232

وعلى أيّ حال، فهذا بحث تفسيريّ بحت لا علاقة له بوظيفة الاُصوليّ؛ لأنّنا بيّنّا أنّ الاستدلال بالآية غير تامّ على كلّ حال.

 

إسقاط ظواهر القرآن بالسنّة:

وأمّا الوجه الثاني: فهو الأخبار المتوهّم دلالتها على النهي عن اتّباع ظواهر القرآن الكريم. وتمام الروايات التي رأيناها في المقام ترجع إلى طوائف ثلاث:

1 ـ ما تصدّى لبيان أنّ المراد من القرآن لا يفهمه إلّا الأئمّة(عليهم السلام)، وغيرهم يجب أن يأخذوا تفسير القرآن منهم(عليهم السلام).

2 ـ ما تصدّى لبيان عدم جواز الاستقلال عن المعصومين في فهم القرآن، فهو وحده ليس حجّة وإنّما هو أحد الثقلين.

3 ـ ما تصدّى للنهي عن تفسير القرآن بالرأي.

أمّا الطائفة الاُولى: فقد وردت بمضمونها عدّة روايات(1) مع اختلاف في أساليب التعبير. وهي تامّة من حيث الدلالة، فإنّ حصر الفهم بالأئمّة المعصومين(عليهم السلام)يعني إلغاء الحجّيّة، وسدّ باب الاستنباط العرفيّ وإعمال القواعد العرفيّة لاستخراج المعاني من القرآن من قِبَل غيرهم(عليهم السلام)، إلّا أنّ هذه الأخبار غير تامّة من حيث السند(2).


(1) راجع الوسائل، ج 18، ب 13 من أبواب صفات القاضي، ح 25 و38 و41 و64 و69 و73 و74.

(2) ومعه نشكّك في الردع، ونستصحب عدم الردع الثابت في أوّل الشريعة كما نقل عن الدورة الأخيرة لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

233

أضف إلى ذلك نكتتين قد يحصل بإضافتهما الاطمئنان بمجعوليّة هذه الروايات، أو كون المقصود غير ما يظهر منها:

الاُولى: إنّه توجد في رواة هذه الروايات ظاهرة مشتركة تناسب لسان هذه الروايات الصادرة منهم، وتلك الظاهرة هي ظاهرة تبعيد الناس عن ظاهر الشرع، وادّعاء اُمور باطنيّة وبعيدة عن ظواهر الشرع.

فهذا سعد بن طريف أحد هؤلاء الرواة يروي أنّ الفحشاء رجل، والمنكر رجل، وأنّ الصلاة تتكلّم(1)، ويقول عنه النجاشي: «حديثه يعرف وينكر»، ويضعّف من قِبَل أشخاص آخرين.

وجابر بن يزيد أحد هؤلاء الرواة يقول: (دخلت على الإمام الباقر(عليه السلام)وأنا شاب، فأعطاني كتاباً للحفظ عندي، وكتاباً آخر لحديث الناس به). ويقول أيضاً: (إنّ الإمام حدّثني بسبعين ألف حديث ولم يأذن لي بأن اُحدّث به، فأذهب إلى حفيرة واُحدّثها به)(2). ونحو ذلك من الاُمور التي لو ضممناها إلى شهادة الأكابر من سلفنا الصالح يحصل لنا الظنّ القويّ بأنّ مثل مذاق هذا الشخص يريد غلق


(1) راجع اُصول الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، ح 1، ص 598.

(2) راجع معجم الرجال للسيّد الخوئيّ، ج 4، ص 21 و22. وجابر بن يزيد هو راوي الرواية 41 من صفات القاضي من الوسائل. و سعد بن طريف هو راوي الرواية 64 من ذاك الباب. وأمّا الرواية 38 فراويها معلّى بن خنيس صاحب الرواية الغريبة بشأن النيروز. وأمّا باقي روايات هذه الطائفة التي فيها ما رواه زرارة، وفيها ما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج فهي من مراسيل العيّاشي ولا قيمة لها. نعم، رواية زيد الشحّام ـ وهي الرواية 25 من ذاك الباب ـ ليست مرسلة، ولم نعرف من زيد الشحّام ما يكون من قبيل هذه الغرائب، ولكن من المحتمل كون مقصوده بقوله: «إنّما يعرف القرآن مَن خوطب به» معرفة تمام القرآن وحكمه ودقائقه، على أنّ سند الحديث ضعيف بمحمّد بن سنان.

234

أبواب المعرفة وحكرها لنفسه، وجعل الإسلام أمراً عجيباً لا يصل إليه إلّا مَن كان مثله من الناس، فبحساب الاحتمالات يحصل الظنّ القويّ بكذب هذه الروايات، وكونها من إيحاءات هذا الذوق الذي كان اتّجاهاً عامّاً في جماعة من غير سلفنا الصالح من أمثال زرارة، ومحمّد بن مسلم من فقهاء ظاهر الشريعة الذين أخذنا عنهم أحكامنا، وذاك الاتّجاه هو مسلك تعقيد المطالب، وتأويل القضايا الدينيّة بما لا يناسب ذوق اُولئك السلف الصالح.

ومن هنا نحن ننبّه على مطلب عامّ، وهو: أنّه في جملة من الموارد تنفعنا في مقام تقدير رواية الراوي وتقييمها مراجعة حال الراوي، وتأريخه، ومجموع ما نقله من الروايات، فقد ترى ـ مثلاً ـ عدداً كبيراً من أحاديث متّفقة على مضمون مّا بحيث كان المفروض حصول العلم به بعنوان التواتر، لكن تكشف بالفحص ظاهرة مشتركة عن حال رواتها تناسب الإيحاء المشترك بمضمون تلك الأحاديث ممّا يسقطها عن درجة التواتر المفيد للعلم، فالاطّلاع على خصوصيّات الراوي وحاله ومزاجه، وما ينقل من سائر الروايات قد يدخل في عمليّة الاستنباط كعنصر من عناصر تقييم الرواية.

الثانية: إنّ جواز العمل بظواهر القرآن وعدمه من أهمّ المسائل، ومن المسائل الرئيسيّة بالنسبة للفقه ومعرفة الأحكام، ولا يوجد هناك موضوع دار حوله النزاع والبحث والجدل بين علماء الباطل من غير الشيعة أكثر من هذا البحث، فجميع الدواعي التأريخيّة والشرعيّة والواقعيّة كانت تقتضي أن تكون هذه المسألة أهمّ مسألة في مقام السؤال والجواب، وفي مقام الاستفادة والتحقيق. أضف إلى ذلك أنّ العمل بظواهر القرآن يوافق مقتضى الطبع العقلائيّ، وإيقاف هذا الطبع بحاجة إلى بيانات كثيرة وإعلامات متتالية، فلو كان أمر من هذا القبيل لكثر نقله وشاع وذاع، وليس حاله حال وجوب السورة ـ مثلاً ـ الذي لو لم يصل إلينا إلّا ضمن

235

ثلاث روايات أو أربع لم يكن غريباً. أفهل نفترض ـ مثلاً ـ أنّ هذا الأمر المهمّ والذي هو على خلاف الطبع لم يبيّن إلّا مرّات عديدة، وصدفة لم يكن يوجد شخص عند الإمام(عليه السلام)في تمام تلك المرّات يسمع الحديث إلّا شخص ضعيف، أو ذو اتّجاه معيّن، ومن غير أمثال زرارة ومحمّد بن مسلم، أو كان هناك سامعون من أمثالهم ولكنّهم صدفة لم ينقلوا الرواية، أو نقلوها وصدفة لم تصلنا من أمثالهم؟!!

فمجموعة هذه الاُمور لو ضمّ بعضها إلى بعض حصل بمقتضى حساب الاحتمالات الاطمئنان بأنّ مثل هذه الروايات مجعولة على الأئمّة(عليهم السلام)، ولو فرض صدورها عنهم فلابدّ أن يكون لها محمل آخر غير ما هو الظاهر منها.

وأمّا الطائفة الثانية ـ وهي الأخبار الدالّة على عدم الاستغناء في مقام فهم القرآن واستنباط الحلال والحرام من آيات الأحكام عن الأئمّة(عليهم السلام) ـ: فهي تامّة سنداً، وقد ورد بعضها بلسان تأنيب من يدّعي الاستغناء ولو عملاً عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) من فقهاء العامّة والمعاصرين لهم، وبعضها بلسان بيان أنّ حقائق القرآن وتمام معارفه موجودة عند الأئمّة(عليهم السلام)، وهم المطّلعون على تمام مزايا القرآن ونكاتها وخصوصيّات التخصيص، والنسخ، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد. وكلّ هذا صحيح وأجنبيّ عمّا نحن بصدده، ومرجع اللسانين إلى بيان أنّ الناس لا يستغنون عن الأئمّة(عليهم السلام) في مقام استنباط الأحكام، وهذا ممّا لا شكّ فيه، فلا يجوز لأحد الاستغناء عن الثقل الأصغر في مقام استنباط الأحكام، وهذان الثقلان متقارنان في عمليّة الاستنباط وفهم الشريعة، بمعنى أنّه لابدّ في مقام الأخذ من أحدهما ملاحظة الآخر أيضاً بحيث يلحظ مجموع الكتاب والسنّة كأنّهما كلام شخص واحد. فكما لا يجوز العمل ببعض القرآن بقطع النظر عن البعض الآخر وبدون التفات إلى مخصّصاته ومقيّداته في البعض الآخر، ولا يجوز العمل بالسنّة بقطع النظر عن القرآن، كذلك لا يجوز العمل بالقرآن بقطع

236

النظر عن السنّة. ومثل هذا لا يدلّ على عدم جواز العمل بظواهر القرآن الكريم، وإنّما يدلّ على وجوب الفحص قبل العمل بالظاهر، وهذا أمر مفروغ عنه ومتسالم عليه بين الاُصوليّ والأخباريّ.

وأمّا الطائفة الثالثة ـ وهي الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ـ: فقد أجاب عنها علماؤنا الاُصوليّون بما في الكفاية وغيرها من الكتب المتأخّرة عنها: من أنّ التفسير ـ كما جاء في كتب اللغة ـ عبارة عن كشف القناع، ولا قناع في باب الظواهر حتّى يكشف، فلا تفسير في المقام. ولو سلّم أنّه تفسير فليس تفسيراً بالرأي، بل هو تفسير بالطريقة العرفيّة العامّة المتّفق عليها.

ولكن الصحيح: أنّ هذا المقدار من الجواب لا يكفي في المقام، فنحن إن لاحظنا الظهورات التصوّريّة واللغويّة فهي وإن كان في كثير من الموارد لا يصدق عليها كشف القناع، وذلك فيما لو فرض أنّ الوضع اللغويّ كان ثابتاً ثبوتاً عرفيّاً عامّاً، ولكن في بعض الموارد لا يكون الأمر كذلك، بل يكون الظهور مقنّعاً يقع البحث والخلاف في المعنى الموضوع له، ويكون المعنى مقنّعاً بمقنّعيّة نفس الظهور والوضع، ويكشف القناع بإعمال الصناعة لإثبات أنّ هذا اللفظ موضوع للمعنى الفلانيّ. وسوف يأتي في بحث صغرى حجّيّة الظهور ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان أنّه كيف نثبت في بعض الأحيان أصل الوضع بالصناعة في مورد الشكّ.

وإن لاحظنا الظهورات السياقيّة التصديقيّة فالأمر فيها أوضح بكثير، فبعض الظهورات السياقيّة ليس عليها قناع، وبعضها الآخر عليها قناع وبحاجة إلى كشف القناع بالبحث والفحص والاستنباط وإعمال الصناعة، سنخ ما فعلناه قبل صفحات في تفسير قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، حيث استخرجنا المراد بضمّ بعض ظواهرها إلى بعض لمعرفة ما يستفاد من المجموع من المعنى المناسب لتمام ظواهر الآية.

237

فهذا الجواب بحسب الحقيقة ليس جواباً فنّيّاً في المقام؛ لأنّه لم يلحظ فيه إلّا الظواهر التي ليس عليها قناع، ولا يختلف في فهمها أحد، ولعلّ الأخباريّين أيضاً لا يقولون بعدم جواز العمل بمثل هذه الظواهر من القرآن.

ونحن نجيب على الاستدلال بروايات النهي عن التفسير بالرأي بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: مأخوذ ممّا بيّنّاه في بحث حجّيّة الدليل العقليّ وعدمها، حيث استدلّ الأخباريّون هناك على عدم الحجّيّة بالروايات التي تنهى عن العمل بالرأي بقول مطلق في الأحكام الشرعيّة، وهنا استدلّوا على عدم حجّيّة ظهور القرآن بالروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، وقد قلنا هناك: إنّ كلمة (الرأي) وإن كان معناها اللغويّ الأصليّ هو النظر مثلاً، أو ما يقرب من ذلك في المعنى، إلّا أنّ الذي يطالع مجموع الروايات الواردة في باب الرأي، ويطالع عصر هذه الروايات يعرف أنّ هذه الروايات كانت ملقاة من قِبَل الأئمّة(عليهم السلام)على اُناس كانوا يعيشون ويفكّرون في جوٍّ علميّ خاصّ له مصطلحاته الخاصّة، وتعبيراته الخاصّة، وله مسائله المطروحة للبحث إثباتاً ونفياً. ومن أهمّ تلك المسائل التي راج بحثها وذكرها واختلف الناس بسببها هو مسألة الرأي. ففي عصر الصادقين(عليهما السلام)وجدت مدرسة علميّة في صفوف علماء السنّة بعنوان مدرسة الرأي في مقام الاستنباط والتفسير وإخراج الأحكام من النصوص، وكانت هذه الكلمة مصطلحاً لمذاهب استحدثت وراجت وعمّت وانتشر الحديث عنها وتشعّبت فروعها. وأصحاب الأئمّة كانوا يسمعون أبحاث السنّة وكانوا يعرفون آراءهم، وكان جملة منهم يفتي بآراء السنّة، ولعلّ بعضهم كانوا أعلم بآراء علماء السنّة منهم، فمحمّد بن مسلم كان يجلس في المسجد وكان يفتي أهل كلّ مذهب بمذهبهم، ويفتي أهل الحقّ بمذهب جعفر بن محمّد(عليه السلام)، فأصحاب الأئمّة(عليهم السلام)كانوا يعيشون هذا الجوّ وهذه المصطلحات. فمن يدّعي الاطمئنان بأنّ كلمة (الرأي) التي تردّد في كلام

238

الأئمّة(عليهم السلام)الملقاة على مثل هؤلاء الذين يعيشون في مثل هذا الجوّ لم يكن يفهم منها إلّا نفس ذلك المصطلح الذي كان عنواناً لاتّجاهات معيّنة ومشخّصة في الفقه والاستنباط والتفسير، ليس بمجازف.

ولو فرض أنّ شخصاً لم يحصل له الاطمئنان من ملاحظة مجموع هذه الظروف والملابسات التأريخيّة بأنّ المراد بالرأي هو المعنى المصطلح، واحتمل أنّ المراد به هو معناه اللغويّ، فأراد أن يجري أصالة بقاء ظهور اللفظ على معناه السابق، فسوف يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في بحث أوجه الوصول إلى صغرى الظهور: إنّ مثل هذا الأصل في مثل هذا المورد لا يأتي؛ لنكتة عامّة نبيّنها هناك إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: مأخوذ من بحثنا في السيرة، وهو: أنّه لو سلّم شمول إطلاق مثل هذه الروايات لحمل اللفظ على المعنى الظاهر فهذا الإطلاق لا يصلح للردع عن حجّيّة الظهور، فإنّ إطلاق دليل وإن كان يصلح أن يكون بياناً لحكم شرعيّ نفياً أو إثباتاً فيما إذا كان ذلك الحكم الشرعيّ تعبّديّاً في نفسه كوجوب السورة وعدمها، ولكن حجّيّة ظهور القرآن الكريم ليست حكماً شرعيّاً ابتدائيّاً تعبّديّاً، وإنّما هي مطلب عقلائيّ على طبق القريحة العقلائيّة المركوزة المستحكمة في أذهانهم بارتكازهم الجبلّي والمناسبات التي فطروا عليها في تعايشهم، وقد قلنا في بحث السيرة: إنّ الردع عن السيرة يكون بملاك التحفّظ على الغرض، فلابدّ أن يكون مناسباً لمقدار استحكامها حتّى يحصل التحفّظ على الغرض. ومن هنا أشرنا سابقاً إلى أنّ إطلاق الآيات الناهية عن العمل بالظنّ مثلاً، لا يمكن أن يكون رادعاً عن حجّيّة خبر الواحد بعد فرض أنّها مورد للسيرة العقلائيّة. وعلى هذا فكيف يعقل الاكتفاء في الردع عن مثل السيرة العقلائيّة في باب حجّيّة الظهور المستحكمة الجذور في أذهانهم بإطلاق مثل هذه الروايات التي نحتاج إلى البحث في مقام بيان أنّه هل لها إطلاق، أو لا؟

239

الوجه الثالث: مأخوذ أيضاً من القوانين والاُصول التي نقّحناها في بحث السيرة، وهو: أنّنا نستدلّ في المقام بسيرة المتشرّعة، فسيرة المتشرّعة وأصحاب الأئمّة كانت قائمة على العمل بظهور القرآن جيلاً بعد جيل، ولو لم يكن هذا من المسلّمات في أيّام الأئمّة بل كان مشكوكاً لكثر السؤال عنه؛ لأنّها من المسائل ذات الأهمّيّة القصوى، ولو كثر السؤال كثر الجواب، وهو الجواب بالنفي بحسب فرض الأخباريّ، ولو كثر الجواب كذلك أصبح بالتالي عدم حجّيّته من المسلّمات، ولو كان عدم حجّيّته من المسلّمات لنقل من المتقدّمين مع أنّه لم ينقل من أحد عدم حجّيّة ظواهر القرآن الكريم إلّا من قبل الأخباريّين في العصور الأخيرة. وهذا أحد التطبيقات للقوانين الكلّيّة التي ذكرناها في بحث السيرة. وبعد ثبوت سيرة أصحاب الأئمّة على العمل بظواهر القرآن لا تكون الإطلاقات المفروضة في المقام من روايات المنع عن التفسير بالرأي رادعة عن السيرة، بل السيرة مقيّدة للإطلاق؛ لما ذكرنا في محلّه: من أنّ الحاجة إلى إحراز عدم الردع إنّما هي بالنسبة للسيرة العقلائيّة، وأمّا سيرة المتشرّعة فهي حجّة بالذات لا باعتبار عدم الردع عنها، فلو وجد في قبالها إطلاق أو عموم أو ظهور لكانت نفس السيرة دليلاً على تقييد ذلك الإطلاق، أو تخصيص ذلك العموم، أو تأويل ذلك الظهور.

وقد ظهر حتّى الآن: أنّه لا يصحّ الاستدلال بهذه الروايات على عدم حجّيّة ظواهر الكتاب الكريم.

 

الأخبار الدالّة على حجّيّة ظواهر الكتاب:

وتوجد هناك روايات اُخرى ـ في قبال ما يستدلّ به الأخباريّ ـ يستدلّ بها لحجّيّة ظهور الكتاب الكريم. وما استدلّ بها أو يمكن أن يستدلّ بها من الأخبار على حجّيّة ظهور الكتاب يمكن تقسيمها إلى أربع طوائف:

الطائفة الاُولى: الأخبار الآمرة بالتمسّك بالكتاب الكريم والأخذ به والعمل

240

بموجبه، فإنّها تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ دلالة قرآنيّة نصّاً أو ظهوراً. وقد ذكرنا هذه الطائفة أيضاً فيما سبق في قبال بعض التفصيلات الاُخرى في حجّيّة الظهور كدليل على إبطال التفصيل.

ثُمّ لو لوحظت النسبة بين هذه الطائفة وروايات المنع عن تفسير القرآن بالرأي بعد تسليم دلالتها على نفي حجّيّة ظهور الكتاب وصلاحيّتها للردع عن ذلك، فالنسبة بينهما عموم من وجه، فمادّة الافتراق لتلك الأخبار هي تفسير المجمل بأحد معنييه، ومادّة الافتراق لهذه الأخبار هي الأخذ بالنصّ، ومادّة الاجتماع هي حمل الكلام على ظاهره، فتتعارضان في ذلك وتتساقطان، وبعده لا يمكن الرجوع إلى سيرة العقلاء بحجّة سقوط الرادع؛ لما مضى منّا في بحث السيرة: من أنّ سيرة العقلاء إنّما تصبح حجّة بالإمضاء، والإمضاء يستكشف من عدم الردع، فلابدّ من إحراز عدم الردع والجزم به، ومجرّد احتمال الردع يسقطها عن الحجّيّة؛ لأنّه يعني احتمال عدم الإمضاء، ولذا قلنا: (لو جاء دليل غير تام الحجّيّة صالح ـ على تقدير صدوره من المعصوم ـ للردع فمجرّد احتمال صدوره والردع به يكفي لسقوط السيرة عن الحجّيّة)، وما نحن فيه كذلك بعد فرض صلاحيّة تلك الأخبار على تقدير صدورها للردع، وإن كانت هي بالفعل غير حجّة لابتلائها بالمعارض.

أمّا استصحاب عدم الردع الثابت في أوّل الشريعة فهو عبارة عن استصحاب عدم النسخ، ويتوقّف على قبول استصحاب عدم النسخ في محلّه(1).


(1) عدم الردع بالمعنى الملازم للإمضاء يكون استصحابه من الأصل المثبت، فلابدّ من أن يكون المقصود استصحاب عدم نقض الإمضاء، وهذا رجوع إلى استصحاب عدم النسخ.

241

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بعرض الشروط على كتاب الله التي تقول بسقوط الشرط المخالف للكتاب. وتقريب الاستدلال بها: أنّه لو لم تكن ظواهر الكتاب حجّة فكيف نستطيع أن نعرف أنّ هذا الشرط موافق للكتاب أو مخالف له؟! ولا يبقى لدينا إلّا خصوص النصوص، والنصوص القطعيّة قليلة جدّاً(1).

وتحقيق هذا التقريب ومدى صلاحيّته للمقابلة مع روايات النهي عن التفسير بالرأي لو تمّت دلالتها على مدّعى الأخباريّ، هو: أنّ هذه الطائفة الآمرة بعرض الشروط على الكتاب إن اُريد بالكتاب فيها لفظ الكتاب فهي دالّة عرفاً على أنّ ألفاظ الكتاب لها دلالة، ويجوز فهمها بحيث يجعل القرآن مقياساً ومعياراً لتمييز الشرط الصحيح عن الفاسد. أمّا إن اُريد بالكتاب فيها مدلول الكتاب والمراد منه فهذه الأخبار بنفسها لا تدلّ على كيفيّة تحصيل هذا المدلول، غاية الأمر لعلّ


(1) إن صحّ هذا البيان أمكن إسراؤه إلى الطائفة الاُولى بأن يقال: إنّ حملها على نصوص القرآن حمل لها على الفرد النادر. إذن هي كالصريح في الأمر بالالتزام بظواهر القرآن، فليست النسبة بينها وبين روايات المنع عن التفسير بالرأي نسبة العموم من وجه كما مضى، بل هي كالأخصّ مطلقاً، وبها تخصّص روايات المنع عن التفسير بتفسير المجمل بأحد معانيه أو الظاهر بما هو خلاف ظاهره.

والواقع: أنّ إشكال كون الحمل على خصوص النصوص حملاً على الفرد النادر غير وارد من أساسه، فإنّ مسألة لزوم الحمل على الفرد النادر أو تخصيص الأكثر إنّما ترد في العامّ الذي لا تكون نسبته إلى ما خرج أخفّ من نسبته إلى ما بقي باعتبار كون مفهومه مشكّكاً مثلاً. أمّا إذا كان كذلك كما لو قال: (أكرم العلماء) ثُمّ قال: (قصدت بذلك مَن هم وصلوا إلى مستوى الاجتهاد) لم يرد عليه: أنّ هذا تخصيص بالفرد النادر أو استثناء لأكثر الأفراد. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ مخالفة النصّ فرد بارز للمخالفة أكثر من مخالفة الظاهر، والأخذ بالنصّ فرد واضح من الأخذ بالكتاب أكثر من الأخذ بالظاهر.

242

الإطلاق المقاميّ والسكوت في مقام البيان ـ مثلاً ـ يدلّ على إمضاء الطريقة العرفيّة المتعارفة لاستكشاف المراد، لكن نفس الكلام لا يدلّ بظهوره اللفظيّ على أنّ تعيين المدلول والمراد بأيّ شيء يكون؟ وإنّما يدلّ على أنّ الشرط يجب أن لايكون مخالفاً لمدلول الكتاب. وعليه فتلك الأخبار التي يستدلّ بها الأخباريّون على أنّ تعيين المراد يكون بلحاظ الروايات لا بإعمال النظر لو تمّت دلالتها تكون حاكمة على هذه الطائفة، ومنقّحة لموضوعها، ومستوجبة لانحصار طريقة معرفة مدلول الكتاب بالروايات(1).

الطائفة الثالثة: هي الروايات الآمرة بعرض نفس أخبار الأئمّة(عليهم السلام)على


(1) هذا البيان لو تمّ أمكن إسراؤه إلى الطائفة الاُولى، فيقال: إنّ ما دلّ على الأمر بالأخذ بالكتاب قد يحمل على معنى الأخذ بما هو مراد من الكتاب. وروايات النهي عن التفسير بالرأي تنفي ثبوت كون ما يظهر من الكتاب ما لم نعرفه عن المعصومين مراداً من الكتاب، فتكون حاكمة على الروايات الدالّة على الأمر بالأخذ بالكتاب. وهذا لا ينافي العرضيّة المستفادة من بعض تلك الروايات بين الكتاب والسنّة كحديث الثقلين، فإنّه تكفي لانحفاظ العرضيّة نصوص الكتاب.

والصحيح: أنّ هذا البيان بحدّ ذاته غير تامّ بناءً على قبول دلالة الإطلاق المقاميّ على حجّيّة ظهور الكلام، فإنّ الذي يعارض روايات المنع عن التفسير بالرأي إنّما هو هذا الإطلاق المقاميّ، وهذا الإطلاق المقاميّ موضوعه هو ظهور الكتاب، وليس موضوعه هو المراد من الكتاب حتّى يكون ما ينفي ثبوت مراديّة الظهور حاكماً عليه بنفي موضوعه. فلا يقاس هذا الإطلاق ـ مثلاً ـ بإطلاق (أكرم العالم) الشامل لزيد العالم المحكوم لدليل ينفي تعبّداً عالميّة زيد، فإنّ هذا الإطلاق موضوعه العالم، والدليل الحاكم ينفي هذا الموضوع، بينما الأمر فيما نحن فيه ليس كذلك، ولعلّه لهذا لم يتعرّض اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في دورته الأخيرة لفكرة الحكومة في المقام بحسب ما يبدو من تقرير بحثه الذي ليس فيه تعرّض هنا للحكومة.

243

الكتاب، وجعل الكتاب معياراً لتمييز الأخبار الصحيحة عن الأخبار الكاذبة، على عكس ما يقوله الأخباريّون: من فرض أخبار الأئمّة أصلاً والكتاب فرعاً يفسّر بلحاظها. وقد ادّعي تواتر هذه الطائفة.

والإنصاف: أنّ هذه الطائفة من أقوى الأدلّة على حجّيّة ظواهر الكتاب الكريم، ولا يأتي هنا احتمالنا السابق في الطائفة الثانية؛ إذ المفروض في هذه الأخبار جعل القرآن مقياساً لصحّة الخبر وسقمه، فإذا فرض أنّ العبرة بالقرآن المفسّر بالخبر كان ذلك رجوعاً مرّة اُخرى إلى الخبر، فينتهي ذلك إلى جعل نفس الخبر مقياساً لصحّة الخبر وسقمه، وهذا ممّا لا معنى له ولا يحتمل. وهذا بخلاف باب الشروط، فهناك لا يكون تهافت في أن يكون مقياس صحّة الشروط وفسادها مخالفتها للقرآن المفسّر بالخبر وعدمها.

والحاصل: أنّ المتفاهم عرفاً من هذه الطائفة بشكل واضح لاخفاء عليه أنّ القرآن هو الأصل وأنّ الأخبار هي الفرع، وأنّ كلّ ما خالف الكتاب ـ سواء كانت مخالفة نصّيّة أو ظهوريّة ـ يجب طرحه ولا يجوز العمل به، بل هو ممّا لم يقولوه؛ لأنّهم تلامذة القرآن وأبناؤه، فلا يأمرون بشيء يخالف القرآن.

ولا يتوهّم اختصاص مفاد هذه الأخبار بالمخالفة النصّيّة، فإنّه:

أوّلاً: يصدق وجداناً عنوان المخالفة بالنسبة للظاهر كما يصدق بالنسبة للنصّ، فالأمر والنهي متخالفان، وإن أمكن تأويل أحدهما ببيان الرخصة في الفعل، والآخر ببيان الرخصة في الترك.

وثانياً: إنّ الذي يتتبّع هذه الأخبار يرى أنّ المقصود منها النظر إلى ما شاع وذاع وقتئذ من الكذب والافتراء والتزوير على الأئمّة(عليهم السلام) من قِبَل الكذّابين، وهؤلاء الكذّابون كانوا يكذبون عادة بما يخالف ظاهر القرآن لا بما يخالف نصّ القرآن؛ إذ لا يصدّق منه ما يخالف النصّ القطعيّ للقرآن الذي لا شائبة فيه.

244

إذن فهذه الروايات بحدّ ذاتها من أحسن الأدلّة على حجّيّة ظهور الكتاب، وإنّ الكتاب حجّة قبل الخبر لا حجّة بلحاظ الخبر.

نعم، هذه الطائفة تقع طرفاً للمعارضة مع الطائفة التي استدلّ بها الأخباريّون ـ لو تمّت ـ وتقدّم عليها إن صحّ ما ادّعي: من تواترها؛ وذلك لما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في بحث التعادل والتراجيح: من أنّ الخبر غير القطعيّ وإن كان حجّة في نفسه لا يعارض الخبر القطعيّ، كما لا يعارض القرآن(1).

الطائفة الرابعة: الأخبار التي جاء فيها الاستدلال من قِبَل الإمام(عليه السلام)بجملة من الآيات على جملة من الأحكام، فلو لم تكن ظواهر الكتاب الكريم حجّة فكيف يستدلّ بتلك الظواهر في قبال الآخرين؟!

والاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار يتوقّف على أن نقول: إنّ مراد الإمام(عليه السلام)من الاستدلال بتلك الآيات على الحكم الشرعيّ هو الاحتجاج مع الطرف المقابل وإقناعه بإرجاعه إلى أصل مشترك بينه وبين الإمام(عليه السلام)، أمّا إذا قيل بأنّ من المحتمل كون ذلك تفسيراً من قِبَل الإمام(عليه السلام) للقرآن فلا يتمّ الاستدلال بهذه الأخبار، وهذا الاحتمال جار في أكثر روايات هذه الطائفة، نستثني منها رواية واحدة، وهي رواية عبد الأعلى مولى آل سام الذي سأل الإمام(عليه السلام) عن رجل انقطع ظفره فوضع عليه مرارة، فماذا يصنع بلحاظ المسح؟ قال(عليه السلام): هذا وأمثاله يعرف من كتاب الله ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج﴾ امسح على المرارة.


(1) وإن لم تتمّ دعوى التواتر كفى في تقديمها على روايات النهي عن التفسير بالرأي ـ لو تمّ دلالتها على مدّعى الأخباريّ ـ الأخصّيّة أو ما في حكمها، بناءً على عدم إمكان تخصيصها بما خالف نصّ الكتاب؛ لأنّ الكذّابين كانوا عادة لا يكذبون بما خالف نصّ الكتاب.

245

وتحقيق الكلام في هذه الرواية: أنّ ما فرض من هذا الحديث أنّه يعرف من كتاب الله إمّا أن يكون المقصود به هو مجرّد الأمر السلبيّ، وهو نفي وجوب المسح على البشرة، وإمّا الأمر الإيجابيّ أيضاً، وهو جعل البدل وهو المسح على المرارة:

فإن كان المقصود هو المسح على البدل ـ كما لعلّه هو ظاهر الرواية، ولهذا احتجّ على السائل بأنّه يعرف هذا من كتاب الله؛ إذ لو كان المراد هو معرفة الحكم السلبي لما تمّ هذا احتجاجاً على السائل، فإنّ السائل بحاجة إلى فهم الوظيفة الإيجابيّة ـ وجب إرجاع علم هذه الرواية إلى أهلها؛ لأنّ مثل هذا لايعرف من كتاب الله، فإنّ قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج﴾ ينفي الحكم الحرجيّ، ولا يشرّع ما هو البدل وما هي الوظيفة الاضطراريّة، فنفس الكتاب الكريم بقدر فهمنا نحن العوام لا يمكن أن نستنبط منه مثل هذا الحكم. نعم، الكتاب الكريم بواقعه الذي يفهمه الإمام(عليه السلام) لعلّه يستنبط منه هذا الحكم، فإن كان المقصود من الحكم الذي يعرف من كتاب الله هو البدل وجب أن يكون المراد من المعرفة معرفة الأئمّة(عليهم السلام).

وإن كان المقصود معرفة الحكم السلبيّ ـ وهو عدم وجوب المسح على البشرة ـ كان الحديث دالّاً على أنّ مثل هذا يعرفه الناس من الكتاب الكريم، فتكون هذه الرواية دالّة على حجّيّة ظواهر القرآن الكريم.

 

إنكار وجود الظهور في القرآن:

بقي الكلام في المسلك الآخر للأخباريّين، وهو دعوى عدم الظهور للكتاب الكريم. وهذه الدعوى لها وجهان: فتارةً يدّعى الإجمال الذاتيّ للقرآن، واُخرى يدّعى الإجمال العرضيّ له بلحاظ العلم الإجماليّ بالتخصيص والتقييد والتأويل ونحو ذلك.

246

أمّا الدعوى الاُولى ـ وهي دعوى الإجمال الذاتيّ ـ: فالإجمال الذاتيّ للقرآن يتصوّر من ناحيتين:

1 ـ دعوى أنّه إجمال وتعمّد مقصود من قِبَله تعالى لمصلحة في المقام رغم إمكان صبّ مطالبه في قوالب واضحة ومفهومة، ولنفرض أنّ تلك المصلحة ما اُشير إليها في بعض كلماتهم: من جعل الناس محتاجين إلى الإمام(عليه السلام)؛ إذ مع الوضوح يستغنون عن مراجعته(عليه السلام) مع أنّ نظام الاُمّة لا ينتظم ولا يتمّ إلّا بربطهم بالإمام(عليه السلام).

2 ـ دعوى أنّ طبع القضيّة كان يقتضي الإجمال، فإنّ القرآن الكريم هو كتاب الله، وكتاب كلّ شخص يناسب مقدار عظمة ذاك الشخص، فإذا فرض أنّ كتاب هندسة اُقليدس كان محلّ الإشكال والغموض والدقّة فما ظنّك بكتاب يؤلّفه مؤلّف هذا العالم على سعته وجبروته؟ فيجب أن يكون في أعلى مراتب الدقّة والشموخ النظريّ والفكريّ، ويجب أن يكون هذا الكتاب المعجز في جميع خصوصيّاته بالغاً حدّ الإعجاز في الدقّة، وعندئذ يصبح غير مفهوم لا محالة.

وكلتا هاتين الدعويين باطلتان:

أمّا دعوى الإجمال المتعمّد: فهو الذي يحكم العقل السليم ببطلانه بلا حاجة إلى استئناف بحث أو تأمّل في برهان؛ إذ لو أنّ شخصاً جاء إلى جماعة وادّعى لهم دعوى، ثُمّ تصدّى لبيان هذه الدعوى وإثباتها، فذكر بياناً لإثبات دعواه، وتعمّد في جعله غامضاً ومبهماً لا يفهمه أحد من اُولئك الذي ادّعى عليهم هذه الدعوى، لعدّ هذا الشخص ناقصاً غير ملتفت إلى مقتضيات الحال، فكيف ينسب مثل هذا إلى الله العليم الحكيم، ويدّعى أنّه تعمّد في إجمال القرآن الكريم الذي أنزله لهداية البشر وإثبات دعوى النبيّ(صلى الله عليه وآله)وإفهام الناس مع الاستدلال عليها بإعجاز القرآن؟!! فإنّ هذا خلف الفرض.

247

أمّا مسألة جعل الكتاب مبهماً وغامضاً كي تقع الحاجة إلى الإمام فلابدّ في المرتبة السابقة على ذلك من إثبات أصل النبوّة والرسالة كي يصبح الناس مستعدّين للرجوع إلى الإمام(عليه السلام) في مقام تفسير القرآن، والقرآن هو المتصدّي لإثبات أصل النبوّة والرسالة في المرتبة السابقة على الإمام، فلابدّ أن يكون واضحاً ومفهوماً في المرتبة السابقة على إثبات الإمام.

وأمّا دعوى الإجمال الذاتيّ الناشئ من طبع القضيّة: فأيضاً سخيفة غاية السخف:

أمّا أوّلاً: فلأنّ الكتاب تلحظ في مقام حصوله على أعلى درجات الكمال نكتة الغرض من ذلك الكتاب ومدى نجاحه في تحقيق الغرض، فإذا كتب شخص كتاباً في الهندسة فغرضه اكتشاف قوانين مطلقة لعالم الكون المادّيّ، فكلّما كان الكاتب أكثر دقّة وعمقاً في اكتشاف تلك القوانين، وأكثر قدرة على البرهنة عليها ودفع الشبهات عنها يكون أحسن وأكمل، وهذا ما يبعده عن فهم الناس الاعتياديّين، ولو فرض أنّه تعالى أنزل كتاباً بهذا الغرض للزم أن تكون دقّته فوق دقّة كتاب هندسة اُقليدس بما لا يتناهى من المراتب. أمّا لو فرض أنّ شخصاً ألّف كتاباً بقصد هداية البشر وتوجيههم إلى طريق الحقّ، وصنع الإنسان الصالح المؤمن السعيد في دنياه وآخرته، فعندئذ يقاس مقدار نجاح هذا الكاتب وكماله بمقدار حصول هذا الغرض وإحاطته بالجهات الدخيلة في ذلك، والقرآن بالغ في ذلك حدّ الإعجاز، ويتحدّى الناس بذلك حتّى يومنا هذا، وهذا يقتضي عكس ما ادّعيتم، فإنّ هذا الغرض لا يحصل ببيان الألغاز العلميّة والرموز الفنّيّة البعيدة عن فهم الناس؛ لأنّ هذه لا تخلق الناس الصالحين، بل لابدّ من ذكر تمام المؤثّرات الدخيلة في تغيير الإنسان روحيّاً وخلقيّاً وفكريّاً وعاطفيّاً وسائر النواحي الإنسانيّة، ولابدّ أن تكون المعاني واضحة ميسّرة، وملتقية مع عواطف الناس ومشاعرهم وأحاسيسهم، وقادرة على النفوذ إلى قلوب الناس كي تغيّر هذه القلوب وتخرجها من الظلمات

248

إلى النور. وهكذا كان الكتاب الكريم، ولذا كان المشركون يهتدون بسماع بضعآيات كانت تنفذ في قلوبهم وتنير بالإيمان عقولهم.

وأمّا ثانياً: فلأنّنا لا نتصوّر إعجازاً يؤدّي إلى هذا الغموض والإجمال في باب الأحكام الشرعيّة التي مرجعها إلى أنّ هذا حلال وهذا حرام؛ لأنّ الوجوب والحلّ والحرمة اُمور مفهومة لدى الناس، والإعجاز المتصوّر في الأحكام إنّما هو إعجاز بلحاظ ملاكات الأحكام الشرعيّة والمصالح والمفاسد التي يستند إليها الحكم الشرعيّ، ومن الواضح أنّ الإعجاز بلحاظ الملاكات لا دخل له بفهم نفس الأحكام الشرعيّة المبيّنة في القرآن الكريم.

وأمّا الدعوى الثانية ـ وهي دعوى الإجمال العرضيّ بلحاظ العلم الإجماليّ بابتلائه بورود التخصيصات والتقييدات والتأويل، ونحو ذلك من الاُمور ـ: فهي أيضاً ليست بشيء، وينقض ذلك بالسنّة الشريفة، فإنّ حالها حال الكتاب من حيث الابتلاء بالتخصيص والتقييد ونحوها. والصحيح أنّ هذا البيان غير تامّ، لا في القرآن ولا في السنّة؛ وذلك لما حقّقناه مفصّلاً في بحث العامّ والخاصّ: من أنّ هذا العلم الإجماليّ بالمخصّصات والمقيّدات، إنّما يقتضي وجوب الفحص عن المقيّد والمخصّص قبل العمل بالظهور، لا سقوط الظهور عن الحجّيّة رأساً، وتفصيل الحال سبق في بحث العامّ والخاصّ.

هذا تمام الكلام في تفصيل الأخباريّين بكلا معنييه بين ظهورات الكتاب وغيره، ومن المؤسف أن يوجد في علمائنا جماعة تنكر حجّيّة ظهور القرآن الكريم الذي هو كتاب الإسلام، وعزّنا وشرفنا، وعليه أساس ديننا، ولعمري أنّ تصوّر المطلب بتمام شؤونه وخصوصيّاته، يكفي في التصديق بوضوح بطلان القول بعدم حجّيّة ظهور الكتاب الكريم، بلا حاجة إلى استئناف بحث وبيان بيّنة وبرهان على المطلب.

وبه نختم الكلام عن المقام الأوّل من مقامي مبحث الظهور، وهو في البحث عن أصل كبرى حجّيّة الظهور.

249

 

وسائل إثبات الظهور

وأمّا المقام الثاني: فنتكلّم فيه ـ بعد الفراغ عن حجّيّة الظهور ـ في أنّ الظهور إذا شكّ في وجوده فما هو طريق تعيينه وإحرازه؟

وقبل أن ندخل في صلب البحث لابدّ من دفع توهّم مشهور في المقام قد يخطر في قبال عنوان هذه المسألة، وهو ما قد يقال: من أنّه لا معنى لطرح هذه المسألة بهذه الصياغة؛ لأنّ الظهور الذي هو موضوع للحجّيّة ليس أمراً غيبيّاً يشكّ فيه، وذلك بناءً على ما استقرّ به الرأي بين المحقّقين المتأخّرين: من أنّ أصالة الحقيقة ليست أصلاً تعبّديّاً، وإنّما هي بملاك الظهور الفعليّ للّفظ، والظهور الفعليّ للّفظ ليس له وعاء ووجود إلّا وعاء ذهن السامع وانسباق ذهنه إلى معنى معيّن من اللفظ، فهو بمنزلة الاُمور المعلومة بالعلم الحضوريّ، فإن كان للّفظ ظهور بالفعل في ذهنه، فلا يتصوّر شكّ من قِبَله في الظهور، وإلّا فلا ظهور جزماً، وإنّما يصحّ فرض الشكّ بناءً على حجّيّة أصالة الحقيقة من باب التعبّد، بأن يكون موضوع أصالة الحقيقة هو الوضع، والوضع يقع محلاًّ للشكّ، كما نشكّ في أنّ الصعيد ـ مثلاً ـ موضوع لأيّ معنىً من المعاني، وعلى هذا النزاع بين المتقدّمين والمتأخّرين بنيت مسألة احتمال قرينيّة المتّصل، فلو كانت العبرة في أصالة الحقيقة بالوضع، فقرينيّة المتّصل لا تنافي ثبوت الوضع، ومع ثبوت الوضع تجري أصالة الحقيقة مادمنا نحتمل إرادة الحقيقة، ولكن بما أنّ العبرة بالظهور الفعليّ لا بالوضع، فالاحتفاف بمحتمل القرينيّة لا يُبقي مجالاً للحجّيّة؛ لأنّه يُفني أصل الظهور، وبما أنّ الصحيح هو المبنى الثاني، فلا مجال لطرح هذه المسألة في المقام بعنوان الشكّ في الظهور، بل لابدّ من طرح عنوان آخر. هذا ما ينتزع من كلمات القوم من التوهّم بالنسبة لطرح هذه المسألة بعنوان الشكّ في الظهور.

250

وهذا يعني أنّه فرض أمر موضوع الحجّيّة مردّداً بين الوضع والظهور الفعليّ، وبما أنّنا لا نقول بأنّ موضوع الحجّيّة هو الوضع، وإلّا لزم جريان أصالة الحقيقة عند الشكّ في قرينيّة المتّصل، بينما لا نلتزم بذلك، إذن فلزم القول بأنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعليّ وهو أمر لا معنى للشكّ فيه.

والواقع: أنّ توهّم دوران الأمر بين هذين الشقّين أوجب كثيراً من التفريعات والمغالطات في كلمات الاُصوليّين المتأخّرين التي لم تكن موجودة في كلمات الاُصوليّين المتقدّمين، والصحيح أنّ موضوع الحجّيّة ليس أمره مردّداً بين الوضع والظهور الفعليّ بالمعنى الذي لا يمكن الشكّ فيه، بل هناك أمر ثالث نختار كونه موضوعاً للحجّيّة بإمكاننا أن نعبّر عنه بالظهور اللغويّ(1)، ومعه نستطيع أن نجمع بين إمكانيّة الشكّ في الظهور من ناحية، وبين عدم جريان أصالة الحقيقة عند الشكّ في قرينيّة المتّصل من ناحية اُخرى، ولا نقصد بالظهور اللغويّ ما نسب إلى المتقدّمين جعله موضوعاً للحجّيّة من المعنى المستفاد من حاقّ الوضع، كي يلزم من ذلك جريان أصالة الحقيقة عند الشكّ في قرينيّة المتّصل، بل نقصد به الدلالة التصديقيّة النهائيّة التي تتعيّن للكلام بلحاظ مجموع النظم والقوانين الموجودة لدى العرف لاقتناص المراد، وإن شئت فسمّ ذلك بلغة أهل العرف في مقابل اللغة الأصيلة، وأظنّ أن مقصود المتقدّمين كان هو هذا لا ما نسب إليهم، والظهور بهذا المعنى دائماً هو شيء واحد قد يعرفه شخص ويجهله شخص آخر، ومن المعقول وقوع الشكّ فيه، فإنّ هذا الظهور أمر واقعيّ لا يختلف من شخص لآخر ثابت بثبوت تلك اللغة العرفيّة وقوانينها ونظمها، فقوانين اللغة دائماً تقتضي معنىً معيّناً


(1) وهذا ما سمّـاه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الحلقة الثالثة من حلقات كتابه (دروس في علم الاُصول) بالظهور الموضوعيّ، وسمّى الظهور الفعليّ هناك بالظهور الذاتيّ.

251

أو أحد معاني متعدّدة عند الإجمال من دون أن يختلف الحال باختلاف الأشخاص، أمّا الظهور الفعليّ بالمعنى الذي لا يمكن الشكّ فيه فيختلف من شخص لآخر في أبناء اللغة الواحدة، فإنّه عبارة عمّا ينسبق إليه ذهن السامع ووعاء ذهنه، ومن المعلوم أنّ ذهن السامع ليس وعاءً فارغاً، بل هو وعاء مليء مشحون بمختلف الخصوصيّات السابقة والعوامل المؤثّرة من المحاورات، والتعايشات، والتفكيرات، ومقدار الاطّلاع على استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى أو ذاك، وما إلى ذلك من اُمور، وهذه كلّها اُمور تختلف من شخص لآخر، فالظهور الفعليّ شأنه شأن الماء الذي يجري في أوعية مختلفة فيكتسب ألوانها، فالظهور الفعليّ لكلّ كلام هو نتيجة اللغة زائداً المؤثّرات الشخصيّة.

والدليل على كون موضوع الحجّيّة هو الظهور اللغويّ بالمعنى الذي شرحناه، هو: أنّ حجّيّة الظهور بالسيرة العقلائيّة إنّما هي باعتبار ما له من الكشف عن المراد، وهذا الكشف يكون باعتبار مقتضى الغلبة بحسب طبع المتكلّم الناشئة عن حساب الاحتمالات، ومن المعلوم أنّ المتكلّم إنّما يحاول بمقتضى طبعه وبحسب الغالب أن يجعل مراده منطبقاً على الظهور اللغويّ لكلامه لا على الظهور الفعليّ الذي يختلف من سامع لآخر، فالظهور الفعليّ يعبّر عن لغة شخصيّة لكلّ شخص، والظهور اللغويّ يعبّر عن لغة مشتركة، ومن الواضح أنّ المتكلّم يحاول الكلام باللغة المشتركة لا بلغة شخص من أشخاص السامعين، إذن فموضوع الحجّيّة هو الظهور اللغويّ لا الظهور الفعليّ، نعم قد يكون الظهور الفعليّ أمارة بوجه من الوجوه على الظهور اللغويّ كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وهذا غير فرض كون موضوع الحجّيّة ابتداءً هو الظهور الفعليّ.

والظهور اللغويّ بالمعنى الذي عرفت يكون احتمال قرينيّة المتّصل مضرّاً بالتمسّك به؛ لأنّ الظهور اللغويّ يعني الدلالة التصديقيّة النهائيّة المقتنصة من

252

مجموع قوانين اللغة، واحتمال قرينيّة المتّصل يساوق احتمال عدم كون مقتضى قوانين اللغة إرادة المعنى الفلانيّ، فكما أنّ احتمال قرينيّة المتّصل ينافي الحجّيّة بناءً على مبنى المشهور: من كون موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعليّ، كذلك ينافيها بناءً على مبنانا: من كون موضوع الحجّيّة هو الظهور اللغويّ، على فرق بين المبنيين، وهو: أنّه على مبنى المشهور يقطع بعدم الظهور عند احتمال قرينيّة المتّصل؛ إذ ترى وجداناً عدم انسباق المعنى الفلانيّ إلى الذهن؛ لمنع وجود محتمل القرينيّة عن هذا الانسباق، وعلى مبنانا لا يساوق احتمال قرينيّة المتّصل القطع بعدم الظهور، بل يساوق الشكّ في الظهور؛ إذ على تقدير عدم قرينيّته في الواقع يكون الظهور اللغويّ محفوظاً في المقام، وعلى أيّ حال، فالكلام يسقط عن الحجّيّة؛ إذ لا فرق في ذلك بين فرض القطع بعدم الظهور وفرض الشكّ في ذلك.

والفرق بين هذين المبنيين قد يؤدّي بنا إلى بعض ثمرات عمليّة، كما لو قال المولى: (يجب إكرام كلّ عالم ولا يجب إكرام زيد)، وتردّد المقصود بـ (زيد) بين زيد العالم وزيد الجاهل، وقال أيضاً: (يجب إكرام كلّ شاعر ولا يجب إكرام عمرو)، وتردّد المقصود بـ (عمرو) بين عمرو الشاعر وعمرو غير الشاعر، فدار أمر الدليلين في هذين الكلامين بين التخصيص والتخصّص، ولنفرض أنّنا علمنا إجمالاً بأنّ أحدهما تخصيص والآخر تخصّص(1)، وعندئذ إن قلنا بمسلك المشهور: من أنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعليّ، فهنا لم تتمّ حجّة على وجوب إكرام زيد العالم ولا عمرو الشاعر؛ لعدم الظهور الفعليّ لكلّ من الكلامين وجداناً؛


(1) وفرضنا أيضاً أنّ التخصيص هنا يوجب المجاز؛ لأنّ قوله: لايجب إكرام فلان، لم يكن بصيغة قيد المدخول، كالوصف أو الاستثناء، كي يقال: إنّ العموم إنّما هو لشمول أفراد المدخول مثلاً.

253

لاحتفافه بما يصلح للقرينيّة، فنرجع في كليهما إلى البراءة عن وجوب الإكرام، وإن قلنا بمسلكنا: من أنّ العبرة بالظهور اللغويّ، فنحن نعلم إجمالاً بثبوت الظهور اللغويّ في أحدهما لغرض عدم إرادة التخصيص من ذيله، فيتشكّل عندنا علم إجماليّ بقيام الحجّة على وجوب إكرام أحدهما، فيجب العمل بمقتضى قوانين العلم الإجماليّ.

وهذا المثال بنفسه دليل على صحّة مسلكنا؛ إذ لا يشكّ أحد في أنّ العقلاء في مثل هذا المورد يطبّقون قوانين العلم الإجماليّ ولا يرجعون إلى أصالة البراءة، وهذا دليل على أنّ موضوع الحجّيّة عندهم إذن هو الظهور اللغويّ لا الظهور الفعليّ.

والآن نبدأ ببحث الطرق التي ذكرت لإثبات الظهور:

 

1 ـ التبادر:

الطريق الأوّل: هو التبادر، فيقال: إنّ تبادر معنى من اللفظ إلى الذهن ـ لو كان من حاقّ اللفظ وغير مستند إلى القرينة ـ علامة الوضع والحقيقة؛ لأنّ التبادر له علّتان لا غير: الوضع والقرينة، فإذا انتفى الثاني انحصر الأمر في الأوّل، وكشف التبادر عن الوضع كشف المعلول عن علّته.

وعلّق على هذا الكلام في كلمات المحقّقين بتعليقات ثلاث:

التعليق الأوّل: أنّنا لا يهمّنا استكشاف الوضع اللغويّ، فإنّ مناط الحجّيّة هو الظهور الفعليّ لا الظهور اللغويّ.

وهذا التعليق فرغنا سابقاً عن تحقيق حاله، وظهر أنّ مناط الحجّيّة هو الظهور اللغويّ بالمعنى الذي عرفت.

التعليق الثاني: ما هو مذكور في الكفاية من لزوم الدور؛ لأنّ التبادر معلول للعلم بالوضع، فكيف يوجب العلم بالوضع؟!

254

وأجابوا عن هذا الإشكال بطريقين كما هو موجود في الكفاية وغيره من الكتب المرسومة:

الأوّل: أنّ العلم التفصيليّ بالوضع يتوقّف على التبادر، والتبادر يتوقّف على العلم الإجماليّ الارتكازيّ. ومقصودهم بالتفصيل والإجمال هنا التفات النفس إلى المعلوم وعدم التفاتها إليه رغم وجوده في حاقّ النفس، وليس المقصود من عدم الالتفات النسيان، فإنّ النسيان يوجب زوال العلم، بل المقصود عدم توجّه النفس إليه بالفعل. مثلاً كلّنا نعلم معنى (التمر) ولكن قبل إلقاء هذه الكلمة لم تكن متوجّهاً توجّهاً خاصّاً إلى علمك بمعنى (التمر)، فقد كان علمك به إجماليّاً ارتكازيّاً والآن أصبح علماً تفصيليّاً.

والثاني: الفرق بين العالم والمستعلم، بأن نفرض أنّ التبادر عند العالم علامة لدى الجاهل، فلو أنّ شخصاً من خارج أبناء اللسان ـ مثلاً ـ دخل مجلسهم ورآهم أنّ كلمة (التمر) توجب تبادر المعنى الفلانيّ إلى أذهانهم، عرف أنّ كلمة (التمر) موضوعة لذاك المعنى.

التعليق الثالث: أنّ التبادر إنّما يكون علامة على الحقيقة فيما إذا اُحرز عدم القرينة، أمّا إذا شكّ في وجود القرينة وعدمها فلا يكون التبادر علامة الوضع؛ إذ لا يدلّ معلول له علّتان على إحدى العلّتين بالخصوص، ولا يمكن نفي القرينة بأصالة عدم القرينة كي يثبت انحصار الأمر بالوضع؛ لأنّ أصالة عدم القرينة ـ على ما قالوا ـ تجري في موارد الشكّ في المراد لا الشكّ في الاستناد.

أقول: إنّ بين التعليق الثاني والثالث شيئاً من التدافع؛ إذ في التعليق الثاني فرض أنّ التبادر مرتّب على العلم بالوضع لا على نفس الوضع، بينما التعليق الثالث إنّما ينسجم مع فرض ترتّب التبادر على نفس الوضع حتّى يعقل الشكّ في أنّ هذا التبادر هل هو مستند إلى الوضع، أو لا يوجد وضع في المقام وأنّ التبادر

255

نشأ من القرينة، أمّا إذا فرض التبادر مترتّباً على العلم بالوضع فلا معنى لهذا الشكّ؛ إذ لا معنى لأن يشكّ أحد في أنّه هل يعلم بالوضع أو لا، فإنّ العلم الإجماليّ الارتكازيّ بعد الالتفات إليه ينقلب إلى التفصيل، وإلّا لم يكن علماً بل كان أمراً منسيّاً خارجاً عن خزانة النفس(1). والصحيح ـ كما ستعرف إن شاء الله ـ هو منحى التعليق الثالث وليس منحى التعليق الثاني.

وعلى أيّ حال، فلنبحث الآن عمّا هو التحقيق في هذين التعليقين:

أمّا التعليق الثاني ـ وهو إشكال الدور ـ: فهو مبنيّ ـ كما عرفت ـ على تسليم أنّ التبادر يترتّب على العلم بالوضع لا على نفس الوضع، وهذا إنّما يتمّ لو قصرنا النظر في تعلّم اللغة على طريقة الدراسة على يد القواميس، أو على الاُستاذ ونحو ذلك، فيقال مثلاً: ما لم يعلّمه الاُستاذ المعنى الحقيقيّ للكلمة لا يتبادر لديه المعنى من اللفظ، ولكن طريق تعلّم اللغة ليس منحصراً بذلك، بل هناك طريق آخر، وهي الطريقة الحياتيّة في تعلّم اللغة، وهي طريقة تعلّم اللغة بالتعايش في وسط أبناء تلك اللغة، وهي الطريقة التي يمرّ بها كلّ إنسان في حالة طفولته، فهو يولد في بيئة معيّنة تسودها لغة من اللغات، وتتكوّن لديه بالتدريج تبادرات معيّنة، فحينما يسمع كلمة (الماء) ـ مثلاً ـ يتبادر في ذهنه المعنى المعترف به في ذلك المحيط، وهذا التبادر لا يخلق في ذهنه نتيجة للعلم بالوضع؛ إذ هو لا يتعقّل حتّى الآن معنى الوضع ومعنى الدلالة والمدلوليّة ونحو ذلك، وليس حال هذا الطفل حال الرجل الكبير الفيلسوف الذي يدخل بلداً ويصبح بصدد التتبّع عن استعمالات كلمة


(1) كأنّ إشكال التدافع ينظر إلى فرض الجواب الأوّل من جوابي إشكال الدور، وهو التمييز بين العلم التفصيليّ والارتكازيّ؛ إذ لو انحصر جوابهم بالجواب الثاني ـ وهو التمييز بين العالم والمستعلم ـ لما كان هناك تدافع بين التعليقين.

256

(الماء) من قبل أبناء اللسان، فإذا رأى تبادر معنىً لهم من هذه الكلمة جعل ذلك دليلاً على الوضع.

فهذا الطفل رغم عدم تصوّره للوضع فضلاً عن علمه به، قد تكوّن لديه التبادر، ولم يكن التبادر لديه معلولاً لعلم ثابت له في الرتبة السابقة عليه بالوضع، وبعد هذا حينما يكبر الطفل ويعرف أنّ هناك لغة ولفظاً ومعنىً ووضعاً يستنتج من نفس التبادر الموجود لديه أنّ كلمة (الماء) موضوعة للمعنى الفلانيّ، فقد مرّ كلّ واحد منّا بدور استنتاج الأوضاع من التبادرات، حتّى اُولئك المشكلون بالدور قد مرّوا بهذه المرحلة واستخدموا هذه العلامة من دون أن يقعوا في الدور. هذا مثال وجدانيّ لتوضيح الفكرة.

وأمّا حقيقة الفكرة في المقام فلا يسعنا تفصيل الكلام فيها هنا، فإنّ هذه الفكرة مستقاة من مباني وتحقيقات في بحث الوضع، وكان ينبغي جعل بحث الوضع مقدّمة لبحث الظواهر، ولكنّنا مادمنا نبحث وفق المنهج الرسميّ المتعارف لبحث الاُصول، فقد حصل الفصل بين بحث الوضع وبحث الظواهر، وعلى أيّ حال فنحن نذكر المدّعى هنا بنحو الإجمال ونستنتج منه النتيجة المقصودة:

إنّ في بحث الوضع مشكلة عويصة جدّاً، وهي: كيف نفسّر علاقة اللفظ بالمعنى؟ وهذه العلاقة أمر حقيقيّ لا مجرّد اعتبار أو خيال؛ بدليل أنّ تصوّر أحدهما يخلق حقيقة تصوّر الآخر في الذهن، فهناك علّيّة ومعلوليّة حقيقيّة بين الأمرين، أعني: تصوّر اللفظ، وتصوّر المعنى، وليست علّيّة ومعلوليّة اعتباريّة فرضيّة، من قبيل أن تعتبر النار علّة للبرودة بينما لا تترتّب البرودة على النار مهما كرّرنا الاعتبار؛ لأنّ العلّيّة هنا لم توجد حقيقة وإنّما وجدت اعتباراً، بخلافها في محلّ الكلام، وإلّا لكان حال تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى حال النار والبرودة.

إذن فكيف نفسّر هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى؟ هل هي علاقة ذاتيّة كما يتوهّم