك يحتمل فيه عدّة تفسيرات:

الأوّل: ما ذكر من أخذ قصد التوصّل قيداً في الواجب الغيريّ.

الثاني: أن يكون المقصود: أنّ وقوع المقدّمة امتثالا وعبادة موقوف على قصد التوصّل بها إلى امتثال ذي المقدّمة.

وهذا المعنى لو كان هو المقصود، فهو معنىً صحيح؛ لما تقدّم: من أنّ الوجوب الغيريّ بنفسه لا يكون قربيّاً، وإنّما قربيّة المقدّمة تكون بقصد التوصّل إلى امتثال ذيها.

الثالث: أن يكون المقصود: أخذ قصد التوصّل في الواجب نفسه كما في الاحتمال الأوّل، غير أنّه في خصوص المقدّمات المحرّمة التي يتوقّف عليها الواجب الأهمّ فهي تقع محرّمة، إلّا إذا جيء بها بقصد التوصّل، فتكون واجبة، وأمّا المقدّمة المباحة، فهي مصداق للواجب مطلقاً.

وهذا المعنى سوف يقع الحديث عنه لدى التعرّض لثمرة البحث في وجوب المقدّمة على اختلاف صيغه.



(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 404 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

490

فموضوع البحث هنا هو المعنى الأوّل، وهو القول باختصاص الوجوب بالمقدّمة التي يقصد معها التوصّل.

وهذا الاحتمال يواجه بدواً استغراباً؛ إذ لا نكتة ولا ملاك في تقييد الواجب الغيريّ بقصد التوصّل؛ لأنّ ملاك الوجوب الغيريّ للمقدّمة: إمّا أن يكون حيثيّة توقّف الواجب النفسيّ عليها، وهو يقتضي وجوب مطلق المقدّمة، وإمّا أن يكون حيثيّة حصول الواجب النفسيّ به، وهو يقتضي وجوب المقدّمة الموصلة بالخصوص، فاعتبار قصد التوصّل لا موجب له.

وقد حاول المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) توجيه ذلك بتقريب مؤلّف من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الحيثيّات التعليليّة في الأحكام العقليّة العمليّة أو النظريّة كلّها تقييديّة، بحيث تكون هي موضوع ذلك الحكم العقليّ، فالحكم بجواز ضرب اليتيم للتأديب موضوعه الضرب التأديبي، والحكم باستحالة الدور للتناقض مثلا موضوعه استحالة التناقض، لا الدور بما هو دور، وعليه يكون وجوب المقدّمة الثابت بحكم العقل بالملازمة موضوعها الموصل؛ لأنّ الموصّليّة هي الحيثيّة التعليليّة للحكم المذكور.

الثانية: أنّ التكليف لا يتعلّق إلّا بالحصّة الاختياريّة من المتعلّق؛ إذ يستحيل البعث نحو غير الاختياريّ، فالحصّة غير الاختياريّة لا تقع مصداقاً للواجب وإن كانت محصّلة للغرض، والعنوان الواجب لا يقع اختياريّاً إلّا إذا صدر عن قصد وإرادة واختيار له، فإذا كان التوصّل بعنوانه هو الواجب الغيريّ فلا يقع مصداقاً للواجب ما لم يصدر هذا العنوان عن قصد(1).

وقد اعترف السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بما ذكر في هذا التقريب: من كون



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 133 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

491

الحيثيّات في الأحكام العقليّة تقييديّة دائماً حتّى في أحكام العقل النظريّ، ولكنّه اعترض بخروج المقام عن ذلك؛ لأنّ وجوب المقدّمة المبحوث عنه هو الوجوب الشرعيّ لا العقليّ، والعقل مجرّد كاشف عنه(1).

مع أنّ هذا تهافت؛ إذ بعد تسليم رجوع الحيثيّات إلى التقييديّة في الأحكام العقليّة العمليّة والنظريّة معاً لا وجه لدعوى خروج محلّ الكلام عن تلك القاعدة؛ إذ ليس دور العقل في الأحكام العقليّة سوى الكشف والإحراز، وهو واضح، خصوصاً في أحكام العقل النظريّ، فالتسليم بتلك المقدّمة مناقض للاعتراض المذكور.

والتحقيق في الجواب على هذا الكلام أن يقال:

أوّلا: إنّ رجوع الحيثيّات التعليليّة في الأحكام العقليّة إلى الحيثيّات التقييديّة كلام موروث يراد به الأحكام العقليّة العمليّة، دون النظريّة، والتي منها وجوب المقدّمة شرعاً(2).

توضيح ذلك: أنّ الأحكام العقليّة العمليّة إدراكات لاُمور واقعيّة نفس الأمريّة، هي الحسن والقبح في الأفعال، وكونها ممّا ينبغي أو لا ينبغي، وكلّ فعل عرض عليه عنوان حسن أو قبيح سرى إليه عقلا الحسن والقبح على أساس الواسطة في العروض لا غير، وليست كالأحكام الشرعيّة جعولا وانشاءات بيد الجاعل، فإذا كانت حيثيّة التأديب هي الواسطة في عروض الحسن للضرب، فلا معنى لافتراض: أنّ موضوع هذا الحكم النفس الأمريّ هو الضرب دون التأديب، وذلك



(1) راجع المحاضرات، ج 2، ص 407 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

(2) قد التفت الشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) إلى هذا الجواب في تعليقه على نهاية الدراية. راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 134، تحت الخطّ بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

492

ببرهان: أنّه إمّا أن يكون الموضوع هو الضرب فقط، أو هو مع التأديب، أو التأديب فقط. والأوّل غير معقول؛ إذ التأديب بعد أن كان هو ملاك الحسن كان أولى به من فاقده، فإنّ واجد الشيء يعطيه لا فاقده، والثاني خلف المفروض؛ إذ معناه: أنّ هناك حكمين عقليّين على موضوعين وحيثيّتين، تقييديّتين، فينحصر الأمر بالثالث، وهو أن تكون حيثيّة التأديب هي موضوع الحكم العقليّ.

وهذا بخلاف الأحكام الشرعيّة المجعولة؛ فإنّها ربما تجعل لا على حيثيّاتها التعليليّة، كجعل الوجوب على الصلاة؛ لكونها ناهية عن الفحشاء، باعتبار عدم كون تلك الحيثيّة عرفيّة، أو عدم كون مصداقها متعيّناً لدى العبد، أو غير ذلك من الموجبات التي تقدّمت الإشارة إليها في بحث الفرق بين الواجب النفسيّ والغيريّ.

وبخلاف القضايا العقليّة النظريّة في غير التشريعيّات؛ فإنّ الحيثيّات التعليليّة التي على أساسها أدرك العقل تلك القضايا ربما تكون واسطة في الثبوت فقط، وربما تكون واسطة في العروض وحيثيّة تقييديّة، ومن الواضح: أنّ وجوب المقدّمة شرعاً ـ على القول به ـ من مدركات العقل النظريّ دون العمليّ، فلا تشمله القاعدة الموروثة في حيثيّات أحكام العقل العمليّ.

وثانياً: قد تقدّم في أبحاث التعبّديّ والتوصّليّ: أنّه لا يشترط تعلّق الوجوب بالحصّة الاختياريّة من الفعل خاصّة، بل يمكن تعلّقه بالجامع بينها وبين الاختياريّة.

ثُمّ لو سلّم لزوم الاختصاص، وأنّ الباعثيّة لا تكون إلّا إلى الحصّة الاختياريّة من الفعل، فذلك إنّما يمكن تسليمه في الواجبات النفسيّة التي تجعل لغرض الداعويّة، لا الواجبات الغيريّة التي لا تجعل ـ على القول بها ـ من أجل الداعويّة، وإنّما هي واجبات قهريّة تبعيّة.

493

وثالثاً: لو سلّم ذلك أيضاً، وافترضنا الواجب الغيريّ كالواجب النفسيّ، مع ذلك نقول: يكفي في اختياريّة الفعل ـ بنحو يكون هو الشرط في التكليف والبعث إليه ـ أن يكون صادراً عن قدرة العبد والتفاته، بمعنى: عدم غفلته، ولا جهله المركّب، فلو ضرب المكلّف شخصاً وهو ملتفت إلى أنّه يؤدّي إلى قتله، كان القتل الصادر اختياريّاً ولو فرض عدم قصده له، بل كان قصده عنواناً آخر، فلا يشترط قصد المسبّب في اختياريّته.

ورابعاً: لو سلّم اشتراط قصد الفعل وإرادته في وقوعه اختياريّاً، قلنا: يكفي في انطباق التكليف وكون الفعل مصداقاً للواجب أن يكون المعنون صادراً عن اختيار المكلف وقصده وإن لم يقصد العنوان ولم يختره(1)، ما لم يكن العنوان الواجب من العناوين القصديّة كالاحترام والتعظيم، وكان عنواناً ينطبق على الفعل قهراً، فلو صدرت المقدّمة من المكلّف لا بقصد الإيصال، ولكنّها كانت موصلة واقعاً، كانت مصداقاً للواجب؛ لكونها مصداقاً للموصل ـ لا محالة ـ ولو لم يكن عنوان الموصل باختياره وقصده، ولذلك لا يستشكل أحد في وقوع الواجب التوصّليّ لو جيء به بغير العنوان الذي به وجب إذا لم يكن من العناوين القصديّة، كما إذا أزال النجاسة بعنوان التجميل لا التطهير.

وخامساً: لو سلّمنا جميع ما يتوقّف عليه التقريب المذكور، فمع ذلك لا تثبت مقالة الشيخ الأعظم (رحمه الله)، وإنّما تثبت مقالة اُخرى، هي القول باختصاص الوجوب الغيريّ بالمقدّمة الموصلة مع قصد التوصّل بها، وهذا جمع بين مقالتي الشيخ الأعظم وصاحب الفصول(قدس سرهما)، وليس هو مدّعى الشيخ من وجوب المقدّمة التي قصد بها التوصّل ولو لم تكن موصلة.



(1) التفت الشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) إلى هذا الجواب في تعليقه على نهاية الدراية. راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 134، تحت الخطّ بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.